المخطوطات العربية تراث
تلقفه الغرب بعدة وسائل

محمد عيد الخربوطلي

لا ينكر عاقل فضل ما تركه أسلافنا من مخطوطات في كل العلوم، فهو بحق يعد من أروع كنوز الحضارة الإنسانية، هذا التراث الذي بفضله تمت حركة الإحياء، وتم معها التحول التاريخي الحاسم للحضارة من الشرق إلى الغرب.
هذه المخطوطات التي تعب سلفنا بكتابتها وتصنيفها وشرحها والحفاظ عليها بلغت الملايين، ويؤكد مفهرسوا المخطوطات أن عدد المخطوطات التي نجت من الحرائق والزلازل والكوارث الطبيعية بلغ الملايين الخمسة ويزيد، أما ما يوجد بين أيدي العرب اليوم فلا يتجاوز عدة مئات من الآلاف، فأين ذهبت الملايين الباقية..؟ وفي أيّ مكان انتهت إليه..؟ وكيف خرجت من بين أيدي العرب.. وما هي الوسائل التي استخدمت في إخراجها من بلادنا العربية..؟ هذا ما نعرفه في هذا الملف..!
كيف خسرنا مخطوطاتنا العربية..؟
أصبحت المخطوطات العربية والإسلامية والكنوز الأثرية والممتلكات الثقافية محط أنظار الغربيين ابتداءً من القرن (16م)، عندما تسابقوا وتنافسوا في اقتناء كنوز الشرق، مستخدمين في ذلك شتى الطرق والوسائل لانتزاعها من أرضها الأم ونقلها إلى أرض غريبة عنها، وإذا عرفنا عدد المخطوطات العربية الموجودة في بلاد الغرب.. عرفنا كثرة ما جمعوه ونقلوه.
سنبين في هذا الملف الطرق والوسائل التي استخدمت في نقل تراثنا، كما سنذكر أسماء بعض الأفراد والهيئات والدول التي سعت وساعدت على تسريبه، فمنهم ملوك وأمراء، ورجال دين ومبشرون، ومستشرقون ومستعمرون، ورحالة وهواة جمع للآثار، كما كان منهم رجال سياسة وسفارات وقد ساعد كل هؤلاء عدد كبير من التجار والسماسرة ورجال الدين الذين ما زال قسم منهم حتى اليوم يبحث عن بقية قليلة من المخطوطات ما زالت موزعة في بعض بيوت العلماء ليبيعوها لمن يدفع فيها ثمناً أكثر..! وينسون أن من يبيع تراث بلده يبيع وطنه..!
وأنا لا أُلقي التهم جزافاً في هذا العمل، إنما اعتمدت على دراسات علمية وثَّقت كل هذه المعلومات، فقد صنف الغيورون على التراث كتباً مهمة ذكروا فيها ما وجدوه ولمسوه، فما كتبه فيليب دي طرازي والزيات وكرد علي وبنت الشاطئ ويوسف عز الدين وكوركيس عواد والمنجد وطلس وبروكلمان وغيرهم، كل ذلك يعد وثائق صادقة، لأنهم دخلوا مكتبات الغرب، وشاهدوا عمليات البيع، وأرخوا وفهرسوا للتراث، بالإضافة إلى ذلك.. تلك الفهارس التي بلغت الآلاف وخصصت للمخطوطات العربية في مكتبات الغرب، وهي تعد بحق وثائق مهمة، فمعظمها وثقت في مقدماتها تاريخ اقتناء المخطوطات، كما ذكرت أسماء الذين باعوها، أو ساعدوا على إخراجها، مع ذكر عناوينهم أحياناً.
ومن أهم هذه الوسائل الكثيرة:
أولاً ـ جيوش الإستعمار:
عرف عن الجيوش الغازية أنها كانت تقوم بحرق تراث ومكتبات البلد المراد استعماره، ومع ذلك فإنهم كانوا ينتقون مجموعات من الكتب المنتخبة المفيدة ويرحلونها إلى بلادهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
ـ عند سقوط الأندلس بيد الأسبان أحرقت محاكم التفتيش مئات الآلاف من المخطوطات العربية بعدما جمعت في ساحات المدن، ومع ذلك انتقوا آلاف المخطوطات العربية في علوم الطب والفلك والرياضات وعلوم الفلاحة، ونقلوها إلى مراكز العلم وترجموها، وما تزال مكتبات إسبانيا مليئة بمثل هذه المخطوطات، ومكتبة الأسكوريال ومدريد وغيرهما خير شاهد على ذلك.
ـ كذلك فعل الإسبان بتراث مدينة سبتة المغربية عام 1414م، حيث أخذوا ما فيها من مخطوطات، وعندما هجموا على تونس عام 978هـ احتلوا جامع الزيتونة المليء بخزائن العلماء فأفرغوها وقد بلغت عشرات الآلاف من المخطوطات، أما مدينة تطوان فقد نهبوا ما فيها عام 1860.
ـ وعندما خرج الفرنسيون من الجزائر أفرغوا دار الكتب الوطنية وادعوا أنها أحرقت، وذلك بعد نهبهم لمكتبات الجزائر الخاصة والعامة، وقد فعلوا ذلك منذ دخولهم إلى الجزائر 1830م فقد صارت مصدراً ثرا للحصول على المخطوطات العربية وإرسالها إلى فرنسا، فأول ما قام به وزير الحربية الفرنسية سرقته لكمية من المخطوطات العربية النادرة وإرسالها إلى المكتبة الملكية (الوطنية) بباريس، كذلك فعلوا بمكتبة الشيخ الحداد الجزائري ومكتبة الأمير عبد القادر الجزائري.
ـ وفي مصر عندما عاد ملك فرنسا لويس التاسع من حروبه الصليبية نقل معه من مدينة دمياط المصرية مخطوطات عربية وقبطية زيَّن بها خزائن قصره، واحتذى حذوه كثيرون من أمرائه وأغنياء حجاجهم الذين رافقوه في زيارته الأماكن المقدسة، وكان ذلك في (ق 13م)، وأثناء الحملة الفرنسية على مصر، جُمعت أكثر من (320) مخطوطاً عربياً بعناية فائقة من قبل علماء المشرقيات الذين رافقوا نابليون في حملته، وبقي بعض علماء الحملة في مصر واعتنوا في جمع المخطوطات، فهذا دوشرفيل يرسل من مصر إلى فرنسا (1500) مخطوطاً عربياً.
ـ أما بلاد الشام التي عرفت أعظم نكبة في مكتباتها وهي نكبة طرابلس التي أحرق فيها الصليبيون أكثر من ثلاثة ملايين مخطوطاً، وكذلك فعلوا بمكتبات حلب وحمص والمعرة، وهل نست الشام مصيبة هولاكو وما فعله بمكتبات دمشق، ومع ذلك أرسل من الشام مكتبات كاملة ملأ بها مكتبة عظيمة في مراغة بأذربيجان، وكذلك فعل تيمورلنك.
ـ أما أعظم مصيبة فقد كانت على يد العثمانيين خاصة في مصر والشام، فعندما فتحوا مصر عام 1517م كان في حاشيته السلطان نخبة من أرباب العلم الذين دُهشوا بما شاهدوه من الآثار الثمينة في المكتبات المصرية، فلما أخبروه بذلك أمرهم بجمع خيارها وانتقاء نفائسها لنقلها إلى عاصمة ملكه، فحمل معه ألف جمل محمَّل بالكتب، بالإضافة إلى ذهب مصر وآثارها النادرة، ونفس الشيء فعله بدمشق، بل زاد على ذلك بأن أخذ معه أرباب الصنائع الدمشقيين معه إلى عاصمته، وبلغ ما أخذه من الكتب المصرية والدمشقية أن أملأ به (43) مكتبة كبيرة في بلاده.
وكذلك كان يفعل أمراؤه وولاته وأعوانه، فسنان باشا وبعد انتهاء عمله بدمشق أخذ معه مئة وستين مصحفاً مرصعاً بالدرر والجواهر، وخمسة وثلاثين صندوقاً مملوءة بنوادر الكتب التي لا تقدر بثمن.
ثانياً ـ البعثات البابوية:
ومن أسباب جعل تراثنا العربي في بلاد الغرب سعي الأحبار الرومانيين الحثيث في القرون الغابرة ليحرزوا ما استطاعوا من المخطوطات، وليغنوا بذلك مكتبة الفاتيكان، وقد بدأوا بذلك منذ (ق 15م)، وكان على رأسهم البابا سكستس الرابع (1471 ـ 1484م)، وبيوس الرابع (1559 ـ 1565م)، وبولس الخامس (1605 ـ 1621م)، وأوربانس الثامن (1623 ـ 1624م)، فجمعوا من الكنوز الأدبية الشرقية كمية وافرة، وأنفقوا في اقتنائها أموالاً طائلة، وكابدوا في نقلها وتنظيمها أسهاراً متواصلة كما أكد ذلك طرازي، وبهذا الشكل اغتنت المكتبة وارتاشت أحوالها بتآليف علماء الشرق.
وفي عام 1707م وجه البابا إقليميس الحادي عشر (1700 ـ 1721م) إلى الشرق عالماً لبنانياً يدعى إلياس السمعاني لابتياع ما يعثر عليه من مخطوطات في لبنان وسورية وفلسطين ومصر، وفي عام 1715م كلف عالما لبنانياً آخر يدعى يوسف شمعون السمعاني أن يرتحل إلى المشرق ليجمع ما تيسر من المخطوطات العربية والسريانية والقبطية والحبشية، فنهض السمعانيان كلاهما بمهمتهما فأغنيا المكتبة الفاتيكانية مما جمعوه، ومما يذكر أنهما شحنا ثلاث سفن مليئة بالمخطوطات ولكن سفينتين منهما غرقتا.
كذلك وجه نفس البابا عام 1719 كاهناً مارونياً قبرصي الأصل يدعى اندراوس إسكندر للموصل ليشتري المخطوطات المتعلقة بالنساطرة، وفعل ما أراده.
وهكذا كان رسل البابوات يوفدون إلى الشام والعراق ومصر والهند وفارس يشترون المخطوطات، حتى أنهم دفعوا ثمن بعضها وزنها ذهباً، وبذلك امتلأ دهليز المكتبة وطوله (327متراً) بالمخطوطات.
وعُرف بعض رجال الفاتيكان ممن اعتنوا بجمع المخطوطات العربية ووضعها في خزائن كتبهم الخاصة، ومنهم الكاردينال فريدريك في فلورنسا (ق 16م)، والأسقف الإيطالي جوستنياني مطران نابيو في جزيرة كورسيكا، ورد عنه أنه أولع ولعاً مفرطاً بالمخطوطات حتى أنه أنفق ثروته في شراء ما لا يحصى منها.
ثالثاً ـ اعتناء ملوك الغرب بالمخطوطات:
اعتنى الملوك والوزراء الغربيون بجمع المخطوطات العربية كثيراً، وعلى رأسهم ملوك فرنسا، فلم يكن سعيهم بأقل من مساعي بابوات روما، فجمعوا في قصورهم ومكتبات عاصمتهم مخطوطات عربية كثيرة، لذلك أوفدوا بعثات علمية إلى الأمصار العربية للحصول على تحف المخطوطات المكنوزة في خزائن المساجد والمدارس والأديرة فصارت مكتبة الأمة في باريس من أعظم مكتبات الدنيا وأهمها بندرة مخطوطاتها النادرة التي بلغت الآلاف وقد سجل التاريخ حالة استعارة مشهورة للكتب، تؤكد مدى تعلق ملوك فرنسا وثقتهم بالمخطوطات العربية، يروى أن الملك الفرنسي لويس الحادي عشر اضطر أن يستعير كتاباً طبياً من كتب الرازي، وكان موجوداً في مدرسة الطب في باريس، فاضطر الملك أن يضع تحت تصرف مكتبة المدرسة مئة كورون ذهبي و12 من الصحون الغالية مقابل استعارته للكتاب، وقد أعيدت له فور إعادته للكتاب، ومما يذكر أن هذه المدرسة حوت سجلاتها عام 1395م 12 مجلداً اشتملت على فهارس مؤلفات خطية لأطباء عرب فقط..!
ـ وورد عن الملك الفرنسي لويس الرابع عشر في (ق 17م) أنه أرسل رسلاً للبحث عن المخطوطات العربية، فقد كلف سفيره (دي مونسو) بمهمة إلى المغرب، وأوعز إليه بتاريخ 30 كانون الأول 1667م أن ينقب تنقيباً دقيقاً عن مخطوطات عربية وفارسية ويبتاعها له، فاشترى له من مكتبة جامع القرويين بفاس الشيء الكثير، واشترى له 1700 قطعة من الجلود المراكشية الكبيرة الحجم، ليجلد بكل واحد كتابين، فيكون مجمل ما اشتراه 3400 مخطوطاً.
ويذكر طرازي أن الملك نفسه أرسل إلى فاس ثلاث بعثات غيره، ويؤكد أنه اطلع في مكتبة دير الشير بلبنان على وثيقة تثبت أن الملك لويس الرابع عشر أرسل علماء إلى لبنان ليشتروا له دواوين الشعراء وتواريخ البلاد وكتب علوم النحو والهندسة والفلك والطب، وكل ما وجدوه بكل الألسن العربية واليونانية والسريانية والتركية والعبرية، وأكد عليه أن يشتري ذلك بأي ثمن كان، كما كتب إلى جميع القناصل الفرنسية في كل البلاد أن يمدوه بالمال الذي يحتاجه في شرائه لذلك، فاشترى الكثير من لبنان والشام وقبرص ومصر وتركيا وبغداد وفارس..!
ولشدة عشق هذا الملك للمخطوط العربي نقل من مكتبة الكاردينال (مازاران) 194 مخطوطاً عربياً إلى مكتبته الملكية، كذلك نقل 247 مخطوطاً من مكتبة جلبيرغول.
ـ وأرسلت بريطانيا بعثة خاصة برئاسة المستر تتام متخصصة في تجميع نفائس المخطوطات من مصر عام 1842، وحصلت على مجموعة مهمة منها 300 مخطوطة كتبت على رق غزال، كما أثبت ذلك طرازي وغيره.
ـ أما بعثة فانسلين فقد جمعت 630 مخطوطاً شرقياً لمكتبة الملك، كان منها 430 مخطوطاً عربياً.
ـ ومن الوزراء الذين اهتموا بجمع المخطوط العربي (كولبير) الوزير الفرنسي، فقد كان يكلف بعض المعتمدين في الشرق بالبحث عن المخطوطات العربية لتزويد مكتبة الملك لويس الرابع عشر، فكانت تشترى من مكتبات استانبول العامة والخاصة المليئة بالمخطوطات المنهوبة من الشام ومصر، وكان كولبير في نفس الوقت يجمع مكتبة خاصة به، وممن أرسلهم غالان الذي جمع لنفسه أيضاً عدداً جيداً من المخطوطات العربية من أبرزها مخطوطات ألف ليلة وليلة التي قام بترجمتها إلى اللغة الفرنسية لأول مرة، حيث تعد ترجمته الأولى لها.
رابعاً ـ الطرق الدبلوماسية:
كانت الدبلوماسية من أهم طرق جمع المخطوطات والآثار العربية عند الغرب، فقد سعت السفارات والقنصليات إلى استخدام ممثلين أو إرسال البعثات التجارية لشراء المخطوطات والآثار العربية ونقلها إلى مكتباتهم، فقد أخذوا تراخيص من الدولة العثمانية لينقبوا عن الآثار وكان لهم النصف مما يخرجونه من آثار، هذا طبعاً عدا ما كانوا يسرقونه، ولم يقتنعوا بذلك.. بل عملوا على سحب المخطوطات أيضاً عبر سفاراتهم فلديهم حصانة..!
وهل يعقل أن الدولة ستسألهم عما يأخذونه وهي كانت بدورها تقدم ما يأخذونه هدايا.. ولم لا؟ فهم لم يتعبوا بكتابة هذه المخطوطات، فالمستشرق الألماني (هارثمان ت 1919م) كان يعمل مستشاراً للقنصلية الألمانية في بيروت، تنقل في لبنان وسورية وتذرع بكل الوسائل للحصول على المخطوطات العربية من أرباب الأسر في لبنان وسورية وفلسطين والعراق والآستانة، فأنشأ خزانة خاصة عُدَّت من أثمن خزائن الكتب العربية.
ـ أما القنصل البريطاني في بغداد (ق 19م) فقد أخذ معه بعد انتهاء عمله مكتبة ضخمة فيها 310 مخطوطاً نادراً وأودعها في المتحف البريطاني، كذلك فعل قنصل آخر في العراق فقد أخذ معه 173 مخطوطاً عربياً من الموصل وأودعها في المتحف البريطاني أيضاً.
ـ المشرق يوهن جو كفريد فِتْشتاين (1815 ـ 1905) مستشرق ألماني، عين قنصلاً لحكومة ألمانيا في دمشق، فتعلم فيها العربية، وقام بثلاث رحلات إلى حوران والصحراء، وعني بدراسة سورية ولبنان وفلسطين، وجمع مخطوطات عربية نفيسة عاد بها إلى برلين، ومما اشتراه مكتبة كاملة من أبناء الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق.
ـ أما غالان مرافق سفير فرنسا إلى الباب العالي عام 1680 فقد جمع مكتبة ضخمة من تركيا، كذلك عندما أرسله وزراء فرنسا إلى الشرق وعلى رأسهم الوزير كولبير ولوفوا، فاشترى المخطوطات العربية لصالح مكتبة الملك ولصالح مكتبات الوزراء ولصالح مكتبته الخاصة، والأمثلة على ذلك كثيرة..
خامساً ـ رحلات المستشرقين:
لعب المستشرقون دوراً فعالاً في نقل المخطوطات العربية والإسلامية إلى بلادهم، فقد كانت رحلاتهم كثيرة إلى البلدان العربية التي طافوا فيها بحثاً عن المخطوطات النادرة والنفيسة منذ قرون عديدة، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وجمعوا من ذلك مكتبات ضخمة خاصة بهم أهدي بعضها إلى مكتبات الجامعات والمتاحف أو بيعت، وبعضها مازال أمرها مجهولاً إلى اليوم فلم تفهرس ولم يطلع عليها أحد...
فقد اهتم المستشرقون بالمخطوط العربي عندما أهملنا شأنه، فجمعوه أو ساعدوا في جمعه بهمة لا تعرف الكلل، ولئن اقتنوا بعضها بالأثمان البخسة، ومنها ما حُمل إليهم حملاً إلى عقر دارهم، فقد طلبوها بالأسفار الطويلة والنفقات الباهظة في مختلف الأصقاع، حتى توفر لديهم من المخطوطات العربية وحدها أعلاق نفيسة تقدر بمئات الألوف، أكثرها من الأمهات والنوادر، ثم أحلُّوها محلها من المكتبات العامة والخاصة المستقلة بها، كما وقف كثير منهم مجموعاتهم عليها.
ومن أمثلة ذلك:
ـ مكتبة جامعة ليون، وتضم مخطوطات نفيسة وافرة قضى المستشرقون الهولنديون قروناً متواصلة في جمعها، وقد كانت نواتها ما خلفه لها (سكا ليجر) من أول المخطوطات العربية والعبرية، ثم ما حمله إليها (جوليوس) تلميذ أربانيوس من رحلة إلى المغرب الأقصى عام 1632م، فعندما خلف جوليوس أستاذه أربانيوس في كرسي العربية استأذن جامعة لندن في رحلة إلى الشرق عام 1625 حيث قضى أربع سنوات اقتنى خلالها مجموعة نفيسة من المخطوطات احتفظ ببعضها لنفسه، ودفع الآخر الذي اشتراه بمال الجامعة إلى مكتبتها، وكلها في علوم اللغة والنحو وعلوم الفلك والطب والفلسفة.
ـ ووقف ورنر مجموعة مهمة على مكتبة جامعة ليدن عام 1665 تحتوي على ألف مخطوط عربي وفارسي وتركي وعبري اشتراها أثناء إقامته بالآستانة (844 ـ 1665م) من مكتبة حاجي خليفة وغيرها من المكتبات الخاصة.
ومن المستشرقين الذين رحلوا إلى الشرق وجمعوا مخطوطات عربية وغيرها:
ـ هنري إجلازر، يهودي نمساوي، قام بعدة رحلات إلى البلاد العربية، أهمها رحلته إلى اليمن عام 1890 فعاد بـ 250 مخطوطاً باعها للمتحف البريطاني، و246 مخطوطاً باعها للمكتبة الملكية ببرلين، هذا غير الذي أبقاه لمكتبته الخاصة.
ـ الكونت كلولند برغ السويدي، تجول في البلاد العربية فحصل على مئات المخطوطات العربية ونقلها إلى بلاده، فقد كان يغري أصحاب المكتبات ببيع ما لديهم في خزائنهم بالمال الوفير، وممن أغراهم محمد أكمل الذي ورث مكتبة أبيه عبد الغني فكرت الذي أفنى عمره في جمعها بمصر.
ـ أغناطيوس كراتشكوفسكي المتشرق الروسي قام بعدة رحلات إلى المشرق جمع خلالها نوادر المخطوطات العربية القديمة.
ـ مُنْك مستشرق يهودي ألماني، استطاع بخبثه أن يسرق الكثير من مخطوطات مصر وسورية والتي رحل بها إلى ألمانيا.
ـ يوهَن لودفيك بركهارت (1784 ـ 1817م) مستشرق سويسري رحالة، جمع من دمشق ومصر وشمالي السودان والحجاز مكتبة ضخمة، توفي في القاهرة وأوصى بمكتبته إلى جامعة كمبردج.
ـ غريفيتي (1886 ـ 1925) مستشرق إيطالي جمع من البلاد العربية مكتبة ضخمة، عينه الملك فؤاد الأول عام 1922 أميناً لمكتبته الخاصة، فأقام فيها حتى وفاته وأوصى بمكتبته الخاصة للمكتبة الأمبروسيانية في ميلانو، وكان فيها 1221 مخطوطاً عربياً، منها نسخة نادرة من ديوان الأخطل، قام بتحقيقه ونشره.
ـ لويس ماسينيون، جمع مكتبة ضمت آلاف المجلدات، كان فيها 200 مخطوط عربي.
ـ هنري بونيون، كان سفيراً لفرنسا في حلب وغيرها، نقب عن الآثار وجمع المخطوطات الثمينة التي لم يكن يضن بالذهب الرنان في سبيل اقتنائها مهما غلا ثمنها، يقول طرازي: (..لقد أتيح لي الإطلاع عليها فدهشت لكثرة نفائسها وحسن ترتيبها وتبويبها..).
ـ دي لايورت (1777 ـ 1861) انضم إلى صفوف حملة نابليون على مصر (1798 ـ 1799) وآثر البقاء في الشرق، فرحل إلى طرابلس الشام، وعمل في القنصلية الفرنسية مما أتاح له أن يجمع خزانة مخطوطات عربية نقلها معه إلى وطنه.
ـ سلوستر دي ساسي، لم يحرز أحد من المستشرقين على الإطلاق ما أحرزه، جمع مكتبة خاصة أنفق عليها أموالاً طائلة، وبذل في سبيلها جهوداً عظيمة، كانت مليئة بالمخطوطات الشرقية وخاصة العربية.
ـ غليلم بوستل، كان سفيراً لملك فرنسا فرنسيس الأول في تركيا، فاقتنى مخطوطات نفيسة حملها معه إلى باريس، ثم رحل إلى القدس ولبنان وسورية واشترى مخطوطات عربية كثيرة ضمها لما اقتناه سابقاً، فكون بذلك خزانة ثمينة ضخمة.
ـ شيفر، جمع مكتبة ضخمة، مما كان فيها 406 مخطوطات عربية تقع في 276 مجلد، وضع ورثته مكتبته تحت تصرف المكتبة الوطنية في باريس عام 1899.
كما كان هؤلاء الرحالة يعقدون علاقات صداقة مع بعض أهل المشرق، وكان هؤلاء يدورهم يمدونهم بما يحصلون عليه من مخطوطات ويرسلونها إليهم في بلادهم.
سادساً ـ الإهداء:
لعب سلاطين الدولة العثمانية وولاتها وأعيانها وعلماؤها دوراً كبيراً في نقل المخطوطات العربية إلى الغرب عن طريق الإهداء، خاصة بعدما جمعوها ووضعوها في مكتبات الآستانة والمكتبات الملكية والخاصة، ومن عمليات الإهداء نذكر:
ـ كانت قبة عائشة في صحن الجامع الأموي بدمشق مليئة بالرقوق والمخطوطات القديمة التي سلمت من الحرائق والزلازل، فتحت بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1317هـ/ 1898م عندما زار ولي عهد الإمبراطور الألماني غليوم دمشق، وقدم ما فيها هدية لحضرته، وما بقي وزع هدايا على رجال الأستانة وبعض من رجال دمشق.
ـ يثبت المؤرخون والمفهرسون للمخطوطات أن الحكومة العثمانية أهدت الكثير من المخطوطات العربية لموظفي قناصل وسفارات الدول الأوروبية في الآستانة، فوضعوها في مراكز العلم في بلادهم حيث عدُّوها من كنوز الشرق.
كما لعب رجال الدين دوراً في إخراج كثير من المخطوطات إلى خارج البلاد عن طريق الإهداء، ومن ذلك:
ـ بعدما تم تجديد المكتبة البطريركية الأرثوذكسية بدمشق بعد حريقها عام 1860، جمع البطريرك غريغوريوس الرابع قسماً من نفائسها وذهب بها إلى روسيا عام 1913 وقدمها هدية إلى المكتبة القيصرية في بطرسبرج بمناسبة اليوبيل القرني الثالث (1613 ـ 1913) لارتقاء آل رومانوف إلى العرش الإمبراطوري الروسي، ثم نقلت في العهد الجديد إلى خزانة المتحف الأسيوي في موسكو، ووضع لها المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي فهرساً خاصاً لها عام 1924م.
ـ عندما مرض المطران يوسف داود رئيس أساقفة دمشق على السريان الكاثوليك، أهدى أنفس مخطوطات مكتبته إلى مكتبة مدرسة نشر الإيمان في روما، وأهدى قسماً آخر إلى دير الشرفة في لبنان، وبقي عنده قسم صغير أهداه إلى بعض أصدقائه.
ـ الكاردينال أغناطيوس جبرائيل تيوني من الموصل أهدى مكتبة الفاتيكان مجموعة نفيسة من المخطوطات العربية.
ـ كانت مكتبة خروج سلاطيان الحلبي الأصل في القاهرة مليئة بنوادر المخطوطات، أعد لها د. المنجد فهرساً عام 1965، فهرس فيه 126 مخطوطاً عربياً، أهداها صاحبها إلى متحف ودار المخطوطات القديس مانشوطوتس في أريغان من مدن أرمينيا.
ـ وقد عرف بمصر الأب بولص سباط الحلبي السرياني بمكتبته المليئة بالمخطوطات العربية، صدر لها فهرس في ثلاثة مجلدات عام 1928، وبعد وفاته أهدى ورثته منها 776 مخطوطاً عربياً إلى مكتبة الفاتيكان عام 1965.
سابعاً ـ نقل العرب مخطوطاتهم بأنفسهم وبيعها للغرب:
لم يكتف كثير من تجار المخطوطات بما يبيعونه في بلادهم للغربيين، إنما رحل بعضهم بنفسه للغرب وعرض عليهم ما جمعوه من بلادهم، كذلك فعل بعض من ورث مكتبات عن آبائهم، وللأسف مازالت هذه العملية مستمرة إلى اليوم، وكل ذلك لقاء مال زائل، وكأنهم لا يدرون أن من يفرط بتراثه يفرط بوطنه، ومن هذه الأمثلة.
ـ أمين الحلواني المدني (ت 1898م) سافر إلى أمستردام في هولندا عام 1883 ومعه مخطوطات جمعها من عدة بلدان عربية بلغت أكثر من عشرة آلاف مخطوطة عربية، منها 664 من النوادر، اقترح الكونت لند برج على جامعة ليدن شراءها، فتقاسمتها هي ودار بريل، وما بقي معه باعه إلى جامعة برنستون والمكتبة الملكية في برلين ومكتبة جامعة ليدن والتي كان نصيبها من النوادر الكثيرة، قتل الحلواني في مدينة طرابلس أثناء تجواله باحثاً عن مخطوطات أخرى.
ـ جمع مراد البارودي خزانة ضمت أنفس المخطوطات العربية، تجاوزت 600 مخطوطة، باع بعضها للمستشرقين، وبعد وفاته عام 1918 باع ورثته البقية لجامعة برنستون في الولايات المتحدة.
ـ رشيد الدحداح جمع خزانة كتب مهمة وفيها أكثر من 400 مخطوط عربي، وبعد وفاته عام 1889 باعها أحفاده إلى مكتبة الدولة في برلين وإلى جامعة ييل في نيوهاتن في الولايات المتحدة.
ـ أما مكتبة محمد إمام المنصوري في مصر، فقد نقلت كاملة إلى مكتبة الكونجرس في واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية، وفيها 5000 مجلد، منها 1546 مخطوط عربي.
ثامناً ـ القرصنة:
من جملة المصائب التي أصابت المكتبات العربية، وجعلتها تنتقل من بلادنا العربية وتحط في بلاد الغرب (القرصنة)، وفي تاريخ الكتاب العربي أمثلة على ذلك، ومنها:
ـ في عام 1021هـ/ 1612م أراد السلطان مولاي زيدان ابن الملك أحمد المنصور السعدي نقل مكتبته الخاصة وأموراً أخرى ثمينة إلى مدينة سوس بالجنوب المغربي، فاستأجر لذلك سفينة، لكن سفينة للقراصنة اعترضتها وحولت طريقها إلى أسبانيا، وفي رواية كانت الحمولة عدة سفن والذي اعترضه أسطول أسباني، وانتهى أمر المكتبة أن وضعت في المكتبة الملكية بقصر الأسكوريال، وكان فيها ما بين 3000 و4000 مجلد من نفائس مخطوطات المغرب والأندلس والمشرق.
ـ وهناك مثال أقدم مما ذكرناه، إنها مكتبة أسامة بن منقذ، ففي كتابه الإعتبار.. أنه أثناء تنقله في البحر إلى مصر ومعه كتاب أمان من ملك القدس أيام احتلالها من قبل الصليبيين لألا يتعرض أحد إليه، لكنهم هجموا عليه وكسروا قاربه ولم يعترفوا بكتاب الأمان وسرقوا منه حلي نسائه وجواهرهم، وسيوفه وسلاحه وذهباً وفضة تقدر بثلاثين ألف دينار ذهبي، ومكتبة كان فيها أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة، ويقول ابن منقذ.. (لم أحزن إلا على ما ذهب لي من الكتب فإنها كانت أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة، فإن ذهابها حزازة في قلبي ما عشت..!).
تاسعاً ـ السرقة:
استعمل تجار وعشاق الكتب كل الوسائل المشروعة والغير مشروعة في جمعها، خاصة بعدما لمعت في (ق 16م) شعلة النهضة في إيطاليا، وبدأ بابوات روما العارفون قيمة المخطوطات العربية فأرسلوا الرسل والبعثات لجمعها من الشرق، هنا تفتأ جشع تجار الشرق وبان طمعهم في جمع المال وبأي طريق كان، خاصة أن المخطوطات تجارة رائجة، والمدارس والمساجد والأديرة وبيوت العلماء مليئة بهذه الكنوز، وقد سجل التاريخ معظم عمليات السطو والسرقة، فمن ذلك:
ـ يذكر الرحالة خليل الخالدي أنه زار دوما بدمشق حوالي عام 1335هـ، وشاهد مكتبة الجامع المليئة بمخطوطات الفقه الحنبلي، لكن ماذا حلَّ بها..؟ لقد صارت على أيدي سارقي المخطوطات قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمناً، وسارقوها هم المشرفون عليها.
ـ عرفت بدمشق المدرسة العمرية، وكان فيها عدة خزائن أوقفها علماء دمشقيون مشهورون فيها لمنفعة طلاب العلم، لكنها سرقت من قبل متوليها المتلبسين بالدين، ولم يبق منها إلا القليل نقلت للظاهرية.
ـ مدرسة عبد الله باشا العظم في سوق الخياطين، أوقف عليها ابنه أسعد باشا العظم مجموعة كبيرة من المخطوطات، لكن خازنها سرقها وباعها خاصة للمستشرقين الفرنسيين، وعندما أراد طاهر الجزائري أخذ ما بقي منها ووضعه في الظاهرية، هدَّده خازنها بالقتل..!.
ـ أنشأ فتح علي شاه المكتبة الشاهانية في طهران أيام الدولة القاجارية، أضاف إليها حفيده ناصر الدين (ت 1896م) مجموعة كبيرة من نوادر المخطوطات الأصلية والمصورة، بلغ عددها 4807 مجلد، في أواخر عهد مظفر الدين شاه (ت 1917) تواطأ خازن المكتبة مع تاجر أرمني يدعى ارشاك خان كريانس على اختلاس نفائسها وبيعها في أوروبا.
ـ يقول حبيب زيات.. أنشأ البطريرك غريغوريوس مكتبة في بيروت وأخرى في دمشق، لكن الذين تولوا أمرهما لم يهتموا بهما، إنما تركوهما للعث والسرقة والإغتصاب.
ـ كذلك أمر مكتبة أسقف القلية الأنطاكية، فبعد وفاته لم يهتم أحد بها، فتقاسمتها الأطماع وذهبت أيادي سبأ، مع العلم أنها كانت مكتبة ضخمة.
ـ كان لبولس مسدية النائب البطريركي مكتبة، نُهبت.. ثم أدرك بعضها، ومما سرق منها كتابان خطيان نادران، استرد بعض الكهنة أحدهما.. لكنه ضمه إلى مكتبته الخاصة، أما ما بقي منها فأهمله ووضعه في غرفة مهملة بصناديق مفتوحة، وصار كل من شاء يأخذ منها ما يحلو له، ولم ينج منها إلا ما صعب حمله أو قلت فائدته.
ـ أما مكتبة دير السيدة في صيدنايا، فيقول عنها زيات.. تناولت الأيدي منها كل نفيس، فصارت قنصا لكل صائد، وقال.. ومن أقبح مصائب هذه الخزانة أن من يحرسها هم أول من يُحترسُ منهم عليها، فلا تكاد تنقضي سنة دون أن ينقض أحدهم على بعض ذخائرها.
ـ دير القديَسين سركيس وباخوس للروم الكاثوليك في معلولا سرقت ونهبت أوقافه من قبل من كان يرعاها، ولم يبقوا فيه كتاباً واحداً، فقد باعوها للتجار وبدورهم باعوها للغرب، كما كانوا يبيعون الكتب الموجودة في أديرة معلولا للسياح فتشتت أمر مكتبات أديرة معلولا، وممن زار معلولا من المستشرقين واشترى من مخطوطاتها (فن كَسْترن) عام 1890، وقال حبيب زيات.. حكى لي الخوري موسى الكرَّام أن آخر من باع من كتب ومخطوطات معلولا الموقوفة على الأديرة الشماس أندرونيكوس فلم يبق شيئاً منها.. وادعى البعض أنها أحرقت.
ـ ذهب حبيب زيات إلى يبرود ليشاهد مكتبة المطران غريغوريوس عطا المعروفة بكثرة مخطوطاتها.. لكن وجد أن القيمين عليها قد باعوها كلها طمعاً في المال.

عاشراً ـ تجار وسماسرة المخطوطات:
كان سابقاً وما يزال العديد من التجار والسماسرة الذين تخصصوا في تتبع المخطوطات وأماكن وجودها لصالح الغربيين، فإذا علم تاجر بمخطوط جيد ويعرف أن له رواج عند أغنياء الغرب واليوم أغنياء العرب ذهب إلى صاحبه فيغريه ببعض المال، خاصة إذا كان جاهلاً لا يعرف قيمة ما عنده، وهذا ما يحصل في أيامنا الراهنة، وما أكثرهم هؤلاء التجار، ترى أحدهم يغتني بين عشية وضحاها، ولم يقتنع البعض بالمخطوطات الموجودة في بلادنا.. إنما صاروا يذهبون إلى تركيا حيث المخطوطات العربية الكثيرة، ثم صاروا يميلون إلى اليمن وموريتانيا، وليس ذلك حباً في الحصول على المخطوطات.. إنما حباً بالثراء الفاحش الذي يحصلونه من هذه التجارة.
ـ وقد عرف في تاريخنا كثير من هؤلاء التجار، ففي عام 1943 اشترت جامعة برنستون ستة آلاف مخطوطة من التاجر اليهودي (يهودا البغدادي) بصفقة واحدة، ودفعت له فيها 27 ألف دولار، كان قد جمع هذه المخطوطات من الدول العربية وأكثرها كان من مصر.
ـ أقام تاجر إيطالي في اليمن، وكان يستبدل بضاعته الرخيصة بالمخطوطات القديمة، فاجتمع له من ذلك آلاف المخطوطات، أهداها كلها لمكتبة الإمبروزيانا بميلانو.
ـ عرف أمين الخانجي تاجر المخطوطات الشهير بشرائه للمخطوطات من البيوت وبيعها للأوروبيين، وقد اشترى من دمشق مكتبات كاملة مع ما فيها من مخطوطات.
والأمثلة على ذلك كثيرة.. لكن المرء أحياناً لا يجرؤ على ذكر أسمائهم، فبعضهم أصحاب مقامات عالية في المجتمع الدمشقي اليوم، وبعضهم يعملون في الخفاء فيرسلون وكلاءً عنهم لذلك مخافة على مناصبهم ومقامهم وقامتهم، وهم بالأصل وكلاء للأغنياء العرب والغربيين الذين يمدونهم بالمال الكثير مقابل إفراغ بلادنا من تراثنا الذي نعتز به، حتى القوانين القاسية التي وجدت لحماية تراثنا لم تردعهم!
حادي عشر ـ هواة جمع الآثار والتحف:
شغف عدد من الغربيين من أصحاب الثروة والمال بجمع العاديات الأثرية ومنها المخطوطات، وللأسف تبعهم في ذلك بعض الأغنياء العرب، وممن عرف بجمعه للمخطوطات النادرة خاصة المزخرفة والمصورة الإيرلندي تشستر بيتي الذي قدم إلى مصر للعلاج عام 1913م، فاستغل فترة نقاهته بجمع ما يهوى من التحف والمخطوطات، وتعاون معه تجار المخطوطات، بل وأكثر من ذلك.. فقد تواطأ معه أمناء المكتبات في المدارس والمساجد.. فجمع كنزاً منها لم يحلم به غيره، لقد جمع أكثر من 12 ألف مخطوط، منها 5500 مخطوط عربي، ومنها مصحف بخط ابن البواب، وعاد بكنزه هذا إلى ايرلندا وأفرد له بناءً من ثلاث طوابق، ووضع لهذه المخطوطات المستشرق آرثر آربري فهرساً جاء في ثمانية مجلدات.
ثاني عشر ـ خيانة أمناء المكتبات:
من أكبر مصائب المكتبات أن مَن استؤمن عليها خانها..! فمن الطرق التي استخدمها تجار المخطوطات.. إغراء متولي المكتبات بالمال، خاصة إذا كانوا من الجاهلين، فقد عُيِّن أمناء لمكتبات المساجد والمدارس والأديرة لا يعرفون قيمة الكنوز التي يحرسونها، لذلك سهل على الرحالة والمستشرقين والتجار إغراءهم بالمال القليل.. ثم تسريبها إلى بلادهم.
وقد ذكرنا أمثلة على ذلك، لكن أثبت ما ذكره محمد كرد علي في كتابه خطط الشام (من المصائب التي أصيبت بها كتب الشام أن بعض دول أوروبا ومنها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وروسيا أخذت تجمع منذ (ق 17م) كتباً من تراثنا، تبتاعها من الشام بوساطة وكلائها وقناصلها ورجال الدين.. وكان قومنا ولاسيما بعض من كان يرجع إليهم أمر المدارس والجوامع بلغ فيهم الجهل إلى أن فضلوا درهماً على أنفس كتاب، فخانوا الأمانة، واستحلوا بيع ما تحت أيديهم أو سرقة ما عند غيرهم، والتصرف به كأنه ملكهم..)، وقال... (وحدثني الثقة أن بعض سماسرة الكتب في (ق 19) كان يغشى منازل بعض هؤلاء في دمشق، ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس والجوامع، فيبتاع منها ما طاب له من الكتب المخطوطة بأثمان زهيدة..) ثم يذكر بعض الأمثلة على ذلك..
أما د. بنت الشاطئ فتقول في كتابها تراثنا بين ماض وحاضر (..بأن ذخائر المخطوطات بعضها كان مودعاً في المساجد والزوايا.. بضاعة رخيصة لا تساوي وزنها ورقاً عند خدام المساجد الموكول إليهم أمرها، وقد حدث شاهد عيان من أساتذتنا أنه رأى بعينه خادم مسجد المؤيد يملأ السلال بنفائس المخطوطات ويبيعها لمن يطلبها بثمن بخس..).
أما طرازي فيذكر أن خادماً يدعى ابن السليماني عين في منتصف (ق 19م) خازناً لثلاث مكتبات كبرى في مساجد مصر، وجعل له ديوان الأوقاف راتباً شهرياً قدره خمسة وعشرون قرشاً، وكان الرجل يستعين على العيش ببيع السكر، فجعل يقف في زاوية تحت سلم مدرسة السلطان حسين ويضع أمام بضاعته أكواماً من مخطوطات المكتبات الثلاث، يبذلها لمن يدفع له القرش والقرشين..
هنا تتأسف بنت الشاطئ على بيع المخطوطات بقروش فتقول: (..هكذا تسربت أكثر البقية من كنوزنا إلى الغرب ونحن نيام، وأُبيحت ذخائر تراثنا للأجانب دون أن يجدوا من يصدهم عنها، فذهبوا بها على مرأى منَّا ومسمع، وكانوا يتندرون على حُمق الأجانب المغفلين الذين تستهويهم مخطوطات قديمة صفراء لا قيمة لها في حسابنا، والحق أنها كانت كنوزاً غالية ذات قيمة عند غيرنا، قد عرفوا قيمتها، لذلك استنفر الغرب وجنَّد كل طاقاته ليحصل عليها وبأي أسلوب كان..!
وعندما أمر ناظر ديوان الأوقاف محمود سامي البارودي عام 1297هـ بنقل ما بقي من المخطوطات في مساجد الأوقاف إلى دار الكتب التي أنشأها علي مبارك.. تفاجأ بأن معظم خزائن المساجد والمدارس كانت فارغة خاوية تنعي مَن بناها، ودخل مرة مسجد الأمير محمود الاستادار في القاهرة، فوجد كل الخزائن فارغة، قد باعها حفظتها إلى تجار أوصلوها للمستشرقين..
وأخيراً...
لقد ترك أسلافنا تراثاً فكرياً عظيماً لم تتركه أمة من الأمم الأخرى على مر التاريخ، وهو يمثل الإنتاج الفكري والحضاري للأمة العربية والإسلامية في كل ميادين العلوم والمعارف.
هذا التراث الضخم المتمثل بالمخطوطات.. لم يصلنا منه إلا القليل بالنسبة لما قدموه، وذلك نتيجة ما تعرض إليه خلال تاريخه الطويل من كوارث ومصائب ومحن وآفات، ومع ذلك فإن ما وصلنا تفرق وتشتت في أرجاء العالم.
إنها المصيبة الكبيرة والرزية العظيمة التي أصابته.. وهي تعرضه للسلب والنهب والسرقة وتسربه إلى خارج موطنه الأصلي، بعد أن أصبحت الأمم الغربية تتنافس على اقتنائه ليستقر في مكتباتهم ومتاحفهم.
المصادر:
1 ـ تاريخ الكتاب ـ د. الكسندر ستيبتشفيتش.
2 ـ تراثنا بين ماض وحاضر ـ د. بنت الشاطئ.
3 ـ تغريب التراث العربي ـ محمد عيسى صالحية.
4 ـ الأعلام ـ خير الدين الزركلي.
5 ـ خزائن الكتب العربية في الخافقين ـ فيليب دي طرازي.
6 ـ فهارس الكتب العربية بالخافقين ـ يوسف داغر.
7 ـ قواعد فهرسة المخطوطات العربية ـ د. صلاح الدين المنجد.
8 ـ المستشرقون ـ نجيب العقيقي.
9 ـ مجلة المورد مجلده ـ 5 ـ العدد 1 ـ 1976 ـ بغداد.
10 ـ خطط الشام ـ محمد كرد علي.
11 ـ تاريخ الدراسات العربية في فرنسا ـ د. محمود المقداد.
12 ـ الإعتبار ـ أسامة بن منقذ.
13 ـ خزائن الكتب في دمشق وضواحيها ـ حبيب الزيات.