أحباؤنا باسل ناديا أمين وآلين...بقلم آرا سوفاليان
كان دمثاً يخدم كل الناس وله شعبية لا يستطيع أي إنسان الوصول إليها فهو لطيف ومساير ويعرض المساعدة قبل أن تطلب منه...كان يملك محلاً للخياطة الرجالية في منطقة الروضة في دمشق ويعمل فيه مع شريكه... وتم فتح باب الاستيراد من تركيا على مصراعيه فتعطلت مهنة الرجل وبارت تجارته وأفلس...ولأن البيت لا يرحم وهناك زوجة وأطفال يجب تأمينهم في الحدود الدنيا للإنسانية فإن الركض خلف هذا الهدف صار منبعاً للذل والإحباط والوصول إلى الحدود الدنيا من هذا المسعى يعادل المستحيلات واجتراح المعجزات.
أشاروا عليه ان يحوِّل محله الى بقالية ففعل وتناوب هو وشريكه على الدوام ولكن العائد كان قليلاً والبيع في مجمله لا يتعدى اكياس الشيبس وعبوات الكولا ومستلزمات الأطفال وكان هذا العائد هزيلاً وتتم قسمته على الشريكين فيصبح أهزل...فباع حصته بخسارة وحمل معطفه وخرج.
اضطر الى تسليم بيته المستأجر في منطقة القصور لقاء تعويض قليل وجاء الى جرمانا وعثر على بيت في الطابق الخامس في بناء زراعي واستأجر محل يقع في مواجهة بيتي ليعمل فيه بالخياطة والتصليحات وكان يركض ويعمل ليل نهار من أجل سداد الأجرة السياحية للمحل فلا يدركها.
كانت زوجته معلمة في مدرسة خاصة في دمشق اضطرت لترك العمل في المدرسة نتيجة مضايقات لا يمكن احتمالها...ونتيجة الوضع المستجد اضطرت لإعطاء الدروس الخصوصية لبعض الطلاب في جرمانا واضطرت أيضاً لتخفيض اجرة الدروس أسوة بغيرها تحت طائلة بقائها بلا عمل فالقليل أفضل من لا شيء... باسل برشيني هو عديلي وزوجته ناديا هي شقيقة زوجتي وأولاده أمين وآلين هم اولاد خالة اولادي وقضينا معظم العمر معاً ولدينا آلاف الصور واشرطة الفيديو في العمادات والشعانين وسهرات رأس السنة وأعياد الميلاد وفي اجازاتنا على البحر وكم هائل من الذكريات...ويوم الاثنين الماضي 03/09/2012 وهو ما يعرف بيوم انفجار حيّ الوحدة في جرمانا وفي حوالى الساعة 12 ظهراً كان يجلس في محله وقد عاد للتو من زيارة قصيرة لجاره صاحب المصبغة في رأس الشارع الذي اتصل بالأمن نتيجة الاشتباه بوجود عبوة مفخخة مركونة على الرصيف...نزلت سيدة من البناية التي تقع بعدنا مباشرة ففتح باب محله وطلب منها العودة الى بيتها في الحال...قالت له انا ذاهبة الى بقالية الوسام لشراء بعض الأغراض فقال لها هناك عبوة مفخخة قريبة من بقالية الوسام ارجعي الى بيتك في الحال...وسمعت المرأة النصيحة وعادت الى بيتها ووضعت المفتاح في ثقب الباب وسمعت الدوي الهائل...وباسل يقف خلف واجهة محله التي تحطمت وتطاير الزجاج في المحل وشعر بأن الانفجار يدفعه حتى اوقعه على الأرض ولم يعد يرى شيئاً لأن التراب غطّى الفضاء وكذلك البارود ورائحة الحريق...لم أكن في البيت وقتها وكانت كارني نائمة في غرفتها فنهضت بعد سماع الانفجار ودخلت غرفة نومي للبحث عني او عن امها فرأت الزجاج يتطاير في كل مكان فاتجهت الى الصالون وهي تصرخ...وكانت امها وأختها الكبرى في الصالون والصياح يملأ البيت والتراب الأبيض والزجاج المتطاير والرعب والهلع والخوف...صرخت الأم بالأولاد فهدؤوا وقالت لهم: انه انفجار ولكن لم يحدث لنا شيء لم يحدث لنا شيء انظروا لا توجد دماء...فقالوا لها: والبابا؟ ...قالت لهم: البابا في الشام وسنتصل به في الحال...وفطنت زوجتي بباسل فركضت الى البلكون وصارت تناديه ...باسل...باسل...باسل...وباسل لا يجيب فظنت أنه قضى في الانفجار وكان التراب الأبيض يعيق الرؤية...وكان باسل في نفس اللحظة يفكر بأفراد عائلتي ولا يعرف ما حدث لهم بعد الانفجار فقرر الصعود الى منزلي فكان يصرخ على الأولاد من خلف الباب وزوجتي تناديه من البلكون...واتصلوا بي وكانت شقيقتي التي هربت من بيتها برفقة أولادها الثلاثة واستأجرت بيت في جرمانا غير صالح للإستعمال البشري وبمبلغ قدره عشرون الف قد سبقتهم وقالت لي ان الانفجار في ساحة الرئيس...واتصل أخي وقال لي الانفجار في حارتك ولكن زوجتك والأولاد بخير...واتصلت بهم وسمعت اصواتهم وارتويت وكأني لم أشرب منذ ألف سنة وعدت للإتصال من جديد وكنت اسمع اصواتهم وارتوي مرة أخرى واعرف ان هناك آباء غيري فقدوا في هذه اللحظة أحبتهم وكل ما يملكون.
اليوم الثلاثاء 11/09/2012 نهضت في السادسة صباحاً وسمعت الأخبار ودخلت الفيسبوك حتى السابعة ونزلت قبل الجميع لتفقد السيارة وأخذت معي جريدة وضعتها على الأرض بجانب السيارة ونظرت الى أسفل السيارة وعاينتها ثم مسحت التراب العالق بالنوافذ وصعدنا الى السيارة وذهبنا الى بيت باسل...فكان والده في استقبالنا وكذلك أخته واولادها وشقيقة زوجتي ماري وابنها وكانت مراسم وداع حزينة...سألت زوجتي عن موعد وصول الفان فقالت لي 8:30 قلت لباسل الساعة الآن هي الثامنة فتعال لننزل الشناتي وننتظر الربع ساعة الباقية في الشارع...قال لي: بكير...قلت له: نحن في الطابق الخامس وهناك 4 شناتي كل واحدة تزن 30 كغ عدا شناتي اليد وهذه بحد ذاتها حمولة لا طاقة لنا بها بدون المصعد...قال لي الكهرباء تنقطع في التاسعة...في الثامنة والربع اتصلنا بالسائق وقال انه يبعد عن جرمانا عشر دقائق...فطلبت من باسل ان نباشر بإنزال حمولتنا...فقال لي: لا أريد ان يرانا الجيران سننزل بمجرد وصول الرجل...وقبل وصول الرجل وفي الثامنة وعشرون دقيقة تم قطع الكهرباء...وكانت حملة عتالة من الطابق الخامس الى الشارع تلاها ألم مروع في قدمي اليمنى المتضررة من جراء الحادث السابق...قال لي باسل هذا هو الوداع الختامي...وانطلقت الفان البيضاء واللون الأبيض أتفائل به...انطلقت الى مطار بيروت...ومن مطار بيروت الى بلاد الله الواسعة... بكت زوجتي والأولاد وبكت شقيقته وأولادها وكل الأولاد بكوا على الرصيف وأبكوا ناديا وأمين وآلين ثم بكى باسل...أدخلت رأسي من نافذة الفان اليسارية وربتّ على كتف باسل الأيسر وقلت له: بالسلامة يا باسل الله معكم...لا نعرف ان كنا سنلتقي من جديد...قال لي: يعزّ علي ان اغادر وطني بهذه الصورة ... ولكن هذا أفضل من ان يقرر ابن زانية فترة وجودي فوق الأرض انا أو زوجتي أو أولادي أو كلنا معاً فيجعلنا قراره تحت الأرض...صلّوا من أجلنا...واطلبوا من الله ان يعيد لم شملنا في ظروف أفضل؟
آرا سوفاليان
دمشق الأربعاء 12/09/2012
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
arasouvalian@gmail.com