المسكوت عنه في "مؤتمر العقبة"، أن المؤتمرين مثلوا..
أول "حالة وعي قومي"، وأول "حركة تحرر وطني"، في التاريخ العربي..

أسامة عكنان
في الليلة الوسطى من ليالي أيام التشريق خلال موسمِ حجِّ سنةٍ من أواخر سنوات البعثة النبوية في الفترة المكية، اجتمع سبعون رجلا وامرأتان من أهل "يثرب" بالرسول محمد عليه السلام، في منطقةٍ بمكة تدعى "العقبة"، بعد ترتيباتٍ أمنيةٍ غير مسبوقة تضمن نجاح الاجتماع. وكان ثلاثة أرباع هؤلاء – أي قرابة "55" – من قبيلة "الخزرج"، وربعهم – أي أقلَّ بقليل من الـ "20" – من قبيلة "الأوس". وبعد أن دارت أحاديثٌ ونقاشاتٌ بدا أنها تَسْتَكْمِلُ إنجازاتِ لقاءاتٍ واجتماعاتٍ سابقةٍ تمت في سنواتٍ خَلَتْ، طلب منهم الرسول مبايعتَه على الآتي..
"* السمع والطاعه في المنشط والمكره..
* النفقه في العسر واليسر..
* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
* ألا تأخذهم في الله لومة لائم..
* أن ينصروه إذا قدم إليهم ويمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم"..
فقال "اليثربيون" الموجودون في الاجتماع قبل أن يبايعوا..
"فما لنا على ذلك؟"..
فأجابهم الرسول عليه السلام..
"تملكون العرب وتدين لكم العجم في الدنيا، ولكم الجنة في الآخرة"..
فقالوا..
"قد رضينا"..
فقام "العباس بن نضلة" الأوسي فقال..
"يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ما تقدمون عليه، إنما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض وعلى حرب ملوك الدنيا. فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تُغروه، فإن رسول الله - وإن كان قومه خالفوه - فهو في عزٍّ ومنعة"..
فقبلوا وهم يعلمون ذلك..
فقال الرسول..
"أخرجوا إليَّ منكم اثنَي عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك"..
فاختار الخزرج تسعة منهم وهم..
"أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبد الله بن حرام، وهو أبو جابر بن عبد الله الأنصاري، ورافع بن مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة ابن الصامت"..
واختار الأوس ثلاثة منهم وهم..
"أبو الهيثم بن التيهان اليمني حليف بني عمرو بن عوف، وأسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة"..
فقال "أبو الهيثم ابن التيهان الأوسي" متوجها إلى الرسول عليه السلام..
"إن بيننا وبين الرجال حبالاً، فهل عسيتَ إن نحن قطعناها أو قطعوها، ثم أظهرك الله، أن ترجعَ إلى قومك وتدعنا؟"..
فتبسم الرسول ثم قال..
"بل أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم"..
فأخذ "البراء بن معرور" بيده ثم قال..
"والذي بعثك بالحق لنمنعنَّك بما نمنع به أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كباراً عن كبار"..
فقال رسول الله..
"أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريين، كفلاء على قومكم"..
وتمَّت البيعة..
وكانت بدايةً لتاريخ مختلف غَيَّرَ وجهَ العالم..
ولا تنسى التواريخ وهي تتبع محطات حياة هؤلاء الرواد الكبار، أن تُطْلِعنا على أن نصف هؤلاء النقباء الاثني عشر، استشهدوا في مسيرة الرسالة وخلال حروبها ومعاركها..
هذه واحدة من أهم قصص التاريخ العربي الإسلامي التي تعلمناها وورثناها كابرا عن كابر، فيما نعرفه جميعا بـ "بيعة العقبة الثانية"..
لكن مع الأسف، قلما نَبَّهَنا أو يُنَبِّهُنا أحد إلى جرعة "السياسة"، و"الرؤية الإستراتيجية"، و"المبادئ الإنسانية"، و"تنظيم السلطة"، و"الفصل بين التدَيُّن والتَّسَيُّس" المنطواة في هذه الحادثة المفصلية في التاريخ البشري كلِّه، وهو ما سنحاول التطرق إليه في هذه الخاطرة..
سنتوقف في هذا الحدث الذي مثَّلَ منعطفا حادا في تاريخ العرب والعالم يجعلنا لا نتحفظ على تسميته بـ "مؤتمر العقبة"، عند محطتين أساسيتين، تكشفان فيه عن معانٍ ودلالاتٍ، تتداخل فيها "السياسة" مع "القِيَم"، ويتفاعل من خلالها "الوعي بالسيرورة التاريخية" مع "الإحساس بالمسؤولية القومية"..
وهاتين المحطتين هما..
1 – أن "مؤتمر العقبة" جاء تتويجا سياسيا لمفاوضات طويلة سابقة دامت سنوات، فأسفر عن "اتفاقية" لا مكان فيها لغير السياسة ومتطلباتها الموضوعية فقط..
2 – وأنه كشف عن "الوعي السياسي" للرسول الكريم، بوصفه زعيما تاريخيا للعالم حرَّرَ العرب برسالة الإسلام، كما أنه جسَّد حالة وعي "يثربية" تفهَّمت انطواءَ المشروع الجديد على حركة تحرُّر عربي واسعة النطاق..

فلنناقش هاتين المحطتين..
المحطة الأولى.. جاء "مؤتمر العقبة" تتويجا سياسيا لمفاوضات طويلة سابقة دامت سنوات، فأسفر عن "اتفاقية" لا مكان فيها لغير السياسة ومتطلباتها الموضوعية فقط..
سواء بتتبُّعِنا لتفاصيل "المؤتمر" ولحيثيات الحوارات والنقاشات التي دارت فيه، أو لما تسرده التواريخ من مقدماتٍ سبقته، فيما عُرِفَ ببيعة العقبة الأولى، وبإسلام بعض اليثربيين في سنوات سابقة، ورجوعهم إلى مدينتهم لدعوة أهلهم إلى هذا الدين الجديد، فإننا لا نستطيع أن نتجاوز حقيقةً دامغة جسَّدها ذلك المؤتمر، فحواها أن "الحوار السياسي الصرف" الذي كان موضوعا للمؤتمر، كان يدور بين مسلمين، لم يكن إسلامهم القائم منذ وقت سبق، مرتبطا في تكوينه وتشكُّلِه واستمراره، بالمعطى السياسي الذي دارت حوله فعاليات هذا المؤتمر..
المؤتمر جمع إذن بين مسلمين، ليتفاوضوا مع صاحب رؤية سياسية، ومالكِ برنامج سياسي، يشاركهم صفة أنه مسلمُ مثلهم كان هو من دعاهم إلى هذا الدين، في رؤيته وبرنامجه السياسيين هذين، كان من الممكن ألا يتفقوا معه عليهما، ليذهب كلٌّ إلى حاله دون المساس بإسلام أيٍّ منهم قبل "مؤتمر العقبة" ذاك..
أي أن المتفاوضين في "العقبة" على الجانبين: "الرسول"، و"اليثربيون"، كان واضحا بالنسبة لهم، أنهم مسلمون يتفاوضون على برنامج سياسي ضخم، وأن على كلٍّ منهم أن يدلي فيه بدلوه، وأن يقدِّمَ عرضَه، وأن يعرف بوضوح ما له وما عليه، قبل أن تتمَّ الموافقة ويحصل التعاقد، الذي كان من الممكن ألا يحصل، لو أن المتفاوضين اختلفوا على بعض مكونات البرنامج، دون أن يمسَّ ذلك "اللاإتفاق" أو "اللاتعاقد" بجوهر إسلام الأطراف المتفاوضة..
فلو لم تكن المسألة تتَّخِذ هذا المنحى السياسي بكل مدخلاته ومخرجاته "المنفعية" القائمة على تبادل المصالح، في سياق رؤية سياسية توافقية، أي لو أن الموضوع كان ملزما دينيا بموجب الإسلام المسبق لمن جاءوا ليتفاوضوا، لما كان هناك من داعٍ للتفاوض أصلا، ولكانت كل تفاصيل الصفقة السياسية بلا معنى، لأنه كان يكفي الرسول أن يخبرَ هؤلاء الحاضرين، بأن عليهم أن يلتزموا بالبرنامج السياسي الذي يطرحه عليهم باعتباره، برنامجا دينيا يفرضه عليهم تدينهم وإسلامهم، وألا خيارَ لهم في ذلك. ولما كان أمامهم من ثمَّ إلا أن يستجيبوا وانتهى الأمر..
وفي هذا النهج الذي قامت عليه فلسفة "مؤتمر العقبة"، نقرا أول الأدلة على قيام "الدعوة المحمديَّة" على برنامجين، ينفصل كلٌّ منهما عن الآخر بشكلٍ كامل، ولا يرتبط به ارتباط وجود على الإطلاق، إلا بخيارات صاحبه المبنية على أسسٍ موضوعية، هما "البرنامج الديني" القائم على مبدإ "اعتناق الإسلام" دينا يحدِّد لمُعتنقِه منظومة "القيم" الأساس التي يجب أن يقرأ العالم من حوله في ضوئها، وأن تقوم علاقتته به على أساساتها، و"البرنامج السياسي" القائم على رؤية سياسية تحدِّد مختلف حيثياتِها، مُكوِّنات الواقع وتفاصيله وسيرورته، في سياق الإشعاعات "الأيديولوجية" للمعتَنَق الديني، في سياقاتٍ قيمية واضحة المعالم كما سنرى..
أي أن أول ما تمكننا قراءته في هذا المؤتمر هو الوضوح التام في فصل "الديني" عن "السياسي"، وربط هذا الأخير بمعطيات الواقع الموضوعي في ذاتها كما تفرضُ نفسَها، على أن يتمَّ الحرص على التحرك داخل مفاعيل السيرورة السياسية، بالاستناد للقيم التي رسختها الرؤية الدينية المرجعية في سياقاتها العامة..
فقد يكون المرءُ مسلما يعتنق الرؤية الإسلامية لقراءة العالم والواقع وفق تلك القيم، ولا يكون سياسيا، بأن لا ينخرط في عملية سياسية تتحرك في اتجاه الانتقال بواقع موضوعي ما من حالةٍ قيميَّة إلى أخرى، وإن كان حياده هذا يسمه بالتقصير حتما..
وقد لا يكون المرء مسلما بالمعنى "الاعتناقي" السابق، ويكون مع ذلك سياسيا، بأن ينخرطَ في عملية سياسية تتحرك في ذلك الاتجاه، إما بمشاركة من غير المسلمين، أو بشراكة مع المسلمين في تلك العملية السياسية المتماهية مع قيم الإسلام..
أي أننا نستطيع التأكيد على أن "البرنامج الديني" في "الدعوة المحمديَّة" كان يهدف إلى صب الإنسان في قالب من القِيَم تكون هي مرجعيته في حالة قراره بأن يكون فاعلا سياسيا، بحيث أن عدم الفعالية السياسية، إذا كانت قابلة لأن تُفْهَم في مسلم "مقصِّر" لم يرى أنه معني بالتحرك باتجاه تجسيد تلك القيم عبر أداءٍ طليعي منه، فإن قيام من يعتبر نفسه مسلما في ضوء "شكليات الأسلمة" المتعارف عليها في المرجعية الدينية التقليدية السائدة، بممارسة العملية السياسية في الاتجاه المتعارض مع "المرجعية الدينية" القيمية في "الدعوة المحمدية" ثنائية البرنامج، يُصَنَّف على الفور خارج نطاق "المرجعية الدينية" القِيَمِيَّة تلك، دون أيِّ اعتبار لـ "شكليات الأسلمة" التقليدية المتعارف عليها..
ولهذا السبب فقد أسفر المؤتمر عن صياغة اتفاقية، تكشف بنودُها بوضوح عن أن السياسة بروحها، كلياتٍ وتفاصيل، هي التي كانت من بين البرنامجين اللذين تصدت لهما "الدعوة المحمديَّة"، حاضرةً بكل ثقلها. وكأن المؤتمرين في "العقبة" أرادوا أن يوصلوا للعالم رسالة مفادها: "أننا عندما نتحدث في السياسة، فلن يحضرَ في حديثنا من الدين كلِّه سوى ما جسدناه من قِيَمٍ، وما سوى ذلك فهو حديث يدور حول الواقع وسيرورته ومتطلبات تغييره باتجاه تجسيد تلك القيم، بلغة المصالح وموازين القوى والمنافع الموضوعية"..
فـ "السمع والطاعه" للقيادة السياسية المختارة متمثلة في الرسول الكريم "في المنشط والمكره"، و"النفقه في العسر واليسر" لتسيير شؤون المؤسسة السياسية، فيما يمكن اعتباره تأكيدا على مؤسسية العمل السياسي في تفاعله مع الاقتصاد، و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لتجذير وترسيخ القيم المستهدفة في الواقع الموضوعي سعيا إلى تعبئة العنصر البشري وتحشيده للمشاركة في العملية السياسية بكل تفاصيلها، و"ألا تأخذ أيا من المتصدين للمشروع خلال العمل على تنفيذه لومة لائم في الحق" على قائدة تكريس قيم الثبات على المبدأ الأخلاقي الذي يتطلبه المشروع من تضحيات جسيمة قد تتعارض مع مصالح دهاقنة وأساطين البُنْيَة المجتمعية السائدة، و"أن تتعهد القاعدة الجماهيرية للمشروع السياسي الذي أنشأه المؤتمر بالنُّصْرَة الكاملة المتطلبة للتجاوب الكامل مع احتياجات القيادة وهي تقود الجماهير باتجاه تجسيد المشروع السياسي، بحماية الرسول المجسِّد للقيادة السياسية، ومنعه مما يمنع منه "المبايعون" أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم"..
نقول.. إن كلَّ تلك البنود التي دُوِّنَت في الاتفاق السياسي المنبثق عن المؤتمر ضمنا أو علنا، هي في جوهرها شكلا ومضمونا، بنودٌ سياسية لا أثر فيها لغير السياسة القائمة على القراءة الموضوعية لمتطلبات المشروع السياسي بعيدا عن أيِّ مرجعية دينية في شكلها "المعتقدي الشعائري" المُعْتَنَق بموجب الشِّقِّ الأول في "الدعوة المحمديَّة"..

المحطة الثانية.. كشفَ المؤتمر عن "الوعي السياسي" للرسول الكريم، بوصفه زعيما تاريخيا للعالم حرَّرَ العرب برسالة الإسلام، كما أنه جسَّد حالة وعي "يثربية" تفهَّمت انطواءَ المشروع الجديد على حركة تحرُّر عربي واسعة النطاق..
تعالوا نتابع معا، بهدوء وروية وتمعُّن، مجريات الحوار السياسي الذي حدَّد المنافع والمصالح والأهداف والغايات في هذا المشروع السياسي الضخم الذي تمَّ التوافقُ عليه في "مؤتمر العقبة"، بعد أن عرض صاحبُ المشروع ومؤسِّسُه "الرسول الكريم عليه السلام" مطالبَه لتنفيذه وإنجاحه، حيث بدأت مسيرة المطالب والعروض المقابلة..
قالوا:
"فما لنا على ذلك؟"..
فأجابهم الرسول عليه السلام:
"تملكون العرب وتدين لكم العجم في الدنيا، ولكم الجنة في الآخرة"..
فقالوا:
"قد رضينا"..
فقام "العباس بن نضلة" الأوسي فقال موضحا خشية أن يكون أمرٌ من الأمور قد غمَّ عليهم، أو لم يكن واضحا بما يكفي لاتخاذ قرارٍ مسؤول:
"يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ما تقدمون عليه، إنما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض وعلى حرب ملوك الدنيا. فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تُغروه، فإن رسول الله - وإن كان قومه خالفوه - فهو في عزٍّ ومنعة"..
فقال "أبو الهيثم ابن التيهان الأوسي" متوجها إلى الرسول عليه السلام بعد أن اتضح كل شيء:
"إن بيننا وبين الرجال حبالاً، فهل عسيتَ إن نحن قطعناها أو قطعوها، ثم أظهرك الله، أن ترجعَ إلى قومك وتدعنا؟"..
فتبسم الرسول ثم قال:
"بل أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم"..

بداية، يجب الاعتراف بأن ما وَصَلَنا من روايات حول "مؤتمر العقبة" مما أوردناه أو مما لم نورده، هو النتائج النهائية التي جسَّدت الاتفاق ومُكَوِّناته وتتويجاته ليس إلا، وليس تفاصيل المفاوضات الطويلة، التي لا نشك للحظة في أنها كانت مضنية، لأن الرسول الكريم استخدمَ خلالها حتما، كلَّ مخزونه المعرفي السياسي، وكل مكوِّنات قراءته التاريخية والسوسيولوجية والجيوسياسية للواقع العربي والإقليمي آنذاك، كي يؤسِّسَ لمشروعه في عقولهم، ولكي يقنعهم به وبحتمية نجاحه، خارج إطار "المرجعية الدينية المعتقدية والشعائرية والمسلكية الشخصية والمجتمعية"، التي لا تنطوي في ذاتها على أيِّ عنصر من عناصر تدعيم واقعية وموضوعية المشروع السياسي في "دعوة محمد"..
أي أن تلك المرجعية الدينية لا تقتضي حتما أن ينبثق عنها مشروع سياسي يؤدي إلى تلك البيعة الواردة في الروايات المنقولة..
وإلا فمن حقنا أن نتساءل..
ما الذي في أن "يشهد المرء بأن لا إله إلا الله وبأن محمدا رسول الله" – أيا كان التزيُّد في اعتبارات الاستغراق في المعاني المجتمعية والسياسية في عبارة ممعنةٍ في التوحيد الغيبي الفلسفي اللاهوتي، مثل تلك العبارة – من الدلالة على أن الإيمان بها ينطوي على حتمية "ملك العرب وإخضاع العجم" بل والعمل على ذلك، بكل ما في هذا الملك وفي ذلك الإخضاع والعمل على تجسيدهما في الواقع من شحناتٍ سياسية شديدة الضخامة؟!
بل وما الذي في "الصلاة" و"الذكر" و"الدعاء" و"التسبيح" وغيرها من المظاهر الشعائرية والطقوسية التي ترتبت على إيمان هؤلاء منذ سنين خلت بـ "المرجعية الدينية" للدعوة المحمدية "الإسلام"، من مؤشرات تقنعُ العقلاء بأن من يؤديها ويلتزم بها، سوف يُسقِط حكمَ هرقل، ويحتلُ قصورَ كسرى، وهي الإمبراطوريات التي كانت تحتل أهم الأقاليم العربية في تلك الحقبة من الزمن؟!
وما الذي في المطالبة بالإحسان إلى العبد وحسن معاملته، وبر الوالدين، والكف عن الزنا، والتواضع في المشي، وعدم التكبر على الخلق، والامتناع عن النميمة والغيبة، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف.. إلخ، من مخزون سياسي، يستطيع مُتَلَمِّسُه أن يقتنع بأنه هو المقدمة التي ستؤدي حتما إلى قتال ملوك الدنيا من بني الأحمر وبني الأصفر وإسقاطهم وحكم الأرض بدلا منهم؟!

فإذا كان التزام اليثربيين المتعاقدين مع "صاحب المشروع" بما طلبه منهم في ختام التفاوض من "نصرة" و"إنفاق" و"منعة" و"أمر بالمعروف ونهي عن المنكر".. إلخ، هو في ذاته غير كافٍ لتوليد القناعة بموضوعية وواقعية مشروع "مُلْكِ العرب" و"إخضاعِ العجم"، ولا يخرج عن إطار الفهم بأن صاحب المشروع يحتاج منهم إلى تلك الالتزامات كي يؤسِّسَ بها في الدولة التي سينشئها إلى القاعدة المنطلق لذلك المشروع الضخم، فهل يعقل أن نتصور أن "البرنامج الديني" في "الدعوة المحمدية" ثنائية البرنامج، بمكوناته "الطقوسية" و"الشعائرية" و"المسلكية" و"المعتقدية"، هي في ذاتها تلك المقدمات المقنعة بموضوعية المشروع السياسي، وهي أقل انطواء على الشحنات السياسية من تلك المطالب التي طالبهم بها في عقد المبايعة؟!
إذا كانت مُكَوِّنات "البرنامج الديني" بمواصفاته التي أوضحناها، لا تصلح ولا تكفي لأن تكون مقدمات تؤسِّس لمكافآت سياسية تاريخية ضخمة من مثل "حكم العرب" و"إخضاع العجم"..
وإذا كانت مُكَوِّنات "عقد المبايعة" سالفة الذكر، لا يمكنها في ذاتها أن تكون كافية لتفسير طبيعة مشروع سياسي ضخم كذلك الذي أدرك من خلاله اليثربيون أنهم "سيقاتلون ملوك بني الأحمر وبني الأبيض"، وأنهم "سيناجزون لأجله القريب والبعيد"، وأنهم "سيُقَطِّعون بسببه علاقات وأوصالا كانت قائمة من قبل"..
فلا شك إذن في أن هناك حلقة مفقودة في موروثاتنا النقلية عن "مؤتمر العقبة"، هي تلك الحلقة القائمة بين مقدمات دينية "شعائرية وعقَدِيَّة ومسلكية" لا أثر لها في توليد أيِّ عناصر مكوِّنَة لمشروع سياسي، تنتظم إلى جانبها في منطومة "المقدمات الدينية" نفسها حزمة من "القِيَم" التي يمكنها أن تؤسِّس لأيديولوجية سياسية في الدعوة المحمديَّة، دون أن تخلِّقَ ذلك المشروع في ذاته، وبين خلاصات سياسية تجسَّدت في مُكونات عقد المبايعة، أريد بتلك الخلاصات أن تتِمَّ حماية سيرورة "المشروع السياسي" في "الدعوة المحمديَّة"، وضمان عدم تعرضه للانتكاسات الحركية، من خلال تثبيتها على شكلِ عناصر إلزامية في الجوانب المؤسسية الرسمية للدولة التي ستتبنى ذلك المشروع..
وللتعرف على هذه الحلقة المفقودة واستكشاف عناصرها، سنستخدم أسلوبا في البرهان نحب أن نطلِقَ عليه مصطلح "البرهان بتعدِّي الحتميات". وتقوم الفكرة في هذا النمط من البراهين على تعقُّب الحقيقة في العلاقة المحَتَّمَة بين نتيجةٍ غير معروفة ومقدمتها المعروفة، أو بين نتيجةٍ معروفة ومقدمتها غير المعروفة..
فنحن في واقع الحال أمام مقدمة معروفة هي "المعْتَنَق الديني"، لها مردود "قِيَمي حتمي"، من السهل تحديده وحصر مُكوناته. ولهذا المردود "القيمي الحتمي"، الذي هو بدورة مُقدِّمة، مردودٌ "سياسي حتمي" يعتبر مقدمة ما تزال غير معروفة حتى اللحظة لنتيجةٍ معروفة لنا، هي "عقد المبايعة" من جهة أولى، و"إدراك اليصربيين لأبعاد الصراع السياسي" المتوقعة من المشروع الذي ما يزال بالنسبة لنا غير واضح من جهة أخرى..
فكيف يمكننا أن نعرف مكونات هذا "المشروع السياسي" في "الدعوة المحمديَّة/الإسلام "، من خلال معرفتنا بالمقدمة "الدينية" ومردودها القَيَمي سهل الاستكشاف أولا، ومن خلال معرفتنا بـ "عقد المبايعة"، و"وعي اليثربيين بأبعاد الصراع الكامنة في المشروع" الذي سمعوه من صاحبه واقتنعوا به فوافقوا عليه، والمتمثلة في إداركهم لكونه مشروعا ينطوي على "مقاتلة ملوك بني الأحمر وبني الأبيض"، و"مناجزة القريب والبعيد"، و"مقاطعة علاقاتٍ وأوصالٍ كانت قائمة من قبل" ثانيا؟!!

لا يمكن لأيِّ شخص من الذين حضروا "مؤتمر العقبة" وسمعوا عرض "صاحب المشروع"، أن يظن مجرد ظن، أن "عناصر البيعة" الواردة في الرواية التي أرَّخت لبعض جوانب المشروع السياسي لـ "الدعوة المحمديَّة"، تتطلب منه ومن أهل "يثرب" أن يقاتلوا ملوكَ الأرض، وأن يخاصموا ويقاطعوا رهطا واسعا من العرب، قريبهم وبعيدهم..
فلا علاقة ضرورةٍ واستلزامٍ يمكنها أن تقوم بين هذه وتلك..
فقد تنشأ الدولة التي حدَّدَت عناصر البيعةِ التزاماتِ "اليثربيين" تجاهَها، دون أن يترتب على نشأتها أيُّ تخوف من تلك التي قام أحد الحاضرين لينَبِّه إليها وإلى ضرورة إدراك حتميتها قبل إتمام البيعة، التي كان من الواضح أنها ليست سوى إعلان الاستعداد للالتزام للدولة الناشئة بما تريده القيادة من شعب هذه الدولة، كي يتسنى لها أن تجسِّد المشروع السياسي الذي يفترض أنه أُشْبِع حديثا وحوارا ونقاشا قبل البيعة التي جاءت وعيا به وتماهيا معه والتزاما بمتطلباته الأولى، تجاه الدولة الناشئة التي ستعمل على التأسيس له..
ولو لم تكن سيرورة الأحداث والحوارات قد تمت على هذا النحو لتؤدي إلى تلك النتيجة، أي لو أنها تمت فقط في حدود ما ورد في الرواية حرفيا، فلا يوجد أيُ معنى إطلاقا لأن يتصور "اليثربيون" أن بيعتهم للرسول الكريم على السمع والطاعة وعلى الإنفاق وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. إلخ، تقتضي حتما فتح جبهات من الصراع مع العالم بأسره..
أن يتصور "اليثربيون" أن هذه البيعة هي مفتاح لجبهة عالمية ضد ملوك بني الأحمر وبني الأبيض، وضد القريب والبعيد من العرب، يعني حتما أنهم فهموا بكل وضوح أنهم يبايعون القيادة السياسية الجديدة على مجموعة التزامات من شأنها أن تساعدها على تجسيد مشروعِها السياسي الذي ينطوي هو في ذاته على حتمية فتح تلك الجبهة الإقليمية والعالمية..
أي أن هؤلاء الذين بايعوا الرسول الكريم على تلك الحيثيات السياسية ذات الطابع الإداري لمؤسسة سياسية ناشئة، أو لنقل لدولة ناشئة، كانوا يعرفون أن هناك خطة وبرنامجا ضخما ومتكاملا سمعوه وتناقشوا حوله مطولا مع صاحب المشروع "الرسول محمد"، يقوم في ذاته على مواجهة تلك القوى، وعلى إعادة إنتاج المنطقة العربية على أُسِسٍ جديدة، هي في ذاتها مدعاة للصراعات مع دولٍ وممالكَ وتجمعاتٍ تمثل – حسب ما تبين لهم من خلال العرض والنقاش وتبادل الآراء على مدى زمني طويل – قوىً للشد المضاد، بسبب تعارض المشروع مع مصالحها..
من جهة أخرى يُفْتَرض أنه كان من المفهوم لدى هؤلاء المسلمين "اليثربيين" منذ زمن تجاوز السنة أو السنتين حسب الروايات، أن إسلامَهم الذي اعتنقوه دينا فرتَّب عليهم مجموعة من المسلكيات والشعائر والتصورات، حدَّد لمجموعة من القيم في بُناهم الذهنية المعادِ إنتاجها، معانٍ جديدة مختلفة عما كان سائدا بين العرب قبل مجيئ الإسلام، إن في القليل أو في الكثير. وأن هذه البُنى القِيَمِيّة الجديدة لها مردود سياسي مختلف عما كان يمكن للقيم القديمة أن تفرزَه من مردودات سياسية. وأنهم ملزمون بالتالي في حال الموافقة على التماهي مع مشروع سياسي ما، يريدون أن يكونوا طليعة له، بصبِّ ذلك المشروع في قوالب تلك القيم الجديدة..
فما هي القِيَم الجديدة التي تمت إعادة إنتاج البُنية الذهنية لهؤلاء اليثربيين في ضوئها وعلى أساسها، ليكونوا مؤهلين في حال عُرِضَ عليهم مشروع سياسي ما، لأن يحاكموه ويناقشوه ويفهموه ويفاوضوا طارحه أو طارحيه، داخل قوالبها وأطرها، وليس خارجها أو بعيدا عنها؟!
هذا هو بيت القصيد في المرجعية "الأيديولوجية" للمشروع السياسي في "الدعوة المحمديَّة"، المرجعية التي حدَّدَت منظومة القيم الجديدة المنبثقة عن اعتناق "الإسلام" دينا، لتكون هذه المنظومة من القيم – لاحقا – بنيةً فكريةً أساساً يقوم عليها المشروع السياسي في تلك الدعوة..
إن المراجعة المركزة والموضوعية والمحايدة للنص المرجعي الأول وربما الأوحد للدعوة المحمديَّة في شقِّها "الديني" بمخرجاته "المسلكية والشعائرية والتصورية والقيمية"، في تلك الفترة وهو "القرآن الكريم"، تضعنا بمنتهى البساطة على سكة منظومة القيم التي أسَّس لها هذا النص، لتكونَ بمثابة "أيديولوجية للمشروع السياسي" الذي يمثل الشِّق الثاني في هذه الدعوة..
فالقرآن الكريم قد تمحور في المرجعية القِيَمِيَّة التي عمل على صبِّ عقل الإنسان المخاطَبِ به في قوالبها، حول خمسِ قضايا رئيسة، مثلت الهاجسَ الدائم الذي وُظِّفت لخدمته كافة المحاور القرآنية الأخرى. وهذه القضايا الخمس هي "العدالة" المقابلة لـ "الظلم والعدوان"، و"الحرية" المقابلة لـ "العبودية والاستبداد"، و"الإصلاح" المقابل لـ "الفساد والإفساد"، و"السُّنَنِيَّة" المقابلة لـ "القدرية والاستسلام للخرافة"، و"عالمية الفكرة" المقابلة لقبلية "العصبية"..
فمن يطلع على القرآن بروح الاستكشلف المعرفية الموضوعية والمحايدة، يستغرقه إحساس غامرٌ بأن تلك القضايا الخمس كانت هي الهمُّ القرآني الأساس بل والأوحد الذي عملت مجمل مكونات خطابِه على تكريسه، لأن كل ما سواها من القضايا فرعيٌّ، إما يسندها وإما ينتج عنها..
لا بل إننا نستطيع تلَمُّسَ فلسفة قرآنية خاصة إزاء هذه القضايا، تقوم على عملية ربط مُحْكَمة فيما بينها في السيرورة الواقعية، بحيث أن تلك السيرورة كما عرضها الخطاب القرآني، هي في محصلتها نتاج عملية تفاعل وتلاقح وتزاوج بين تلك المفاهيم الخمسة، أو بين أضدادها..
فحيث وُجد الظلم والعدوان، وُجد الاستعباد والاستبداد، ونتج عن ذلك الإفساد في الأرض، الذي سيضطر إلى أن ينطلق من نظراتٍ فئوية ضيقة لا تتعامل مع الإنسان من منطلق إنسانيته التي يشترك فيها مع كافة إخوانه في الإنسانية، وليس الخضوع إلى ذلك والاستسلام له، وعدم التمرد عليه ومناجزته بالتالي، سوى استجابةً لأنواع من القدرية والخرافية والأسطورية في التعامل مع العالم من حولنا وفي فهمه..
والعكس بالعكس، فحيث وُجِدَ العدل، فسيمتنع العدوان، ولا يصح أن تكون الحياة قائمةً إلا على الحرية المتحررة من كل معاني الاستبداد والاستعباد، وبالتالي فالإصلاح هو سيد الموقف، والإنسان هو مركز الثقل في هذه الرؤية بصفته إنسانا حيث ما كان زمانا ومكانا من منطلق الشراكة في الأخوة الإنسانية، وكل ذلك سيتحقق قطعا لأن العلمية والموضوعية واستخدام العقل بعيدا عن الخرافة والقدرية والأسطورة هي سيدة الموقف المعرفي..
لن نستطيع في هذه العجالة، إعطاء هذه المسألة – ونقصد بها تمحور الخطاب المعرفي القرآني حول تلك القضايا الخمس وأضدادها، وفلسفته في فهم التكامل فيما بينها – حقها من النقاش والتحليل، فهي تتطلب دراسات كاملة وموسعة، ليس هذا مكانها المناسب. ولكننا سنعتمد على هذه المقولة باعتبارها حقيقة مُثبتة نتولى التصدي لها في دراسات لاحقة متخصصة ومستقلة، لنبني عليها هنا ما يناسب موضوعنا الذي نحن بصدده..

وإذن، فقد بايع هولاء اليثربيون "خزرجا" و"أوسا"، صاحب المشروع السياسي الجديد الذي آمنوا بدعوته الدينية وبنبوته قبل ذلك بسنوات، على مجموعة من الالتزامات السياسية التي فهموا أنها ضرورية لإتاحة الفرصة للقيادة الجديدة للدولة الناشئة التي ستنشأ في مدينتهم التي ستمثل نواه ذلك المشروع السياسي الضخم، كي تؤسِّس له تلك القيادة على نحوٍ سليم وقوي وصحي وآمن وقابل للاستمرار والتطور والنمو والتوسع..
وهم إذ يبايعون على ذلك، فلأنهم قبلوا بالمشروع، وأبدوا كامل الاستعداد لأن يكونوا طليعته ونواته ومؤسسيه وروادَه، بعد أن استوعبوه بالكامل بكلياته وتفاصيله، في حواراتهم ونقاشاتهم المطولة مع صاحب المشروع ومنظِرِّه وقائده ومؤسسه الأول "الرسول محمد عليه السلام"، بعد أن جعلهم اعتناقُهم للإسلام مهيئين قِيَمِيا لتقمُّصِ الأيديولوجية القِيَمِيَّة التأسيسية له، والقائمة على تلك القضايا المرجعية الخمس التي أشرنا إليها سابقا، وهي "العدالة" و"الحرية" و"الإصلاح" و"العالمية" و"السُّنَنِيَّة"..
إننا في نهاية المطاف أمام "طليعة" اعتنقت "دينا" رتَّب عليها إعادة إنتاج تصوراتها القِيَمِيَّة، لتتأطر داخل حزمةٍ من التفاعلات المتبادلة بين خمس قِيَمٍ، منها ما هو جديد في ذاته على البيئة العربية، مثل "العالمية" و"السُّنَنِيَّة"، ومنها ما هو جديد في شكله وسقوفه ومدياته على تلك البيئة، وإن كان غير جديد عليها في جوهره وطبيعته، مثل "الحرية" و"العدالة" و"الإصلاح"..
وفي مرحلة معينة تلقت هذه "الطليعة" من المرجع الديني الذي آمنت به واتبعته دينيا وهو "النبي محمد عليه السلام"، عرضا لمشروع سياسي ضخم، قدَّر هو بحنكته ومعرفته ووعيه ودرايته، أنها ليست بعيدة عن تَقَبُّلِه مشروعا لها، بعد أن أصبحت تلك القِيَم الخمس الجديدة هي الحاضنة الأيديولوجية والأخلاقية للحكم على الأمور ولتقييم المشاريع والطروحات في المنظومة المعرفية الجديدة لهذه "الطليعة"..
تحاورت هذه "الطليعة" مطولا مع "النبي" حول هذا المشروع السياسي الجديد، وناقشته، وتساءلت أمامه عن كل صغيرة وكبيرة، وحاولت أن تفهم ما كان غائبا عنها، إلى أن حصلت القناعة التامة بضرورة تبني المشروع، والاضطلاع بمهمة تجسيده، استكمالا لسمو التزامهم الديني بمشروعٍ سياسي ينبثق عنه، ويحول "النظرية القِيَميَّة" إلى "تطبيق سياسي"، و"المعتقد الأيديولوجي" إلى "سلوك سياسي"..
ولكنها عندما جاءت لتبايعه بعد أن طلب "القائد" من تلك الطليعة البيعةَ على أمور محددة، قام منها من يذكرها بضرورة وعيها بما ينطوي عليه المشروع الضخم والخطير الذي وافقت عليه، والذي ستبايع الرسول الكريم عليه السلام على ما طلبه منها تأكيدا على استعدادها لتقديم أول فواتير هذا المشروع، وهي تسليم قيادة الدولة الناشئة له، وفق رؤيته السياسية، ليؤسِّسَ معهم وبهم – بوصفهم شعبا اختار فأطاع – لعناصر نجاح ذلك المشروع.. نقول.. قام منها من يذكرها بضرورة وعيها التام بأنها ستفتح جبهات ومواجهات وصدامات مع كل قوى الأرض الداخلية والخارجية..
فما هو المشروع السياسي الضخم والخطير الذي قمنا حتى الآن بمحاصرته من جميع الجهات المعرفية، سواء تلك التي أنتجته أو تلك التي نتجت عنه، ليبقى هو وحده "الحلقة المفقودة" في سيرورة "الدعوة المحمديَّة"، ببقائه خارج إطار المعالجة ضمن الخطاب القرآني المباشر، والذي لم تُثْرِنا الروايات التاريخية بتفاصيله، فيما بدا أنه وعي من المؤسسين والرواد بأنه مشروع سياسي لا علاقة له بتوريث النص الديني من السابقين إلى اللاحقين، أو فيما بدا لو كان أمرُ غيابه عن مساحة الموروث التاريخي للنقل غير راجع لهذا التصور، وكأنه اعتداء من قبَل منظومات "مراكز القوى السياسية" التي تعارضت مصالحها في مراحل معينة من تاريخ المشروع السياسي للإسلام، مع المحتوى السياسي لمشروع "مؤتمر العقبة"..
لقد عوَّدنا الخطاب القرآني في سياقِ تكريسه لقيمة "العالمية"، على عدم التعرض لا من قريب ولا من بعيد لتفاصيل تحدث في السيرورة الحركية والسياسية لمشروع "الدعوة المحمَّديَّة"، ولا تنطوي على انعكاسات عالمية، أو قد تولد انطباعات بلا عالمية تلك "الدعوة"..
وهذا نهجٌ يمكننا التأكُّد منه في سياق "المرحلة المدنية"، التي تعتبر تجسيدا مباشرا لمشروع سياسي وُضِعَت أساساته في "مؤتمر العقبة". حيث أن كمَّ الأحداث السياسية والحركية التي تجاوب الخطاب القرآني معها بشكلٍ أو بآخر، كان محدودا للغاية بالقياس للثراء في الأداء الحركي والسياسي في تلك المرحلة..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن ما يلفت الانتباه في المسألة، هو أن كل حالات التجاوب تلك، كانت مع الأحداث التي جسَّدت أرضياتٍ مناسبةً لتكريس شيءٍ ما له بعد عالمي، هو غالبا قِيَمي أو تشريعي أو شعائري..
فمتابعة بعض مفاصل معارك "بدر" و"أحد" و"الخندق" و"الحديبية" و"فتح مكة" و"تبوك"، أو التعاطي مع بعض أحداث ما بعد "الحج الأكبر"، أو مع بعض الأحداث الشخصية هنا وهناك، مثل "قضية التحريم" و"المجادلة"، و"الإفك" و"المخلفين عن تبوك" و"الملاعنة في حد الزنا".. إلخ، كلها تعاطيات قرآنية مع قضايا، كانت له فيها مواقف ذات توصيف قِيَمي أو شعائري أو تشريعي.. إلخ.. وبالتالي فالتعاطي معها لا يُخرج النهجَ القرآني عن عالميته أو عن تشريعيته أو عن شعائريته..
والخلاصة أن في عدم تعاطي الخطاب القرآني مع تفاصيل مشروع "مؤتمر العقبة" السياسي ولا بأيِّ شكل، يخرجه إخراجا كاملا – اي ذلك المشروع – عن أن يكون في ذاته عالميا، ويدخله في دائرة الخصوصية التي يُخشى معها من انسباغ الدعوة المحمديَّة "الإسلام" باللاعالمية، فيما لو تمَّ إدراج المشروع ضمن متابعات النص القرآني ومعالجاته وتعاطياته وتدخلاته. فضلا عن أنه قطعا مشروع لا مكان فيه للثوابت الدينية، ولا يخرج في كلياته وتفاصيله عن القراءة السياسية الصرف..

وهكذا فقد بدأت تتَّضح أمامنا شيئا فشئيا طبيعة ذلك المشروع المسكوت عنه في منقولات "مؤتمر العقبة"..
* فهو مشروع سياسي وليس مشروعا دينيا من ألفه إلى يائه، ولا مكان فيه للثوابت الدينية، خارج إطار القيم الخمس التي ستحكمه وتصبه في قوالبها، والتي تحدثنا عنها سابقا..
* وبالتالي فالدولة التي مثلت نواتَه الأولى هي دولة نواة لمشروع سياسي غير ديني، فيستحيل إذن أن تكون دولة دينية تحت أيِّ ظرف، وإلا فقد تعارض – منذ البدء – شكلُها مع مضمونِها، وهو ما لا يصح أن يكون قائما في "الدعوة المحمديَّة"..
* وهو مشروع غير عالمي في ذاته، حتى لو كان مقدمةً ضرورية لحالة عالمية، لذلك أخرجه القرآن الكريم من دائرة تغطية خطابه له إخراجا كاملا..
* فهو إذن إما مشروع سياسي قومي، وإما مشروع سياسي قَبَلي..
* ولأن عالمية الرسالة كقيمة أساسية من القيم الخمس التي قامت عليها منظومة "القيم" القرآنية، تجعل القَبَلِيَّة نهجا منبوذا في ترسيم مقدمات الرسالة، وفي التأسيس لها سياسيا، فهو إذن مشروع سياسي غير قَبَلي..
* وبالتالي فلم يبقَ أمامنا إلا أن نعترف بأنه "مشروع سياسي قومي عروبي" حتما..
* وأمام ضرورة تخليق وتنمية وتجسيد هذا المشروع في حواضن قيم "الحرية" و"العدالة" و"الإصلاح" و"العالمية" و"السُّنَنِيَّة"، فهو حتما سيعيد إنتاج "العرب" في تلك الحواضن القيميَّة، وهو ما يبرّر أيضا حتمية مناجزة طليعته "اليثربية" فئاتٍ واسعةً من العرب الذين سيَرَوْن فيه مشروعا مناهضا لمنظومة مصالحهم التي توارثوها باسم الدين الوثني والقبيلة والفرز الطبقي السائد..
* ولأنه مع ذلك مشروعٌ رأت فيه "الطليعة اليثربية" إعلان حرب مفتوحة على الروم والفرس وملوكهم، فهو قطعا مشروع ينظر إلى الأقاليم العربية الواقعة تحت سيطرة تلك القوى العالمية المحتلة، باعتبارها أقاليم ينطبق عليها مشروع إعادة إنتاج "العرب" في الحواضن القيَمِيَّة المشار إليها ولا فرق..
* وبالتالي فهو في نهاية الأمر مشروع يقوم على الركائز التالية..
– توحيد العرب القبليين في الجزيرة على قاعدة "الأمة" الحاملة للرسالة..
– تحرير العرب المحتلين في الهلال الخصيب لضمهم إلى العرب المتوحدين في الجزيرة على القاعدة نفسها..
– إعادة إنتاج الأمة العربية المحررة الموحدة على أسُسِ ثقافية جديدة تذوب في حاضنة القِيَم الخمس سالفة الذكر..
– لتكون النتيجة إنتاج حالة عربية رسالية موحدة محررة متماهية مع مكونات ثقافة رسالتها الإسلامية القائمة على القيم الخمس سالفة الذكر، لتكون هذه الحالة العربية هي القاعدة الآمنة، والمنطلق لتحرير البشرية من كل أشكال "الظلم" و"الاستعباد" و"الفساد" و"الفئوية" و"القدرية"..
خلاصة القول إذن، أن "مؤتمر العقبة" أنشأ مشروعا سياسيا صرفا، بدأ بنواته "دولة المدينة المنورة"، ليؤسِّسَ لدولة عربية عظمى تقوم على كافة الأراضي العربية المشتتة سياسيا، سواء تلك الواقعة تحت نير ثقافة "القبيلة" و"الوثن" في أراضيها غير المحتلة، أو تلك الخاضعة عسكريا وسياسيا لسلطتي الروم والفرس المحتلتين، وذلك بتحرير الثانية لتوحيدها مع الأولى، تحت راية الثقافة القِيَمِيَّة الإسلامية القائمة على القِيَم الخمس سالفة الذكر، لتنطلق من هذه الدولة حملة الدعوة إلى الإسلام والتبشير به إلى كل العالم، دون استخدام أيِّ شكل من أشكال القوة، على قاعدة الاكتفاء لإنجاز ذلك المشروع الدعوي العالمي العملاق بوجود دولة عربية عالمية مركزية قوية مهابة الجانب تستطيع الاضطلاع بهذه المهمة دفاعا عن نفسها وعن دعاتها الذين سينتشرون في شتى أصقاع الأرض..
لكن مع الأسف فقد انحرف هذا المشروع العظيم عن بوصلته التي أنشأه على أساسها أعظم رجل عرفته البشرية، عندما نشب ذلك الصراع التاريخي بين مدرستين سياسيتين في التاريخ الإسلامي، إحداهما تريده مشروعا إنسانيا تبشيريا ينطلق من دولة عربية مركزية متجانسة البنية البشرية والثقافية ومسيطرا عليها، كما أراده مؤسسه الرسول الكريم عليه السلام، فيما المدرسة الثانية تريده مشروعا إمبراطوريا استعماريا توسعيا، خلافا لفلسفة منشئه ورؤيته الإستراتيجية..
وعندما انتصرت هذه المدرسة بانتصار "معاوية بن أبي سفيان" على "علي بن أبي طالب"، فقد كان من الطبيعي أن يتم خلق رؤية سياسية جديدة ذات تأصيل ديني، يربط السياسة بالدين ربطا مقدسا، ويجعلها جزءا من المعتقدات الدينية، ليكون هذا هو أول وأعظم انحراف عن مبادئ الإسلام، خلافا لما قعَّده وأراده القرآن الكريم والرسول العظيم..
ألم ينتبه كلُّ هؤلاء الذي أعادوا إنتاج الإسلام ليتماهي مع "المدرسة الإمبراطورية التوسعية"، فحرَّفوا الكلم عن مواضعه، أن الرسول الكريم عليه السلام قال عندما سأله "اليثربيون" في "مؤتمر العقبة" عما لهم إن هم بايعوه وقبلوا بمشروعه: "تملكون العرب وتدين لكم العجم"، ولم يقل "تملكون العرب والعجم". فالعربي يملك عربيا ويحكمه، لكنه لا يملك أن يملكَ أو أن يحكمَ من ليس من قوميته، وأن علاقته به حتى عندما يكون مهزوما أمامه حضاريا وثقافيا هي "أن يدين له" وليس "أن يخضع لحكمه"؟!
أين هذه الحقيقة الدامغة في جوهر المشروع السياسي العروبي الرسالي التبشيري الدعوي العالمي، من هذا التاريخ الإمبراطوري التوسعي الذي دشنه بنو أمية، فملكوا وحكموا العرب والعجم، خلافا لما أراده الرسول الكريم لمشروعه العظيم؟