بدأت العلوم النفسية فى أول الأمر بانطباعات ثم انتقلت إلى افتراضات ثم تطورت إلى نظريات وأخيرا وصلت إلى محطة التجارب العلمية واستكشاف القوانين النفسية , وهذا تطور طبيعى للعلوم فى المجتمعات البشرية المتطورة , أما لدينا نحن العرب المعاصرون فكل العلوم تبدأ بالإنطباعات وتنتهى أيضا بالإنطباعات , على الرغم من أن لدينا تاريخا علميا يقول بأن ابن النفيس ( مكتشف الدورة الدموية الصغرى ) قد وضع سفرا علميا ضخما عبارة عن ثلاثمائة مجلد ضخم تحت عنوان " الشامل فى صناعة الطب " ( تأمل فى كلمة صناعة الطب ودلالاتها العلمية التجريبية التطبيقية وقارنها بما يجرى من تدليس شبه علمى فى برامج الطب البديل أو الطب البدائى على شاشات التليفزيونات العربية ) , وهذا العمل يعتبره المؤرخون أضخم إنتاج علمى أصيل يقوم به شخص منفرد فى التاريخ الإنسانى , وهذا السفر الضخم الأصيل يحوى بين جنباته كما هائلا من خلاصة التجارب العلمية والإكتشافات الطبية القائمة على الملاحظة والتجريب وليس على الإنطباع .
أعتذر عن هذا الإستطراد وأعود إلى التجارب فى العلوم النفسية , والتى أعطت لهذه العلوم قدرا هاما من المصداقية والقابلية للتطبيق , ولكن ما يؤرقنى ويؤرق غيرى من المعتزين بالإرتقاء الإنسانى هو كثرة التجارب على الفئران والقرود فى بدايات هذا الإتجاه التجريبى ثم تعميم النتائج على البشر دون مراعاة حسابات فروق التوقيت والتوظيف والإستخلاف , ولست أدرى لما الإصرار على الفئران والقرود ( وأحيانا الكلاب والخنازير ) بالذات فى تجارب تهدف إلى فهم سلوك البشر , ولكن على أى حال انتقلت التجارب الآن ( أو على الأقل الكثير منها ) إلى الإنسان مباشرة لفهم سلوكه والخروج بما يشبه القوانين النفسية التى تحكم سلوك البشر فى صحتهم ومرضهم وهى ما يستخدمه الآن الصادقون والمدّعون على السواء من محترفى برامج التنمية البشرية , ومع هذا بقيت تجارب رائدة تمت على الفئران نتحدث عن أحدها اليوم ونستخدمها كمفتاح لفهم ظاهرة عربية ربما يصعب فهمها بشكل مؤكد بأى وسيلة أخرى على الأقل حتى الآن .

ومنذ وقت طويل ونحن ( كمشتغلين ومنشغلين بالحالة النفسية للبشر ) نرصد حالة البلادة التى أصابت جموع العرب وكنا نجلس فى ظل شجرة أو فى غرفة مكيفة نتبادل أطراف الحديث حول أسباب هذه الظاهرة العجيبة المتجاوزة لكل مألوف فى السلوك البشرى , وكيفية الخروج منها أو تقليلها على أسوأ الفروض , فالإنسان العربى يتحمل كل مظاهر الإستبداد الداخلى ومظاهر الإذلال الخارجى دون أن ينتفض أو يتحرك أو حتى يزوم ( كما كان يحلم الروائى محمد المخزنجى فى مقاله الروائى : زوموا ) ولكن الأيام الأخيرة أدخلتنا فى منطقة أحرجت كل التفسيرات وكشفت كل العورات فالذى يتابع قناة الجزيرة ( نافذة الوعى العربى ) يرى إسرائيل قد تجاوزت الخطوط الحمراء بمسافات هائلة فقد حاصرت لبنان بالكامل ودمرت مطاراتها وقتلت مدنييها وتقوم حاليا بمحاولة تجريف كل مظاهر الحياة فى الجنوب اللبنانى , ومن زار لبنان وعرف جمالها وجمال أهلها ونشاطهم وهمتهم عرف حجم الجريمة التى ترتكب , فإذا انتقلت العين إلى فلسطين فسترى ما هو أبشع , حكومة حماس التىجاءت بطرق ديموقراطية تتعرض للحصار العالمى والتواطؤ العربى ويتم تجويع الشعب الفلسطينى بأكمله عقابا له على خياره الديموقراطى , ويتم القبض على عدد كبير من الوزراء والنواب وإيداعهم السجون الإسرائيلية فى سابقة خطيرة تجاوزت كل الأعراف الدولية حتى فى العصور البدائية , أى أننا أمام حالة اختراق سافر وسافل ومتبجح ( معذرة على المفردات غير المألوفة على الأقل من جانبى ) لكل ماهو مألوف أو متوقع فى ساحات الصراع السياسى أو العسكرى , والقصص الإنسانية المزلزلة تملأ الصورة على الجانبين اللبنانى والفلسطينى من أطفال يشاهدون ذويهم يحترقون أمام أعينهم ويرون بيوتهم تنهار على أحبابهم , وصواريخ تنسف بيوتا فى هدأة الليل فيمتزج اللحم البشرى بالتراب بصراخ الأطفال ونحيب النساء , ويموت المئات كل يوم ويتم أسر الآلاف. وحين نتساءل : لماذا كل هذا العدوان الإسرائيلى المدعوم أمريكيا والمبارك عربيا ؟ ... تأتى الإجابة بأن فى هذين البلدين توجد آخر معاقل الكرامة العربية .

وكلما حاولت أن أتصور كيف يعيش الشعب الفلسطينى أفزعتنى كل الصور , وكلما حاولت أن أسبر غور مشاعره تجاهنا نحن العرب ونحن نقف ونتفرج عليه فى بلادة وهو يحترق , أيضا لا تسعفنى المعانى فنحن نمارس مع الفلسطينيين بالذات أبشع أنواع الخيانة وهى خيانة الصمت المتواطئ مع إظهار مسحة من التعاطف السطحى الساذج أو الثعلبى المراوغ أو الدبلوماسى الفارغ المحايد ( فى وقت يصبح فيه الحياد خيانة والتروى جريمة ) , تغطى غدرنا وخيانتنا له وتعطى فرصة للجزار كى ينتهى من مهمته فى ذبح الضحية دون أن ينتبه أحد , وبعضنا ( خاصة المختلفين أيدولوجيا مع حماس أو المستفيدين من بقاء النظام العربى على ماهو عليه ) يريد للنموذج الفلسطينى أن ينهار ليكون عبرة لكل من يطالب بالإصلاح الديموقراطى فى العالم العربى ولكى تسكت للأبد كل الأصوات المطالبة بالتغيير حيث ثبت بما لايدع مجالا للشك أن التغيير لا يأتى بخير وإنما يأتى بحكومات على شاكلة حماس , حكومات لاتنحنى ولا تقبل رأسا أو يدا أو قدما ولا تعرف أصول المرونة السياسية ومهارات التنازل والحلول الوسط والقدرة على المواءمة والملاءمة وتمييع الثوابت والتوفيق والتلفيق والركوع أمام ضغوط الأمر الواقع والسجود لتفادى غضبة سيد البيت الأبيض .
كل هذه الصور المزلزلة لم تنجح حتى الآن فى وخز الحس العربى وإيقاظه سواء على المستوى الرسمى ( لا تغتر بهذه التصريحات العربية المهذبة جدا والتى تكتفى بقول أن العنف لن يحل المشكلة وأن العودة لمائدة المفاوضات أصبح واجبا وطنيا وقوميا وخيارا استراتيجيا حيث لا توجد خيارات أخرى ) أو على المستوى الشعبى ( لا تنخدع بتلك الهبّات أو الهوجات الوقتية قصيرة المدى والتى لا تحمل أية استراتيجيات أو أهداف حقيقية طويلة المدى تسعى وتصر على تحقيقها , بل هى تهرول عند أول عصا ترتفع فى الهواء أو أى خرطوم مياه ينطلق من عربة مطافئ مختبئة فى شارع جانبى ) , ولم أجد فيما قرأت ودرست وعايشت تفسيرا لذلك غير تجربة الفئران المحبوسة ( وهنا فهمت وتعلمت لما الإصرار على الفئران فى هذه التجربة بالذات , وأعتقد أنها من وحى التراث العربى المجيد ) , وهى أحد التجارب الشهيرة فى علم النفس التجريبى ( أتمنى أن أعرف تلك العاصمة العربية التى احتضنت ورعت تلك التجربة الفئرانية الشهيرة ) حيث قام أحد العلماء بوضع مجموعة من الفئران فى صندوق مغلق ثم راح يعرض هذه الفئران لصدمات كهربية خفيفة فرأى أنها تنتفض وتتحرك يمينا ويسارا لتتفادى تلك الصدمات ولتبحث عن مخرج من هذا الصندوق , ولكن الباحث استمر فى تكرار الصدمات الكهربية للفئران مع زيادة معدلها وشدتها واستمرت انتفاضات الفئران ومحاولاتها للخروج , ومع مرور الوقت لاحظ عالم النفس ( الفئرانى ) أن انتفاضات الفئران أصبحت أقل وأن محاولاتها تضعف شيئا فشيئا رغم استمرار الصعق الكهربائى وزيادة حدته , وقد وصلت الفئران فى النهاية إلى حالة من البلادة واللامبالاة ولم تعد تنتفض ( باستثناء رعشة باردة ) ولم تعد تحاول الخروج ( باستثناء نظرة يائسة وبائسة إلى جدران الصندوق وسقفه أو نظرة غاضبة وأحيانا مستعطفة ومتسولة إلى مصدر الصعق الكهربائى) . وحين ننتقل بهذا النموذج إلى السلوك البشرى نرى تشابها كبيرا فيما يحدث لجموع الناس ( العرب على وجه الخصوص ) حين يتلقون الصدمة تلو الصدمة ويحاولون تغيير واقعهم ( الداخلى أو الخارجى ) أو ظروفهم فيجدون الأبواب مؤصدة ( الآن فقط أدركت أهمية شعار : " استقرار الإستمرار واستمرار الإستقرار" ) فيصلون إلى حالة مزمنة من فقدان الأمل وفقدان الحيلة Hoplessness and Helplessness, وهنا تنطفئ الإرادة وتذبل العزيمة ويستشرى اليأس ويسود منطق التسليم بالأمر الواقع وانتظار الحل يأتى من الخارج , وهنا يظهر المبشرون بالحلول السحرية أو الحلول الخارجية أو الحلول الغيبية فنرى مفسرى الأحلام وقرّاء النجوم ومبشرى الطب البديل يملأون الشاشات العربية ( علمت أن برامجهم تحقق أعلى نسبة مشاهدة ) يخدرون الوعى بتفسيرات خرافية يلبسونها ثوبا دينيا أو علميا ( قابلت اثنين من أشهرهم عربيا وعالميا وناظرتهما على شاشات التلفازات العربية ولكن دون جدوى فقد اتضح أن الناس تسعى لمن يبيع لها الوهم ويخدعها ويضحك عليها , لذلك جمعت منهجى العلمى الذى تربيت عليه فى المدارس والجامعات ولزمت بيتى آسفا وحزينا ) , ونرى بعض الدعاة المغيبين يطمئنون الناس بالنصر القريب على يد بطل يأتى من السماء ليقضى على اليهود والأمريكان والدانمركيين دفعة واحدة .

وهناك يوميا ما يسمى بتدريبات تقليل الحساسية تجرى للحس العربى حيث يجلس الإنسان العربى آخر النهار بعد يوم انتهكت فيه حقوقه وحرياته وكرامته وإنسانيته ليتناول العشاء العربى الدسم ويحتسى القهوة العربية والشاى العربى والحشيش العربى والبانجو العربى
( بالمناسبة الحشيش والبانجو يقللان الحساسية ويطفئان الدوافع نحو التغيير ويحدثان حالة من البلادة المعرفية والوجدانية وخداعات فى إدراك الزمان والمكان والأشكال والألوان والأحداث والأشخاص يصاحبها حالة من الرغبة فى الكلام وإطلاق النكات على الذات المنتهكة وعلى الآخر المعتدى , ولذلك ينصح بهما خبراء الكيف كمخدرين مثاليين يناسبان ظروف المجتمعات العربية ), كل هذا وهو يشاهد مظاهر القتل والتدمير وصراخ الأطفال ونواح النساء على شاشة الجزيرة , وبعد الإطمئنان على معرفته لما يحدث ( سواء من النشرة أو من حصاد اليوم أو حتى من الشريط ) يقوم بالإنتقال إلى قناة أخرى ليشاهد الفيلم العربى القديم جدا يليه مجموعة من الفيديوكليب الحديث جدا والمنعش جدا جدا للغرائز البدائية الفجة , إلى أن يحين موعد برنامج الفلكى الكبير الذى يقرأ النجوم من خلال شاشة كومبيوتر ( أو بالأدق لاب توب) موضوعة أمامه وتساعده فى قراءة الرسائل القادمة من المشاهدين والمشاهدات ( المستلبين والمستلبات ) فتاة ذات شعر غجرى مجنون ( يسافر فى كل الدنيا ) وعينان خضراوان مليئتان بالسحر والغموض كما فى حكايات ألف ليلة وليلة , وما أن ينتهى هذا البرنامج حتى ينتقل العربى بسرعة إلىبرنامج " الطب البديل " ليتابع آخر استخدامات البرطقوش والشيكوريه والشبت المغربى والجرجير الهندى وقرن الشيطان والمستكه والحبهان يلقيها عليه رجل وقور تبدو عليه آثار السنين ويتكلم بلهجة جادة وهو يقرأ صفحات من " تذكرة داوود" ويتبعها بصفحات من " عودة الشيخ إلى صباه " ثم ينتبه فيختم كلامه بعبارات ينسبها إلى كتاب " الطب النبوى لابن القيّم " ومن وقت لآخر يظهر شريط فى أسفل الشاشة يعلن أن المتحدث أستاذا فى مركز علمى وبحثى هام ( وتدور رأسى فى محاولة لفهم العلاقة بين هذا وذاك وتلك وذلكم ) , وحين يقترب موعد النوم يختتم العربى مساءه السعيد بمشاهدة برنامج تفسير الأحلام لينام نوما هادئا بعد وعود أكيدة ومؤكدة بغد أفضل .

دكتور / محمد المهدى
استشارى الطب النفسى
http://www.elazayem.com/B(32).htm