قرأت خبرا عنوانه "قانون إسرائيلي يقضي بتقسيم المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين"، في بوست نشره أحد الأصدقاء عن موقع إلكتروني تحت عنوان "بدون تعليق"، فانتابني الإحساس بأن الامتناع عن التعليق من قبل الصديق، هو بسبب وقع الكارثة التي ينطوي عليها الخبر..

لذلك رأيت أن من واجبي بل ومن حقي أيضا أن أقول ما يلي..

إذا اعتدى أحدهم على بيتك، واستطاع إقناعك بأن "غرفة نومك" هي "المقدس" الذي يختلف عن باقي غرف ومرافق البيت، فجعل ردةَ فعلك عند أيِّ اعتداء عليها، مختلفا عن ردة فعلك عند الاعتداء على أيٍّ من المرافق الأخرى، فإنه يكون قد نجح في صياغة "ثقافة المقاومة" لديك، بما يخدم مخططاتِه هو..
فتراه إذا أراد صرفَ نظرِك عن عبثٍ يقوم به في مرافق البيت الأخرى، حتى لو كان هذا العبثُ ضخما يرقى إلى درجة اغتصاب زوجتك، فإنه يثيرك بجلوسه على سرير نومك، بحجة أنه يريد شرب قهوة الصباح فيه، لأنه يستمتع بذلك وهو يطل من السرير على الحديقة..
أنت وبما أنك أصبحتَ في نهج مقاومتك لهذا المعتدي صنيعةَ يديه، فإنك تثور لجلوسه على سريرك في غرفة نومك، أكثر من اغتصابه لزوجتك في المطبخ..
فإذا أراد أن يغتصب ابنتك في غرفة الاستقبال، دون أن تكون ردة فعلك بالشكل الذي يُعَطِّلُه عن مشروعه، فإنه يثيرك في غرفة نومك، بأن يفتح دولاب ملاىبس زوجتك ليستمتع بالفرجة فيه..
وعندما يحين الوقت لكي يستضيفَ طلاب المتعة الحرام كي يمتهنوا زوجتك وابنتك، وينتهكوا عرضيهما في شرفة غرفة من غرف البيت، فإنه يُعِدُّك لذلك بأن يبدأ بمداعبة الملابس الداخلية لزوجتك في غرفة نومك..
لتكون النتيجة أنك لم تستطع منعَه من فعل ذلك، ولا كانت ثورتك وردة فعلك تجاه ما يحدث لزوجتك وابنتك خارج غرفة النوم، وفق البوصلة الحقيقية التي يقتضيها اعتداء هذا المعتدي على بيتك، كلِّ بيتك، أصلا ومن حيث المبدأ..
"القدس" مدينة فلسطينية محتلة، تحظى بقداسة "دينية" لدى المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء..
"القدس" ليست مدينة مقدسة سياسيا، فمن هذه الحيثية، هي وأيُّ ذرة من تراب الأرض المحتلة لها القيمة والقداسة والأهمية نفسها..
لا فرق في الأهمية السياسية وفي القداسة السياسية بين "المسجد الأقصى"، و"الأمتار المائة" من الأرض التي يصادرها جيش الاحتلال من بعض سكان بئر السبع كي يقيمَ عليها مستوطنة..
ولا فرق أيضا في هذه الأهمية بين "المسجد الأقصى"، وأيِّ أرض أقيمت عليها مستوطنة معزولة في الضفة الغربية، بعد أن تمت مصادرتها من أصحابها ومالكيها الأصليين..
لا نختلف على أنه من الناحية الدينية هناك فرق من حيث الأهمية والقداسة بين القدس وأيِّ ذرة تراب في فلسطين حيثما كان موقعها، كما أننا قد لا نختلف على أنه من الناحية الدينية أيضا، هناك فرق بين الأهمية والقداسة اللتين يحظى بهما المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتلك التي يحظى بها أيِّ حجرٍ مُقامٍ في القدس نفسها..
لكننا نرفض أن تكون هذه القداسة بوابةً لمنح القدس قداسةً سياسةً تسمو على قداسة باقي فلسطين، أو منح "الأقصى" و"القيامة" قداسة من هذا النوع تسمو على قداسة كامل مدينة القدس..
علينا أن نُفشِلَ خطةَ العدو الصهيوني في التفريق بين مستويات القداسة السياسية لأيِّ من ذرات تراب الأرض المحتلة..
علينا أن لا نبتلعَ الطعم، فنقع في فخ الاستجابة لتسييس القداسة ليتطابق فيها الديني مع السياسي، لجهة جرِّ السياسي إلى الديني، وليس لجهة جر الديني إلى السياسي..
لأننا إذا ابتلعنا هذا الطعم، فسوف نكون جاهزين للتجاوب مع ما سيفعله في عقولنا وأرواحنا من تشويه..
وستغدو القدس أهم سياسيا من حيفا ونابلس وبئر السبع، ومن شبعا ورام الله والجولان.. إلخ..
وسيغدو "الأقصى" وستغدو "القيامة" أهم سياسيا من "بيت الشرق" ومن أيِّ بيت من بيوت القدس..
وهذه هي بداية الكارثة السياسية..
إنها عندما تتحدَّد القيمة السياسية لمطالبنا بمدى القداسة الدينية لتلك المطالب..
لأننا عندئذ سنكون مستعدين في حال المساس بمقدسنا الديني، للتنازل عما ليس مقدسا دينيا بالقدر نفسه الذي يتَّسِم به ذلك المقدس الذي تمّ المساس به، كي يخفَّ هذا المساس بمقدسنا الديني، أو كي يزول..
نتغنى دائما بالقائد العظيم "صلاح الدين الأيوبي" ونتمنى ظهور "صلاح دين" جديد، دون أن نسأل أنفسنا ما الذي فعله "صلاح الدين" حتى يحظى لدينا بهذا القدر من الاحترام والتبجيل؟!!
في زمنه كانت معظم سواحل بلاد الشام تحت سيطرة الإمارات الصليبية، وكانت القدس والكرك وغيرهما كذلك..
فما الذي فعله صلاح الدين؟!
هل حرَر كل تلك المناطق المحتلة؟!
هل تعامل مع الأرض المحتلة أيا كانت من الناحية السياسية بالقداسة والأهمية نفسِها؟!
لا داعي للانفعال والاستعجال، فهو لم يحرِّر سوى القدس وما لزم لتحريرها مثل حطين" و"الكرك".. إلخ..
وبعد تحرير القدس "أورشليم"، وقَع مع الصليبيين "صلح الرملة" الذي ينطوي على اعترافٍ واضح بسيادة الإمارات الصليبية والأمراء الصليبيين على الأماكن التي يحتلونها، في كامل الساحل السوري وهو "فلسطين، لبنان، سوريا حاليا"..
هو اعتبر ذلك إنجازا..
مع أنه إنجازٌ هزيل، لم يكتمل إلا بأبطال المماليك "بيربس" و"قطز" و"قلاوون" بعد مائة عام..
والسبب في أنه إنجاز هزيل – في فهمنا للأمور – هو أن "صلاح الدين" نظر إلى المُقدس الديني باعتباره مقدسا سياسيا، وإلى ما ليس مقدسا دينيا باعتباره أيضا غير مقدس سياسيا..
وشعبُه آنذاك قبل منه ذلك للسبب نفسه، فهذه هذه الثقافة التي كانت مهيمنة آنذاك..
ونحن اعتبرناه عملاقا للسبب نفسه، لأن الثقافة المهيمنة علينا هي ذاتُها، ولأننا نخضع لمنهج العدو الصهيوني في إبقائنا عبيدا لها، دون أن نفكر أو نتساءل..
وها نحن مع الأسف نقع في المطب التاريخي نفسه..
تسير أذهاننا وعقولنا بشكل مرسوم لها من قبل أعدائنا بالدرجة الأولى، باتجاه المطابقة بين المقدسين الديني والسياسي، لا بسحب القداسة الدينية لتنطبق على كلِّ "الحق السياسي"، ليصبحَ كل "حق سياسي" من ثم مقدسا دينيا..
بل – مع الأسف – بحسب "الحق السياسي" إلى دائرة "القداسة الدينية"، لمنحِ القداسة السياسية على أساسها، فتكون النتيجة أن "المقدس السياسي" هو فقط ما يحظى بصفة أنه "مقدس ديني"..
وهذا هو السبب الذي يجعلنا نزبد ونرعد ونثور ونقلق ونخاف، ونستحضر كل أساطير المهدي والدجال، ومعارك وملاحم وخرافات آخر الزمان، بل نستصرخ المسيح كي ينزل اليوم قبل الغد، عندما نسمع بأن خبرا تسرب حول مشروعٍ ما في "المسجد الأقصى"..
بينما لن يثيرَ اهتمامَنا ولن يستحضرَ ردةَ فعلنا الثائرة، بالقدر نفسه الذي يثير اهتمامنا ويستحضر ردة فعلنا، يهودي متدين يصلي عند حائط البراق – بعد أن غدا كلُّ حجر في القدس هو وحده "المقدس السياسي"، بسبب القداسة الدينية له ابتداءً – مظهر "المعاناة اليومية"، و"الآلام المتواصلة منذ عقود"، و"تآكل الحقوق" و"الصبر الدؤوب على تنشئة الأطفال في الكهوف"..
إن هذه الوقائع والأحداثق لا تفعل فينا ذلك الفعل لأنها لم تعد تملك أيَّ قداسة سياسية، مادامت قد نزعت عنها القداسة الدينية أصلا؟!!!!!
انتبهوا فمع كل استثارة لمشاعرنا الدينية في القدس، هناك كارثة صهيونية تمارس أو يعدُّ لها في مكان ما من الأرض المحتلة خارج القدس!!!!!
يريدون استنفار كل مشاعرنا الدينية تجاه "القدس"، كي تنخفض مستويات الاستنفار تجاه ما سيحدث خارجها، لأن هذا الخارج ليس مقدسا دينيا، وبالتالي فهو ليس مقدسا سياسيا، بعد أن نجحوا في جعل القداسة السياسية تنطبق فقط على المقدس الديني!!!‬