يا رسول -الله صلى الله عليه وسلم-أجد ريح الجنة.
إن الأخوة الصادقة أصبحت عملة نادرة في زمن الغربة الثاني الذي نعيشه الآن ... فلا تكاد ترى أخاً صادقاً في أخوته –إلا من رحم الله.
ولقد ضرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والأسوة والقدوة في الأخوة الصادقة.
وها نحن نعيش من خلال تلك السطور مع هذا الصحابي الجليل سعد بن الربيع الأنصاري الخزرجي البدري النقيب الشهيد الذي لا يستطيع إنسان أن يذكر معنى الأخوة الصادقة إلا ويجعل سعداً متربعاً على عرش الأخوة.
كان سعد – رضى الله عنه- أحد النقباء ليلة العقبة واستشهد يوم أحد.
الأخوةالصادقة.
لقد صدق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في محبتهم لإخوانهم ,فلم يطمع أحدهم فيما عند أخيه بقدر طمعه في حب أخيه, فلم يحمل أحدهم شيئاً في صدره لأخيه , بل حملوا والوفاء لإخوانهم.
قال الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارتهم معاصي وإن كنا سوياً في البضاعة
فقال له الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم منكم سوف يلقون الشفاعة
وتكره من تجارتهم معاصي وقاك الله من شر البضاعة
ولذا فإن المؤمن لابد أن يحرص على صحبة المؤمنين الصادقين ولابد أن يتعاهدوا من الآن على أن يشفعوا لبعضهم البعض في هذا الزمن العصيب , وبذلك تكتمل معاني الأخوة في الدنيا والآخرة, ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. }الزخرف: 67{.
وكذلك يجب أن تحرص على أن تحمل في قلبك كل المحبة لإخوانك ولا تجعل في قلبك غشاً ولا حسداً لأحد من المسلمين.
ولعلكم تعلمون قصة الرجل الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم :" يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة.
فعن أنس- رضى الله عنه- قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال :" يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال, فلمّا كان الغد قال رسول صلى الله عليه وسلم مثل ذلك, فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى, فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى فلمّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص, فقال: إني لاحيت أبي, فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً , فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال" "نعم "... قال أنس : فكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار (تقلب على فراشه) ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر... قال عبدالله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً. فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة, ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات :" يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فأعرف عملك فأقتدي به, فلم أرك تعمل كبير عمل, فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك, وهي التي لا تطاق.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".
وليس هذا فحسب, بل إن المحبة من أجل الله توجب محبة الله للعبد.
أن الله تعالى يقول: " حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتواصلين في للمتباذلين في, المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء".
بل يصبح من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.
فقد قال صلى الله عليه وسلم :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:- وذكر منهم- ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه".
ولقد كانت تلك المحبة سبباً في جوب الجنة لرجل يحب أخاه من أجل الله عز وجل .
قال صلى الله عليه وسلم :" إن رجلاً زار أخا له في الله فأصدر الله ملكاً , فقال أين تريد؟ قال: أريد أن أزور أخي فلاناً, فقال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا. قال: لقرابة بيتك وبينه؟ قال: لا. قال: فبنعمة لك عنده؟ قال: لا. قال: فبم؟ قال: أحبه في الله. فإن الله أرسلني إليك أخبرك بأنه يحبك لحبك إياه . وقد أوجب لك الجنة".
يقول الشافعي رحمة الله عليه:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا فدعـــــــه ولا تكثر التأسفا
ففي الناس إبدال وفي الترك راحة وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه ولا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعـــــة فلا خير في خل يجئ تكلفا
ولا خير في خل يخون خليله ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشاً قد تقادم عهـــده ويظهر سهراً كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيــا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا
ولقد بدأت حديثي عن الصحابي الجليل(سعد بن الربيع)_ رضى الله عنه _ بالكلام عن الأخوة , وذلك لأنه ضرب المثل الأعلى في الأخوة حتى إننا لا نستطيع أن نتحدث عن أمر الأخوة إلا ونذكره بقلوبنا قبل ألسنتنا.
نشأة مباركة.
لقد نشأ(سعد) في أسرة عريقة فلقد كان والده(الربيع بن عمرو) من سادات بني الحارث الخزرجيين . وأمه هزيلة بنت عنبة من القبيلة نفسها.
ولما كان اليهود يعيرون العرب بأنهم أمة أمية... أرسل الربيع ولده( سعداً) ليتلقى الكتابة والقراءة .
وأصبح (سعد)سيداً وتحلى بالأخلاق والآداب التي يتحلى بها رئيس القوم, بل وأصبح جديراً بحب الخزرج واحترامهم.
ولقد امتن الله عليه بعقل سليم ناضج وقلب يحب الخير لكل من حوله ,ولذلك كان يبغض الخلافات والحروب التي تدور من حوله.
موعد مع السعادة.
وها هو على موعد مع القدر ومع السعادة الأبدية.
فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مواسم الحج.
وذات يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار , فعرض نفسه على قبائل العرب, كما كان يصنع في كل موسم ,فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيراً.
فلما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "من أنتم؟" قالوا؟ نفر من الخزرج, قال: "أمن موالى يهود؟" قالوا: نعم, قال :"أفلا تجلسون أكلمكم؟" قالوا : بلى, فجلسوا معه , فدعاهم إلى الله _ عز وجل _ وعرض عليهم الإسلام, وتلا عليهم القرآن, قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام ,أن يهود كانوا معهم في بلادهم ,وكانوا أهل كتاب وعلم, وكانوا هو أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد غزوهم ببلادهم, فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه, نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول صلى الله عليه وسلم أولئك النفر, ودعاهم إلى الله, قال بعضهم لبعض : يا قوم , تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود, فلا يسبقنكم إليه, فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام, وقالوا :إنا قد تركنا قومنا, ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم , فسعى أن يجمعهم الله بك, فسنقدم عليهم , فندعوهم إلى أمرك, ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين, فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم , وقد أمنوا وصدقوا.
قلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم, فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا كان العام المقبل وافي الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا, فلقوه بالعقبة. وهي العقبة الأولى, فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير, وأمره أن يقرئهم القرآن, ويعلمهم الإسلام, ويفقههم في الدين , فكان يسمى المقري بالمدينة : مصعب, وكان منزله على أسعد بن زرارة أبي أمامه. وقام مصعب - رضى الله عنه - يحمل أمانة الدعوة إلى الله فاستطاع أن يستميل القلوب وأن يأخذ بأيدي العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام, ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. حتى أسلم على يديه سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم من الصادقين - رضى الله عنهم - وكان من بينهم سعد بن الربيع - رضى الله عنه - الذي كان على موعد مع سعادة الأبد وخيرى الدنيا والآخرة فلقد لامس الإيمان شغاف قلبه. وما إن أسلم (سعد) حتى تاقت نفسه إلى لقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم.
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/8C3D%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.gif[/IMG] لقاء مع الحبيب صلى الله عليه وسلم.
*وجاءت تلك اللحظة التاريخية التي لن تتكرر أبداً_ ألا وهي بيعة العقبة الثانية_ وخرج الأنصار لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من بين من خرج لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية (سعد بن الربيع) _ رضى الله عنه _ الذي كان في أشد شوقه للقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم لينهل من هذا المعين الصافي ما يثلج صدره وليقبس من هديه وحكمته وأخلاقه العذبة.
وامتدت يده لتصافح الحبيب صلى الله عليه وسلم ولتبايعه.
ثم عاد(سعد) إلى المدينة وقد امتلأ قلبه بالسعادة التي لو قسمت على أهل الأرض لو سعتهم أجمعين.
الهجرة المباركة.
ولما اشتد الإيذاء بأصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم أذن لهم بالهجرة إلى يثرب (المدينة المنورة). وخرج المهاجرون إلى يثرب فراراً بدينهم من بطش قريش, فنزلوا في رحاب إخوانهم من أنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان... الذين قال الله عنهم:
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر:9].
ولما استقر المقام بالحبيب صلى الله عليه وسلم في المدينة آخي بين المهاجرين والأنصار, وهنا ظهرت نوادر الإخاء والحب والتضحية بصورة لا يتصورها عقل ولا تخطر ببال أحد من البشر, فكانت تلك الأخوة التي لا تتكرر أبداً عبر العصور والأزمان.
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/8C3D%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.gif[/IMG] ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
وها هو سعد بن الربيع الذي تعايش مع كل آية من آيات القرآن ومع كل حديث أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ... يحقق معنى الأخوة كما أرادها الحق _ جل جلاله_.
فعن أنس _رضى الله عنه_ أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وأخي النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد ابن الربيع _ وكان كثير المال_ فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين _ نصفين_ ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها . فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك. فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط, فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعله وضر من صفرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مهيم؟" قال : تزوجت امرأة من الأنصار , قال: "ما سقت فيها؟" قال: وزن نواة من ذهب_ أو نواة من ذهب_ فقال :"أولم ولو بشاة".
وإن إعجاب المرء بسماحة (سعد) لا يعدله إلا إعجابه بنبل (عبد الرحمن) الذي زاحم اليهود في سوقهم وبزهم في ميدانهم , واستطاع بعد أيام أن يكسب ما يعف به نفسه ويحصن به فرجه.. ذلك أن علو الهمة من خلائق الإيمان.
نعم فإن الإسلام دين يحث على العمل ولا يرضى بالتواكل ولا يرضى بأن يخدش المسلم حياءه أو يذهب ماء وجهه من أجل أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
قال الحسن البصري: والله لقد رأيت أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه, ولقد رأيت أقواما يمسى أحدهم ولا يجد عنده إلا قوتا, فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني, فيتصدق ببعضه, ولعله أحوج إليه ممن يتصدق عليه.
فانظر عندما تعفف عبد الرحمن بن عوف ورفض العطاء الذي عرضه عليه سعد بن الربيع عوضه الله خيرا كثيرا وتزوج في وقت قياسي "ومن يستعفف يعفه الله". فلقد كان زواج المسلمين ميسورا بأمر الله.
ولم يكن هذا الموقف الإيماني في تحقيق معنى الأخوة الصادقة مقصور على (سعد بن الربيع)فحسب, بل لقد كان الأنصار يضربون المثل والأسوة في الحرص على القيام بحقوق الأخوة الصادقة.
وقد مدح الله _عز وجل_ الأنصار بالإيمان والإيثار, فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر:9].
وعن أبي هريرة_ رضى الله عنه_ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه , فقلن :ما معنا إلا الماء ,فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضم_ أو يضيف_ هذا" فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيئي طعامك, وأصبحي سراجك, ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء, فهيأت طعامها, وأصبحت سراجها, ونومت صبيانها. ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته, فجعلا يريانه أنهما يأكلان, فباتا طاويين, فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال:" ضحك الله الليلة_ أو عجب_ من فعلكما فأنزل الله:(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر:9].
وعن ابن الأعرابي قال :استشهد باليرموك عكرمة بن أبي جهل, وسيهل ابن أبي جهل, وسهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام, وجماعة من بني المغيرة, فأتوا بالماء وهم صرعي , فتدافعوه حتى ماتوا, ولم يذوقوه؛ أتى عكرمة بالماء فنظر إلى الحارث بن هشام ينظر إليه فقال: ابدءوا به, فنظر سهيل إلى الحارث ابن هشام ينظر إليه فقال: ابدءوا بهذا, فماتوا كلهم قبل أن يشربوا , فمر بهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم.
وعن حذيفة العدوى قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء, وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته, ومسحت به وجهه, فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار إلى أن نعم, فإذا رجل يقول : آه .فأشار ابن عمي إلى أن انطلق به إليه, فجئته فإذا هو هشام بن العاص . فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه .فأشار هشام انطلق به إليه , فجئته فإذا هو قد مات, فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات ,فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات_ رحمة الله عليهم أجمعين_.
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/8C3D%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.gif[/IMG] صورة مشرقة من جهاده في سبيل الله.
*منذ أن أعلن سعد بن الربيع إسلامه لم يتوان عن تقديم خدماته للإسلام وأهله, وجاهد في سبيل الله بنفسه وماله, وكل ما يملك , وجاءت معركة بدر, فخرجت قريش من مكة عن بكرة أبيها معتقدة أنها ستوجه الضربة القاصمة التي تقضي على الإسلام وأهله, لأن المسلمين بزعمها قد تطاولوا عليها, واقدموا على التصدي لعيرها وكسر هيبة قريش أمام العرب... , وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم بخروج قريش, فخرج بأصحابه حتى نزل في بدر, وعبأ الرسول أصحابه أحسن تعبئة وحثهم على الصبر والثبات, وبدأ الزحف من قبل قريش, فالتقى الجمعان, وهجم المسلمون على المشركين بقلوب ملؤها الإيمان بالحق والرغبة في الشهادة والطمع في ثواب الله ؛وأمد الله المؤمنين بروح من عنده, فازدادت حماستهم وتضاعفت قوتهم.
وكان سعد بن الربيع رضى الله عنه , يقاتل في هذه الغزوة قتال الأسود, وأبلي فيها بلاء حسنا, وتجاوز مقدار الشجاعة, حيث ظهر من شدة بأسه ما أدهش الكفار, فلقد قتل أحد رؤوس المشركين وهو" رفاعة بن أبي رفاعة" ومع هذا كله فقد كان سعيد بن الربيع رضى الله عنه يؤثر الصمت والهدوء ويقاتل في سبيل الله, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف عنه هذا ويكن له كل الحب والتقدير.
*انتهت غزوة بدر بانتصار المسلمين , ولم يغب سعد بن الربيع عن أنظار الرسول صلى الله عليه وسلم , بل ظل قريبا منه؛ شهد غدر يهود بني قينقاع ومجاهرتهم العداء للمسلمين , ثم شهد إجلاءهم عم المدينة المنورة, وشهد المشاهد كلها حتى جاءت غزوة أحد.
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/8C3D%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.gif[/IMG] يا رسول الله أجد ريح الجنة !!!
وفي غزوة أحد قاتل سعد بن الربيع قتالاً شديداً ليظفر بتلك الأمنية التي كانت تشغل قلوب الصحابة جميعاً_ ألا وهي الشهادة في سبيل الله_.
ولما انتهت تلك الغزوة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد القتلى والجرحى.
قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب (سعد بن الربيع) فقال لي:
"إن رأيته فأقرئه مني السلام, وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم :كيف تجدك؟" قال:
فجعلت أطوف بين القتلى , وهو بآخر رمق, وفيه سبعون ضربة: ما بين طعنة برمح, وضربة بسيف, ورمية بسهم ,فقلت: يا سعد, إن رسول الله صلى الله وسلم يقرأ عليك السلام, ويقول لك:" أخبرني كيف تجدك؟" فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام . قل له :يا رسول الله أجد ريح الجنة, وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف. وفاضت نفسه من وقته.
وفي رواية: أنه" لما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من رجل ينظر ما فعل سعد ابن الربيع؟" فقال رجل من الأنصار : أنا . فخرج يطوف في القتلى, حتى وجد سعداً جريحاً مثبتاً بآخر رمق, فقال: يا سعد, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر : أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟! قال: فإني في الأموات , فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام, وقل : إن سعداً يقول: جزاك الله عني خير ما جزي نبياً عن أمته, وأبلغ قومك مني السلام , وقل لهم : إن سعداً يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله أن خلص إلى نبيكم _ أي أصابه مكروه_ وفيكم عين تطرف".
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/8C3D%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.gif[/IMG] حفظ الله لذريته من بعده .
عن جابر بن عبدالله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتها من سعد , فقالت: يا رسول الله , هاتان بنتا سعد, قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً , وإن عمهما أخذ مالهما , فلم يدع لهما مالاً, ولا تنكحان إلا ولهما مال, قال:" يقضى الله في ذلك" فأنزلت آية المواريث, فبعث إلى عمهما فقال: "أعط بنتي سعد الثلثين, وأعط أمهما الثمن, وما بقى فهو لك"
وهكذا يحفظ الله العبد الصالح وذريته من بعده كما جاء في سورة الكهف في شأن الغلامين اليتيمين. قال تعالى:﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾.[الكهف:82].
﴿فرضى الله عن سعد وعن سائر الصحابة أجمعين.﴾
تعليقات
بعد أن عشنا أمتع لحظات الأنس في رحاب هذه السيرة العطرة , طاب لنا أن نرفع الرأس عالياً ونتوجه بالحمد الثناء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , ونحن بحق أمّة راقية من حيث أنّ فيها رجال من هذا الطراز الفريد , وهذه طائفة من التعليقات أحببت أن أعرضها على أخواني لعلّ فيها فائدة وعبرة : 1- اسم هذا الصحابي لافت للنظر سعد هذه الكلمة متضمنة أسمى معاني السعادة والفرح والغبطة ومن من الناس لا ينشد السعادة؟ والربيع مسحة جمال يخلعها الله على الطبيعة فتذهل أولي الأبصار والبصائر فيزدادون من الله قرباً , فالجمال تهفو إليه النفوس السليمة بالفطرة , تلك إيحاءات هذا الاسم المبارك . 2- سيدنا سعد رضي الله عنه تربع على عرش الأخوة الإيمانية وضرب في هذا المضمار أروع الأمثلة وما أحوجنا إلى رجال ونساء من الطراز في عصر الغربة الثاني الّذي نعيشه اليوم حيث باتت المادة هي المعيار الّذي تبنى عليه العلاقات الاجتماعية . 3- شوق للجنة التي أعدّها الله لعبادة المتقين وجدنا على أشده يتوقّد في كيان سيدنا سعد بن الربيع رضي الله عنه , جعله يقدّم كل غال ونفيس من أجل الوصول إلى ما تاقت إليه نفسه فزف إلى جنا الخلد شهيداً من شهداء أحد . 4- لا يطمع المسلم إلاّ بتعميق المحبة بينه وبين إخوانه هذا ما نتوق إليه في عصر شاع فيه الحق والبغض لأتفه الأشياء , فسيدنا رضي الله عنه وأمثاله ركلوا دنيا البشر بأقدامهم ونفضوا منها أيديهم فلم تتطلّع نفوسهم الأبية إلى شيء من مال الآخرين . 5- شدة حرصه رضي الله عنه على سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا أطلق تحذيره لإخوانه أن لا يدعوا المشركين أن يخلصوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . 6- سيدنا سعد بن الربيع رضي الله عنه ممن حملوا راية الجهاد نصرة لدين الله وأبلى بلاء حسناً انتهى باستشهاده رضي الله عنه . 7- حفظ الله ذريته عبده الصالح بعد رحيله عن دنيا البشر حيث أنزل الله آية المواريث بعد شكوى زوجة سعد رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع عمهما من اخذ مال أخيه كله فأنصف الجميع عدلاً . وما أحوجنا في هذا الزمن الصعب إلى إنصاف من حرموا من نصيبهم في الميراث وما أكثرهم ! هذه شذرات فتح بها الفتّاح عزّ وجلّ أتبعنها سيرة هذا العلم الشامخ من أعلام الصحابة آمل أن تثري الفكر وأن يكون لها في واقع المسلمين نصيب . والحمد لله رب العالمين .