لماذا كلما طالب الشعب الأردني بشيء نفذ النظامُ نقيضَه؟!!!

أسامة عكنان

في تونس خرج الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي" على الشعب في لحظة فارقة وقال: "الآن فهمتكم.. لا رئاسة مدى الحياة".. لكنه لم يلبث أن هرب في جنح الظلام..
في مصر خرج الرئيس المخلوع "محمد حسني مبارك" على شعبه ثلاث مرات، قدَّم في كل مرة تنازلا أشد من سابقه، كي يُرضى به الشعب ويبقى في كرسي الحكم، ووعد بوضوح: "ألا توريث في حكم مصر".. لكنه لم يلبث إلا قليلا حتى وجد نفسه يقبع في السجن ويُحاكَم..
في ليبيا خرج الرئيس المقبور "معمر القذافي" على من لم يعتبرهم يوما شعبا يستحق الاحترام، ووعد بدستور وبأحزاب وبليبيا مختلفة هو وابنه المعوَّق "سيف"، مع أنه هدد وتوعد من اعتبرهم أعداء ليبيا حلفاء الناتو.. لكنه فجأة وفي عز الظهر، "يُقتل" من قبل من أسماهم "الجرذان"..
في اليمن لا نستطيع أن ننسى محاولات "علي عبد الله صالح" المستميتة للبقاء في السلطة على مدى أكثر من عام، وهو يقدم تنازلا هنا وطُعما هناك لعلَّ شباب الثورة يقبلون.. لكنه وإن أفلت من الموت مرة، فإنه لم يفلت من الطرد من كرسي الحكم في نهاية المطاف، واللعنة ما تزال تلاحقه حتى اليوم هو وبقايا وخلاصات حكمه..
أما في سوريا، فحدث عما يعتبره النظام تنازلاتٍ وإصلاحاتٍ ولا حرج، حتى لو كان كل ذلك على أنهار الدماء، وبلا قيمة حقيقية.. فحتى أبشع نظام قاومَ شعبه حتى الآن، لم يستطع ألا يظهرَ بمظهر المتجاوب، وإن يكن كذبا وتدجيلا، مع مصطلح الإصلاح والتغيير، كي يُفْقِد الطرف المقابل أوراقَه الداعية إلى إسقاطه إن استطاع.. والمتوَقَّعُ في خاتمة القصة في "قلب العروبة النابض"، ليس بعيدا عما جادت به قريحة قارئة فنجان "نزار قباني"..
بل حتى في الكويت وعُمان والبحرين، وقبل ذلك في المغرب، وبعده في الجزائر، قدم الملوك والأمراء ورؤساء وسلاطين السوء، تنازلاتٍ سريعةً حتى لا تستفحلَ الأمور، وإن كان بعض ما قدموه شكليا وهزيلا وهروبا من مآزق كانت تلاحقهم وما تزال..
ما يثير الدهشة، هو أن كل "نظام عربي" خرج شعبه يطالبه بالإصلاح، لم يستطع رغم جبروته وهمجيته وفساده وتغوُّله وسفهِه، ألا يظهر بمظهر المتجاوب مع بعض مطالب الشعب، أو ألا يقدِّمَ وعودا بالتغيير، أو ألا يطالب بفرصة لإثبات حسن النية، بل وربما أحيانا بممارسة بعض التغيير، الذي لم يقنع الشعب ولا أرضى قواه الثائرة في الشارع..
نعم لقد حصل هذا في كل بلد عربي شهد حراكا شعبيا مطالبا بالإصلاح والتغيير، إلا في بلد واحد ووحيد هو "الأردن"..
فلم يبدِ النظام بأيِّ قائمة من قوائمه الثلاث الرئيسة "العرش" و"الحكومة" و"البرلمان"، استعداده لأيِّ نوع من التجاوب مع مطالب الشعب وقواه الحية وحراكه المتواصل منذ عام ونصف العام، بل إن العكس هو الذي حصل..
فلو قمنا بإجراء قراءة شاملة لحال البلد اليوم على صعيد تدني مستوى الحريات، وغلاء المعيشة، واستشراء الفساد، والتغوُّل الأمني، ووضع العراقيل في طريق الدولة المدنية الديمقراطية، وزرع الألغام في واقع الحياة السياسية والحزبية، والإمعان في تكريس ثقافة "العصبية"، وفي دعم "الفئوية"، وفي بث الأحقاد في نفوس المواطنين بعضهم تجاه البعض الآخر بشكل مدروس وممنهج، والتأكيد على وظيفية الدولة، وعدم انفصالها عن الرَّحم الصهيوني – الإمبريالي للنظام..
نقول.. لو قمنا بمثل تلك القراءة، لوجدنا أن البلد في تراجع مستمر ومتواصل وواضح لا يحتاج إلى أيِّ جهد لإثباته..
فالشعب يخرج مطالبا بالحرية والديمقراطية، فتسَنُّ قوانين تعرقل الحرية والديمقراطية، "قانون الأحزاب الأمني الأبشع على وجه الأرض"..
والشعب يخرج مطالبا بالتمثيل العادل والمنصف في برلمان عصري وحضاري، فتسَنُّ قوانين تكرس اللاعدالة واللاإنصاف واللاتمثيل، "قانون الصوت الواحد، الأكثر مدعاة للتقيؤ من بين قوانين الانتخاب في العالم"، وهو القانون الذي يطبقه الأردن فقط، وأصبحت "أفغانستان" – بكامل الفخر لنا كأردنيين - هي الدولة الثانية التي تطبقه في العالم، بعد أن اقتدت هذه "اللادولة" بنا فيه، فهنيئا لنا هذا النموذج الرائع في الاقتداء، "أفغانستان" المكان الوحيد في العالم الذي لا تنطبق عليه أيُّ معايير للحضارة أو للإنسانية أو للدولة.. إلخ..
والشعب يطالب بتخفيف الأعباء الضريبية وبتخفيض الأسعار عن كاهله المثقل بالأعباء، بسبب الفقر والبطالة والفساد، فترفع الحكومة كلَّ الأسعار، ويُرفع الدعم عن كل السلع والخدمات الأساس في البلاد، بلا أدني اعتبار لتأثير ذلك تأثيرا قاتلا على حياة المواطنين، بل وبلا أيِّ اعتبار لكون ذلك يتناقض مع المطلب الشعبي نفسه ومطلب حراكه في الشارع، فقط لإصلاح اختلالات في موازنةٍ حكومية شكلت اختلالاتِها تلك، آلياتُ النهب والسلب والفساد والإنفاق الحكومي الباذخ والمترف الذي لا يتناسب مع حالة دولة تعاني مما يعاني منه الأردن..
وعندما يتم استحلاب 300 مليون دينار من أقوات المواطنين الشحيحة أصلا، تحت ذريعة إصلاح تلك الاختلالات، نكتشف أن مبلغا مقاربا جدا لهذا المبلغ يتم إنفاقه سنويا على 20 ألف سيارة حكومية ممنوحة لموظفي القطاع العام، من أكثر السيارات استهلاكا للوقود، دون أيِّ محاولة لإحداث حالة تقشُّف في الإنفاق من هذا الباب الإنفاقي الترفي غير المبرر ولا المفهوم..
أي وكأن الحكومة تريد – بعد أن حال الفساد والنهب، دون القدرة على الاستمرار في نهج الإنفاق البذخي والترفي المنتهج في القطاع الحكومي – أن تكبِّد الشعب الجائع والمرهق، تكلفةَ الإبقاء على ذلك النهج الشيطاني، فرفعت الأسعار، التي بات واضحا أن رفعَها ليس ناتجا عن رغبة في ضخ تلك المئات من الملايين لإحداث مشاريع استثمارية تخفف من حِدَّة الفقر والبطالة، بل هو ناتج عن رغبة في الحفاظ على نهج الفساد والإفساد قائما ومستمرا ومحققا لغاياته، وملبيا لمصالح مسببيه في القطاع الحكومي..
وعندما يظن الشعب – خطأً – أن البرلمان ربما تكون فيه – رغم تزويره وعدم تعبيره الحقيقي عن إرادة الشعب – بقية من شرف وكرامة تجعله يفكر في الدفاع عن "الشعب"، سعيا لاستحلاب قناعة هذا "الشعب" بإمكان أن يكون في انتخابات قادمة برلمانا فيه نزوعٌ نحو الشرف والكرامة، نرى البرلمان يحرص على أن يثبت لهذا "الشعب" بأنه مخطئ، وبأن هذا البرلمان هو برلمان من صنعوه وأنتجوه، فيشرِّع بما هو أكثر رجعية مما ترغب فيه الحكومة أحيانا..
فالحكومة تطرح قانونا للأحزاب يطالب ب250 عضوا مؤسسا، لنفاجأ بأن مجلس الأمة، يعيده إلى 500 عضو..
وتطرح الحكومة قانونا للانتخاب قائما على الصوتين للناخب، فيستكثر النواب ذلك على المواطن – رغم أنه تلاعبٌ أصلا بإرادة الناخبين وإعادة تدوير ممجوج لمبدأ الصوت الواحد – ويعيدوه إلى الصوت الواحد، في ظاهرة لم توجد على وجه الأرض إلا في الأردن، تتمثل في أن يقف البرلمان ضد إرادة الشعب وضد مصلحة الشعب، مساندا للحكومة دائما، بل ومذكِّرا إياها في أكثر من مرة بأنها نسيت بابا من أبواب القمع والاستلاب والقهر لم تَعْبُر من خلاله، فيساعدها هو على العبور من خلاله..
والقائمة تطول وتطول وتطول، لتصبح بحجم الألم والقهر اللذين يعاني منهما كلُّ مواطن في هذا البلد..
إذن فنحن بإزاء ظاهرة من أغرب الظواهر السياسية في العالم، تتمثل في أن النظام الأردني يقدم مقابل كل مطلب يطالب به الشعب، نقيضه تماما، في سلوك ليس له إلا واحدا من المعنيين التاليين..
1 – فإما أن النظام بلغ من السفه والعته والوقاحة والتحدي والاستهتار، حدا غير مسبوق في تاريخ تعامل الأنظمة مع شعوبها الثائرة والمطالبة بالتغيير، كاشفا عن أبشع أنواع اللاإنتماء واللاولاء حتى للدولة التي يُبَرْطِع فيها، ويسرق وينهب من خيراتها بلا حسيب ولا رقيب..
2 – وإما أن الشعب وقواه الحزبية وحراكه، ما يزالون يلعبون داخل المنطقة التي لا تقدم ولا تؤخر في سياق تطوير الفعل الضاغط على النظام، ولا تضر ولا تُجبِر في سياق الفعل الملزم له، كي يتجاوب مع مطالب الشعب..
في واقع الأمر فإننا في الأردن نعاني من الأمرين معا..
ولأن وقاحة النظام وسَفَهُه واستهتاره، أمور مفهومة، تتمثل مهمتنا في أن نواجهَه دائما رغم اتصافه بها، فإن ما يعنينا فعلا هو حالة العجز التي يعاني منها الشعب، والتي يعاني منها حراكه، وتعاني منها قواه الحزبية، فتجعل كل هؤلاء يكادون يكونون معدومي التأثير على النظام..
وفي هذا السياق يجب ألا نغتر كثيرا أو نقف مطولا عند أوهامنا بأننا أقوياء، وبأن النظام خائف منا ويحسب لنا ألف حساب، فهو ما يزال بعيدا عن أن يتصف بذلك، لأننا ما نزال بعيدين عن أن نضعه في دائرة الشعور بالخطر التي شعر بها "بن علي" و"مبارك" و"القذافي" و"علي صالح" وغيرهم من سدنة الأنظمة العربية التي تهاوت، مع أنها لم تتهاوَ بالكامل بعد..
إن هناك مجموعة من العناصر التي يجب أن تتحقق في الأردن، والتي بدون تحققها فسنبقى بعيدين عن أن نكون قادرين على زج النظام إلى خانة القبول والاستسلام لإرادتنا، أو على الأقل إلى خانة التجاوب الفعلي مع مطالبنا..
إن ساحة النخيل في عمان، ومسجد الهاشمي في إربد.. إلخ، لن تتحولا إلى ميدان التحرير في القاهرة، ولا إلى مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية، ولا إلى شارع الحبيب بورقيبة في تونس، ولا إلى ميدان السبعين في صنعاء، دون أن تتحقق في الأردن وتتجسَّد العناصر التالية..
1 – "وحدة الحراك بتوحيد فعالياته". فكلما بقينا مشتتين، يتحرك منا مائة هنا أو مائتان هناك منفردين، لهاثا وراء نجوميات فارغة، فالأفضل لنا أن نعود إلى بيوتنا، لأننا في واقع الأمر نعطي الانطباع للعالم بأن النظام الأردني ديمقراطي فعلا، بحركات وفعاليات عديمة التأثير عليه، فهي إذن تفيده أكثر مما تضره. ومن يعتقد أن الحراك على النحو الحالي قادر على إجبار النظام على شيء فهو واهم. فالنظام يستطيع أن يتعايش مع هذا النوع من الفعل على الأرض عشر سنوات أخرى دون أن يكلَّ أو يملَّ، ونحن الذين سنكل ونمل إن لم نطور أدوات فعلنا.. فالأنظمة لا يرعبها إلا التطور في الفعل الجماهيري، والتنامي في كفاءة توظيف أدوات ذلك الفعل على الأرض، أما عدم تطوير الفعل فهو مبعث راحة لها، لأنه على الصعيد الإستراتيجي مبعث إحباط للشارع.. ولأننا عجزنا بعد عام ونصف عن تطوير أدواتنا ووسائلنا، فنحن الفاشلون.. النظام يخوض معركة وجوده واستمراره، وهو قد خاضها وما يزال يخوضها بكفاءة، وهو قد لعبَ بأوراقه لعبا متقنا وما يزال، لذلك فهو يمارس السياسة والحكم وهو يشعر بتحلُّلِه من أيِّ تأثير لما يحدث على الأرض.. إنه يعتبرنا مجرد "حشرات" لا قيمة لها من حيث قدرتنا على التأثير، ومن لم يقرأ هذه الحقيقة في سياسة النظام، فهو قد أكل في نفسه أكبر مقلب، وعليه إما أن يقبل بمبدأ تطوير أدواته وتفعيلها على حساب أناه ونزعته النجومية الرعناء، وإما أن يعود إلى بيته..
2 – "وحدة الشعب بشراكة مُكَوِّنيه في الحراك".. فنحن نعرف أن هذا النظام عاش واقتات واغتذى على دماء "جثة وحدة الشعب الأردني" منذ أكثر من أربعين عاما، عندما نجح هو و"منظمة التحرير الفلسطينية" ومن خلفهما "جامعة الدول العربية"، في القضاء على "مشروع التحرير" العظيم، بأن حوَّلوه جميعا إلى "مشروع هوية" هزيل، ساعد على إنقاذ وظيفية النظامين الأردني والفلسطيني من أيِّ تأثيرات منتجة لمشروع التغيير. وما لم ننزع عن هذا النظام كامل الأحبال السُّرِّيَّة التي تربطه بدماء تلك الجثة، كي نعيد إحياءها، فإن مبرر بقائه واستمراره ونجاحه في مقاومتنا سيستمر، ولن ننجح في تحقيق أيِّ نتيجة. أي أن على كل مراكز الثقل "الأردني من أصل فلسطيني" في الرصيفة والزرقاء والمخيمات وعمان وإربد.. إلخ، أن تندمج في الحراك بصفتها تجمعات أردنية، وبصفة حراكها حراكا أردنيا، يستهدف النظام الأردني، بغية تحقيق منجزات للشعب الأردني، في الدولة الأردنية.. لقد عرف النظام كيف يبقي على نتاج معادلات السبعينيات والثمانينيات قائمة ومستمرة في تلك التجمعات السكانية، التي لا يراد لها أن تكون أردنية إلا عند دفع الضرائب والتلظي برفع الأسعار. تُرى ماذا فعل الحراكيون، وماذا فعلت القوى السياسية، كي تدمج هؤلاء في الحراك الأردني؟!! من وجهة نظرنا إنها لم تفعل شيئا منتجا على الإطلاق.. وإذن فالحراك ما يزال بعيدا عن أن يحقق بغيتَه، لأن هذه البغية تفتقر إلى أداتها الثانية التي بدونها لن تتحقق..
3 – "تسييس الحراك".. أي الخروج به من ثوب "التلقائية"، ومن ثوب "المطلبية"، ومن ثوب "اللاحزبية".. إن الحراك الذي يعجز عن التحول في اللحظة المناسبة إلى مراكز قوى سياسية محددة البرامج، واضحة الرؤى، جليَّة الأدوات والوسائل، قاطعة التوجهات والمطالب، هو حراك يحكم على نفسه إما بالفشل وبإحباط طموحات الشعب، وإما بإتاحة الفرصة لأصحاب الأجندات الضيقة والفئوية، ولأصحاب الأيديولوجيات الظلامية والرجعية للقفز على منجزاته وعلى مشروعه، وتفريغ هذا المشروع من روحه وأهدافه.. والتجارب الشبيهة بما نقوله ليست عنا ببعيد، فلنتأملها جيدا.. الحراك إذن إذا لم يعِ الأهمية القصوى غير القابلة للنقاش والجدل لتحوله إلى أحزاب سياسية باتجاه تشكيل الحزب الطليعي أو الجبهة السياسية الطليعية، وفق برامج واضحة ومحددة وجلية وصارمة، تخرجه من بوتقة العاطفة والحماس والاندفاع والعمل التبشيري، إلى بتوقة المبادرة الواعية والناضجة والعمل التنظيمي، هو حراك يدق المسامير الواحد تلو الآخر في نعشه..
4 – "توحيد المطالب".. أي الخروج من بوتقة ردات الفعل التي تجعلنا نخرج إلى الشارع فقط لنطالب بعكس ما يفجعنا به النظام من حين لآخر، عندما عرف كيف يشتتنا ويقسمنا، ويضيع جهودنا وأوقاتنا في الغرق في التفاصيل التي حالت بيننا وبين التوحد.. فهو عندما يرفع الأسعار، نخرج لنطالب بخفض الأسعار، وعندما يُصدر قانون انتخاب متخلف، نخرج لنندِّد بهذا القانون، وعندما يُصدر قانون أحزاب أمني، نتظاهر كي نندِّد به، وعندما يوافق مجلس النواب على اتفاقية الغاز نطالب بفعالية للتنديد بهذه الاتفاقية والاحتجاج عليها.. إلخ.. النظام يعرف جيدا أن الغرق في التفاصيل يخدمه من وجهين.. الأول.. أنه يبعدنا عن مركز الثقل المطلبي في مشروع التغيير الذي نسعى إليه.. الثاني.. يبعدنا عن إنجاز مشروع وحدتنا في الشارع.. وهذا ما يريده النظام، وهو قد نجح فيه حتى الآن من هذا الباب.. التفاصيل تعني أننا نبتعد عن قمة الهرم المطلبي ونتوه، ونقترب من القاع الذي قد يصعب معه الصعود مرة أخرى إلى قمة الهرم المطلبي.. والتفاصيل هي أيضا مبرر اللاتقارب، فكلما جعلنا التفاصيل هي مبرر التقائنا، كلما وضعنا العراقيل في طريق هذا الالتقاء.. علينا كي نتوحد ونلتقي أن نصل إلى مرحلة توحيد المطالب وجعلها تلامس قمة الهرم السياسي الذي باستطاعته أن يحتوي على كل التفاصيل لاحقا.. فلنكف عن الانشغال بالفاصيل، كي نلتقي في قمة هرم المطالب.. وليس هناك من مطلب موحِّد يجمع كل الشعب بعد كل هذا الوقت الذي تمَّ هدره، والذي اكتشفنا من خلاله أن النظام "لا يريد الإصلاح"، ولا هو "مستعد ولا مهيؤ له" على الإطلاق، سوى "حكومة إنقاذ وطني".. وإذا لم يصبح هذا المطلب عبر توضيحه وتحديده والتأسيس لبرنامجه، هو مطلب كل الحراتك وكل القوى السياسية، وبالتالي كل فئات الشعب صاحبة المصلحة في الحراك وفي الثورة إذا تطلب الأمر، فهذا يعني أن النظام ما يزال هو الناجح في مشروعه ولسنا نحن، مهما تشدقنا بغير ذلك..
إن عداد احتساب نجاحاتنا وفشل النظام في مواجهتنا يبدأ منذ اللحظة التي نتحرك فيها على الأرض ونحن متدثرون بالعناصر الأربعة السابقة..
أما قبل ذلك فعلينا أن ننجزها كي نبدأ حراكنا..
إننا في واقع الأمر نُعِدُّ للحراك ونمهِّد له..
لكننا ما نزال لم نمسك بدايات أطراف اللعبة بالشكل الصحيح، أي أننا ما نزال فاشلين في الإمساك حتى بالبدايات، لأننا ما نزال لم نعمل ما يجب لإنجاز عناصر البداية..
فلننجز تلك البداية، كي نتحدث لاحقا عن حراكنا وعن ثورتنا.. إلخ..
إيانا أن نتحدث عن الإنجازات ونحن ما نزال لم نضع أقدامنا على بداية الطريق المؤدي إلى الإنجاز..
فالنظام ما يزال هو سيد الموقف..
إيانا والوقوع فريسة لانخداعنا بأنفسنا..
فهذا ما يريده النظام كي يبعدنا عن رؤية البداية الصحيحة للطريق الموصل إلى التغيير.. كل التغيير.. وبالتالي إلى التحرير.. كل التحرير..