انشقاق المثقفين وإرهاصات الثورة..
المصريون يعيدون إنتاج ثورتهم، والأردنيون يمهدون لها..
وسجال الثقافات هو ميدانها الرئيس..

أسامة عكنان

لكل نظامٍ سياسي ثقافتُه التي يرتكز إليها، ومثقفوه الذين يدافعون عنه ويتبنَّوْنه ويُرَوِّجون له. وبتلك الثقافة وبهؤلاء المثقفين، يعمل النظام على تأصيل سياساته وأيديولوجيته، وعلى تدعيم نفسه بين أفراد الشعب، مستخدما في ذلك ما يتاح له من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بدءا من المدارس، مرورا بدور العبادة، وانتهاء بكافة وسائل الإعلام وبالجامعات ومعاهد التعليم العالي، مستهدفا المواطن منذ ولادته، عبر إعادة إنتاج الثقافة الأسرية التي يتأسس في أحضانها ويتكون من خلال تقاليدها، ومتطورا معه خطوة بخطوة، مؤسسا للولاءات في نفسه وروحه وعقله، بما يتناسب مع تركيبة المصالح التي يمثلها ذلك النظام.
ومع ذلك فإن الأنظمة البوليسية لا تستطيع منعَ بروز التناقضات بينها وبين هؤلاء الذين قضت عقودا من الزمن وهي تحقنهم بكل عناصر الولاء المزيَّف والتغييب الثقافي، إلى الحد الذي يتحولون معه إلى مادة خام لحراكٍ شعبيٍّ يطالب بالتعديل والتغيير والتطوير، بل وبالهدم وإعادة البناء أحيانا.
تُرى ما الذي يجعل أولئك الذين لم يعرفوا عبر كافة مؤسسات التنشئة التي عاشوا حياتهم وهو يتمرَّغون في أكاذيبها، ثقافةً غير تلك التي يروِّج لها النظام، والذين لم يروا في محيطهم وفي بيئتهم إلا كل ما يؤسس لسياساته ويُنتج الولاءات له ولرموزه، يشعرون بتناقضهم معه وبرغبتهم في التحرك ضده حراكا قد يبدأ إصلاحيا ينطوي على نوع من المهادنة النسبية، وقد ينقلب إلى حراك ثوري غير مهادنٍ؟
أي نوع من الثقافات يتكون بعيدا عن أعين النظام وعن وقع آلته القمعية وعن كل ماكينات بلدوزره الإعلامي والتربوي، فيُنْتج كلَّ ذلك التناقض الذي لا يقبل المساومة، ويبدأ بالتململ والتحرُّك، إلى أن يتمردَ فيثور على بناءٍ متجذِّر الأساسات؟
يحلو للكثيرين القولُ بأن تطورَ وسائل الاتصال، وتحولَ العالم من خلالها – وعلى رأسها السماوات المفتوحة عبر الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية – إلى قرية صغيرة، يتم التواصل بين أفرادها بأسهل وأسرع مما كان يتم به التواصل التقليدي بين أفرادٍ يقيمون في شارع واحد في قرية صغيرة في الريف، هو الذي أتاح الفرصة للناس كي يتعارفوا ويتبادلوا المعارف ويطلعوا على أنماط حياة مختلفة وعلى ثقافات متباينة.. إلخ، فكان من الطبيعي أن يساعدَ ذلك على معرفة مواطنِ الخلل في بُنى الأنظمة السياسية البوليسية، وعلى بَدْءِ تكوُّن عناصر التناقض معها.
إلا أن واقع الحال من خلال الاستقراء يردُّ على هذه النظرية ويفنِّدُها إلى حدٍّ كبير. فأعظم الثورات ومعظمها، حصل في المجتمعات في كل العهود والأزمنة، وقبل أن تكون هناك وسائل اتصال عالمية كتلك التي يظن الكثيرون أنها هي التي أتاحت الفرصة لكثرة الثورات وسهولتِها، والتي ساعدت الشعوبَ من ثمَّ على تفعيل تناقضاتها مع الأنظمة البوليسية. هذا فضلا عن أن تاريخ الإنسانية كلِّه، حتى في الأزمنة التي لم تكن فيها وسائل اتصالات بالمعنى المادي لوسائل الاتصالات موجودة أساسا، شهد ثورات غيرت مجرى التاريخ ومصير الأمم والشعوب، مثل "الثورة الأميركية، الثورة الإنجليزية، الثورة الفرنسية، الثورة البولشيفية، ثورات الوحدة الألمانية، ثورات الوحدة الإيطالية، ثورات الزنج والقرامطة وغيرهما في ظل الإمبراطوريتين الأموية والعباسية العربيتين، ثورة العبيد في إسبرطة، ثورات تحرر دول أميركا اللاتينية خلال القرن التاسع عشر، الثورات ضد الاستعمار خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثورة عرابي وسعد زغلول وقبلهما ثورة مقاومة نابليون في مصر.. إلخ".
علاوة على كل ما سبق فإن أهم الثورات التي حررت الشعوب من الاستعمار والتي أعادت إنتاج المجتمعات غير المستعمرة وفق أنظمة عدالة وحرية مختلفة عن سابقتها، حصلت خلال القرن العشرين في الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية ولغاية انهيار الاتحاد السوفياتي وتَفَكُّكِه نهايةَ العقد التاسع، وهي الفترة التي كان معظم جزئها الأول لا يعرف غير الإذاعات وسيلة للتواصل – وهي وسيلة لم تكن متاحة في المجتمعات بالشكل الذي يسمح بالقول بأنها وسيلة تواصل حقيقية بين الناس – والتي دخل في جزئها الباقي جهاز التلفزيون مَحَلِّي البث أداة جديدة للتواصل، وهي الوسيلة التي عانى انتشارها بين الناس من صعوبات أكبر من صعوبات انتشار المذياع.
أي أن القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية لم تدخلا حياة البشر كأدوات للتواصل والاتصال إلا بعد حدوث كل تلك الثورات في العالم. لا بل إن الواقع يؤكد على أن وتيرة الثورات قد هدأت وخفت بشكل ملفتٍ على مدى العقدين الأخيرين اللذين شهدا اقتحام الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية عالم الاتصالات والتواصل بين الناس. فأربعون عاما من التواصل عبر المذياع، ثم عبره وعبر التلفزيون المحلي البث، غيرت وجه العالم، بينما عشرون عاما من التواصل غير المسبوق عبر الشبكة والفضاء، لم تحدث خلالها أي ثورة اجتماعية بالمعنى الحقيقي الذي كان يحدث في الحقبة السابقة.
وإذن فعلينا أن نبحث عن إجابة على تساؤلنا السابق في مكان آخر، وأن نفهم من واقع الحال أن لوسائل الاتصال والتواصل المعاصرة دورا في الثورات غير الدور الذي تُؤَسِّس له الإجابة على تساؤلنا السابق إياه.
إن وسائل الاتصال وأدوات التواصل بين الناس لها دور تنظيمي وإجرائي وإداري وترويجي في كل نوعٍ من الحراك يحتاج إليها، وليس لها أي دور تكويني أو تخليقي فعلي في ذلك الحراك، بما في ذلك القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية، بوصفها آخر ما توصل إليه الإنسان من أدواتٍ للتواصل بين البشر. وعلينا ألا ننسى أن النظام البوليسي نفسه يستخدمها أيضا لأجل الترويج لثقافته، وكثيرا ما ينجح في تحقيق هوامش لا يستهان بها في معركته.
فالإعلام الأميركي – على سبيل المثال – وهو الإعلام المروِّج لثقافة الاستهلاك، ولحضارة الغريزة، ولاقتصاد السوق، وللبراجماتية المطلقة، وللميكافيللية السياسية، ولديمقراطية الثروة، هو من التغَوُّل والاتساع والهيمنة بحيث غدا يُعتبر الأقدر بلا منازع على استخدام كل وسائل الاتصال والتواصل في العالم، وعلى رأسها الفضائيات والشبكة العنكبوتية، للترويج لتلك الثقافة البائسة، التي أصبحت بفعل ذلك التَّغَوُّل هي الأكثر انتشارا في العالم على مختلف الصعد رغم بؤسها الأخلاقي. وكل من يستخدمون هذه الأدوات ممن يعارضون الثقافة الأميركية في العالم، ما يزالون في واقع الأمر يتحركون على هوامش محدودة مما يتاح عبر تلك الأدوات.
خلاصة القول أن أدوات الاتصال والتواصل، هي مجرد أوعية وأسلحة تُستخدم إما بكفاءة وإما بعدم كفاءة، في معركةٍ هي في الأساس معركةٌ بين ثقافاتٍ ومنظوماتِ قيمٍ. فكل أدوات التواصل تلك لا قيمة ولا أثر ولا دور لها في صنعِ ثورةٍ، إذا لم تكن تلك الثورة قد تكوَّنت أَجِنَّتُّتها وتطورت ونمت في أوعية ومؤسسات وقنوات البُنية الثقافية للمجتمع.
إن التناقضات بين البُنى الفوقية في "نظام اللاحرية" و"اللاعدالة"، وبين البُنى التحتية في المجتمع تولد وتتخلَّق وتتكون وتتطور بشكل حتمي وضروري في البُنى المجتمعية نفسها، وتبدأ بفرزِ ثقافتها بشكل أو بآخر، بتسارعٍ أو بتباطؤٍ، بشكلٍ منظم أو غير منظم، في ضوء مُكَوِّنات الحراك الثقافي في المجتمع، وبصرف النظر عن مستوى التطور في أدوات الاتصال والتواصل فيه. إن نظام "اللاحرية" و"اللاعدالة" قادر بطبيعته المتعارضة مع ناموس الحرية والعدالة الكوني، على فرز هذه الثقافة المتناقضة مع بُناه الفوقية، في بُنى المجتمع التحتية، سواء كان هذا النظام في مستوى تطور الولايات المتحدة على صعيد وسائل الاتصال والتواصل، أو على مستوى تخلف المجتمعات القبلية البدائية في دول إفريقيا السوداء. في ضوء ما سبق، من الطبيعي التأكيد على أن إرهاصات أي حراك شعبي، إصلاحيا كان هذا الحراك أو ثوريا، تتجلى أول ما تتجلى في تجاذبات الساحة الثقافية في المجتمع.
إن التناقضات بين البناءين الفوقي والتحتي، تتكون في العمق، حيث العلاقات الإنسانية في أبسط مُكَوِّناتها، والتقاليد الاجتماعية في طابعها الأسري والعائلي والجِواري الحميم، وحيث الاحتياجات الحياتية اليومية من أكل وشرب ولبس واستمتاع بالحد الأدنى من ملذات الحياة المتاحة لقلة يُرى أنها مستأثرة بأفضل ما في البلاد من خيرات بدون سبب مفهوم، وأنماط المعاناة المختلفة، وحيث تدور المقارنات بين ما يحدث هنا في أحياء الفقر، وما يحدث هناك في القصور وأحياء الثراء، وحيث تتكون أَجِنَّة التساؤلات حول العدل والظلم، وحول الحرية والعبودية، وحيث الحديث عن آلة النظام وعن قمعه، وعن الأمن والشرطة والجيش، وحيث الخوف أو الشجاعة، وحيث التردد أو الإقدام، وحيث تبدأ معادلات الفرز الطبقي تتكون على مستوى الإحساس والشعور، مرفقة بكل ما ينبثق عن الذهن الجمعي من أساطير ومواقف وأخلاقيات، في جلسات المقاهي، ومسامرات الأسر، وتطلعات الأطفال وهم يلعبون في الأزقة والطرقات، وادعاءات المراهقين وهم ينسبون لأنفسهم ما يعرفون أنه أبعد ما يكون عنهم لمجرد أنهم سمعوا عنه أو رأوه هناك لدى مراهقي مناطق يحلمون بها فقط، ولا يأملون بمضاهاتها إلا في كذبهم البريء بعضهم على البعض الآخر في العشوائيات وبين القبور، أو على أكثر تقدير وهم يتجولون في الشوارع الراقية، فقط ليتفاخروا فيما بينهم بأنهم لامسوا تلك المناطق الساحرة بأرجلهم وبأنفاسهم المسمومة بالفقر والألم، ومشاعر المراهقات وهن ينظرن نظرة الحالمات بالمستحيل إلى مستقبلٍ بسيط في بيت زوجية هادئ هانئ، بغرفة نوم وثيرة في حي هادئ، وحزن الشباب المُقَيَّد والمحروم، وأسف الشيوخ على سوء الحال، وحيث تبدأ بالتشكل الأَجِنَّةُ الأولى للرغبة في المساواة وفي الامتلاك كما يمتلك الآخرون، وفي التَّحَرُّر وفي الانطلاق، وهي الأَجِنَّة التي تتطور مُتَحَوِّلَةً إلى تساؤلات عن الحق والواجب، وعن الوطن والمواطنة، وعمن له الحق وعمن ليس له ذلك، وعن الدولة والسلطة، وعن النظام والشعب.. إلخ.
نعم، هكذا وهناك تتكون التناقضات التي تتحول مع مرور الوقت ومع استفحال الحالة، إلى مردود ثقافي يُجَلِّي نفسَه في أشكال مختلفة من الرفض أو التحدي أو التعبير أو التَّنظير أو الإقدام، التي يُكَشِّر النظام البوليسي عن أنيابه في التعامل معها، كي يمنعَها حتى من الكشف عن أن حالة من الرفض له موجودة في المجتمع، وإن تكن نسبية وقليلة، إلى أن تبدأ بالتأطُر والتَّحَوُّل إلى ظاهرة تُسَمى في علم الثورات بـظاهرة "انشقاق المثقفين". لا مجال لثورة في مجتمع لم تتجلَّى فيه هذه الظاهرة، لأن في عدم تجليها دليلا على أن مُسَبِّبات الثورة لم تَتَّخِذ بعد الطابع القادر على تكوينها وتخليقها على شكل حراكٍ فاعل.
إن أي ثورة يعَبِّر عنها حراك شعبي ما ضد نظام من "أنظمة اللاحرية" و"اللاعدالة"، يجب أن تُخاضَ أولا وعلى مدى زمني تقرره الطبيعة الجيواجتماعية والجيوسياسية للمجتمع، على صعيد الثقافات. ثقافةٌ تدافع عن النظام وعن شرعيته وعن عدالته وعن حقوقه وعن إنجازاته وعن محبة الناس له وولائهم لرموزه، وثقافة تقاومُ ذلك وتكشف عن سوءات النظام وقمعه وظلمه وقلة إنجازاته. وإن لهذه الثورة الثقافية ثمنٌ قد يكون باهظا، يأخذ طابعا قمعيا حينا وطابعا تنازليا حينا آخر، إلى أن تصبح الساحة المجتمعية مؤهلةً لتحويل المعركة الثقافية إلى معركة جماهيرية، بعد أن تبدأ الجماهير بتبني مقولات المثقفين، وترى فيها تعبيرا حقيقيا عن حالتها وعن طموحاتها وآمالها الحبيسة في الصدور، فتبدي استعدادها لأن تكون وقودا لها.
لقد كشفت ثورة مصر – وقبلها ثورة تونس – عن أن حالة الانشقاق الثقافي كانت قد وصلت إلى مستوى من النُّضج يتيح فرصة حقيقية ذات فعالية للحراك الشعبي. فإذا تجاوزنا القوى السياسية التقليدية التي عّوَّدَها تاريخ تعاملها مع النظام البوليسي المخلوع على أن تقيِّد نفسها بأجنداتٍ صارمةٍ غير مَرِنَة، حرمتها التواصل مع الجماهير، ذلك النوع من التواصل التثويري. فإننا نستطيع التأكيد على أن ظهور "حركة كفاية"، وبعدها حركة "السادس من أبريل"، أرهص بأن حالة الانشقاق الثقافي قد تحررت من صورتها النمطية التي كانت تُعَبِّر عنها القوى السياسية التقليدية، والتي كان الإخوان المسلمون على رأسها كلها.
لقد أظهر عام 2008 أن الإعداد للثورة المصرية قد بدأ فعلا، ولكن بثقافة ثورية جديدة قفزت على كل الثقافات الإصلاحية التي دَثَّرَت طروحات القوى السياسية التقليدية التي اتُّهِمَت معظمُها بأنها كانت تمثل قوى معارضة كرتونية تعمل ضمن عباءة الشرعية الدستورية التي يعلم الجميع أنها شرعية لا تتيح أي أمل للتغيير في ظل حصر سلطات ذات طبيعة ثيوقراطية في يدي الرئيس المخلوع.
لقد تجلَّى هذا التشخيص للحالة الثقافية في الشارع المصري، خلال يوميات الثورة ومنذ اللحظة الأولى. إن الاصطفافات الثقافية والسياسية التي فرضتها أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011 وما تلاها من أيام، أظهرت أن هناك ثلاث ثقافات تتصارع على الأرض، وليس ثقافتان فقط كما تقضي بذلك طبيعة الثورات في العادة. كانت ثقافة الثورة المطالبة بإسقاط النظام بكامل مؤسساته، بدءا بمؤسسة الرئاسة، للبدء بأي عملية تفاوضية بعد ذلك مع الجيش، بصفته ضامنا للانتقال الديمقراطي وليس بديلا للنظام المخلوع، هي الثقافة الأولى والقائدة للثورة، ممثلة في مجموعات شبابية بدا واضحا أنها على تنوعها كانت موحدة في هدفها الرئيس المتمثل في إسقاط النظام.
أما الثقافة الثانية فهي ثقافة النظام، التي راحت تقاوم بكل ما أوتيت من قوة لتفريغ الثورة من محتواها ولإفشالها، مستخدمة الآلة الإعلامية التي كانت تمتلكها، علاوة على جهازها البوليسي الضخم الذي حاولت توظيفه بعد فشله الذريع في مقاومة الثورة في أيامها الأولى، في ضرب خطوطها الخلفية وهي الجماهير. وكانت المعركة بين الثقافتين شرسة وعنيفة انتهت بانهيار ثقافة النظام بانهيار النظام نفسه.
أما الثقافة الثالثة التي كانت متواجدة على الساحة على مدى الأيام العشرة الأولى من الثورة بخجل ومحاولة واضحة لإيجاد موطئ قدم فاعل لها في قرارات "ميدان التحرير"، ثم راحت تخبو حينا وتتفاقم حينا آخر، إلى أن استطاعت أن تتحكم في وجهة نتائج الفعل الشعبي الأول على الأرض وهو "إسقاط الرئيس"، فقد مثَّلَت في الواقع أخطر الثقافتين على ثقافة الثورة، لأنها بميوعتها أصبحت شديدة الإرباك للثائرين وللجماهير. لا أحد من حيث المبدأ يمكنه أن ينخدِعَ بثقافة النظام، إذا كان مستوى الوعي الثوري عاليا، وهو قد كان كذلك بالفعل، فهي – أي ثقافة النظام – مفهومة وممارسات النظام وادعاءاته مفهومة أيضا.
لكن ثقافةً مائعة ومتلوِّنة تصنِّف نفسها على أنها ضد النظام ومعارضةٌ له، لتمارسَ على الأرض أعمالا تُشِّتِت جهودَ الثائرين وتربكُ خطوطَهم الخلفية وصفوفَهم الداخلية، تنفيذا لأجندات تنظيمية وحزبية ضيقة، جوهرها إصلاحي عقيم، بعباءة ثورية ضاعت بوصلتها، بعد أن شعر أصحاب تلك الأجندات بأن النظام المترنِّحَ مستعدٌّ للتجاوب معها في هذه المرحلة بسبب الضغط الثوري الحاصل عليه، وهي أجندات يُفترض أن المرحلة قد تجاوزتها إلى الأبد..
نقول.. إن عملا كهذا يعتبر عملا مشبوها، هو في جوهره غير مهتم بالثورة بصفتها ثورة، بقدر ما هو مهتم بأجندته، ربما لأن هذه الثورة جاءت على غير تخطيط منه، وقافزةً على أجندته الضيقة، دون أن يدرك وربما لأنه لا يريد أن يدرك، أنها ثورةٌ انطلقت لتضعَ أجندتَه على المَحَك، فارضةً عليه أن يطوِّرَها ويقفزَ بها إلى الأمام، لا أن يحاول مساندة النظام بطروحاته المائعة، كي يُحَوِّلَ الثورةَ إلى حركة إصلاحية، مقابل ثمنٍ بخسٍ يعود على الحزب وعلى التنظيم بمكاسب آنية، ولا يعود على الشعب الذي قدم كل تلك التضحيات بأي مكاسب حقيقية تتناسب مع الزخم الثوري الحاصل في الشارع.
وهو ما حاول النظام ممارستَه من خلال الحوارات المريبة التي راح يجريها مع هذا الطرف أو ذاك في الأيام الأولى، محاولا بثَّ الفرقة، والتأكيد للجماهير على أن أهم القوى السياسية والشبابية في هذه الحركة قد بدأت تقبل بعروضه الإصلاحية، دفعا بتلك الجماهير إلى تغيير خياراتِها والتخلي عن الثورة والقبول بالحلول الوسط. لقد كاد تأثير القوى السياسية وأجنداتها الضيقة التي قدمتها على أجندة الثورة من خلال تهافُتِها على محاورة جثة النظام المحتضر، أن يودي بالثورة، أكثر مما كادت أن تفعل به ذلك، ممارسات النظام البوليسية والخداعية التي تابعناها على مدى الأيام الثمانية عشر لهذه الثورة المجيدة..
وما لم يكن واضحا منذ البداية لدى صناع الثورة، فانخدعوا به واستدرِجوا إليه ووقعوا في شباكه، وهو تسليم بقايا النظام مهمة استكمال إسقاط النظام، ظهرت نتائجه المؤسفة بعد عام ونصف من إسقاط الرئيس مبارك وحاشية حكمه السياسية والأمنية، عندما تم الإبقاء على حاشية حكم الرئيس "العسكرية" والقضائية" كي تتولى مسؤولية "تطهير البلاد"، وكأن "تطهير البلاد"، لا يعني في أول ما يعنيه تطهيرها من بقايا النظام التي تجسَّدت في "الجيش" وفي "القضاء"، أولا وقبل كلِّ شيء!!!!!
فمنذ اللحظة التي أحيلت فيها مسؤولية المرحلة الانتقالية – التي يفترض أن تسلَّم خلالها السلطة للثورة وللثائرين – إلى جيشٍ كان يحمى النظام السابق بكل الكوارث التي جلبها على البلاد والعباد، وعلى الأمة بأكملها، بدل أن تحال إلى "مجلس قيادة ثورة" يتشكل في ميدان التحرير..
ومنذ اللحظة التي أحيلت فيها مسؤولية محاكمة رموز النظام السابق إلى "قضاء النظام وقوانينه وتشريعاته نفسها" التي أقرتها مجالس شعبٍ كانت من النظام وبه وله، وتشرع لأجله، بدل أن تحال إلى "محكة ثورية"، تتشكل في ميدان التحرير، وفق مبادئ الثورة..
نقول.. منذ تلك اللحظة، كان واضحا أن الثورة المصرية التي تمَّ إيقافها في منتصف الطريق من قبل نصف النظام الباقي، تتعرض للانتحار، بتحالف واضح لا لٌبْسَ فيه، بين تلك البقايا أو "الفلول الحقيقية" التي هي الجيش والقضاء، وبين القوى السياسية التقليدية، التي تمثلت في جهتين متعارضتين بل ومتناقضتين أحيانا، إحداهما كانت تكتسب شرعيَّتها من النظام نفسِه بعملها ضمن الأطر والتشريعات التي كان يسمح بها لتزيين ديمقراطيته، والثانية ممعنة في أناها، مستغلة تاريخها المناهض للنظام ولشرعيته، لخداع شعبٍ ما فتئت تكذب عليه الكذبة تلو الكذبة، مبررة الكذبة بكذبة ألعن منها..
ليجد الثوار أنفسهم بعد انكشاف تفاصيل الخديعة ومجريات أحداثها، معنيين بواحد من أمرين:
فإما القبول بإعطاء النظام العائد على دماء الشهداء بشرعية ثورية وديمقراطية تمنحه القوة، كل تضحياتهم بساطَ ريحٍ يتربع فوقه رموزه الجدد الذين قبلوا ببتر بعض أعضائهم المتقيحة، فكانوا أدهى مستثمرين للثورة ولدماء الثوار، كي تعيش الأعضاء الأخرى متمتعة بشرعية العلاج الشعبي غير المكتمل..
وإما بإعادة إنتاج ثورتهم لتدارك الأخطاء التي وقعت فيها عندما قبلت بألا يكون لها "مجلس قيادة ثورة"، وبألا تكون لها "محكمة ثورية"، تستكمل بهما نصف منجزات الثورة الباقية..
فهل ينتج الشعب المصري ثورته الثانية، بعد أن سرقت ثورته الأولى واختزلت إلى عملية إصلاحية، أسقطت رئيسا وأبقت على نظامه ومنحته فرصة التسَيُد على البلاد بشرعية ثورية؟!
وهل نعي نحن في الأردن أننا بالفعل على طريق الثورة، بإزاء نظام بليد يأبى التعلُّم ويرفض تقديم أدنى درجات الاحترام لشعبه؟!
بل هل نعي أننا معنيون كي لا نقع في ما وقع فيه المصريون، وفي ما وقع فيه التونسيون إلى حدٍّ ما، بألا نقبل التعامل مع هذا النظام في أيِ شيء، وبألا نطلب منه أيَّ مطلب، فهو بأكمله، مؤسسة عرش وطبقة حكم وأجهزة أمنية وقضاء ومؤسسة عسكرية، لم يعودوا مؤهلين لإجراء أيّ إصلاحات، وعلينا أن نلزمه – أي النظام بأكمله – بالقبول بحلٍّ واحد ووحيد هو "حكومة إنقاذ وطني"، يحميها "الجيش" ويتحرك داخل حدود ولايتها المطلقة..
حكومة إنقاذٍ لا دور لغير الشعب وقواه الحية في تشكيلها، لا كي تفاوضَه وتحاورَه، بل كي تحيِّدَه وتنزعَ كل سلطاته، وتنشئ محكمتها الإنقاذية، وتعلق العمل بالدستور البائس الحالي، لتنشئ حزما من "قوانين الإنقاذ" لتسيير دفة البلاد، إلى أن تتم صياغة دستور جديد، تسير البلاد على هديه؟!!!
أيها الأردنيون، إما أن تفكروا على هذا النحو، وإما أن تعودوا إلى بيوتكم، وتُرَحِّلوا مآسيكم إلى أجيال قادمة تكون أوعى منكم وأشجع وأقدر على العطاء والمثابرة، لإنكم إذا لم تفكروا على هذا النحو، فإنما تنحرون حراككم بأيديكم قبل أن تنجزوا أي بند من بنوده!!!
ألا فلتنتبهوا..
اللهم إني قد بلغت.. اللهم فاشهد..