معرفة العدو نصف الطريق إلى الانتصار عليه
سلسلة مقالات "مترابطة" حول
"سايكولوجيا الشخصية الإسرائيلية"
كيف تفكر الصهيونية لتصهينَ اليهود وتُؤَسْرِلَهم؟! وكيف تواجهنا بهم يهودا تصهينوا فتأسرَلوا؟!
7 من 15
شعور الاستعلاء والدونية في التكوين السيكولوجي اليهودي

نستطيع منذ البداية أن نضع أيدينا على خاصيتين سيكولوجيتين متناقضتين ميزتا المناخ الذي تمت فيه تنشئة جيل رواد الصهيونية اجتماعياً.
1 - خاصية الشعور بالتميز والاختلاف عن الآخرين، وقد اتخذت هذه الخاصية في البداية شكل اعتناق فكرة النقاء العنصري والتفوق العقلي، ثم تعددت أشكالهابعد ذلك.
2 - خاصية الشعور بالاضطهاد، أبو بالدونية، على اعتبار أنه لا يحس بالاضطهاد إلا من غمرته مشاعر الدونية. ولقد استغرقت هذه المشاعر العقل اليهودي في تلك الفترة، حتى لو كان الأمر مُتَوَّهمًاً وغير حقيقي.
لقد كان لهاتين الخاصيتين الدور الأكبر في صياغة التكوين السيكولوجي لأولئك الذين قدموا من الغرب، وبالتحديد من وسط أوروبا وشرقها إلى فلسطين، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذين قامت على أكتافهم "دولة إسرائيل"، والذين تصدوا لصنع التجمع الإسرائيلي.. هذا يعني تحديداً أن التنشئة الاجتماعية التي تعرضت لها تلك المجموعة من اليهود التي عاشت في تلك الفترة وفي ذلك المكان، كانت تنطلق من هاتين الخاصيتين وتدور حول تدعيمهما، بحيث نجد فيهما التفسير لغالبية عادات وتقاليد وتصرفات تلك المجموعة.
ولكن ألا يوجد هناك تناقض حقيقي بين الشعور بالاستعلاء والتميز من جهة أولى، والشعور بالدونية والاضطهاد من جهة ثانية؟! ثم، ألا يعكس هذا التناقض نوعاً من العقد النفسية في التكوين السيكولوجي للإنسان اليهودي، خاصة إذا علمنا أن الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية لا يمكنهما أن يجتمعا في إنسان سوي واحد؟!
فكيف والحال أن هذين النقيضين المتنافرين قد اجتمعا في نفسية الشخص اليهودي؟!
في ظل مناخ انعزالي متمحور حول الدين وسلطة الحاخام والإيقاع التنظيمي ذي الطابع الاقتصادي الهامشي المنحصر في التجارة المتجولة وبيع الملابس المستعملة وفتح الخانات وعمليات الحياكة والصباغة والإقراض بالربا والصيرفة، تبلورت السمة السيكولوجية الأساسية للشخصية اليهودية الجيتوية التي عانت نوعاً من الانفصام في الرؤية، حالت بينها وبين القدرة على لفظ المشاعر المتناقضة والحياة بمشاعر منسجمة ومتوازنة، فظهرت هذه الشخصية وكأنها ساحة صراع غير منطقية لأكثر المشاعر تناقضاً وتنافراً.
وهكذا فقد أدى هذا الصراع في المشاعر إلى تناقض حاد في السلوك الذي راح يشكل مع مرور الوقت إطاراً رئيسياً تحددت من خلاله السمة الحاكمة للصيرورة التاريخية للشخصية اليهودية في تلك الحقبة من الزمن، والمتمثلة في عقدة التناقض بين الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية.
ولكن ماذا عن نشوء فكرة الإحساس بالاضطهاد لدى اليهود؟!
إن ما لقِيَته فكرة "اضطهاد اليهود عبر التاريخ" من إلحاح مستمر يفوق كل تصور من جانب المفكرين الصهاينة، لم يكن في الواقع هو المبرر الوحيد من الناحية السيكولوجية لامتدادها وانتشارها إلى هذا الحد. فلقد لقيت تلك الفكرة تدعيماً آخر من فكرة أخرى نشأت خارج الفكر الصهيوني وإن يكن بموازاتها، إلى درجة أنها كانت تبدو للوهلة الأولى وكأنها نقيض لها.. إنها فكرة أن اليهود هم سبب كل شرور العالم، وخلف كل كارثة حلت أو ستحل بالبشرية.
إن هاتين الفكرتين تعبران في الواقع عن الحقيقة السيكولوجية نفسها، وتخدمان الهدف السيكولوجي نفسه. أي أن مناداة الفكر الصهيوني بأن اليهود لقوا ومازالوا يلقون عنتا واضطهاداً منذ ؤجدوا حتى اليوم، تجد في القول بأن اليهود هم سبب كل شرور العالم، دليلاً على ذلك العنت والاضطهاد، وهو دليل يكتسب قوته من صدوره عن الجانب الذي يُعد نقيضاً للفكر الصهيوني.
ولعل حرص الصهيونية على أن يظل ذلك الدليل محتفظاً بقوته، هو ما يفسر حرصها على إبراز أن اليهود هم نقيض النازية وضحاياها. فلقد حرص الفكر الصهيوني حرصاً شديداً على إضفاء صورة التناقض على طبيعة العلاقة بين مصدري هاتين الفكرتين، النازية كمصدر لفكرة أن اليهود هم سبب كل شرور العالم، والصهيونية كمصدر لفكرة أن اليهود مضطهدون، فيما الحقيقة أنها علاقة ظاهرها التناقض وباطنها التطابق.
ومع الأسف الشديد فإن الفكر العربي المعاصر فيما يتعلق بخطابه المُشَخِّص لليهودية والصهيونية زاخرٌ بمفردات الترويج لهذه الثنائية الصهيونية النازية، عبر الترويج لعنصرها النازي المتمثل في اعتبار أن اليهود هم سبب شرور العالم، ليتقمص هذا الفكر بالتالي وكنتيجة لهذا الترويج، القناعة بالعنصر الصهيوني لهذه الثنائية، والمتمثل في اضطهاد اليهود، لتكون النتيجة النهائية من كل ذلك أن هذا الخطاب أصبح يتحدث عن الصهيونية ومن حيث لا يدري بلسان حالها.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره "محمد فرج" في كتابه الصادر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة عام (1967) والمعنون بـ "فلسطين عربية":
".. نحن لا نعني بذلك أن الصهيونية كفكرة وُجِدَت في القرن التاسع عشر فقط، بل هي فكرة قديمة تمتد بجذورها إلى الوقت الذي شُّرَد فيه اليهود من فلسطين فيما قبل الميلاد".
ويقول "عبد الراجي" في كتابه الصادر عن دار المعارف بالقاهرة في عام (1964) والمعنون بـ "الشخصية الإسرائيلية":
".. لقد دأبنا جميعاً في الفترة الماضية على التمييز بين اليهودية والصهيونية، والواقع أننا وقعنا بهذا في خطأ كبير، ذلك أن الدارس الموضوعي لحياة الشعب الإسرائيلي، يعلم أن هناك حقيقة هامة لا ينكرها باحث، بل لا ينكرها الإسرائيليون أنفسهم، فضلاً عن أنهم يعتزون بها ويدعون لها، وهي أن الإسرائيلية واليهودية والصهيونية ألفاظ مترادفة لمعنى واحد".
ويقول "على حسن الخربوطلي" في كتابه الصادر عن معهد البحوث والدراسات العربية عام (1964)، والمعنون، بـ "العلاقات السياسية والحضارية بين العرب واليهود":
".. إن العقلية اليهودية تختلف في تفكيرها واتجاهاتها عن عقلية البشر جميعاً. وإن هذا الاتجاه قد أحدث تأثيره في تاريخ العالم كله وحاول أن يفرض طابعه على البشرية جمعاء لكي يضعها تحت طاعة حكماء يهود .. فالسحر بجميع أسراره وأنواعه جاء من العقلية اليهودية، والإيمان بالأشباح وتحضير الأرواح ومخاطبتها جاء من هذه العقلية، والعرافة والتدجيل والتكهن بالمستقبل وقراءة الكف والنجوم والطوالع، كل ذلك جاء من العقلية اليهودية".
ويحدد "محمد دروزة" في كتابه الصادر عن المكتبة المصرية في بيروت عام (1964) والمعنون بـ "تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم"، صفات اليهود الملازمة لهم منذ القدم قائلاً:
".. تعصب شديد وأنانية قوية وأفق ضيق، كان وظل يبدر منهم ويسيطر على سيرتهم سواء في معاملتهم لغيرهم أو فيما كانوا يزعمونه لأنفسهم من اختصاصات وامتيازات"..
ويمضي دروزة ليؤكد أن لليهود جِبِلَّة خاصة عُرفت عنهم وعرفوا بها منذ القدم، وأن أخلاقهم متوارثة فيما بينهم جيلاً بعد جيل وعلى امتداد القرون المتطاولة منذ أسفار العهد القديم.
أما في كتابها الصادر عن معهد البحوث والدراسات العربية عام (1975)، والمعنون بـ "الإسرائيليات في الغزو الفكري"، فإن عائشة عبد الرحمن تُحكم سيطرة اليهود على كل شيء في هذا العالم، حتى لا يكاد يخرج من بين أيديهم شيء أو أمر على الإطلاق.. فهي تقرر في كتابها، أن اليهود هم الذين بثوا في المجتمع الإسلامي نِحلَ التناسخ والرجعة والمثنوية، مما ظهر أثره في تمرد الموالي بخراسان وإسقاط الدولة الأموية، ثم في ثورة الزنج والقرامطة في العصر العباسي، ونشوء الزندقة والإلحاد، وانتعاش النحل الدخيلة على العقيدة الإسلامية.
وهي لا تألو جهداً في كتابها كي تدعونا إلى الاهتمام بتقصي دور بني إسرائيل في إسقاط الخلافة الإسلامية وتمزيق أقطارها لتركها نهباً لأولياء اليهود وأتباعهم من المستعمرين!! فلقد تواطأت الصهيونية وأولياؤها الاستعماريون مع جماعة الدونمة التركية، ونجحوا جميعاً في عزل السلطان عبد الحميد الثاني، ثم ما لبثت معاهدة سايكس- بيكو التي عقدت عام (1916) أن قضت بتوزيع تركة الدولة العثمانية على المستعمرين وَرَثَة ثأر الصليبية وأولياء اليهود.
أما بالنسبة للحروب الصليبية في نظر الدكتورة عائشة عبد الرحمن، فإنها كانت صنيعة لعصابات اليهود سَدَنة خزائن المال في أوروبا والقابضون على الخيوط المحركة لقادة الصليبية والاستعمار، وكذلك كان الأمر بالنسبة للاحتلال الفرنسي للجزائر، والذي كان يحمل في ظاهره علم المطامع الاستعمارية لدولة أوروبية كبرى تريد أن تنافس بريطانيا العظمى في السباق على مناطق السيطرة والنفوذ، ولكن لحساب يهود فرنسا في الواقع، كان اجتياح المستعمرين الفرنسيين لأرض الجزائر وقبضتهم على كل مواردها الاقتصادية.
كما أن اليهود كانوا وراء العملية الرهيبة لاحتلال بريطانيا لمصر قبل أكثر من ثلاثين عاما من توقيع اتفاقية سايكس- بيكو. إلى أن فتحت بيوتهم المالية بفرنسا لتمويل الدعاية لمشروع حفر قناة السويس.. كما أن الكتاب يرثي لحال العالم تحت ما يسميه سيادة قوة الوثنية المادية لليهودية العالمية، التي جعلت من ساسة العصر وقادة الدول موجهي مصائر الشعوب، أحجاراً في اليد الخبيثة على رقعة الشطرنج.. وليس غريباً والأمر كذلك أن تكون الدعوة إلى القومية العربية جزءاً مرحلياً من هذا المخطط اليهودي الأخطبوطي الذي بدأ بإسقاط الدولة العثمانية.
خلاصة ما يريد الكتاب قوله، هو أنك أينما وليت وجهك شرقاً أو غرباً فاليهود أمامك، وحيثما نقبت في تاريخنا أو في تاريخ غيرنا، فأصابع "يهودا الأسخريوطي" واضحة فاعلة، وأياً كان الفكر الذي تتبناه أو يتبناه غيرك فأنت واقع لا محالة في حبائل حاخامات اليهود، سواء كنت قومياً عربياً أو ماركسياً أممياً أو حتى شعوبياً فرعونياً أو فينيقياً.
حتى النظريات والفلسفات لم تنج من كونها إفرازات يهودية شيطانية، تهدف إلى تدمير العالم.. ألم يفرد محمد قطب في كتابه "الإنسان بين المادية والإسلام"، وفي كتابه الأخر "التطور والثبات في حياة البشر" فصولاً تدرس "ماركس" و"دوركايم" و"فرويد"، وهم أكثر من أَثْرَوْا الفكر الإنساني الحديث بفلسفاتهم ونظرياتهم ورؤاهم العلمية الثاقبة، لا كمفكرين وفلاسفة ورواد نظريات، بل فقط كيهود ثلاثة أرادوا تدمير العالم بتشويه فكره وضرب الأديان فيه؟!
لقد أسهمنا بالقسط الأوفر في تبرير وتدعيم فكرة الاضطهاد التي نادى بها الصهاينة في دعواتهم، بأن روجنا بكل ما نملك من سذاجة وسطحية، إلى أكثر الأقاويل بعداً عن العلم والتفكير السوي، وهي أن اليهود يحركون العالم في كل شيء بخيوط سرية من وراء الكواليس.
عود على بدء، إلى فكرة الاضطهاد كما يعرضها ويقدمها الفكر الصهيوني، لنرى كيف قام هذا الفكر بجعلها تغطي زمناً مترامياً بمساحة التاريخ اليهودي كله. فهو قد قدمها لنا في صور أربع متتالية تاريخياً تغطي كل صورة منها مرحلة هامة من مراحل الصيرورة اليهودية عبر التاريخ. ويمكننا إيجاز هذه الصور فيما يلي..
1 - أقدم هذه الصور وأوضحها حجة، هي مع الأسف الصورة التي تحظى بالقدر الأكبر من التركيز والاهتمام من قبل مفكري الصهيونية، وبالقدر الأكبر من القبول والتسليم من قِبل الآخرين بمن فيهم من يطرحون أنفسهم كنقيض للصهيونية. إنها الصورة التي ترجع بالاضطهاد إلى عصر الشتات البابلي الذي يزعم اليهود أنه أعقب طردهم من فلسطين.
2 - أما في العصر الوسيط فقد تمثلت صورة الاضطهاد المستمر في أحياء الجيتو وما لقيه اليهود فيها من عنت ومعاناة، علماً بأن تلك الأحياء لم تكن بالظاهرة التي تعرض لها اليهود في كافة أنحاء العالم، كما أنها لم تكن عدوانية من قبل الآخرين دائماً، فكيف يمكنها والحالة كذلك أن تمثل حلقة من حلقات الاضطهاد المتواصل والمزعوم.
3 - أما في العصر الحديث فقد وجد الفكر الصهيوني ضالته، فيما أقدم عليه هتلر حيال اليهود، علماً بأن المعسكرات النازية كانت قاصرة على أماكن محددة ومحدودة، هي تلك التي سيطر عليها النازيون، وعلى عصر محدد ومحدود هو عصر هتلر، علاوة على أن المعسكرات النازية لم تكن موجهة ضد اليهود، بل ضد كل من ليسوا آريين، وربما أن من قتل وحرق في تلك المعسكرات من غير اليهود كالبولنديين، أضعاف من ذهبوا ضحية هتلر من اليهود.
4 - أما الآن فمضطهِدو اليهود هم العرب، حتى بعد انتزاع فلسطين عام (1948) واحتلال ثلاث دول عربية عام (1967) واجتياح لبنان واحتلال بيروت عام (1982) وارتكاب أكثر من ستين مجزرة مروعة ضد الفلسطينيين والعرب حتى عام (2008).
ومع أنه لا يكاد يخلو تاريخ شعب من الشعوب من اضطهاد وقع عليه بشكل ما وفي وقت ما دون أن تكون لذلك دلالة تستدعي العجب، إلا أن الحركة الصهيونية ومن ورائها الدول الاستعمارية الكبرى تتجاهل كل ذلك عند الحديث عن الشعوب الأخرى، فالشعب الجزائري احتلت أرضه (130) عاماً وقتل منه خلال هذه الفترة على أيدي الاستعمار الفرنسي ما يربو على الثلاثة ملايين ونصف المليون شخص. والأمريكيون لم يغادروا فيتنام إلا على أنقاض مدنها الكبرى وأراضيها الزراعية التي سمم الكثير منها لمئات السنين قادمة، وعلى أشلاء ثلاثة ملايين قتيل من شعبها، ومثلهم من المعوقين إعاقات دائمة. وما حدث للفلسطينيين لم يحدث لشعب من الشعوب عبر التاريخ. والعراق ما يزال ينزف بسبب الهجمة الأميركية "الديمقراطية"!!!
إلا أن جوهر الفكر الصهيوني وهو يدرك هذه الحقيقة التاريخية كان لابد له كي تأخذ الحالة اليهودية خصوصيتها، من أن يوفر لفكرة اضطهاد اليهود ثلاثة أبعاد هامة تمنحها هذه الخصوصية، وهي:
1 - الامتداد التاريخي، أي امتداد ذلك الاضطهاد واستمراره منذ وجود اليهود وحتى الآن، أي منذ العصور القديمة وإلى العصر الحديث مروراً بالعصور الوسطى.
2 - الامتداد الجغرافي، أي أن ذلك الاضطهاد قد شمل اليهود جميعاً مهما تباعدت بينهم شقة المكان، ومهما تباينت ظروف الأوطان التي اتخذوها مستقراً لهم، يستوي في ذلك يهود الشرق مع يهود الغرب، ويهود الشمال مع يهود الجنوب. أي أن اليهود مضطهدون أينما وجدوا، ما يؤسس لفكرة أنهم مضطهدون لأنهم يهود، ما يمثل المقدمة الطبيعية لنشأة الفكر العنصري لدى اليهود.
3 - الفارق الكيفي، أي أن الاضطهاد الذي وقع على اليهود لا يعادله أي اضطهاد وقع على غيرهم في أي زمان أو مكان، أي أن أحداً لم يلق ما لقيه اليهود من العنت والعذاب.
إلا أن "يوري إيفانوف" في كتابه "الصهيونية حذارٍ" يفند هذه الفكرة قائلاً:
"أن التأكيد على أن شعباً ما أو قومية معينة، قد عانت من العذاب أكثر من أي شعب آخر في العالم وعلى امتداد التاريخ الإنساني كله، لا يعني فقط تشويه الواقع التاريخي جرياً وراء إثارة نعرات التعصب القومي الذميم، بل هو أيضاً انزلاق بالغ الخطورة إلى مواقع العنصرية".
وعلى الرغم من التعارض الظاهر الذي يبدو للوهلة الأولى بين الإحساس بالدونية والاضطهاد من جهة والإحساس بالتميز والتفوق من جهة أخرى، إلا أن ثمة علاقة وثيقة تربط من الناحية السيكولوجية بين هذين الإحساسين المتناقضين ظاهرياً، بصرف النظر عن كونها علاقة سبب بنتيجة، أو علاقة جوهر بمظهر، أو أنها مجرد علاقة تآنٍ أو تتالٍ، وفي هذا السياق فإن التاريخ يحمل لنا نموذجين لا نكاد نجد من يتناول قضية تمايز مجموعة معينة من الناس عن بقية البشر إلا ويشير إليهما، أياً كان موقفه من قضية التمايز ذاتها، أو من قضية هذا النموذج أو ذاك. الأول هو النموذج الألماني أو قضية النازي المستندة إلى فكرة نقاء العرق الآري. أما الثاني فهو النموذج اليهودي أو قضية التميز الصهيوني المستند إلى فكرة نقاء ما يسمى بالجنس أو بالعرق اليهودي.
ما يلفت الانتباه في الموقف الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً حيال النموذجين العنصريين، النازي والصهيوني، هو حالة التناقض والازدواجية غير المبررة. ففي الوقت الذي تم خوض الحرب العالمية الثانية باشتراك فاعل من الولايات المتحدة للقضاء على النزعة العنصرية النازية المعادية للإنسانية والتي راحت تهدد البشرية والحضارة الإنسانية القائمة على عدم التفرقة العنصرية. نجد حلفاء الأمس ضد المحور العنصري النازي هم أنفسهم حلفاء اليوم للمحور العنصري الصهيوني باستثناء الحالة السوفيتية التي لها خصوصيتها التي لسنا في معرض مناقشتها هنا.
ففي الوقت الذي لا يختلف فيه عاقلان أو مفكران محايدان أو محللان نفسيان أو عالما اجتماع أو سياسيان نزيهان على أن الصهيونية نزعة عنصرية كالنزعة النازية ولا فرق إن لم تتفوق عليها في هذا المجال، إلى درجة أن عَبَّرَ العالم عن هذا الإقتناع في القرار التاريخي الذي وصم الصهيونية بالعنصرية في الأمم المتحدة، فإننا نجد أن من وصموا النازية بالعنصرية بالأمس القريب يساندون الصهيونية التي أجمع العالم على عنصريتها، ويفعلون المستحيل كي يلغوا قرار الأمم المتحدة سالف الذكر.. ما معنى هذا؟!
المعنى واضح ولا يحتاج إلى كثير فذلكة. أعداء النازية بالأمس لم يعادوا فيها عنصريتها بالدرجة الأولى، بل طرحها لنفسها منافساً استعمارياً شرساً للاستعمار التقليدي الفرنسي والأنجلوساكسوني، هذا لا يعني أن النازية لم تكن عنصرية، فهي قد ربطت عنصريتها بنزعتها الاستعمارية الطامحة والصاعدة، ولكن عنصريتها لو لم تكن خطيرة وذات تهديد، أو لو عملت في إطار يصب في خانة المصلحة الاستعمارية التقليدية، لتم التغاضي عن عنصريتها، بل ربما لتم توظيف تلك العنصرية بشكل ما، كما يتم حالياً توظيف العنصرية الصهيونية المساندة للخندق الاستعماري التقليدي والمتحالفة معه والناشئة لخدمة مصالح هذا الاستعمار.
ولكن وحسب ما تقتضيه طبائع الأمور، كان على المؤسسة الاستعمارية التقليدية أن تلعب بأكثر الأوراق قدرة على تحشيد العالم ضد النازية، فعالمٌ يتحرر لن يقبل أو يتفهم الحرب ضد الألمان على قاعدة منعهم من تقاسم المستعمرات مع ناهبيها القدامى، فكان لابد من استدرار عطف ومساندة هذا العالم بإبراز المستعمرين القدامى وهم يحاولون الحفاظ على مستعمراتهم ومناهجهم الاستعمارية، كمن ينقذ العالم من عنصرية بغيضة قادمة. أما الصهيونية فلا داعي لإنقاذ العالم منها لأن الإمبريالية بحاجة إليها وحاجتها إليها حاجة حقيقية ووجودية ومصيرية.
عود على بدء.. من هم اليهود الذين استغرقهم الإحساس بالتمايز (العنصري) والمستند إلى إحساس أعمق بالدونية؟!
إن الواقع يكشف عن حقيقة بالغة الدلالة ألا وهي أن هذا الشعور بالتمايز لم يكن بالشعور العام الذي يشمل اليهود جميعاً في شتى أنحاء العالم، بل هو قد كان متمركزاً في يهود وسط وشرق أوروبا، ونحن نعلم – كما مر معنا - أن غالبية جيل "الحالوتس" الذي تعتبر تنشئته الاجتماعية نقطة البداية في معرفة التكوين السيكولوجي للإسرائيليين، قد هاجرت إلى فلسطين من وسط وشرق أوروبا، وبالتالي فإن لنا أن نسلم بأن عنصر الشعور بالتمايز كان ضمن العناصر الأساسية التي تضمنتها تنشئته الاجتماعية، وبالتالي فقد أصبح هذا الشعور ضمن مكونات بنيته السيكولوجية.
لكن الأديب الصهيوني "حاييم بريير" الذي استوقفه هذا الإحساس الأجوف بالتمايز وحَيَّرَه، جعله يتساءل باندهاش قائلاً:
"من أين جاء هذا الاحتقار من جانب اليهود للأغيار والشعور بالسمو عليهم؟! هل كان اليهودي عديم الشعور حقاً وميت الأحاسيس إلى درجة لم يشعر معها بأن حياة الأغيار الذين يحتقرهم، أكثر غنىً وأكثر جمالاً من حياته؟! كلا إن هذا مستحيل، ونحن لا نستطيع أن نصدق هذا. فإذا كان هناك احتقار للأغيار، فلم يكن ذلك سوى حقد طبيعي يشعر به الفقير تجاه الغني والراهب تجاه الفارس والعاجز تجاه القادر. إن هذا الاحتقار لم يكن سوى استسلام لنصيبنا في الدنيا، وأحياناً نوعاً من العزاء لآمالنا في العالم الآخر، يتلوه صرير أسنان وغضب داخلي عن وعي أو عن غير وعي".
لا نعتقد أن هناك وصفاً أدق وأوضح وأشمل وأعمق لمشاعر التمايز عند اليهود مما قاله أحد كبرائهم "حاييم بريير". لكن هذا التعالي من قِبل اليهود يخلق لديهم حالة من الدوران في حلقة مفرغة من تناوب عنصري التعالي والاضطهاد على مشاعرهم. فبإزاء تعالٍ يهودي يندفع الاضطهاد نحوهم، وهذا الاضطهاد يؤدي بدوره إلى مزيد من مشاعر الاضطهاد والدونية والظلم، لا مهرب منها ولا مفر إلا في المزيد من التمسك بالتعالي. وهكذا يتعقد الموقف وتتشابك حلقاته، وتتداخل الأسباب بالنتائج، ويمتزج الفعل برد الفعل، بحيث يصبح الأمر في نهاية المطاف وقد غدا من الصعب معرفة أيهما أعمق جذوراً وأشد تأثيراً، أهو تعالي اليهود وعزلتهم، أم هو اضطهاد الآخرين لهم.
لقد اختلطت عقدة الشعور بالاستعلاء عند اليهود بعقدة الشعور بالدونية مُشَكِّلَةً اختلالاً واضطراباً في الأداء السيكولوجي لديهم. ولقد عَبَّرَ الأديب الصهيوني "حاييم بريير" عن ذلك بقوله:
"يُجمع كتاب تاريخنا على أن أجدادنا يهود الجيتو القديم كانوا يحسون بنوع من الكبرياء والسمو بالنسبة للجويم، حتى عندما كانوا يقبلون يدي أحدهم أو يركعون أمامه".
ولا تقف عقدة الشعور بالاستعلاء العنصري في التكوين النفسي اليهودي عند حد، بل هي تصل إلى درجة الإيمان العميق لدى اليهودي بحقارة أمم العالم، عاكساً ذلك كله في تعبيرات لغته التي يستخدمها، فهو يستخدم ألفاظاً مثل "جوي"، التي يشير بها إلى الشخص غير اليهودي، وتعني "القذارة المادية والروحية والكفر"، ومثل "عاريل"، ومعناها "الأقلف"، أي غير المُخَتَّن الذي يبقى بدائياً وفطرياً فيظل قذراً وكافراً في آن واحد، ومثل "منزيم"، أي "ابن الزنا"، وهي لفظة تدل في أسفار العهد القديم على الشعب المختلط الأنساب، وقد خصصها اليهود فيما بعد للمسلمين.
وهكذا يتضح لنا أن الفكر الديني اليهودي قد صاغ العقلية اليهودية في إطار من العنصرية التي تُسْبِغُ على اليهود صفات المديح والتعظيم، في الوقت الذي تتعامل فيه مع الشعوب الأخرى غير اليهودية بسيل من الأوصاف العنصرية والشتائم التي تؤكد على أن الاستعلاء العنصري هو أساس ثابت في تكوينها.
وتعود عقدة الشعور بالاستعلاء عند اليهود إلى أسفار العقد القديم، إذ لا يتردد اليهود في تشبيه أنفسهم من خلاله بـ "شعب الله المختار"، معتقدين أن هذا الاختيار هو برنامج إلهي، إذ بهم يعاقب الله الأمم الأخرى، وهم الذين سيبقون وحدهم في آخر الزمان متسلطين على رقاب العالم.
كذلك فهم يسمون أنفسهم "الشعب الأزلي" (عم عولام)، و"الشعب الأبدي" (عم يتسح)، بحيث يعتبرون أنفسهم مثل الله، لا أول لهم ولا آخر، ولا بداية ولا نهاية، وأنهم "الشعب المقدس" (عم قادوس).
يصف "فرويد" ادعاء اليهود بأنهم شعب الله المختار بالخرافة المُطْبِقَة، ويقرر أن تلك حالة لا نظير لها على الإطلاق في تاريخ الأديان. ففي الحالات الدينية المعروفة، نرى الشعب يندمج في معبوده اندماجاً تاماً منذ البداية، أو يتحول الشعب إلى عبادة معبوده، ولم يحدث قط أن اختار الله عابديه.. في "سفر التثنية 2:14" نقرأ:
"لأنك شعب مقدس للرب إلهك، ولقد اختارك الرب لتكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب التي على وجه الأرض".
أما فيما يتعلق بعقدة الشعور بالاضطهاد (الدونية)، فإن العهد القديم زاخر بنصوص تتحدث عن ذلك، منها ما ورد في "سفر الخروج – 7:3":
"فقال الرب لقد رأيت مذلة شعبي في مصر وسمعت صراخهم وعلمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأخرجهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة"..
وما ورد في "سفر الخروج – 13:15":
"فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف"..
وما ورد في "سفر الخروج أيضاً – 9:3":
"الآن هو ذا صراخ بني إسرائيل قد أتى إليَّ ورأيت أيضاً الضيق الذي يضايقهم به المصريون".
وأيضاً "1:20 من سفر الخروج":
"أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية"..
لقد خلقت هذه الأساطير الدينية التاريخية لدى اليهود إحساساً بالمذلة الدائمة، عوضوه بعد ذلك بسلوك عدواني ووحشي تشهد على ممارسته مدوناتهم التي سجلت أسطورة غزو أرض كنعان.