ظهور "الصهيونية الإسلامية" دليل على أن في العالم دينين فقط، هما "دين الظلم والاستعباد"، ودين "الحرية والعدل"، ولا وجود لدين

ثالث


لن يعرفَ الحقيقة من ينتظر "مهديا" و"مسيحا" ليخلصاه وينقذاه. ولن يُحررَ وطنا ولن يحقق نهضة ولن يوحد أمة وأرضا، من يبنى مصيره على انتظار تحقق الأساطير. فليعتبر كل واحد منا نفسَه "مسيحا" و"مهديا منتظرا"، وليمارس بنفسه ما ينتظر منهما أن يمارساه نيابة عنه، عندئذ سيكتشف أن الروايات التي تحدثت عنهما إن صحت، إنما كانت تتحدث عن يقظتهما في قلبه وفي عقله، أي أنها كانت تتحدث عنه عندما يتقمص صفاتهما النبيلة والعظيمة التي أشارت إليها تلك الروايات.
إن الصهيونية بضلعيها المسيحي البروتستانتي واليهودي، عملت على صهينة العالم سياسيا، بدءا بالمسيحيين الكاثوليك والأرثوذوكس، ومرورا بالمسلمين، وانتهاء بأتباع الديانات الشرقية. ولأن معظم أهل الأرض باستثناء المسيحيين والمسلمين واليهود – بصفتهم أتباع ديانات سماوية ذات مصدر واحد – ليست لديهم أي مرجعيات ذات طبيعة دينية، يمكنها أن تمثل أرضا خصبة للترويج للصهيونية الدينية، فقد كان من الطبيعي أن ينصب الجهد هناك في جانبه السياسي، فيما انصب الجهد هنا في جانبه الديني تمهيدا لبلورة جانبه السياسي.
فالمسيحيون والمسلمون واليهود على حد سواء، لديهم معتقدات متشابهة للغاية فيما يتعلق بمعارك وأحداث ما يطلق عليه آخر الزمان – وهي المعتقدات التي تمثل بيت القصيد في مآل الديانات الثلاث – فمعركة "مرج دابق" عند المسلمين، هي نفسها معركة "هرمجدون" عن المسيحيين واليهود، وستحدث في فلسطين عند "باب لد" قرب "الرملة". و"المسيح" الذي سيغير وجه العالم، ويحكم بالعدل، ويتخلص من الشر والكفر والوثنية، سوف يأتي ليحقق ذلك، سواء في المعتقدات اليهودية أو الإسلامية أو المسيحية، وإن كان سيأتي عند اليهود ليخلصهم من المسلمين والمسيحيين، وسيأتي عند المسيحيين ليخلصهم من اليهود والمسلمين، فيما سيأتي عند المسلمين ليخلص الأرض من اليهود والمسيحيين!!!
إنها عقيدة واحدة عنصرية وبغيضة، قائمة على إقصاء الآخر، وعدم الاعتراف بمشروعية شراكته في الحياة الآمنة، ولا بحقه في النعيم الدنيوي والأخروي، عندما يقاس النعيم بمعايير استحقاق دينية لاهوتية. ومع الأسف فإننا نحن المسلمون استنسخنا هذه العقيدة من الإسرائيليات ومن معتقدات المخلِّصين في الديانات الوثنية، ونسبناها إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، لأن الوضاعين والكذابين في تاريخنا لم يكونوا قادرين على نسبة ذلك إلى القرآن الكريم ذاته، وهو الكتاب الذي خلى خلوا تاما وقاطعا من أي إرهاصات أو إشارات لمثل هذه المعتقدات "الآخر زمانية".
في واقع الأمر إن الصهيونية تمكنت من الانتشار السرطاني سياسيا على مستوى العالم، لأن البطش والجبروت الأنجلوساكسوني البروتستانتي "الرأسمالي الاحتكاري"، امتلك كل الأدوات – منذ الهيمنة البريطانية وحتى الهيمنة الأميركية – التي تمكنه من السطوة السياسية الشاملة. وعندما نقول "الصهيونية" لا نقصد اليهود، لأن اليهود بصفتهم الدينية الصرف، ليست لهم سطوة ولا قيمة ولا أهمية، خارج الحاضنة الصهيونية الرأسمالية الاحتكارية. وإنما نقصد عندما نذكر الصهيونية، الإمبراطورية الرأسمالية الاحتكارية التي ورثتها الإمبراطورية الأميركية عن الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، والتي جعلت من اليهود، وبالتالي من الصهيونية اليهودية، الواجهة الأمامية لممارسة كل شرورها في العالم عبر منطقتنا العربية.
منذ أن تزاوجت الرأسمالية العالمية بالصهيونية البروتستانتية وحصل التلاقح، وُلِدَت الصهيونية اليهودية كقناع يخفي حقيقة الرحم الذي ولدت منه، وذلك بغرض إخفاء جوهر المعركة وجوهر الصراع وجوهر التناقض، ليصبح تناقضا عربيا/يهوديا – مادامت الصهيونية قد تجلت عبر يهوديتها – بدل أن يكون تناقضا عربيا/إمبرياليا رأسماليا احتكاريا، وبالتالي أميركيا – في الوقت الراهن – من منطلق أن التناقض إذا كان بين العرب والصهيونية، فجوهر الصهيونية ومصدرها ومُخَلِّقُها هو هناك في قلب تلك الرأسمالية الإمبريالية الاحتكارية الأميركية.
بناء على ما سبق يمكننا القول بأن الغايات الصهيونية تبقى مخدومة، وخنادقها تبقى آمنة، مادامت قد نجحت في إقناعنا عبر الإعلام والثقافة، وعبر عشرات الكتب والمؤلفات، وعبر الأغاني والأفلام والبرامج التلفزيونية، بأن معركتنا هي مع اليهود بالدرجة الأولى، بصفة الصهيونية صهيونيتهم، لأنها تمثل اليهود وتعبر عنهم وعن حقوقهم الدينية والتاريخية، وأنها ليست شيئا آخر غير ذلك.
ولن تبدأ كفة الميزان في الاعتدال لصالحنا، إلا إذا بدأت كفة ميزان المعرفة في الاعتدال لصالح الحقيقة، التي تؤكد على أن معركتنا ليست مع هؤلاء، بل هي مع كل من يقف في خندق الظلم العالمي، الذي تمثله وتقوده الإمبريالية الرأسمالية الاحتكارية البروتستانتية الأنجلوساكسونية بالدرجة الأولى، بصرف النظر عن لون أو جنس أو عرق أو دين أو هوية عابرة.
وإلى كل من تخدعه أساطير الهيمنة اليهودية على الإعلام والمال والثقافة، أتوجه بالسؤال التالي:
ترى هل يُعَدُّ "الوليد بن طلال" بثرائه الفاحش الذي لا يخدم سوى الشيطان ورأس المال العالمي، وبقنواته التلفزيونية الماسخة لكل عناصر الثقافة العربية والإسلامية بل وحتى الإنسانية، وقبله عدنان خاشقجي في الثمانينيات، ومثلهما معظم أباطرة النفط من سفهاء هذا العصر، نماذج لرؤوس المال والثراء الإسلامية؟ بمعنى هل أن هذا النوع من أصحاب المال والنفوذ، هم أصحاب مال ونفوذ مسلمون يخدمون الإسلام ويحسبون عليه ويصنفون في خندقه وفي خندق العرب والعروبة؟ أم أن مالهم لا دين له؟!
إن الإجابة واضحة وقاطعة، ومثل هؤلاء كل أثرياء ومليارديرات وأساطين المال والإعلام والثقافة اليهود في العالم، لا يصح النظر إليهم بصفتهم يهودا، وإلى النفوذ والمال الذي يمتلكونه بصفته نفوذا ومالا يهوديين، بل يجب النظر إلى كل ذلك من زاوية "أين يصب وماذا يخدم"؟!! ومن هذا المنطلق، فإن الكل، بمن فيهم "الوليد بن طلال" وأثرياء "آل سعود" وغيرهم من أمراء نفط الخليج، يصبون في خندق الإمبريالية الاحتكارية الرأسمالية العالمية. وبالتالي فاليهودي والمسيحي والمسلم الذين يخدمون الهدف الإمبريالي نفسه، لا يمكن النظر إلى أيٍّ منهم من حيث دينه ومن زاوية هويته الدينية، بل من زاوية الأيديولوجية التي يحملها ماله، وتلك التي يخدمها ثراؤه، ويوَظف لأجلها نفوذه.
إن ظاهرة خطيرة بدأت تتكشف في واقعنا العربي تتمثل في بزوغ عهد "الصهيونية العربية"، وهي اختزال لمفهوم "الصهيونية الإسلامية"، لأن هذه الأخيرة تتجلى أكثر ما تتجلى عند العرب تحديدا. وفي حقيقة الأمر فإن هذه الظاهرة كانت موجودة منذ زمن بعيد في موروثنا الثقافي وتراثنا المعتقدي، ولكنها كانت ظاهرة كامنةً وغيرَ مُفَعَّلَة. ولأننا حين نتحدث عن ظاهرة نطلق عليها اسم "الصهيونية العربية" أو "الصهيونية الإسلامية"، إنما نكون بصدد عرض مسألة غاية في الخطورة، فمن الضروري أن نعيد التذكير في هذا السياق بأن الفكر الصهيوني الذي انبثقت عنه "الصهيونية العملية" ذات الامتدادات العالمية، ليس فكرا يهوديا في الأساس، بل هو فكر مسيحي ظهر في قلب المسيحية الأوربية.
لا بل إن اليهود في أوربا قد حاربوا هذا الفكر عشية ظهوره في قلب حركة الإصلاحات الدينية التي شهدتها أوربا عقب انقضاء ظلمة القرون الوسطى وبدء معالم عصر النهضة، ووقفوا ضده وفي مواجهته قرونا طويلة، ولم يستسلموا له أو يتجاوبوا مع متطلباته الاستعمارية الأوربية إلا مع منتصف القرن التاسع عشر على مستوى بعض النخب الثقافية، ولم يصبحوا أداة من أدواته السياسية إلا مع انعقاد مؤتمر "بازل" في أواخر القرن التاسع عشر، عندما حصل ذلك التزاوج بين الخطط والإستراتيجيات الاستعمارية الأوربية عامة والبريطانية منها خاصة، وبين طموحات النُّخب اليهودية التي رأت في هذا الفكر تعبيرا عن ولائها للرأسمالية العالمية بالدرجة الأولى.
وإذا كان الفكر الصهيوني إنجازا رأسماليا مسيحيا صِرفا، تحرك به اللاوعي الأوربي عشية وصول العثمانيين إلى "فيينا" ومحاصرتها مرتين، في سياق إعادة إنتاج الذهنية الدينية الأوربية بشكل يتيح لها تجاوز المهانة التاريخية التي شعر بها الأوربيون الصليبيون عقب اندحار آخر الحملات الصليبية عن المشرق العربي بعد مائتي عام من التواجد الاستيطاني الاستعماري هناك، فلن نكون مجانبين للصواب إن أكدنا على أن كل ما من شأنه رفد المشروع الصهيوني الراهن بمقومات البقاء والاستمرار، ومساعدته على استكمال مهمته الاستعمارية في المنطقة بوصفه المُكَمِّلَ الإمبريالي له، هو قطعا وجه آخر لصهيونيته.
فإذا كانت الصهيونية في الأساس مسيحيةً أوربيةً منشأً وصيرورةً وتطوراً، لأنها تخلَّقت في قلب الكنيسة الأوربية، وقامت على "إعادة صياغة فكرتي أرض الميعاد والعصر الألفي السعيد"، في العهدين القديم والجديد على حدٍّ سواء، على أيدي مصلحين دينيين مسيحيين أوربيين، بشكل مَهَّدَ لإعادة استعمار المشرق العربي بعد عدة قرون من ذلك، فإن نجاح المسيحية الأوربية في التأصيل لها – أي للصهيونية – لتكون مطلبا ومعتقدا يهوديا تُحسنُ الرأسمالية الاختباء وراءه في حملاتها الاستعمارية، وهي تروِّج للمعتقدات المسيحية واليهودية الجديدة، لا يقل أهمية عن نجاحها في إعادة إنتاج المنطقة العربية المشرقية سياسيا واقتصاديا وثقافيا بعد صبِّ "المسألة الشرقية" – كما كانت الأدبيات الدبلوماسية والسياسية لدى النُخب الأوربية تطلق عليها – في قوالب جديدة ساعد عليها انهيار "الرجل المريض"، وذلك على قاعدة تَقَبُّل الصهيونية والتعامل معها، باعتبارها أمرا طبيعيا يمكن التعايش معه وقبوله بل والدفاع عنه إذا تطلب الأمر ذلك.
لا قيمة لأي محتوى ديني للفكرة الصهيونية، فمثل هذا المحتوى ليس أكثر من أكذوبة تهدف للتجييش البشري للفكرة وإخفاء مضمونها السياسي الإمبريالي، لأنها في الأساس فكرة استعمارية أوربية استخدمت الدينين المسيحي أولا واليهودي ثانيا، وهي تحاول الآن وبمساعدة قوى السَّفَة والتَّصَهْيُن العربية استخدام الدين الإسلامي، للتغطية على المشاريع الاستعمارية الأوربية في المنطقة العربية. فقيمة الفكرة إذن هي قيمة سياسية أولا وآخرا. وبالتالي فصفةُ "صهيوني" إذ انطبقت على أولئك الذين قبلوا سواء من اليهود أو من المسيحيين، أن يكونوا أداةً للفكرة الصهيونية في جوهرها الاستعماري، موافقين من ثمَّ على تجيير معتقداتهم الدينية من جهة، ومستعدين دوما للتخندق في الخندق السياسي المتماهي مع تلك المعتقدات من جهة أخرى..
نقول.. إن صفة "صهيوني" إذ انطبقت على أمثال هؤلاء، فلا معنى إطلاقا – مادمنا نتحدث عن أطر ومقدمات ونتائج سياسية في الجوهر – لِتَجَنُّب وصف الإنسان العربي ذي المرجعية الدينية الإسلامية أو غير الإسلامية، والذي يتبنى تلك المعتقدات وإن يكن من منظوره الخاص، أو ذلك الذي يقبل التخندق في الخندق السياسي المتماهي مع الأهداف والإستراتيجيات التي ما خُلِقَت الصهيونية ولا وُجِدَت "إسرائيل" إلا لتحقيقها، بأنه عربي صهيوني، أو بأنه يمثل ما نطلق عليه "الصهيونية العربية".
لا يوجد هناك أي مُسَوِّغ علمي أو منطقي يُلْزِمنا بقبول التفريق بين "إسرائيل" والدول القطرية الوظيفية بقيادة "أنظمة التجزئة"، بالقول بأن الأولى "صهيونية" في حين نتجنب وصف الثانية بأنها "صهيونية"، رغم أن الاثنتين تمارسان الدورَ نفسَه، وتؤديان المهمة نفسَها، خدمة لتمرير العلاقات نفسِها، ودفاعا عن المنظومات السياسية والاقتصادية نفسِها، في المنطقة نفسِها، مستهدفين المجموعات البشرية العربية نفسِها.
فمادامت الصهيونية ليست دينا، بل مشروعا سياسيا تستر وراء الدين، وجيَّش لنفسه بشريا في حاضنة الدين، فإن كل من يسهم بدوره ومن موقعه السياسي في تمرير الإستراتيجيات التي نشأ لأجلها ذلك المشروع، هو حتما وبالضرورة جزءٌ لا يتجزأ منه. وإنه على هذا الأساس ومن هذا المنطلق يجب التعامل مع منظومات التجزئة القطرية الوظيفية العربية التي لا تتعارض سياساتها وبرامجها ورؤاها مع سياسات وبرامج ورؤى الإمبريالية العالمية التي تستخدم الصهيونية لتمرير تلك الرؤى والإستراتيجيات والبرامج، باعتبارها منظوماتٍ صهيونيةً بكل ما لهذه الكلمة من معاني ودلالات، والتعامل معها من ثَمَّ على هذا الأساس، وإلا فإن هناك خللا في التصور، وانحرافا في مسار الصراع، وخطأ مستفحلا في تشخيص جوهر التناقض الناشئ في المنطقة منذ رُسِمَت بقلمي "سايكس" و"بيكو".