أيها الأردنيون.. احذروا وانتبهوا..
"السي. آي. إيه"، و"الموساد" تتحركان في الأردن لهدمه، وبذر "ثقافة هوية" جديدة
معول الهدم المتربِص هو "الماسونية"، أداة الهدم العمياء هم "الشباب الحائر من الفئة المترددة"، والهدف هو "التمهيد لمحرقة يتلظى بنارها الشعب الأردني
فهل نحن على أعتاب مرحلة يسودنا فيها "النموذج السنغافوري"؟!

أسامة عكنان
عمان – الأردن

قد لا يعرف الكثيرون ما هو "النموذج السنغافوري"، ولا يفهمون من واقعة "سنغافورة" سوى هذا النمر الاقتصادي الآسيوي المبهر الذي يتمنى الكثيرون اللحاق به وانتهاج نهجه في القوة الاقتصادية، في حين أن أهم مكون من مكونات هذا النموذج هو مكوِّن "الهوية" التي يحاول أصحاب المصلحة التغطية عليه بإبراز وتضخيم المكوِّن الاقتصادي.
فما هو هذا النموذج؟!
سنغافورة لمن لا يعرف كانت – قبل أن تصبح دولة مستقلة – جزءا لا يتجزأ من دولة "ماليزيا" بكل مكونات الهوية الماليزية القائمة على تآلف بين "الهنود" و"الصينيين" بصفتهما أقليتين إثنيتين تجسدان الديانتين "الهندوسية" و"البوذية"، وبين "المالاوية" بصفتها عرقَ الإثنية التي تمثل الأغلبية "المسلمة". ولأسباب ما – ليس هنا مجال الحديث فيها لأنها لا تعنينا كثيرا – راحت مدينة سنغافورة تتضخم اقتصاديا جالبة إليها – بشكل بدا مدروسا من قبل المعنيين في غفلة من الماليزيين أنفسهم، عما يدبر ضد جزء من دولتهم في الخفاء – أعدادا كبيرة من الهنود والصينيين تحت غطاء الاقتصاد والاستثمار والانفتاح.. إلخ، إلى أن انقلب الميزان الديمغرافي في إقليم "سنغافورة"، وأصبحت الإثنية الغالبة هي الإثنية "الهندو – صينية" فيما غدت إثنية "الملاويين" هي الأقلية.
واستنادا إلى القوانين الدولية المعمول بها، يحق لأيِّ أغلبية عرقية "إثنية" في دولة معينة أو في إقليم دولة معينة، إذا رأت أنها تنطوي على مكونات قومية خاصة بها تختلف عن مكونات الأقلية، أن تطالب استنادا إلى هذا الواقع بالاستمتاع إما بالحكم الذاتي، وإما بالاستقلال في دولة قائمة بذاتها، وإما – وهذا هو الأخطر – أن تصبح الدولة التي يمثلون فيها الأغلبية دولة تتحدد معالمها القانونية بناء على رؤيتهم هم بصفتهم الأغلبية، بصرف النظر عن الوضع القانوني والمدني والاقتصادي الراهن، بل وبصرف النظر أيضا عن الطريقة التي تمّ بواسطتها تكَوُّن تلك الأكثرية، حتى لو بالتهجير أو بالترحيل أو بإعادة الانتشار السكاني، أو بالإقامة الحرة.. إلخ.
وهكذا نشأت دولة "سنغافورة" فوق أرض مدينةٍ وإقليمٍ كان بالأمس القريب "ماليزياً" قلبا وقالبا، ليغدوَ دولة مستقلة قائمة بذاتها، تحوَّل فيها أصحابها الأصليون "المالاويون" إلى أقلية في دولة أخرى غير دولتهم الأم، يحميها القانون وترعاها الشرعية الدولية بقوة السلاح إن لزم الأمر.
النموذج "السنغافوري" الذي يتكون بهدوء ومن خلال معابر الاقتصاد، ليفرض نفسه تلقائيا بموجب طبيعة التداخل البشري والتكامل الاقتصادي بين المجتمعات البشرية، أصبح يمثل شبحا مرعبا للدول والمجتمعات القائمة على بُنى مجتمعية هزيلة ديمغرافيا، مثلما هو حال "الزوائد الدودية" التي سمِّيَت دولا في الخليج العربي، وهي "الإمارات" و"قطر" و"البحرين" و"الكويت".
فأمام واقع ديمغرافي لدول "البحرين" و"الإمارات" و"قطر" تحديدا، يمثل فيه أصحاب البلاد الأصليون أقليات تكاد تكون غير موجودة بالمقارنة بالأغلبية التي يمثلها الوافدون من مختلف البلدان، وخاصة من الدول الآسيوية، فإن هناك مخاوف حقيقية من أن يتكرر النموذج السنغافوري إذا تكاملت مقوماته.
وأمام واقعة أن الخروج من هذا المأزق يتطلب نوعا من أنواع دمج الوافدين في الحياة المجتمعية والسياسية لتلك البلدان ليغدو الجميع مواطنين، فإن نتائج مثل هذا الخيار على البنية الاقتصادية الطبقية لتلك المجتعات يحول دون أصحاب البلاد الأصليين ودون قبولهم بسياسة الدمج، لتبقى بلدانهم تحت رحمة شبح النموذج السنغافوري المحتمل بشكل جدي في أيِّ وقت، خاصة إذا رأت بعض الدول الكبرى الفاعلة في الإقليم مثل الولايات المتحدة أو إيران الدفع بهذا الاتجاه.
كما أن النموذج السنغافوري أصبح يمثل شبحا أكثر رعبا للدول والمجتمعات التي ما يزال التوازن في مفهوم "هويتها الوطنية" هشا وقابلا لأن يكون مدخلا لنزاعات ليست بالهينة، مثلما هو الحال في "العراق" بسبب إقليم "كردستان"، وفي الجزائر بسبب "النزعة الأمازيغية البربرية" في بعض المناطق الشرقية الشمالية من البلاد، وفي جنوب موريتانيا قرب الحدود مع السينيغال بسبب "نزعة الزنوجة"، وفي الأردن بسبب "التداخل المتفرد بين الهويتين الأردنية والفلسطينية"، ومثلما كان في السودان قبل انفصال الجنوب عنه، فأدى إلى انفصاله بعد قرابة الثلاثين عاما من الحروب الدامية.
سنكتفي بهذه التفاصيل حول النموذج السنغافوري، لاستحضارها في المكان المناسب من هذا التحليل، منتقلين إلى الخطوة التالية التي أشار إليها عنوان مقالتنا هذه، كي نستكشف معا كيف يتم التمهيد في الأردن لنموذج سنغافوري فريد من نوعه، بتأمين كل المقومات اللازمة لتحقيقه.
منذ ما يقارب السنتين – أي قبل الربيع العربي – حضرت اجتماعا في منزل النائب السابق "جمال الطاهات" في إحدى ضواحي عمان الجنوبية، وقد كان الاجتماع بهدف تأسيس تيار أو جسم تنظيمي يتحرك باتجاه تفعيل الحراك الإصلاحي المواجِه للفساد والمطالِب بالديمقراطية.. إلخ. وقد دعاني لحضور الاجتماع الصديق النائب السابق "منصور سيف الدين مراد" بصفتي كنت واحدا من المقربين من "لجنة المبادرة الوطنية" التي كان هذا الأخير واحدا فيها هو وكل من النقابي الكبير "جورج حدادين"، والمفكر الدكتور "سفيان التل"، والكاتب والصحفي "موفق محادين".. وهم الأصدقاء الأربعة الذين أحترمهم وأكن لهم كل تقدير واعتراف بالوطنية والجديَّة والالتزام والانتماء والوعي. وقد حضر الاجتماع قرابة العشرين شخصا مثلوا أكثر من جهة وتيار، كان من بينهم فضلا عن "جمال الطاهات" و"منصور مراد" و"أنا" متقاعدا عسكريا كبيرا برتبة لواء أو عميد على ما أتذكر من عشيرة "الحديد" أرجِّح أنه من "المتقاعدين العسكريين"، لأن لغته طرحا وحوارا كانت هي ذاتها اللغة التي عرفتها لاحقا في بيانات ومواقف هؤلاء المتقاعدين.
كان الملفت للانتباه بالنسبة لي، ما لمسته من انعدام أيِّ تجانس فكري أو برامجي بين الحاضرين الذين انقسموا، وخاصة فيما يتعلق بموضوع الهوية وما يترتب عليها، إلى أكثر من اتجاه، وهو الأمر الذي أشعرني وأشعر النائب منصور مراد – الذي اتضح لاحقا أنه دعاني لهذا الاجتماع بمبادرة شخصية منه بعد ما فهمت أنه لا مكان لمثلي في اجتماع كهذا، وإن يكن بلباقة وأدب حرصَ "الطاهات" على الحفاظ عليهما – بأن حضورنا تلبية لهذه الدعوة كان في غير محله، فنحن لا يمكن أن نلتقي مع التوجه الأساس الذي هيمن على اللقاء، والذي بدا أنه يريد أن يؤصل لمسيرة الحراك القادمة، وهو التوجه الذي بدا واضحا أن النائب "الطاهات" هو الذي يتولى مسؤولية التأسيس له فكريا وأيديولوجيا. لذلك لم نلتق بهؤلاء مرة ثانية منذ ذلك الاجتماع وحتى يومنا هذا.
إن ما أثار قلقي ومعي منصور مراد هو أن استغراب "الطاهات" من وجودي بين المجتمعين، لم يكن بسبب موقف فكري معارض يعرفه عني "الطاهات" مسبقا، بل بسبب أنني كنت الأردني الوحيد من بين كل الحاضرين المنحدر من "أصول فلسطينية". ومع أن الطاهات أبدى استغرابه وهو يبتسم بشكل لبق، فقد أبداه مشيرا إلى أن على الفلسطينيين في الأردن أن يتولوا القيام بمهمة أخرى غير الانضمام إلى فعاليات سياسية يفترض أن تكون من حق "الشرق أردنيين" وحدهم.
كان الطرح رغم أجواء الهدوء التي خيمت على الاجتماع فوق سطح منزل "الطاهات" المنزوي والجميل في تلك الضاحية العماَّنيَّة الجنوبية، مستفزا للغاية ليس لي وحدي، بل لي ولمنصور مراد ولقلة قليلة من الحاضرين الذين بدا واضحا أنهم لا يوافقون على طرح الطاهات "الغارق" في نكوصيته، رغم أن آخرين ولم يكونوا قلة، وافقوا على هذا الطرح.
وكي لا أطيل، أقول: في هذا الاجتماع سمعت لأول مرة فكرةً لم أسمع بها من قبل، ولا خطرت لي على بال، ولا تخيلت أن هناك في هذا البلد من كان يعرفها ويتحدث بها على مستوى النخب المثقفة قبل ذلك اليوم الذي اعتبرته مشؤوما، لأنه أقلقني عندما تخيلت أن هناك فكرة مدمرة سوف تعيد النموذج السنغافوري إلى الأردن تحت غطاء تعاطفٍ كاذب مع حق الفلسطينيين بالتميز والحفاظ على حق العودة!!
كانت الفكرة واضحة ومختصرة تقول: "حفاظا على حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، وحرصا على عدم توطينهم في الأردن تحت دعاوى الوطن البديل.. إلخ، فإن الأفضل ألا يتورطوا في أيِّ نشاط يطالب بحقوق سياسية لهم في الأردن تدمجهم في المجتمع الأردني، وتعتبرهم أردنيين كاملي المواطنة، وتلهيهم عن فلسطين وعن النضال لأجل العودة إليها.. ولذلك فإن الأصوب في المرحلة القادمة – وأركز هنا على أن المرحلة القادمة التي كان يتم الحديث عنها، كانت واضحة في أذهان أصحاب هذا الرأي قبل الربيع العربي كله – أن يُصار إلى إعادة إنتاج واقعهم في الأردن بدون أيِّ امتيازات وحقوق سياسية تساوي بينهم وبين "الشرق أردنيين"، وأن من حقهم فقط أن يحصلوا على حقوق مدنية تفرضها واقعة أنهم يعيشون في هذا البلد"..
في حينها، ورغم أن الفكرة بدت خطيرة وكارثية إذا قيِّضَ لها أن تجد أرضا ثقافية خصبة تدعو إليها من فوقها، إلا أنها كانت في نظرنا "منصور مراد" وأنا، أقل من أن يُلتفتَ إليها، فقررنا مقاطعة هذا الاجتماع نهائيا، فليس هؤلاء، وليس هذا الفكر هو الذي يمكن لأردن المستقبل أن يتم انتشالُه من واقعه المؤلم بواسطته.
ومع أننا خلال الاجتماع ناضلنا بالحوار الهادئ لنقد هذه الفكرة ونقضها بإثبات تعارضها حتى مع قرار فك الارتباط الذي نعارضه ذاته، إلا أننا وجدنا فئة ترى في قرار فك الارتباط اللاقانوني واللادستوري واللاأخلاقي واللاوطني، خطوة غير كافية لحل مشكلة الهوية في الأردن، لأن هذا القرار فكَّ ارتباط الضفة الغربية بالأردن، بينما هؤلاء يؤسسون لثقافة تنتج قرار فك ارتباط جديد، يفك علاقة المواطنة القائمة بين "الشرق أردنيين" و"الفلسطينين" في الأردن نفسه.
تناقشنا مطولا في طريق عودتنا أنا و"منصور" لتحليل هذه الفكرة ومبرراتها ومصدرِها، ولم نختلف في أن هناك أيدٍ خفية تلعب في الساحة الأردنية لتجرها إلى الهاوية، ومع ذلك، ما لبث الأمر أن فتَر لدينا، لأننا افترضنا أننا أمام فكرة سيرفضها الأردنيون كافة، "شرق أردنيين" و"فلسطينيون" على حدٍّ سواء.
ولكن وبعد مرور أكثر من عامين على الواقعة، ومنذ ثلاثة أيام فقط، كان في زيارتي شابان من أصول فلسطينية من سكان مدينة الزرقاء، بغرض مناقشتي في مفهوم "الدور الوظيفي للنظام الأردني" كما اطلعا عليه في مجموعة مقالاتٍ نُشِرَت على مواقع متعددة على شبكة الإنترنت، لأفاجأ مفاجأة أذهلتني وما كنت أتوقعها.
فقد كشف الحوار الذي استمر لأكثر من ساعتين مع هذين الشابين، عن أن الفكرة التي سمعتها قبل عامين من "الطاهات" في ضاحية في جنوب عمان بخجل وحذر، أصبحت لها قواعد شبابية تتبناها وتدافع عنها، في الأوساط الأردنية من أصول فلسطينية. لقد كان "الطاهات" هو الذي يتحدث، ولقد فكرته التي انتقدتها منذ سنتين هي التي تحاول أن تجد لها موطئ قدم أمامي، بعد أن بات واضحا أن هناك من يعمل في الخفاء بلا كلل ولا ملل لتدمير هذا البلد. وفي سياق الحديث لم ينكر الشابان أنهما يعرفان الرجل وغيره، ما جعل المسألة تبدو أمامي واضحة.
الشابان – ومن المؤكد أن مثلهما العشرات بل ربما المئات – كانا مثقفين وواعيين ومخلصين وصادقين، يبحثان عن طريقة لتفعيل الدور الفلسطيني في الشتات، وخاصة في الأردن، باعتباره أكبر مكان للشتات الفلسطيني، بشكل تجعل الفلسطينيين ينظرون إلى فلسطين وليس إلى الدول التي يقيمون فيها، بحثا عن وضع يبقي القضية حية وقائمة، ويبقي حق العودة حيا وقائما، ويبقي مشروع التوطين عصيا على التنفيذ.. إلخ. هكذا فهموا، وهكذا اقتنعوا، ومن هنا بدا لهم أن تجريد فلسطينيي الأردن من حقوقهم السياسية والإبقاء على حقوق مدنية لهم فقط، هو الطريق الأسلم لتفعيل دورهم باتجاه فلسطين، ولبقاء فلسطينيتهم ناصعة نقية، ولبقاء هويتهم متجسِّدة.. إلخ.
ومع أنهما اقتنعا في نهاية المطاف بمقولتنا في العلاقة بين مشروعي "التغيير" و"التحرير" من جهة، ومشروع تجسيد "الهوية" من جهة أخرى، وبموقفنا من لاقانونية ولادستورية قرار فك الارتباط الذي تجب العودة عنه، لإعادة اللحمة القانونية والإدارية بين الضفتين في سياق مشروع وطني إصلاحي كامل وشامل يعيد إنتاج كل مكونات الهوية والدولة في الأردن وفلسطين على قواعد تلك العلاقة بين تلك المشاريع، إلا أن تخوفَهما بقي قائما من عدم اقتناعهما بأن "الشرق أردنيين" سيقبلون بهذه المعادلة.
أي أن دعاة هذا الطرح المدمر أقاموا أساساته على مواقف الإقليميين من الشرق أردنيين، وهم قلة بدأت تتآكل مع تآكل الدور المخابراتي والطبقي الحاكم في هذا البلد، وراحوا يخيفون جيلا من الأردنيين من الأصول الفلسطينية من استحالة الدمج السياسي للفلسطينيين في الأردن، بسبب أن هذا مرفوض "شرق أردنيا".. ولقد لمست خلال حواري مع الشابين أنهما مثلا لا يصدقان أن "الشرق أردنيين" يطالبون ويقبلون بقانون انتخاب عادل ومنصف يحدد المقاعد في الدوائر والمحافظات على أساس الكثافة السكانية، واعترفوا في نهاية المطاف بأن الأردن السياسي إذا قام على أساس قانون من هذا النوع، فأنهما كفلسطينيين لن يقفا مطولا عند مسألة هوية الضفة الغربية، لأنهما سيتحالفان مع الشيطان نفسه لو طرح أيَّ برنامج يعيد لهم الضفة من خلاله مُحَرَّرَة مستقلة.
ما معنى كل هذا؟!
إنه يعني أن لا تأسيس أيديولوجي متماسك للفكرة الشيطانية التي سمعتها أول ما سمعتها في بيت "الطاهات" قبل عامين، وأنها فكرة لا يمكنها أن تقوم إلا على أساس الردع النفسي المتبادل، بأن تتم إخافة الشرق أردني من الفلسطيني على مستقبله السياسي، وإخافة الفلسطيني من الاندماج السياسي الوطني الكامل في الأردن على قواعد المواطنة على قضيته وعلى هويته.
لن أقف طويلا عند الأبعاد الأيديولوجية في مناقشة هذه الفكرة وتحليلها وتبيان مبررات سقوطها السياسي والفكري، وسأكتفي بعرض ذلك من خلال تبيان كيفية تأسيسها للنموذج السنغافوري في الأردن بأسوأ وأخطر أشكاله التي عرضناها وتحدثنا عنها في بداية هذا المقال، فلنتابع..
إن الكثيرين يتحدثون عن "التوطين" وعن "الوطن البديل" دون أن يعرفوا عن هذين المفهومين غير معانيهما اللغوية التي يفترضون أن لها دلالات سياسية في ذاتها، دون إدراك أن المصطلح اللغوي يُطلق للتعبير عن مفهوم سياسي تتحدد مكوناته وعناصره من خلال الواقع السياسي والسيرورة السياسية ذاتهما. فلا يكفي أن أخوِّف من التوطين ليكون للتخويف معنى، ما لم أثبت كيف يمكن لهذا التوطين أن يتم.. كما أنه لا يكفي أن أُرْعِبَ السامعين باستخدام مصطلح الوطن البديل، كي يكون لهذا الإرعاب معنى حقيقيا على الواقع، ما لم أسُقْ ما يكفي من الأدلة والإثباتات الملموسة على أن الحدث الفلاني إن تمَّ فسيؤدي إلى واقعة الوطن البديل..
بداية هناك فرق كبير بين مفهومي "التوطين" و"الوطن البديل".
فالتوطين مفهوم يمكنه أن ينطبق على أقلية يُراد دمجها في الحياة السياسية والمجتمعية عامة في بلد ما. فالفلسطينيون في لبنان، ومثلهم الفلسطينيون في سوريا.. إلخ.. يعتبر إدماجهم في الحياة السياسية والمدنية الكاملة للدولتين السورية واللبنانية، توطينا. كما أن محاولة دمج الفلسطينيين المقيمين في فلسطين المحتلة عام 1948 في الحياة الإسرائيلية مدنيا وسياسيا، هي عملية توطين. هذا هو معنى التوطين من الناحية الإجرائية والقانونية والإدارية.
ومع ذلك يجب أن ننتبه إلى أن التوطين شيء، وتخلي المُوَطَّنين عن حقوقهم الشرعية شيء آخر مختلف. فالتوطين لا يخلق حالة حقوقية مقابلة لتلك التي يتمسك بها الموَطَّنون قبل توطينهم، بحيث أنها تفرض عليهم أن يتنازلوا عن تلك الحقوق بسبب أنهم حصلوا على بديل لها هو التوطين. هذا غير صحيح على الإطلاق، واستخدامه كمنطلق لتبرير مواقف أيديولوجية معينة يراد تبريرها بالإخافة من "التوطين" هو شكل من أشكال التزوير والتزييف.
فملايين الفلسطينيين مُوَطنون في عشرات الدول في أوربا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، ولهم كامل الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية لكل أبناء تلك الدول، ومع ذلك لا يوجد فلسطيني واحد من هؤلاء الموطنين تنازل عن حقه في العودة إلى فلسطين، أو عن مطالبه بضرورة تحرير فلسطين من الاحتلال. وبالتالي فالتوطين لم يفعل شيئا سلبيا، بل ربما هو ساعد المُوَطَّنين على ممارسة هوامش نضالية أوسع للتحرك باتجاه تفعيل حقوقهم المشروعة في العودة إلى أرضهم.
وإذن فالتوطين ليس "غولا" وليس سوى إجراء لتنظيم حقوق وواجبات الموطَّنين في الدولة التي وُطِّنوا فيها دون أن يمس ذلك بحقوقهم التي يرونها لأنفسهم في سياقات أخرى.
الأردنيون من أصل فلسطيني كلُّهم مُوَطَنون وأصبحوا جميعا مواطنين كاملي المواطنة، ولم نسمع بأن واحدا منهم اعتبر ذلك رشوة تفرض عليه التنازل عن حقوقه المشروعة في فلسطين، ولا هو فعل ذلك ولا طالبه أحد بذلك.. وإذن فأين المرعب والمخيف في التوطين، إذا كان لا يخرج عن إطار كونه تنظيما حقوقيا وقانونيا قد يساعد على تفعيل النضال من أجل استعادة حقوق الموَطنين في وطنهم الأساس؟!
أما "الوطن البديل" فمهموم آخر مختلف تماما عن التوطين. وإذا كان التوطين الذي يعتبر أمرا ممكنا، هو في ذاته لا يخيف ولا يرتب أيَّ تنازلات، فمفهوم "الوطن البديل" أولى بذلك منه، لأنه مفهوم أسطوري لم يقل به أحد حتى الآن، ولا رأيناه تحقق في الواقع ولا في أيِّ مكان في العالم، وهو بدعة اخترعها لنا بعض ضباط المخابرات الأردنيين، ونسقوا بخصوصها مع الإسرائيليين كي يعطوها بعدا مرعبا ومخيفا للأردنيين وللفلسطينيين على حدٍّ سواء، عملا على إبقاء لعبة الهويات تتحرك داخل الدوائر المرسومة لها وظيفيا وإمبرياليا وصهيونيا، ليس إلا.
فالوطن البديل يعني أن يقبل أصحاب الحق في وطن معين بأن يتنازلوا عن وطنهم ذاك مقابل قطعة من الأرض تُعطى لهم في مكان ما في العالم يقيمون عليها وطنهم ودولتهم ويجسدون فيها هويتهم!!
فهل حصل ذلك في التاريخ؟!
وهل أشار الشعب الفلسطيني بأيِّ شكل من الأشكال، ولو بإشارات ضمنية أو عابرة من مواطنيه أو من قياداته.. إلخ، بأن هذه الفكرة قابلة للنقاش لديه، وبأنه لا يمانع بأن يكون الأردن مثلا هو هذا الوطن الذي سيتنازل إن هو امتلكه عن وطنه "فلسطين"؟!
الوطن البديل مع أنه فكرة لم تتحقق ولا رأينا لها نماذج على الأرض، لا يمكنه أن يطرح بصفته مشروعا قابلا للتنفيذ إلا إذا تحققت فيه ثلاثة شروط أساسية..
الأول.. أن يقبل أصحاب الوطن الأساسي في التنازل عن وطنهم..
الثاني.. أن يقبل أصحاب الأرض التي سيقام عليها الوطن البديل بالتنازل عن هذه الأرض ليقام عليها وطن لهؤلاء المتنازلين عن وطنهم..
الثالث.. أن يقبل الرأي العام الإقليمي والعالمي هذه المعادلة القميئة التي لم نر لها نموذجا في أي مكان في العالم حتى الآن..
فأيُّ تلك الشروط الثلاثة ينطبق على فلسطين، والفلسطينيين، والأردن، والأردنيين، والإقليم العربي المشرقي، والعرب، والمسلمين.. إلخ، حتى نقول أن "الوطن البديل" للفلسطينيين في الأردن هو فكرة مطروحة أصلا، ناهيك عن أن تكون قابلة لأن تخطر على بال عاقل من حيث المبدأ؟!
إن الذي يمكنه أن يحدث في الأردن هو النموذج السنغافوري، إذا تمكنت فكرة "نزع الحقوق السياسية ومنح الحقوق المدنية" للأردنيين من أصول فلسطينية في الأردن من النجاح والرواج. وهو بالمناسبة نموذج يشكل خطرا على الأردن وعلى الأردنيين وعلى الهوية الأردنية أكثر مما يشكله على الفلسطينيين، كما سيتبين لنا بعد قليل.
وبالتالي فمن يطرح هذه الفكرة إنما هو يتآمر على الأردن شعبا وهوية وجغرافية، من حيث هو يزعم أنه يريد حمايته وحماية الأردنيين من خطر الذوبان فيما يروج لكونه هيمنة سياسية للفلسطينيين.
إن نجاح أنصار هذه الفكرة التي تقف وراءها بكل تأكيد كل من "السي. آي. إيه" و"الموساد"، يعني أن يصبح سكان الأردن فئتين، الأولى لها حقوق المواطنة الكاملة بما فيها السياسية، وهي فئة "الشرق أردنيين" وتمثل أقل من نصف تعداد السكان، والثانية ليست لها أيُّ حقوق سياسية وتقتصر حقوقها على المدنية، وهي فئة "الأردنيين من أصول فلسطينية"، وتمثل أكثر من نصف تعداد السكان.
ترى أليس هذا الوضع الديمغرافي الحقوقي المشوَّه، هو ذاته ذلك الذي جعل سنغافورة تتحول من أرض ماليزية إلى دولة مستقلة انفصلت عن الوطن الأم بحجة حقوق الأكثرية الاثنية؟! وبالتالي أليست هذه الفكرة المأساة هي المقدمة الحقيقية لتقسيم الأردن إذا كانت هناك مشاريع حقيقية لتقسيمه على أرضية "فلسطيني وأردني"؟!
بل أليس النموذج السنغافوري في حال انطباقه على الأردن، سيكون أكثر خطورة من شكله الذي طُبِّقَ في ماليزيا، مادامت سنغافورة انفصلت عن ماليزيا باعتبارها إقليما محددا تحققت فيه معادلة الأكثرية الاثنية، بينما المعادلة ذاتها عندما تتحقق في الأردن بنجاح ذلك المشروع المريب، ستكون عصية إلى حد ما على التقسيم الإقليمي الجغرافي، لتكون النتيجة هي تغييب الأردن بالكامل لحساب الأكثرية الفلسطينية الجديدة؟! وبالتالي أليست هذه هي المقدمة الحقيقية للوطن البديل، إن كان هناك من يستطيع أن يُنْزِلَ هذه الأسطورة من عالم الدجل والتخريف والهرطقة إلى عالم الواقع؟!
فلنحذر من هذه الدعوة التي بدأت تنتشر في صفوف شباب حائرين مترددين، تستغل الماسونية المرتبطة بأجهوة مخابرات الدول الإمبريالية الكبرى، حيرتَهم وترددَهم ونقاءَهم وبحثَهم عن حلول حقيقية لأزمات يستشعرونها، ولا يعرفون الطريق الصحيح إلى حلها، في وقت لم تصل إليهم بعد أفكار الوحدويين الذين يحسنون قراءة الحاضر والمستقبل، ويحاولون إعادة إنتاجه بشكل ناضج وقادر على تحقيق المراد "التغييري" و"التحرري" و"النهضوي".
وليدلِ كل قادر بدلوه الفكري البناء في هذا الشأن.
فالمسألة التي كانت صغيرة تدعو إلى السخرية منذ سنتين، غدت تحاصرنا الآن، ولا يعلم أحد إن لم تُواجه بشكل صارم وناضج ما الذي يمكنها أن تحققه في القريب العاجل.
مع ضرورة الانتباه إلى أن أكثر ما يمكن لمثل هذه الفكرة أن تنجزه ليس هو نجاحُها بالضرورة في الانتشار كفكرة قابلة للتحقق في أرض الواقع، فهذا ما نستبعده، لأسباب لوجيستية وديمغرافية.. إلخ، ولكن عندما يصبح لها أنصار حقيقيون فإنها قد تكون بداية لمحرقة تنشأ ثقافية، ولن تنتهي إلا بأن تكون تحطيمية تدمر هذا الشعب وتعيده إلى الوراء بدل أن يتقدم إلى الأمام..
ومع أن المخابرات العامة تدرك جيدا ما يدور في الخفاء وتتابعه وترقبه، إلا أنها لا تهتم بذلك لأنها لا تمارس نشاطها ودورها الأمني من باب الانتماء إلى وطن تريد الحفاظ عليه سالما من السوء، بقدر ما تمارسه من باب الانتماء إلى طبقة تجد مصالحها على الدوام في تكريس كلِّ ما من شأنه أن ينشر روح الاقتتال والاحتراب في هذا البلد لتفشل من ثمّمشاريع الإصلاح والتغيير.