كل الثقافات مادية، بما فيها تلك التي قامت على دعوات الأنبياء والرسل، حتى لو ادعى أتباع هذه الأخيرة غير ذلك..

فلا قيمة للادعاءات التي تخالف الواقع.. فالثقافات كلها مادية، لأنها تقوم جميعها على أنماطٍ متباينة من العلاقات بين العقل والغريزة..

والعقل هو المادة المُفَكِّرَة.. والغريزة هي المادة المُحرِّكَة..
...

فكيف لا تكون الثقافة التي تقوم على رسم العلاقة بين مادتين هما "العقل" و"الغريزة" مادية؟!..

وكل الثقافات إيمانية في الوقت ذاته، حتى تلك التي قامت على دعوات الإلحاد والملحدين..

لأن الملحد ليس هو من لا يؤمن بالله، فلا أحد يستطيع ألا يؤمن بالله حتى وإن حاول..

فكما أن الهواء بالنسبة للإنسان ليس خيارا، بل حتمية.. فالله بالنسبة له ليس خيارا، بل حتمية..

فالملحد هو في واقع الأمر من سرق مساحة الله في داخله وادعى أنه أسكن فيها غيرَه ليقوم بمهمته القيمية نفسِها مستغنيا عنه..

وهذا مجرد ادعاءٍ لا قيمة له، تماما كانعدام قيمةِ ادعاء أتباع الأنبياء بأنهم أتباع ثقافة غير مادية..

فكل الفلاسفة متفقون على أن القيم والأخلاق الإيجابية هي صورة الله فينا..

مادمنا مضطرون بحكم الطبيعة لأن ننتجَ ثقافة قوامها "عقلٌ" و"غريزة" كلاهما مادي، فثقافتنا مادية قطعا..

ومادمنا مضطرون بحكم الطبيعة أيضا لأن مؤمن بالقيم الإيجابية التي هي صورة الله فينا، حتى وإن ادعينا الإلحاد أو تظاهرنا به أو غلب علينا الظن أننا ملحدون، فثقافتنا قطعا إيمانية..

وبما أن الثقافة هي في المحصلة نتاج تفاعلٍ بين العقل والغريزة، أي بين الفكر والحركة..

فنحن في واقع الأمر بإزاءِ نمطين من الثقافات، يقوم الاختلاف بينهما لا على "مادية" و"غير مادية"، ولا على "إيمانية" و"غير إيمانية"، بل على أيُّ المادتين "العقل" أو "الغريزة" هي التي تطغى خلال عملية التفاعل التي أشرنا إليها..

فعندما يقود العقلُ الغريزةَ، تكون "القيم الإيجابية" التي هي صورة الله فينا، هي حاضنة الثقافة.. فنكون أمام ثقافة "الحضارة".. حتى لو سكنا الخيام وركبنا الجمال..

وعندما تقود الغريزةُ العقلَ، تكون "القيم السلبية" التي هي صورة اللا "إله" فينا، هي حاضنة الثقافة.. فنكون أمام ثقافة "الغابة".. حتى لو سكنا ناطحات السحاب وركبا مكوكات الفضاء..

الصراع إذن ليس ولم يكن يوما ولن يكون في يوم من الأيام بين ثقافة مادية وأخرى غير مادية، ولا بين مؤمنين وآخرين غير مؤمنين.. بل بين منظومتين من الثقافات المادية والإيمانية هما.. منظومة تقدم العقل على الغريزة فتبشر بالحضارة، وأخرى تقدم الغريزة على العقل فتبشر بالغابة..

والعالم اليوم يناضل ليتحرر من مخلفات قرون مديدة من ثقافات "الغابة" التي حكمت العالم..