بوابة عشتار حبيسة برلين



الإحتفاء بحضارة بابل


يحتفي المتحف البريطاني من هذا الشهر إلى بضعة أشهر قادمة بحضارة بابل كإحدي الحضارات القديمة المتميزة التي كان لها تأثير في التطور المعرفي للإنسان. وهذا المقال هو مشاركة متواضعة مني بهذه المناسبة.
لم تكن بابل حتى القرن التاسع عشر معروفة إلا ببرجها وحدائقها المعلقة وبعض ملوكها. وفي القرن المذكور بدأ الآثاريون بالكشف عن جوانب حضارتها وتقدمها في مجال العلوم والمعرفة في ذلك العصر السحيق. وكان من الأمور المهمة التي لعبت دورا في بقاء هذه الحضارة هو اهتمام البابليين بالكتابة والتدوين واعطائهما أهمية كبيرة حتى أنهم جعلوا للكتابة إلاهة اسموها «نيسابا» مهمتها الإشراف على الكتابة وفنها. كما أنهم أنشأوا دارا للعلم أسموها «بيت مومي» وكانت هذه الدار مركزا للتعليم في بابل. كما كان للكتبة الذين أيضا كانوا علماء منزلة رفيعة عند الملوك وفي المجتمع حيث قام هؤلاء بدور حضاري في منتهى الأهمية خصوصا في المرحلة الأولى من المملكة البابلية القديمة(في بداية الألف الثاني قبل الميلاد) حيث تمكنوا من اتقان اللغة السومرية(التي هي غير سامية) وألآلاف من رموزها وأعطوا معانيها باللغة الأكدية السامية والفوا قواميس بهاتين اللغتين. وجهود هؤلاء الكتبة - العلماء تثير اليوم الكثير من الإعجاب. ولولا هذه الجهود التي بذلها هؤلاء لما تمكن العلماء المختصون من معرفة اللغة السومرية وفك أسرارها.
وتعتبر هذه القواميس عملا جديدا ومن أولى المحاولات في تاريخ المعرفة الإنسانية. ومن المكتشفات الأولى التي عثر عليها الآثاريون هي ما عرف بشريعة حمورابي التي تعتبر من أقدم القوانين في الحضارات القديمة وأكثرها شمولا وتفصيلا إذ تحتوي على أكثر من مئتين وثمانين فقرة شملت الكثير من مناحي الحياة. كما تميزت شريعة حمورابي خاصة بجمال اللغة ودقتها. وقد جاء في بعض ديباجتها التي تعطي بعض أسياب تشريعها «إنه من أجل أن يسود العدل في البلد ويقضى على الشر والظلم وكي لايضطهد القوي الضعيف».
وكما برز البابليون في تشريع الشرائع فقد اشتهروا أيضا في مجالات أخرى كالطب وكان للطبيب الذي يسمى «أسو»(وهو آسي في العربية وآسيا/ اسا في السريانية) منزلة رفيعة في المجتمع وكان يعد من أبناء الطبقة العليا وكانت مهنته متميزة لاعلاقة لها بالدين أو السحر إذ كان يتعلم مهنته بالدراسة وبعد الانتهاء منها يبدأ بممارستها مع من هم اقدم منه. وقد وصلنا عدد كبير من الألواح التي تضم قوائم بالأعراض والوصفات الطبية التي كتبها أطباء. وهي تحتوي على تشخيص لأسباب طبيعية للأمراض. كما أنهم عرفوا العدوى وشخصوها وعثر على رسائل مرسلة إلى أطباء فيها الكثير من التفاصيل لحالات مرضية كما احتوت على بعض اسماء الأطباء أيضا. وكان بعض هؤلاء الأطباء قد أرسل من بابل لمعالجة ملوك معاصرين للبابليين مثل الملك الحثي هتوسيلس في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وممايدل على انتشار الطب هو وجود سبع مواد على الأقل في شريعة حمورابي تتعلق بعمليات جراحية. وقد استعمل الأطباء في علاج هذه الأمراض ليس الأدوية فحسب وإنما استعملوا الأدوات للعمليات الجراحية. (ويعتقد أن أقدم وصفة طبية هي تلك التي وصلتنا من بلاد الرافدين من الألف الثالث قبل الميلاد). ويرى بعض الباحثين أن البابليين قد مارسوا حتى العلاج النفسي الذي يعتقد أنه من نتاج العصر الحديث.
واهتم البابليون بالرياضيات وقد عثر على آلاف الرقم والألواح التي تضم أعدادا رتبت بطرق مختلفة وعمليات طرح وجمع ومسائل حسابية تتعلق بالعمارة ومساحة الأرض والسقي. كما عثر على ألواح كثيرة تحوي تمارين رياضية بعضها مع حلول لها والبعض الآخر بدون ذلك وبعض هذه التمارين بمستوى متقدم. وكان تصنيع المعادن شائعا واعطوا لمن يمتهن ذلك اسما عاما يدل على اختصاصه وهو«نفاخو»(بالأرامية نفاخا وبالعربية نفاخ). ثم خصصوا ذلك بإضافة اسم المعدن اليه فسمي الحداد «نفاخ فرزيلو» والذي يعمل بالذهب «نفاخ خوراصي». ويقول جورج روكس في كتابه العراق القديم. ليس من شك في إن البابليين (والآشوريين) كانوا يعرفون أكثر مما عثر عليه في كتاباتهم فنقل الصخور الهائلة ونصبها مثلا أو انشاء ممرات مائية طويلة يدل على معرفة متقدمة بقوانين الفيزياء. وكذلك معرفتهم ببعض مبادئ الكيمياء التي كانت قد طبقت بشكل ناجح في الأدوية والأصباغ وعمل الزجاج الملون وتزيين اللبن بالمينا. واهتموا كذلك بعلم الفلك وكانوا يراقبون القمر والشمس والنجوم بشكل دقيق وكانوا يقومون بهذه المراقبة من على المعابد الدينية. وفي ضوء علم الفلك قسموا السنة إلى اثني عشر شهرا(وما زالت اسماء الأشهر البابلية تستعمل عند اليهود وكذلك النظام الشمسي - القمري) وقسموا الشهر إلى ثلاثين أو تسعة وعشرين وهذا النظام القمري هو المعمول به إلى اليوم. وقسموا اليوم إلى أربع وعشرين ساعة والساعة إلى ستين دقيقة. وقد وردت اسماء علماء فلكيين في بعض الرسائل البابلية التي عثر عليها. وقد سجلوا حالات كسوف وخسوف بشكل دقيق كما يقول بطليموس. وظل الناس يستفيدون من خبرة البابليين في هذا المجال بعد زوال دولة البابليين إذ نقرأ أن نابو- ريماني (القرن الخامس ق.م؟) وكدينو والكاهن بل أشور(القرن الثالث ق.م) كان اليونانيون يستفيدون منهم في علم الفلك وأطلقوا عليهم أسماء يونانية. فالأول سمي نابوريانوس والثاني سديناس والثالث بيرسوس. ولذلك اختلط على بعض الباحثين أصلهم ونسبوهم إلى اليونان. وعرف عن الكاهن بل أشور أنه كان له حلقة دراسية يدرس فيه طلاباً يونانيين. وبل أشور هو نفسه الذي كتب تاريخا لموطنه بابل ولملوكها باليونانية حيث ذكر في هذا الكتاب الذي وصلتنا منه أجزاء قليلة أن نبوخد نصر بنى الحدائق المعلقة لزوجته أميتس. كما إن بعض علماء الفلك من القرن السادس الميلادي قد اعتمدوا على ملاحظات البابليين في التنبؤ بكسوف الشمس. ويرى الباحث المعروف جين بوتيرو «إن علم الفلك لابد أن يكون قد نشأ عند البابليين وليس في مكان آخر كما يرى البعض». كما ابتكر البابليون الساعة الشمسية وقال المؤرخ اليوناني هيردوتس عن ذلك «إن علم المساحة والساعة الشمسية وتقسيم اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة لم تأت من اليونان أو مصر ولكن من بابل». واهتم البابليون كذلك بالجغرافيا وقد عثر على نصوص تتضمن قوائم لأسماء البلدان والجبال والأنهار والمدن بل وحتى للمسافات بين هذه المدن وهي قضية جداً مفيدة للمؤرخين في العصر الحديث. وكانت هناك مخططات(وليست خرائط بالمعنى الحديث) لبعض المدن وقد اكتشف مخطط لمدينة نيبور وهو يتفق مع ما اكتشفه الآثاريون في العصر الحديث. بل لقد عثر على خريطة للعالم كذلك تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. وكتب على أقصى الشمال«الأرض التي لاترى فيها الشمس أبدا».
واهتموا أيضا بالتاريخ وقد عثر على قوائم تضم اسماء السلالات الملكية وأسماء الملوك وقوائم بأحداث متزامنة وقوائم باسماء الآلهة إلى جانب تسجيل الحملات العسكرية التي أفادت الباحثين كثيرا ليس في تأريخ الحدث حسب ولكن أيضا في معرفة اسماء الملوك والبلدان الأخرى. واهتموا بالوثائق والحفاظ عليها والإعتناء بها فقد كانت بعض الرسائل المهمة والوثائق توضع في ظروف من الطين وتختم حتى لا يعبث بها أو تقرأ من قبل أناس غير مخولين. وكانت توضع بعض الكلمات على الظرف تشير إلى ما بداخل الوثيقة أو الرسالة. وقد عثر على عدد كبير من هذه وهي مازالت بأختامها. كما ترك لنا البابليون تراثا أدبيا مهما شعراً ونثرا يأتي على رأسه قصة الخلق وعشتار في العالم السفلي وملحمة جلجامش. وهي واحدة من أهم الملاحم في العصور القديمة. وقد كان من إعجاب الشعوب الأخرى بهذه الملحمة أنهم ترجموها إلى لغاتهم وقد عثر على ترجمتها إلى اللغة الحورية وإلى اللغة الحثية. وفي العصر الحديث ترجمت الملحمة إلى أكثر من لغة على رأسها الإنجليزية. كما اهتم البابليون بتأليف قواميس لغوية كقواميس معاني الأفعال مثلا وقواميس تضم اسماء الأحجار والنباتات والحيوانات والمعادن بل الفوا قواميس لغوية للأضداد والمترادف.
وقد قيل عن البابليين انهم فاقوا في العلوم معاصريهم من الشعوب الأخرى وأنهم كانوا يعرفون أكثر مماوصلنا منهم. أما عن بابل في عصرها المتأخر فقد وصفها المؤرخ اليوناني هيرودتس في عام 460 قبل الميلاد وصف معجب بها ومنبهر ببنائها وبتخطيطها وببوباتها فقال عنها «لا توجد مدينة تشبهها في روعتها في العالم الذي نعرفه». وكان أشهر هذه البوابات بوابة عشتارالتي زينت واجهتها باللون الأزرق وزينت بعدد من التنانين(رمز للإله مردوخ) وكذلك بعدد من الثيران(رمز الإله أدد). وكانت البوابة موصولة بشارع سماه الباحثون «طريق المواكب» واطلق عليه البابليون إبور شابو(الطريق الذي لايجتازه العدو). وتوجد بوابة عشتار اليوم في متحف برلين وهي تبهر الإنسان بشكلها وروعة بنائها. وذكر جورج روكس في كتابه«العراق القديم» «إن بابل ضمت أكثر من ألف معبد من مختلف المقاسات». بل ذكر بعض المؤرخين اليونانيين أن الإسكندر الأكبر الذي كان في بلاد ما بين النهرين ومات فيها أراد أن يجعلها عاصمته العالمية.
عن: ايلاف