منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 10 من 10
  1. #1

    من سلسلة الفقهاء..

    سلسلة الفقهاء


    الإمام ابن حزم


    نسبه وقبيلته


    هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ الفَارِسِيُّ الأَصْل ، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ ، الفَقِيْهُ ، الحَافِظُ ، المُتَكَلِّمُ ، الأَدِيْبُ ، الوَزِيْرُ، الظَّاهِرِيُّ ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ . وُلِد أَبُو مُحَمَّدٍ بقرطبة سَنَةَ 384هـ/ 994م ، وعاش في الأندلس .



    طفولته و تربيته نشَأَ الإمام ابن حزم فِي تَنَعُّمٍ وَرفَاهيَّة ، وَرُزِقَ ذَكاءً مُفرطًا ، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ كُبَرَاء أَهْل قُرْطُبَة . ويشير الكثيرون ممن ترجم للشيخ (رحمه الله) ، أو درس تاريخه ونشأته أن الشيخ نشأ بين مجموعة من النساء ، ومن ثَمَّ كان له من الصفات كذا وكذا . والواقع أن الشيخ (رحمه الله) قد هيَّأ له الله نساءً فُضْلَياتٍ قُمْنَ على تربيته وتعليمه ، ونلحظ ذلك من كونه حفظ القرآن على أيديهن ، إضافةً إلى ذلك كان والد الشيخ من العلماء الكبار المشهود لهم بالخير وسعة العلم وحسن الخُلُق .



    أهم ملامح شخصيته : موسوعي في علمه كان ابن حزم رحمه الله مفسرًا ، محدثًا ، فقيهًا ، مؤرخًا ، شاعرًا ، مربيًا ، عالمًا بالأديان والمذاهب . ويزداد هذا الأمر وضوحًا باطِّلاعنا على هذا الكمِّ الهائل من مؤلفاته في شتى الميادين العلمية . كريم الأخلاق و الشمائل ذكر الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله) أن الإمام ابن حزم كان يتصف بالصفات التالية : 1- قوة الحافظة . 2- البديهة الحاضرة .3- عمق التفكير والغوص في الحقائق .4- الصبر . 5- الجَلَد .6- المثابرة . 7- الإخلاص .8- الصراحة في الحق . 9- الوفاء .10- الاعتزاز بالنفس من غير عُجْبٍ ولا خُيَلاء .11- ووصف ابن حزم أيضًا بالحِدَّة (رحمه الله تعالى) .


    شيوخه سَمِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَع مائَة وَبعدهَا مِنْ طَائِفَةٍ ، مِنْهُم : يَحْيَى بن مَسْعُوْدِ بنِ وَجه الجَنَّة ، صَاحِب قَاسِم بن أَصْبَغ ، فَهُوَ أَعْلَى شَيْخٍ عِنْدَهُ ، وَمِنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ الجَسور، وَيُوْنُس بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُغِيْث القَاضِي ، وَحُمَامِ بن أَحْمَدَ القَاضِي ، وَمُحَمَّدِ بن سَعِيْدِ بنِ نبَات ، وَعَبْدِ اللهِ بن رَبِيْع التَّمِيْمِيّ ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللهِ بنِ خَالِدٍ ، وَعَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ ، وَأَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الطَّلَمَنْكِي ، وَعَبْدِ اللهِ بن يُوْسُفَ بنِ نَامِي ، وَأَحْمَد بن قَاسِم بن مُحَمَّدِ بنِ قَاسِم بن أَصْبَغ .


    تلاميذه حَدَّثَ عَنْهُ : ابْنُهُ أَبُو رَافِعٍ الفَضْل ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ ، وَوَالِد القَاضِي أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِيِّ ، وَطَائِفَةٌ .



    مؤلفاته لابن حزم مؤلفات جليلة كثيرة ، منها :1- (الإِيصَال إلى فَهم كِتَاب الخِصَال) ويقع في خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف وَرقَة . 2- (الخِصَال الحَافِظ لجمل شرَائِع الإِسْلاَم) مُجَلَّدَان .3- (المُجَلَّى فِي الفِقْه) مُجَلَّد .4- (المُحَلَّى فِي شرح المُجَلَّى بِالحجج وَالآثَار) ويقع في ثَمَانِي مُجَلَّدَات .5- (حَجَّة الوَدَاعِ) مِائَة وَعِشْرُوْنَ وَرقَة .6- (التَّلخيص وَالتَّخليص فِي المَسَائِل النَّظرِيَّة) .7- (الإِملاَء فِي شرح المُوَطَّأ) أَلف وَرقَة .8- (الإِملاَء فِي قوَاعد الفِقْه) أَلف وَرقَة أَيْضًا .9- (الإِحكَام لأُصُوْل الأَحكَام) مُجَلَّدَان .10- (الفِصَل فِي الملل وَالنِّحل) مُجَلَّدَان كَبِيْرَان .11- (مُخْتَصَر فِي علل الحَدِيْث) مُجَلَّد .12- (رِسَالَة فِي الطِّبِّ النّبوِيِّ).


    منهجه في البحث بدأ ابن حزم طلبه للعلم باستحفاظ القرآن الكريم ، ثم رواية الحديث ، وعلم اللسان ، فبلغ في كل ذلك مرتبة عالية ، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الفقه ، فدرسه على مذهب الإمام مالك ؛ لأنه مذهب أهل الأندلس في ذلك الوقت ، ولكنه كان مع دراسته للمذهب المالكي يتطلع إلى أن يكون حرًّا ، يتخير من المذاهب الفقهية ولا يتقيد بمذهبٍ؛ ولذلك انتقل من المذهب المالكي إلى المذهب الشافعي ، فأعجبه تمسُّكه بالنصوص ، واعتباره الفقه نصًّا أو حملاً على النص ، وشدة حملته على من أفتى بالاستحسان .و لكنه لم يلبث إلا قليلاً في الالتزام بالمذهب الشافعي ، فتركه لما وجد أن الأدلة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس ، وكل وجوه الرأي أيضًا . ثم بدا له أن يكون له منهجٌ خاصٌّ وفقه مستقل ، فاتجه إلى الأخذ بالظاهر، وشدَّد في ذلك، حتى إنه كان أشدَّ من إمام المذهب الأول داود الأصفهاني .



    ثناء العلماء عليه قال الأمير أبو نصر بن ماكولا : " كان فاضلاً في الفقه ، حافظًا في الحديث ، مصنِّفًا فيه ، وله اختيار في الفقه على طريقة الحديث ، روى عن جماعة من الأندلسيين كثيرة ، وله شعر ورسائل " . وقال الحافظ الذهبي : " ابن حزم الأوحد البحر، ذو الفنون والمعارف ..." .وقال الحميدي: " كان حافظًا ، عالمًا بعلوم الحديث وفقهه ، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة ، متفننًا في علوم جمَّة ، عاملاً بعلمه ، زاهدًا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك ، متواضعًا ذا فضائل جمَّة ، و تواليف كثيرة في كل ما تحقق به في العلوم ، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمستندات شيئًَا كثيرًا ، وسمع سماعًا جمًّا " .



    وفاته تُوفِّي سنةَ 456هـ/ 1064م ، عن إحدى وسبعين سنة . رحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته .

    المراجع - سير أعلام النبلاء ، الذهبي .- الإمام ابن حزم الظاهري إمام أهل الأندلس ، محمد عبد الله أبو صعيليك .- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، المقرّي .

  2. #2

    الإمام أحمد بن حنبل


    نسبه و قبيلته


    هو أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني . قال ابن الأثير: " ليس في العرب أعز دارًا ، ولا أمنع جارًا ، ولا أكثر خلقًا من شيبان". وكان في قبيلة شيبان الكثير من القادة والعلماء والأدباء والشعراء ، فالإمام أحمد عربي أصيل ينتمي إلى هذه القبيلة ، وهي قبيلةٌ ربعيةٌ عدنانيةٌ ، تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان . وكان الإمام أحمد (رحمه الله) رجلاً طوالاً رقيقًا ، أسمر اللون ، كثير التواضع . وقد وُلِد ببغداد سنةَ 164هـ/ 780م . طفولته و تربيته نشأ أحمد بن حنبل يتيمًا ، وكسائر أترابه تعلم القرآن في صغره ، وتلاه تلاوة جيدة وحفظه عن ظهر قلب ، وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره بدأ يطلب العلم ، وأول من طلب العلم عليه هو الإمام أبو يوسف القاضي ، والإمام أبو يوسف - كما هو معلوم - من أئمة الرأي مع كونه محدِّثًا ، ولكن مع مرور الوقت وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب الحديث أكثر، فتحوَّل إلى مجالس الحديث ، وأعجبه هذا النهج واتفق مع صلاحه وورعه وتقواه ، وأخذ يجول ويرحل في سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخراسان والجبال والأطراف والثغور، وهذا فقط في مرحلته الأولى من حياته . ولقد التقى الشافعي في أول رحلة من رحلاته الحجازية في الحرم، وأُعجِبَ به ، وظلَّ الإمام أحمد أربعين سنة ما ييبت ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي . وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس فلم يوفَّق للقائه، وكان يقول : " لقد حُرِمتُ لقاء مالك ، فعوَّضني الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة " . أهم ملامح شخصيته وأخلاقه : ورعه و تقواه وتعففه



    كان رحمه الله عفيفًا ، فقد كان يسترزق بأدنى عمل ، وكان يرفض أن يأخذ من صديق ولا شيخ ولا حاكم قرضًا أو هبة أو إرثًا لأحدٍ يؤثره به . قال أبو داود : " كانت مجالس أحمد مجالس آخرة ، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قَطُّ " .

    ثبات الإمام رغم المحنة كان الإمام أحمد على موعد مع المحنة التي تحملها في شجاعة ، ورفض الخضوع والتنازل في القول بمسألة عمَّ البلاء بها ، وحمل الخليفة المأمون الناس على قبولها قسرًا وقهرًا دون دليل أو بيِّنة .وتفاصيل تلك المحنة أن المأمون أعلن في سنة (218هـ/ 833م) دعوته إلى القول بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات ، وحمل الفقهاء على قبولها ، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب ، فامتثلوا خوفًا ورهبًا ، وامتنع أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة ، فكُبّلا بالحديد ، وبُعث بهما إلى بغداد إلى المأمون الذي كان في طرسوس ، لينظر في أمرهما ، غير أنه توفِّي وهما في طريقهما إليه ، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد .و في طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة ، بعد أن أوصى رفيقه بقوله : " أنت رجل يُقتدى به ، وقد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك ؛ فاتقِ الله واثبت لأمر الله " .وكان الإمام أحمد عند حسن الظن ، فلم تلن عزيمته ، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته ، فمكث في المسجد عامين وثلث عام ، وهو صامد كالرواسي ، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه على حمل الناس على القول بخلق القرآن ، واتُّخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب ، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة ، تؤيدهم فيما يزعمون ، يقولون له : ما تقول في القرآن ؟ فيجيب : هو كلام الله . فيقولون له : أمخلوق هو؟ فيجيب : هو كلام الله . ولا يزيد على ذلك .ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم ، لكنه كان يزداد إصرارًا ، فلما أيسوا منه علَّقوه من عقبيه ، وراحوا يضربونه بالسياط، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليظة حتى أغمي عليه ، ثم أُطلق سراحه وعاد إلى بيته ، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227- 232هـ/ 841- 846م) ، لا يخرج من بيته إلا للصلاة ، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ/ 846م) ، فمنع القول بخلق القرآن ، وردَّ للإمام أحمد اعتباره ، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد .





    شيوخه هشيم ، وسفيان بن عيينة ، وإبراهيم بن سعد ، وجرير بن عبد الحميد ، ويحيى القطان ، والوليد بن مسلم ، وإسماعيل بن علية ، وعلي بن هاشم بن البريد ، ومعتمر بن سليمان ، وعمر بن محمد ابن أخت الثوري ، ويحيى بن سليم الطائفي ، وغندر ، وبشر بن المفضل ، وزياد البكائي ، وأبو بكر بن عياش ، وأبو خالد الأحمر، وعباد بن عباد المهلبي ، وعباد بن العوام ، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، وعمر بن عبيد الطنافسي ، والمطلب بن زياد ، ويحيى بن أبي زائدة ، والقاضي أبو يوسف ، و وكيع ، وابن نمير ، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون ، وعبد الرزاق ، والشافعي ، وغيرهم .



    تلاميذه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابناه صالح وعبد الله ، وشيوخه عبد الرزاق ، والحسن بن موسى الأشيب . ومن تلاميذه أيضًا أبو بكر المروزي الفقيه ، وأبو زرعة الدمشقي ، وأبو بكر الأثرم ، وإبراهيم الحربي ، ويحيى بن معين ، وغيرهم كثير .






    من مؤلفاته كتاب المسند، وهو أكبر دواوين السنة المطهرة ، إذ يحوي أربعين ألفًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، انتقاها الإمام أحمد من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث .وله من الكتب أيضًا كتاب الأشربة ، وكتاب الزهد ، وكتاب فضائل الصحابة ، وكتاب المسائل ، وكتاب الصلاة وما يلزم فيها ، وكتاب الناسخ والمنسوخ ، وكتاب العلل ، وكتاب السنن في الفقه .


    منهجه العلمي اشتُهِرَ الإمام أحمد أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه ، مع أنه كان إمامًا في كليهما . ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط، وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث ، من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور؛ فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل ، صحابيًّا كان أو تابعيًّا أو إمامًا . و إذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحدًا من هذه الأقوال ، وقد لا يترجَّح عنده قول صحابي على الآخر، فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولان . وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة ، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحدٌ ربه بالقياس أو بالرأي؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وقال في الحج : " خذوا عني مناسككم " .و كان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على عباده ، وهذا الحق لا يجوز مطلقًا أن يتساهل أو يتهاون فيه . أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة والصلاح لكل بيئة وعصر ، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير . مثال ذلك : " الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص " ، بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص .و كان شديد الورع في الفتاوى، وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث ، فإذا رأى أحدًا يكتب عنه الفتاوى نهاه ، وقال له : " لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغيِّر فتواي ، فأين أجدك لأخبرك ؟ ! " .ولما علم الله تعالى صدق نيته وقصده ، قيَّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه ، وقد كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة . ولقد أخذ بمبدأ الاستصحاب ، كما أخذ بالأحاديث المرسلة . ما قيل عنه عن إبراهيم الحربي قال : " رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف ، يقول ما شاء ويمسك ما شاء " . وعن أحمد بن سنان قال : " ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيمًا منه لأحمد بن حنبل ، ولا رأيته أكرم أحدًا كرامته لأحمد بن حنبل ، وكان يقعد إلى جنبه إذا حدثنا ، وكان يوقره ولا يمازحه ، ومرض أحمد فركب إليه فعاده " .وقال عبد الرزاق : " ما رأيت أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل " . وقال وكيع ، وحفص بن غياث : " ما قدم الكوفة مثل أحمد بن حنبل " . وكان ابن مهدي يقول : " ما نظرت إليه إلا ذكرت به سفيان الثوري ، ولقد كاد هذا الغلام أن يكون إمامًا في بطن أمه " .

    وفاته عن بنان بن أحمد القصباني أنه حضر جنازة أحمد بن حنبل فيمن حضر، قال : " فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة، وحُزِر (حَزَر الشيء : قدَّره بالتخمين) من حضرها من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف ، ومن النساء ستين ألفًا . رحم الله الإمام أحمد بن حنبل رحمةً واسعةً ، وأسكنَه فسيح جناته .








    المراجع - أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ، عبد الغني الدقر، ط دار القلم .- تاريخ التشريع الإسلامي ، الخضري .- البداية و النهاية ، الحافظ ابن كثير .- الوافي بالوفيات ، الصفدي .- وفيات الأعيان ، ابن خَلِّكان .- الإمام أحمد بن حنبل ، محمد أبو زهرة .
    --

  3. #3

    الإمام الحسن البصري



    نسبه وقبيلته



    هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصري ، كان أبوه من أهل ميسان ، وأمُّه (خيرة) مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم . وقد وُلِد بالمدينة المنورة سنةَ 21هـ/ 642م ، وعاش في البصرة .


    الإمام الحسن البصري طفولته وتربيته نشأ الحسن البصري وتربَّى في بيت أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كانت أمُّه (خيرة) مولاة أم سلمة . وكان للبيئة الحسنة التي نشأ فيها الحسن البصري (رحمه الله) أكبر الأثر في تكوين شخصيته العظيمة وتكاملها ، فقد نشأ (رحمه الله) بين الصحابة والتابعين ، وتربى على أيديهم ، ونهل من علمهم ، وصَفَت نفسه برؤيتهم ومجالستهم والسماع منهم .



    ملامح شخصية الإمام الحسن البصري كثرة علم الإمام الحسن البصري وفقهه : من أهم ما يميّز الحسن البصري (رحمه الله) كثرة علمة وسعة اطلاعه وفقهه ؛ وقد ألّف ابن مُفَرِّج (315- 380هـ/ 927- 990م) كتابًا سمّاه (فقه الحسن البصري) ويقع في سبع مجلدات .وفي العصر الحديث ألّف الأستاذ محمد روّاس قلعه جي (موسوعة فقه الحسن البصري) ، وتقع في جزأين . فصاحته الإمام الحسن البصري وحسن بيانه : قال أبو عمرو بن العلاء : ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحَجَّاج بن يوسف الثقفي . فقيل له : فأيُّهما كان أفصح ؟ قال : الحسن .


    الإمام الحسن البصري زهده وخوفه : مع كون الحسن البصري جيد الملبس والمطعم ، لكنه كان زاهدًا، كان يصوم أيام البيض ، والاثنين والخميس، وأشهر الحرم . و حكى ابن شوذب عن مطر قال : " دخلنا على الحسن نعوده ، فما كان في البيت شيء - لا فراش ولا بساط، ولا وسادة ولا حصير - إلا سريرًا مرمولاً هو عليه ، حَشْوُهُ الرَّمْل " . والسرير المرمول : الذي نسج وجهه بالسَّعَف ، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير، فيسمى مرمولاً .و قال حمزة الأعمى : ذهبت بي أمي إلى الحسن ، فقالت : يا أبا سعيد ، ابني هذا قد أحببت أن يلزمك ، فلعل الله أن ينفعه بك . قال : فكنتُ أختلف إليه، فقال لي يومًا : " يا بُنيَّ ، أدِمَ الحزن على خير الآخرة ؛ لعله أن يوصلك إليه ، وابكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة ؛ لعل مولاك أن يطَّلع عليك فيرحم عبرتك ، فتكون من الفائزين " .قال إبراهيم اليشكري : " ما رأيت أحدًا أطول حزنًا من الحسن ، ما رأيته إلا حسبته حديث عهدٍ بمصيبة " ، أي كأنه قبل قليل جرت عليه مصيبة . وقال يزيد بن حوشب : " ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما " .



    شيوخ الإمام الحسن البصري سمع من عثمان (رضي الله عنه) وهو يخطب ، وشهد يوم الدار، ورأى طلحة وعليًّا ، وروى عن عمران بن حصين ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأبي بكرة ، و النعمان بن بشير، وجندب بن عبد الله، وسمرة بن جندب ، وابن عباس ، وابن عمر، وعمرو بن ثعلب ، وعبد الله بن عمرو ، ومعقل بن يسار، وأبي هريرة ، والأسود بن سريع، وأنس بن مالك ، وخلق كثير من الصحابة وكبار التابعين ؛ كالأحنف بن قيس ، و حطان الرقاشي ، وقرأ عليه القرآن .




    مؤلفات الإمام الحسن البصري له كتاب في فضائل مكة .








    ثناء العلماء على الإمام الحسن البصري

    قال عنه ابن خلّكان : " كان من سادات التابعين وكبرائهم ، وجمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة " . و قال محمد بن سعد : " كان الحسن رحمه الله جامعًا ، عالمًا ، رفيعًا ، فقيهًا ، ثقةً ، حجةً ، مأمونًا ، عابدًا ، ناسكًا ، كثيرَ العلم ، فصيحًا ، جميلاً ، وسيمًا ". وقال الذهبي : " كان رجلاً تامَّ الشكل ، مليحَ الصورة ، بهيًّا ، وكان من الشجعان الموصوفين " .وقال عنه الإمام الغزالي : " ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلامًا بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأقربهم هديًا من الصحابة (رضي الله عنهم) ، اتفقت الكلمة في حقه على ذلك ، وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب ، وفساد الأعمال ، و وساس النفوس ، والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس " .


    من كلمات الإمام الحسن البصري الخالدة قال الحسن رحمه الله : " إن المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا ولا يسعه غير ذلك ؛ لأنه بين مخافتين : بين ذنبٍ قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه ، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك ". و قال أيضًا : " ابن آدم ، إنما أنت أيام كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك ، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل ، وأنت تعلم فاعملْ " .

    وفاة الإمام الحسن البصري بعد عمرٍ امتدَّ ما يقرب من تسعين سنة رحل الحسن البصري إلى الله تعالى ، فقد تُوفِّي بالبصرة سنة 110هـ/ 728م ، وغسَّله أيوب وحميد ، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر؛ لم تصلَّ في جامع البصرة . رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته .


    المصادر :



    - الأعلام ، الزركلي .- وفيات الأعيان ، ابن خلّكان .- الوافي بالوفيات ، الصفدي .- إحياء علوم الدين ، الغزالي .- حلية الأولياء، أبو نعيم .
    --

  4. #4

    الإمام الشافعي



    الشافعي نسبه ومولده :




    هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف . يلتقي الشافعي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في جَدِّه عبد مناف ، فالشافعي (رحمه الله) قرشي أصيل . أمَّا أمُّه فإن أكثر من أرَّخ للشافعي أو ترجم له قد اتفقوا على أن أمَّه أزدية أو أسدية ، فهي من قبيلة عربية أصيلة .و قد وُلِد بغزَّة في شهر رجب سنةَ 150هـ/ أغسطس 767م ، ولما مات أبوه انتقلت به أمُّه إلى مكة؛ وذلك لأنهم كانوا فقراء ، ولئلا يضيع نَسَبُه ، ثم تنقَّل (رحمه الله) بين البلاد في طلب العلم .وكان الشافعي (رحمه الله) رجلاً طويلاً ، حسن الخلق ، محببًا إلى الناس ، نظيف الثياب ، فصيح اللسان ، شديد المهابة ، كثير الإحسان إلى الخلق ، وكان يستعمل الخضاب بالحمرة عملاً بالسنة ، وكان جميل الصوت في القراءة .




    ملامح من شخصية الشافعي وأخلاقه سعة علم الشافعي وفقهه :
    لقد عُرف الشافعي بالنجابة و الذكاء والعقل منذ أن كان صغيرًا ، وشهد له بذلك الشيوخ من أهل مكة؛ قال الحميدي : " كان ابن عيينة ، ومسلم بن خالد ، وسعيد بن سالم ، وعبد المجيد بن عبد العزيز، وشيوخ أهل مكة يصفون الشافعي ويعرفونه من صغره ، مقدمًا عندهم بالذكاء والعقل والصيانة ، لم يُعرف له صبوة " . و قال الربيع بن سليمان - تلميذ الشافعي وخادمه وراوي كتبه - : " لو وُزِن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم ، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه " .



    تقوى الشافعي وورعه وعبادته : وكما كان الشافعي (رحمه الله) إمامًا في الاجتهاد والفقه ، كان كذلك إمامًا في الإيمان والتقوى والورع والعبادة ؛ فعن الربيع قال : " كان الشافعي قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء : الثلث الأول يكتب ، والثلث الثاني يصلي ، والثلث الثالث ينام " . وكان رحمه الله لا يقرأ قرآنًا بالليل إلا في صلاة ، يقول المزني : " ما رأيت الشافعي قرأ قرآنًا قَطُّ بالليل إلا وهو في الصلاة " .








    شيوخ الشافعي : شيوخه بالمدينة: الإمام مالك بن أنس ، وإبراهيم بن سعد الأنصاري ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ، وإبراهيم بن أبي يحيى ، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك ، وعبد الله بن نافع الصائغ .وشيوخه باليمن : مطرف بن مازن ، وهشام بن يوسف قاضي صنعاء ، وعمرو بن أبي سلمة صاحب الأوزاعي ، ويحيى بن حسان .شيوخه بالعراق : وكيع بن الجراح ، وأبو أسامة حماد بن أسامة الكوفيان ، وإسماعيل بن علية ، وعبد الوهاب بن عبد المجيد البصريان .


    تلامذة الشافعي : نبغ على الشافعي كثير من الناس ، في مقدمتهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، والحسن بن محمد الصباح الزعفراني ، والحسين الكرابيسي ، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني ، وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي ، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي ، وأبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي ، وأبو يوسف يونس بن عبد الأعلى ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، وعبد الله بن الزبير الحميدي .


    مؤلفات الشافعي : لم يُعرف لإمام قبل الشافعي من المؤلفات في الأصول والفروع والفقه وأدلته ، بل في التفسير والأدب ما عرف للشافعي كثرةً وبراعةً وإحكامًا ؛ يقول ابن زُولاق : " صنف الشافعي نحوًا من مائتي جزء " .ولقد كان في سرعة التأليف مع الدقة والنضج والإتقان أعجوبة منقطع النظير، حتى إنه ربما أنجز كتابًا في نصف نهار . يقول يونس بن عبد الأعلى : " كان الشافعي يضع الكتاب من غدوة إلى الظهر" .

    ومن مؤلفاته رحمه الله :



    كتاب (الرسالة) وهو أول كتاب وضع في أصول الفقه ومعرفة الناسخ من المنسوخ ، بل هو أول كتاب في أصول الحديث . و ألَّف كتابًا اسمه (جماع العلم) ، دافع فيه عن السنة دفاعًا مجيدًا ، وأثبت ضرورية حجية السنة في الشريعة . وكتاب (الأم) ، و(الإملاء الصغير) ، و(الأمالي الكبرى) ، و(مختصر المزني) ، و(مختصر البويطي) ، وغيرها .


    منهج الشافعي : أخذ الشافعي بالمصالح المرسلة والاستصلاح ، ولكن لم يسمها بهذا الاسم ، وأدخلها ضمن القياس وشرحها شرحًا موسعًا . وكذلك كان الشافعي يأخذ بالعرف مثل مالك . وكان الشافعي يتمسك بالأحاديث الصحيحة ، ويُعرِض عن الأخبار الواهية والموضوعة ، واعتنى بذلك عناية فائقة ؛ قال أبو زُرعة : "ما عند الشافعي حديث فيه غلط ".و قد وضع الشافعي في فن مصطلح الحديث مصطلحات كثيرة ، لم يُسبَق إليها ، مثل : الاتصال ، والشاذ ، والثقة، والفرق بين حدَّثنا وأخبرنا . ما قيل عن الشافعي : قال المزني : " ما رأيت أحسن وجهًا من الشافعي ، إذا قبض على لحيته لا يفضل عن قبضته " . قال يونس بن عبد الأعلى : " لو جمعت أمة لوسعهم عقل الشافعي " . وقال إسحاق بن راهويه : " لقيني أحمد بن حنبل بمكة ، فقال : تعالَ حتى أريك رجلاً لم ترَ عيناك مثله . قال : فأقامني على الشافعي" .و قال أبو ثور الفقيه : " ما رأيت مثل الشافعي ، ولا رأى مثل نفسه". وقال أبو داود : " ما أعلم للشافعي حديثًا خطأً " .


    من كلمات الشافعي : - طلب العلم أفضل من صلاة النافلة .- من ضُحِكَ منه في مسألة لم ينسها أبدًا .- من حضر مجلس العلم بلا محبرة وورق، كان كمن حضر الطاحون بغير قمح .- من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن نظر في الفقه نبل مقداره ، ومن تعلم اللغة رقَّ طبعه ، ومن تعلم الحساب جزل رأيه ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه .








    وفاة الشافعي : ألحَّ على الشافعي المرض وأذابه السقم ووقف الموت ببابه ينتظر انتهاء الأجل . وفي هذه الحال ، دخل عليه تلميذه المزني فقال: كيف أصبحت ؟ قال : " أصبحتُ من الدنيا راحلاً ، وللإخوان مفارقًا ، ولكأس المنيَّة شاربًا ، وعلى الله جلَّ ذكره واردًا ، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنِّئها ، أو إلى النار فأعزِّيها"، ثم بكى .و قد دُفِنَ الشافعي (رحمة الله تعالى عليه) بالقاهرة في أول شعبان ، يوم الجمعة سنةَ 204هـ/ 820م . و كان له ولدان ذكران وبنت ، وكان قد تزوج من امرأة واحدة .



    المصادر : - جمهرة أنساب العرب ، ابن الكلبي .- العبر في خبر من غبر، الذهبي .- الوافي بالوفيات ، الصفدي .- صفة الصفوة ، ابن الجوزي .- الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، عبد الغني الدقر، ط دار القلم .- تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري .- مقدمة كتاب الأم للشافعي رحمه الله .
    --

  5. #5

    الإمام الشعبي



    الشعبي نسبه وقبيلته



    هو عامر بن شَراحيل بن عبد بن ذي كِبَار (وذو كبار: قَيْلٌ من أقيال اليمن) الإمام ، علاَّمة العصر، أبو عمرو الهمداني ثم الشَّعْبِيُّ . ويقال : هو عامر بن عبد الله ، وكانت أمُّه من سبي جلولاء .


    مولد الإمام الشعبي وُلِد بالكوفة سنةَ 16هـ/ 637م ، وقيل : سنة عشرين للهجرة . وقيل : إحدى وثلاثين . وقال خليفة بن خياط : وُلد الشَّعْبِيُّ والحسن البصري في سنة إحدى وعشرين . وقال الأصمعي : في سنة سبع عشرة . وكان يسكن الكوفة ، ولكنه تنقل بين الأقطار لطلب العلم .


    أهم ملامح شخصية الإمام الشعبي سعة علمه وفقهه : قال ابن شبرمة : سمعته - أي الشَّعْبِيَّ - يقول : " ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا ، ولا حدثني رجل بحديث قَطُّ إلا حفظته ، ولا أحببتُ أن يعيده عليَّ " . و عن عاصم بن سليمان ، قال : " ما رأيت أحدًا كان أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة والحجاز والآفاق من الشعبي " .


    شيوخ الإمام الشعبي : أدرك الشعبي أكابر الصحابة وأعلامهم رضي الله تعالى عنهم ، ومنهم : علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وابن عباس ، وابن عمر، وأسامة بن زيد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وجرير بن عبد الله البجلي ، وجابر بن سمرة ، وعدي بن حاتم ، وعروة بن مضرس ، وجابر بن عبد الله ، و النعمان بن بشير، و البراء بن عازب ، وعقبة بن عمرو، وزيد بن أرقم ، وأبو سعيد الخدري ، وكعب بن عجرة ، وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة ، وعمران بن حصين ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وخلقٌ كثير .ومن النساء : عائشة ، وأم سلمة ، وميمونة ، أمهات المؤمنين، وأم هانئ ، وأسماء بنت عميس ، وفاطمة بنت قيس . قال الشَّعْبِيُّ : " أدركت خمسمائة من الصحابة أو أكثر " .ورَوَى عن مسروق ، وعلقمة ، والأسود ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، ويحيى بن طلحة ، وعمر بن علي بن أبي طالب ، وسالم بن عبد الله بن مسعود ، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، وأبي بردة بن أبي موسى .



    تلامذة الإمام الشعبي روى عنه الحكمُ ، و حماد ، و أبو إسحاق ، و داود بن أبي هند ، و ابن عون ، و إسماعيل بن أبي خالد ، وعاصم الأحول ، و مكحول الشامي ، و منصور بن عبد الرحمن الغداني ، وعطاء بن السائب ، و مغيرة بن مقسم ، و محمد بن سوقة ، و مجالد ، و يونس بن أبي إسحاق ، و ابن أبي ليلى ، و أبو حنيفة ، وعيسى بن أبي عيسى الحناط ، وعبد الله بن عياش المَنْتُوف ، و أبو بكر الهذلي ، و أممٌ سواهم .


    مؤلفاة الإمام الشعبي صنَّف الكفاية في العبادة والطاعة . قاله صاحب (هدية العارفين) .

    ثناء العلماء على الإمام الشعبي قال عنه ابن حجر: " ثقة ، مشهور، فقيه فاضل " . وقال مكحول : " ما رأيت أفقه منه " . وقال الزهري: " العلماء أربعة : ابن المسيب بالمدينة ، والشَّعْبِيُّ بالكوفة ، والحسن البصري بالبصرة ، و مكحول بالشام " .وقال عنه أبو نعيم في الحلية : " الفقيه القوي، سالك السمت المرضي ، بالعلم الواضح المضي ، والحال الزاكي الوضي ... كان بالأوامر مكتفيًا ، وعن الزواجر منتهيًا ، تاركًا لتكلف الأثقال ، معتنقًا لتحمل الواجب من الأفعال " .









    مواقف من حياة الإمام الشعبي قال رجل للشعبي كلامًا أقذع فيه ، فقال له : " إن كنت صادقًا غفر الله لي ، وإن كنت كاذبًا غفر الله لك " . وكلَّم الشَّعْبِيُّ عُمَرَ بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأَبَى ، فقال له : " أيها الأمير، إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم ، وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم " ، فأطلقهم .

    من كلمات الإمام الشعبي الخالدة - ما ترك أحدٌ في الدنيا شيئًا لله إلا أعطاه الله في الآخرة ما هو خير له .- ما اختلفت أُمَّة بعد نبيِّها إلا ظهر أهلُ باطلها على أهل حقِّها .- لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره ، رأيت أن سفره لم يَضِعْ .- من زوَّج كريمته من فاسق ، فقد قطع رحمها .


    وفاة الإمام الشعبي عاش الشَّعْبِيُّ 87 سنة ، وكانت وفاته فجأة بالكوفة ، وذلك سنة 103هـ/ 721م . و قيل : سنة 104هـ . و قيل : سنة 106هـ .ولمَّا علم الحسن البصري بوفاة الشَّعْبِيِّ قال : " إنا لله وإنا إليه راجعون ، إن كان لقديم السن ، كثير العلم ، وإنه لمن الإسلام بمكان " . رحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته .


    المصادر : - سير أعلام النبلاء ، الذهبي .- حلية الأولياء ، أبو نعيم .- الوافي بالوفيات ، الصفدي .- وفيات الأعيان ، ابن خلّكان .
    -- .

  6. #6

    الإمام الأوزاعي


    الأوزاعي نسبه وقبيلته :


    هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَد الأَوْزَاعِيُّ . قال محمد بن سعد : " و الأوزاع بطن من همدان " . وقال البخاري في تاريخه : " الأوزاع : قرية بدمشق إذا خرجت من باب الفراديس " . وقد وُلِد في بَعْلَبَكَّ سنةَ 88هـ/ 707م ، ونشأ في البقاع ، وسكن بيروت . طفولة الأوزاعي وتربيته :

    قال ابن كثير: " نشأ - أي الأَوْزَاعِيَّ - بالبقاع يتيمًا في حجر أمه ، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد ، وتأدب بنفسه ، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه ، ولا أورع ولا أعلم ، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتًا منه " .


    ملامح من شخصية الأوزاعي


    كثرة علم الأوزاعي وفقهه :


    يُعَدُّ الإمِامُ الأَوْزَاعِيُّ أحد الفُقَهَاءِ الأعلام الذين أثَّرُوا في مَسِيرةِ الفِقْهِ الإِسْلاَمِيِّ ، خَاصَّةً في بلادِ الشَّامِ والأَندلُسِ . قال الحافظ ابن كثير: " وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحوًا من مائتين وعشرين سنة " .ثم انتقل مذهبه إلى الأندلس وانتشر هناك فترة ، ثم ضعف أمره في الشام أمام مذهب الإمام الشافعي ، وضعف في الأندلس أيضًا أمام مذهب الإمام مالك الذي وجد أنصارًا وتلاميذ في الأندلس ، بينما لم يجد مذهب الأَوْزَاعِيِّ الأنصار والتلاميذ .وقد حجَّ مرةً فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ، ومالك بن أنس يسوق به ، والثوري يقول : أفسحوا للشيخ . حتى أجلساه عند الكعبة ، وجلسا بين يديه يأخذان عنه .


    عبادة الأوزاعي وورعه وزهده :

    قال بشر بن المنذر: " كان الأَوْزَاعِيُّ كأنه أعمى من الخشوع " . وقال ابن مسهر : " كان يُحيي الليل صلاة وقرآنًا " . وقال الوليد بن مسلم : " ما رأيت أحدًا أشدَّ اجتهادًا من الأَوْزَاعِيِّ في العبادة " .


    الأوزاعي لا يخشى في الله لومة لائمٍ :

    لما سأله عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام ، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده - عن بني أمية قائلاً : يا أوزاعي ، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد ؟ أجهادًا ورباطًا هو ؟ فقال الأوزاعي : أيها الأمير ، سمعت يحيى بن سعيد الانصاري يقول ، سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول ، سمعت علقمة بن وقاص يقول، سمعت عمر بن الخطاب يقول ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه " .فغضب عبد الله بن علي ، ثم قال: يا أوزاعي ، ما تقول في دماء بني أمية ؟ فقال الأوزاعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .فاستشاط الأمير غيظًا ، ثم قال : ما تقول في أموالهم ؟ فقال الأوزاعي : إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام عليك أيضًا ، وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي . فأمره الأمير بالانصراف ، ثم أمر له بعطيَّةٍ ، فأخذها الأوزاعي ثم تصدق بها .



    شيوخ الإمام الأوزاعي :
    روى عن عطاء بن أبي رباح ، والقاسم بن مُخَيْمرة ، ومحمد بن سيرين حكايةً ، والزهري ، ومحمد بن علي الباقر، وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وقتادة ، وعمرو بن شعيب ، وربيعة بن يزيد ، وشداد ، وأبي عمار، و عبدة بن أبي لبابة ، و بلال بن سعد ، و محمد بن إبراهيم التيمي ، ويحيى بن أبي كثير ، وعبد الله بن عامر اليحصبي ، و مكحول ، وأبي كثير السحيمي ، وخلق كثير .



    تلامذة الإمام الشافعي :
    روى عنه مالك ، و شعبة ، و الثوري ، و ابن المبارك ، وابن أبي الزناد ، و عبد الرزاق ، ومحمد بن حرب ، وخلق كثير . و روى عنه من شيوخه : الزهري ، ويحيى بن أبي كثير، وقتادة ، وغيرهم .


    مؤلفات الأوزاعي :

    1- كتاب السنن في الفقه .2- كتاب المسائل في الفقه .3- كتاب السير.4- كتاب المسند .






    ثناء العلماء على الأوزاعي :

    قال عنه أبو نعيم في الحلية: " الإمام المبجل ، والمقدام المفضل ، عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأَوْزَاعِيُّ ، رضي الله تعالى عنه ، كان واحد زمانه ، وإمام عصره وأوانه ، كان ممن لا يخاف في الله لومة لائم ، مقوالاً بالحق لا يخاف سطوة العظائم " . وقال عنه الحافظ ابن كثير: " الإمام الجليل ، علامة الوقت ... فقيه أهل الشام وإمامهم " .وقال عنه الإمام مالك : " كان الأَوْزَاعِيُّ إمامًا يُقتدى به " . وقال سفيان بن عيينة وغيره : " كان الأَوْزَاعِيُّ إمام أهل زمانه " . وقال محمد بن عجلان : " لم أر أحدًا أنصح للمسلمين من الأَوْزَاعِيِّ " . وقال يحيى بن معين : " العلماء أربعة : الثوري ، وأبو حنيفة ، و مالك ، و الأَوْزَاعِيُّ " .



    من كلماته الأوزاعي الخالدة : - اصبر على السنة ، وقف حيث يقف القوم ، وقل ما قالوا ، وكف عما كفوا ، وليسعك ما وسعهم .- العلم ما جاء عن أصحاب محمد ، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم .- لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب مؤمن .- إذا أراد الله بقوم شرًّا فتح عليهم باب الجدل ، وسدَّ عنهم باب العلم والعمل .- العافية عشرة أجزاء ، تسعة منها صمت ، وجزء منها الهرب من الناس .



    وفاة الأوزاعي : توفي ببيروت يوم الأحد 28 من صفر سنة 157هـ/ 16 يناير 774م ، وهو دون السبعين بسنة واحدة . رحمه الله ، وأسكنه فسيح جناته .




    المراجع : - البداية و النهاية ، ابن كثير .- الفهرست ، ابن النديم .- حلية الأولياء ، أبو نعيم .- وفيات الأعيان ، ابن خلّكان .- العبر في خبر من غبر، الذهبي .

  7. #7
    الإمام العز بن عبد السلام




    العز بن عبد السلام نسبه و قبيلته :



    هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن ، شيخ الإسلام وبقية الأعلام ، الشيخ عز الدين أبو محمد الدمشقيُّ الشافعيُّ . وُلِد بدمشق سنة 577هـ/ 1181م ، ونشأ فيها .

    طفولة العز بن عبد السلام وتربيته : نشأ العزُّ بن عبد السلام في أسرة فقيرة ، وكان هذا من الأسباب التي جعلته يطلب العلم بعد أن أصبح كبيرًا ، وقد أتاح له ذلك - مع اجتهاده في طلب العلم وصبره عليه - أن يتفقه كثيرًا ، وأن يعي ما يحصّله من علم أكثر من غيره .









    ملامح من شخصية العز بن عبد السلام

    فقه العز بن عبد السلام وعلمه : من أهم ملامح شخصية الشيخ (رحمه الله) علمه و فقهه ، فقد تميّز الشيخ وبرع في هذه الناحية كثيرًا حتى لقبّه تلميذه الأول ابنُ دقيق العيد بسلطان العلماء . و مما يشهد بسعة علم الشيخ ما تركه للأمة من مؤلفات كثيرة عظيمة القيمة ، عميقة الدقة في مادتها ، والتي ما زال الكثير منها مخطوطًا ولم يطبع بعد .



    هيبة العز بن عبد السلام وجرأته في الحق : هذا الجانب أيضًا مما تميّز به الشيخ و بلغ فيه مبلغًا عظيمًا حتى اشتهر به ، فلا يُذكر العز بن عبد السلام إلا وتُذكر الهيبة التي يهبها الله للعاملين المخلصين من عباده ، لا يُذكر العز (رحمه الله) إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله ، مهما علا مكانه ، وارتفعت بين الناس مكانته .و نظرة في أي مرحلة من حياة الشيخ نجد هذا الأمر ملازمًا له لا ينفك عنه بحالٍ من الأحوال ، وله مواقف خالدة كثيرة في ذلك ، منها :حينما تولى (الصالح إسماعيل الأيوبي) أمر دمشق - وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكمًا لمصر - فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يُعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف ، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق ، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر. وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام ، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل ، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكًا شخصيًّا حتى يتنازل عنها للصليبيين ، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين ، وخاصةً أن المسلمين على يقين أن الصليبيين ما يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين. و هكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل ، فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء ، ومنعه من الخطابة ، ثم أمر باعتقاله وحبسه .ومن مواقفه الشهيرة أيضًا والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه ، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك ؛ ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد ، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار؛ فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد . واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك ، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام ، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى ، ثم حاولوا تهديده ، ولكنه رفض كل هذا - مع أنه قد جاء مصر بعد اضطهادٍ شديد في دمشق - وأصرَّ على كلمة الحق .فرُفع الأمر إلى الصالح أيوب ، فاستغرب من كلام الشيخ ورفضه . فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يُسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء ، فهو لا يرضى أن يكون صورة مفتي ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله . وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره ليرحل من مصر، وخرج خلف الشيخ العالم الآلافُ من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها ، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييدًا له ، وإنكارًا على مخالفيه . ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب ، فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه ، فقال له العزُّ : إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلا بد أن يباعوا أولاً ، ثم يعتقهم الذي يشتريهم ، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين ، فلا بد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين . و وافق الملك الصالح أيوب ، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يُعرف بـ (بائع الأمراء) .وقد وُصف الشيخ (رحمه الله) أيضًا بالزهد والورع الشديدين ، كما وُصف بالبذل والسخاء والكرم والعطاء ، والعطف على المحتاجين ، مما يجعل من شخصيته (رحمه الله) نموذجًا رائعًا يُقتدى به في كل ميادين الحياة المختلفة . شيوخ العز بن عبد السلام : حضر أبا الحسين أحمد بن الموازيني ، و الخشوعي ، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي ، والقاسم بن عساكر، و ابن طبرزد ، و حنبل المكبر، و ابن الحرستاني ، وغيرهم . وخرَّج له الدمياطي أربعين حديثًا عوالي . و تفقه على الإمام فخر الدين ابن عساكر .

    تلاميذ العز بن عبد السلام : روى عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، والدمياطي ، وأبو الحسين اليونيني ، وغيرهم .


    مؤلفات العز بن عبد السلام : للعز بن عبد السلام (رحمه الله) مؤلفات كثيرة ، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، فله كتاب الإلمام في أدلة الأحكام ، وترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام ، وله كتاب في التفسير، وكتاب شجرة المعارف ، وله كتاب في العقيدة سمّاه عقائد الشيخ عز الدين ، وشرحه الإمام ولي الدين محمد بن أحمد الديباجي ، وله كتاب الفتاوى الموصلية ، وله كتاب القواعد الكبرى في فروع الشافعية ، قال عنه صاحب كشف الظنون : " وليس لأحدٍ مثله " . و كتاب كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار، وله كتاب الغاية في اختصار النهاية .وقد شملت مؤلفات الشيخ التفسير وعلوم القرآن ، والحديث والسيرة النبوية ، وعلم التوحيد ، والفقه وأصوله ، والفتوى .


    منهج العز بن عبد السلام في البحث : يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام ، وفي التعرف على المصالح . ويرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة ، والعقل هو أداة هذا الاستنباط .
    ثناء العلماء على العز بن عبد السلام : قال عنه الذهبي : " بلغ رتبة الاجتهاد ، وانتهت إليه رئاسة المذهب ، مع الزهد والورع ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين ، وقصده الطلبة من الآفاق ، وتخرّج به أئمة " .وقال عنه ابن دقيق العيد : " كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء " . وقال عنه ابن الحاجب : " ابن عبد السلام أفقه من الغزالي". وقال عنه ابن السبكي : " شيخ الإسلام والمسلمين ، وأحد الأئمة الأعلام ، سلطان العلماء ، إمام عصره بلا مدافعة ، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه ، المطلع على حقائق الشريعة و غوامضها ، العارف بمقاصدها " .


    وفاة العز بن عبد السلام : تُوفِّي العز بن عبد السلام (رحمه الله) سنةَ 660هـ/ 1261م ، عن ثلاثٍ وثمانين سنة .



    المصادر : - العز بن عبد السلام ، د. محمد الزحيلي .- كشف الظنون، حاجي خليفة .- قصة التتار من البداية إلى عين جالوت ، د. راغب السرجاني .- أئمة الفقه التسعة ، عبد الرحمن الشرقاوي .
    --

  8. #8
    الإمام الشاطبي





    نسبه و كنيته :


    هو: إبراهيم بن موسى بن محمد ، كنيته : أبو إسحاق، نسبته: الغرناطي ، و الشاطبي ، أما الغرناطي : فنسبة إلى مملكة غرناطة التي عاش فيها الشاطبي - رحمه الله - وأما الشاطبي : فنسبة إلى شاطبة ، مدينة في شرقي الأندلس ، وشرقي قرطبة ، وهي مدينة كبيرة قديمة .عاش هذا الإمام - رحمه الله - في القرن الثامن الهجري، في منطقة غرناطة التي تحكم من قبل بني نصر، وفي هذا القرن –أي: القرن الثامن - عاش أيضاً فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته المشهورون، منهم ابن القيم .والأمة كما نعلم تحتاج في كل قرن إلى التجديد ، فالشاطبي في هذا القرن بدأ في تجديد الدين ؛ لأنه وَجَد في عصره أن الناس بحاجة إلى ذلك ، ثم بدأ ليدخل في طلب العلم - كما سأعرضه عليكم - ولا يزال صابراً في ذلك حتى نفع الله به . غرناطة هذه دخلها الإسلام على يد طارق بن زياد في سنة 92هـ ، في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، لكن في القرن الثامن حصل ما حصل ، فكان هناك حاجة إلى التجديد ، ومعلوم أنه إذا استمر الإسلام فهو كالنهر في أول ما يجرى يكون صافياً ، ثم تدخل الشوائب في أحوال المكلفين والبدع والأهواء فيحتاج إلى تجديد وتصفية في كل عصر من العصور.مملكة غرناطة هذه الدولة دامت ما يقارب القرنين والنصف تقريباً ، وازدهرت في القرن الثامن الهجري ، وهو القرن الذي عاش فيه الشاطبي - رحمه الله - وقد امتاز هذا القرن بالاستقرار السياسي، وظهرت فيه وارتفعت راية الجهاد، لكن أخذ المسلمون في الضعف والترف ، فبدأ في مملكة غرناطة تنتشر البدع وأنغمس المسلمون في الملذات الدنيوية المباحة ، والاهتمام بالزينة والمآكل والمشارب والأعياد غير المباحة ، ودخلوا في كثيرٍ من المحرمات ، فاحتاج الإمام الشاطبي وغيره في هذا القرن في البدء بتوعية الناس إلى المخاطر التي تنتظرهم ، وتذكيرهم بأحكام دينهم الحنيف ، وظهر ذلك في كتاب الاعتصام كما سندرسه - إن شاء الله - كما ظهر ذلك في كتاب اسمه الفتاوى له، فإنه عالج فيه كثيراً من المشاكل التي كانت في عصره ، كان هذا العصر من الحالة الثقافية محل اهتمام من الأمراء بالعلم والعلماء ، وبلغت الحركة الثقافية ذروته في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل المصري عام 733هـ إلى عام 755هـ ، وكان في هذا العصر من اهتمام الأمير أبي الوليد إسماعيل بن سلطان يوسف الثاني بحبه للأدباء والعلماء ، وكانت لهم أيضاً هؤلاء الأمراء كتب في العلم ، وكان هناك علماء مشهورون في هذه الفترة ، وكان المذهب السائد في ذلك العصر في غرناطة هو المذهب المالكي .قدر سنة ولادته بـ: 720هـ ، ونشأ الإمام الشاطبي - رحمه الله - بغرناطة ، وبقي في هذا الجو العلمي الناضج ، ولم يقم بالرحلة خارج الأندلس التي قام بها غيره من الغرناطيين ، بل لازم غرناطة إلى أن توفي بها رحمه الله .نشأ عفيفاً ورعاً متصفاً بصفات طيبة ، وأخلاق سامية نبيلة ، كان ثبتاً صالحاً زاهداً سنيًّا إماماً ، وكان - رحمه الله - أصوليًّا مفسراً ، وفقيهاً محدثاً ، ولغويًّا بيانيًّا ، من أفراد العلماء المحققين الأثبات ، وأكابر الأئمة الثقات ، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع .أقبل الإمام الشاطبي - رحمه الله - على طلب العلم منذ نعومة أظفاره ، فقد كان شغوفاً بالعلم منذ صغره . يحدثنا عن نفسه فيقول : " لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ، ووجه شطر العلم طلبي ، أنظر في عقلياته وشرعياته ، وأصوله وفروعه ، لم أقتصر على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان ، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي ، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة ، وأقدمت في ميادينه إقدام الجري، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه ، وأنقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي ، غائباً عن مقال القائل ، وعذل العاذل ، ومعرضاً عن صد الصاد ، ولوم اللائم ، إلى أن منّ عليّ الرب الكريم الرؤوف الرحيم ، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسباني ، وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد فيه ، وإن الدين قد كمل ، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع ، وما سوى ذلك فضلال وبهتان ، و إفك وخسران ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، والحمد لله والشكر كثيراً كما هو أهله ، فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريق بمقدار ما يسر الله فيه ، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً ، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول " . انتهى ..تلقى الإمام الشاطبي - رحمه الله - عن كثير من العلماء الكبار الذين كانوا من خيرة العلماء بالأندلس في ذلك العصر، وكان لهم الأثر البالغ في تكوين شخصيته وتثقيفه بقسط كبير من المعارف العقلية و النقلية ، حتى تمكن - رحمه الله - من الوقوف بفضل الله على جانب كبير من مقاصد الشريعة ، فأخذ عن الشيخ الزيات ، والشيخ أبو عبد الله العبدري والشيخ أبو سعيد بن لب ، شيخ الشيوخ في غرناطة ، وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته ، وأيضاً من شيوخه أبو عبد الله محمد بن علي الفخار المتوفى سنة 754هـ بغرناطة ، وكان من أحسن قراء الأندلس تلاوة وأداءً، وهو مفتوح عليه في علم العربية ، وقد استفاد منه الشاطبي كما ذكر استفادة كبيرة ، ومنهم الإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني قاضي الجماعة المتوفى سنة 761هـ بغرناطة ، ومنهم أيضاً إمام وقته أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري المعروف بالمقري الكبير المتوفى سنة 758هـ . الإمام الشاطبي - رحمه الله - كان من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها ، وله مؤلفات مفيدة على قلتها .ويبدو أن الإمام الشاطبي لم يكن معروفاً إلا بعد تأليفه كتابيه الموافقات والاعتصام، لذلك فإن المترجمين له لم يتعرضوا لذكر شيء من حياته ونشأته وأسرته بالتفصيل ، وخاصة ما قبل التأليف ، وهكذا كثير من العلماء لا يعرف إلا بعد أن يؤلف ، أو يكون له مواقف يظهر بها علمه .و قد أثنى كثير من العلماء على الإمام الشاطبي ، وحق له أن يثنى عليه ؛ فقد كان - رحمه الله - متفنناً في أنواع من الفنون ، وعلى جانب كبير من مقاصد الشريعة .كان - رحمه الله - مشهوراً بمقاومة البدع وأهلها ، وكان يبين للناس السنن ، ويحذر من البدع، وكان قد تولى الخطابة في الجامع الأعظم ، فلما حاول أن يبين للناس ما دخل على الخطابة والإمامة من البدع ، وجد مقاومة شديدة من أرباب البدع ؛ حيث نسبوه إلى البدعة والضلالة والغباوة والجهل، وفي ذلك يقول : " فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً ، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول، وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن ، أو من البدع ، ثم أطالب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها بالسواد الأعظم ، في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه ، وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة ، وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور، من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريباً ، في جمهور أهل الوقت؛ لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة ، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور ، فقامت عليّ القيامة ، وتواترت عليّ الملامة ، وفَوّق إليّ العتاب سهامه ، ونسبت إلى البدعة والضلالة ، وأنزلت منـزلة أهل الغباوة والجهالة ، شهادة تكتب ، ويسألون عنها يوم القيامة " . انتهى .









    مؤلفات الإمام الشاطبي : مؤلفاته ليست كثيرة ، وقد أحسن من قال :قليل منك يكفيني ولكن *** قليلك لا يقال له قليلفمؤلفاته - رحمه الله - على قلتها لكن الكتاب الواحد منه يعدّ بعشرة كتب من غيره ، فمن ذلك كتاب الاعتصام الذي بين أيدينا الآن ، وكتاب الموافقات في أصول الفقه ، وسماه (عنوان التعريف بأصول التكليف) ، وله أيضاً كتاب في الفتاوى ، عالج فيه مشاكل عصره ، وله أيضاً شعر، وإن كان شعره محدوداً ، وأيضاً من مؤلفاته (شرح رجز ابن مالك في النحو الألفية) ، و(شرح جلي على الخلاصة) في النحو في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف مثله ، وله كتاب المجالس ، شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري ، وله كتاب الإفادات و الإنشادات فهو محقق وموجود .و له بعض كتب أتلفها في حياته لم يقتنع بها منها عنوان (الاتفاق في علم الاشتقاق) و(أصول النحو) وقد أتلفها في حياته ، ومن أشهر كتبه كتاب (الاعتصام) وكتاب (الموافقات) .



    و قد نسب له رحمه الله عدة أمور من ذلك : أن الدعاء لا ينفع ، فإنه - رحمه الله - لم يقل بذلك ، وإنما كان ينكر ما انتشر في ربوع مجتمع غرناطة في عصره من دعاء الإمام , والمأمومون يؤمنون على أدبار الصلوات المفروضة على هيئة الاجتماع ، ويرى أنه بدعة ؛ إذ لم يرد ذلك عن السلف الصالح .قال رحمه الله : " فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه ، كما يعزى إلى بعض الناس ، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة " .ونسب له - رحمه الله - رفضه للصحابة وبغضه لهم ، ولم يقل أيضاً بذلك ، وحاشاه أن يقول ذلك ، وإنما يرى أن ما انتشر في ربوع الأندلس من أدعية أئمة المساجد للخلفاء الراشدين فوق المنابر يوم الجمعة على وجه الالتزام أمر لم يأتِ به الشرع ، فلم يكن يلتزم به في خطبته يوم الجمعة ، مما أدى إلى اتهامه بالرفض ، وفي هذا يقول رحمه الله : " وتارة نسبت إلى الرفض ، وبغض الصحابة بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة على وجه الخصوص ؛ إذ لم يكن ذلك شأن السلف في خطبهم ، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب ".ورمي أيضاً - رحمه الله - بأنه يجيز الخروج على الأئمة والسلاطين ؛ لأنه يرى أن الدعاء للأئمة والسلاطين على وجه الالتزام بدعة ، كما هو منتشر في الأندلس ، بحيث يُعتبر التارك لذلك مبتدعاً، فكان -رحمه الله - لا يلتزم بذلك في خطبته ، وإنما يدعو للمسلمين عامة .و نسب له أنه يعادي أولياء الله ولا يحبهم ولا يتولاهم ، مع أنه بريء من ذلك كله ، وإنما كان - رحمه الله - مقاوماً للبدع وأهلها حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة .ظهرت طائفة مبتدعة في الأندلس تزعم أنها من الصوفية ، وأن هداية الخلق بأيديهم، فكانوا يجتمعون في بعض الليالي على الذكر بأصوات مرتفعة، ثم يغنون ويضربون بالأكف ، ولهم أحوال وشطحات إلى آخر الليل ، فتصدى الشاطبي لبيان زيفهم وزيغهم وضلالاتهم ، وأنهم ليسوا من الصوفية المتقدمين ، مما أدى إلى اتهامه بمعاداة أولياء الله ، وليسوا من أولياء الله في شيء ، وإنما أحوالهم أحوال شيطانية ، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : " وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله ، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة ، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق ، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ، ولم يتشبهوا بهم " .


    عقيدة الشاطبي رحمه الله : الشاطبي من علماء الأمة الكبار ، لكنه - رحمه الل ه- كغيره بشر يصيب ويخطئ ، ولذا فقد ظهرت منه بعض الأخطاء العقدية التي خالف فيها ما عليه أهل السنة والجماعة ، وبالتأمل في كتب الشاطبي - رحمه الله - واستقراء مقالاته يتبين أنه - رحمه الله - يميل إلى قول الأشاعرة في بعض المسائل : فيرى أن خبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني ، وإنما يفيد الظن فقط ، وهذا مستفاد من تقسيماته - رحمه الله - لخبر الواحد إلى الثلاثة وكلها ظنية ، ولم يحكم لأي نوع منها على أنه قطعي ، بل ويتضح هذا المعنى في أنه يرى أن خبر الواحد لا يقطع به ولو صح سنده ، إلا إذا استند إلى آية قرآنية قطعية .إلا أنه - رحمه الله - يرى أن العقيدة تثبت بخبر الواحد إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة ، فيكون خبر الواحد حينئذٍ كجزئي تحت معنى قرآني كلي .


    موقف الشاطبي من التأويل : موقف الإمام الشاطبي - رحمه الله - من التأويل لا يختلف عن موقف الأشاعرة ، بل هو تقرير له من غير تعصب ؛ لأنه - رحمه الله - يرى أن مسألة التأويل مسألة اجتهادية ، لذلك يرى - رحمه الل ه- أن الدليل إذا عارضه قطعي كظهور تشبيه الخالق بالمخلوق فليس بدليل ، فلابد من أن يحتاج له إلى دليل آخر، فهذا أصل مقرر عند كل من سلك مسلك التأويل في صفات البارئ ، وإن كانت تتفاوت درجاتهم في ذلك .بل يذهب - رحمه الله - إلى أبعد من ذلك ، حيث يرى أن المرء إذا وجد خبراً يقتضي في الظاهر خرق العادة ، كظهور تشبيه أو غيره فهو مخير بين أمرين ، وله في أحدهما سعة ، إما التفويض المطلق ، وإما التأويل .ومما يؤكد ما سبق أنه - رحمه الله - يرى أن التأويل يحتاج إليه في بعض المواطن ، بل يرى أنه من طريقة السلف ؛ لأن الأصل عنده التصديق والتسليم المحض لا الإنكار.


    بعض آرائه المنهجية في المسائل العقدية والاختلافات المنهجية، ويتلخص ذلك في النقاط التالية : 1- أنه - رحمه الله- يرى أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين أصحاب البدع في صفات الله تعالى خلاف في الفروع لا في الأصول ، ولا سيما إذا كان ذلك منهم على قصد حسن .2- يعتبر مذهب السلف أحياناً هو الأصل في إثبات الصفات ، وأن التأويل أيضاً غير خارج عن مذهبهم ، بل ويرى أنه قد يحتاج إليه في بعض المواضع ، وأن من هذا حاله خير ممن جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها .3- بل يرى - رحمه الله - أن التسليم المحض والتأويل سيان ، بكل منهما قال السلف لكن التسليم أسلم .4- لم يكتب عقيدته بصورة مستقلة كما فعل غيره ممن كتبوا في العقائد ، وإنما يعقد فصلاً غير مخصص لمسألة العقيدة ، يقرر فيه قاعدة في فن ما ، فيشير إلى عقيدته إشارة خفيفة ، وأحياناً يذكر أثناء مناقشته لأهل البدع ، فيورد أمثلة توضيحية يكون نصيب العقيدة منها قليلاً .5- مناقشته - رحمه الله - في العقيدة كانت مع المعتزلة كثيراً ، ومع الجهمية قليلاً ، ونادراً ما يشير إلى أهل السنة والجماعة ، وإن أشار فمراده بذلك الأشعرية فقط .



    عقيدة الشاطبي في : كلام الله تعالى : ينكر أن يكون كلام الله بالصوت والحرف ، ويثبت كلاماً نفيساً وهو قول الأشاعرة .رؤية الله يوم القيامة : يذهب إلى مذهب الأشاعرة في مسألة الرؤية ، فالأشاعرة يثبتون الرؤية بدون إثبات جهة ولا مقابلة .صفة الاستواء لله : اضطربت أقوال الأشعرية في الاستواء ما بين تأويل وتفويض ، فحكى بعضهم أن التفويض مذهب مال إليه المتقدمون من الأشعرية ، مما جعل كثيراً من المتأخرين يختارونه بحجة أنه أسلم في زعمهم ، وهو الذي ذهب إليه الإمام الشاطبي -رحمه الله - فقد سلك مسلك التفويض ، ويرى أن ذلك مذهب السلف ، مع أن الحقيقة ليس ذلك بمذهب السلف ، وإنما مذهبهم تفويض الكيف والحقيقة لا المعنى .بقية الصفات السمعية : الوجه ، اليدان ، العين ، الرجل ، القدم ، الضحك ، النـزول : قوله - رحمه الله - في هذه الصفات كقوله في الاستواء ، بل صرح - رحمه الله - في موطن آخر أن هذه الصفات جوارح محسوسات لا يجوز إثباتها لله .قال رحمه الله : " ومثاله في ملة الإسلام : مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب المنـزه عن النقائص ، من العين ، واليد ، والرجل ، والوجه ، المحسوسات ، والجهة ، وغير ذلك من الثابت للمحدثات " .و كلامه هذا لا شك أنه يدل على أن عقيدته في هذه الصفات عدم الإثبات ، إذ سمى إثبات هذه الصفات أنها إثبات جوارح ، ولم يقيد ذلك بأن إثباتها مع التنـزيه أن ذلك عقيدة صحيحة .تعريف الإيمان : كان يقول - رحمه الله - بقول الأشعرية في تعريف الإيمان : إن الإيمان هو التصديق في اللغة والشريعة جميعاً ، وإن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان .الكبيرة : يقول بقول أهل السنة والجماعة في مصير مرتكب الكبيرة في الآخرة ، حيث يرى أنه تحت المشيئة ، إن شاء ربه عذبه ، وإن شاء غفر له ، وأنه لا يخلد في النار كالكافر إن دخلها .عذاب القبر ونعيمه : قال : " ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه ، ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه " .و منهج الإمام الشاطبي - رحمه الله - في إثبات الغيبيات والرد على طوائف المبتدعة هو بعينه ما ذكره علماء أهل السنة و الجماعة .ويقول بقول أهل السنة والجماعة في مسألة الميزان، حيث أثبت أنه ميزان صحيح يوزن به الأعمال ، وأن حقيقته وكيفية الوزن به غير معلومة لدينا، بل نؤمن به كما يليق بالدار الآخرة .وسلك مسلك أهل السنة والجماعة في إثبات الصراط يوم القيامة.كان الإمام الشاطبي -رحمه الله- حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة، ولما كان المجتمع الغرناطي قد فشت فيه بدع منكرة، فقد تصدى - رحمه الله - لمقاومتها، مما جعله من المشهورين في المجتمع الغرناطي بمقاومة البدع وأهلها.






    وفاة الإمام الشاطبي :
    وتوفى يوم الثلاثاء الثامن من شهر شعبان سنة790هـ بغرناطة ، وبذلك يكون قد عاش أكثر من سبعين عاماً قضاها - رحمه الل ه- في رحاب العلم الشرعي مكافحاً صابراً في طلب العلم ، ونشر الحق وإحياء السنة وإماتة البدعة .كيف ندرس كتاب عالم بهذه العقيدة ؟ وألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد ؟الجواب : هناك الكثير من علماء الإسلام الكبار، ولهم مؤلفات كثيرة نفع الله بها ، تجد أن هناك ملاحظات إما عليهم أو على كتبهم كابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم ، ولم يقل أحد بترك كتبهم بل الأمة على مدار تاريخها تَدرس وتُدرّس كتبهم وتنبه على أخطائهم ، ولا حرج في ذلك ، وطالب العلم يدرك ويميز الخطأ من الصواب، و الشاطبي - رحمه الله - أحد هؤلاء العلماء .قال شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد أن ذكر مجموعة من العلماء ممن هم مثل الإمام الشاطبي لهم علم وفضل ، ولكنهم شاركوا المبتدعة في بعض أصولهم فقال : " ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف ، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة ، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين ، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم ؛ لما لهم من المحاسن والفضائل ، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل ، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء ، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين ، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ، ويتجاوز لهم عن السيئات : {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحشر :10] ، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه والمؤمنين حيث قالوا : {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة:286]" انتهى . أما جواب السؤال الثاني : ألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد ؟ ....

  9. #9

    الليث بن سعد


    نسب الليث بن سعد وقبيلته

    هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن ، إمام أهل مصر في الفقه والحديث ، وكان ثقةً سريًّا سخيًّا . وقد وُلِد في قَلْقَشَنْدَة - وهي إحدى قرى محافظة القليوبية بمصر - سنةَ 94هـ/ 713م.

    طفولة الليث بن سعد وتربيته : نشأ الليث بن سعد طالبًا للعلم، حريصًا على أن يتلقاه من الشيوخ و العلماء ؛ فطاف البلاد كثيرًا لأجل هذا الأمر .




    ملامح من شخصية الليث بن سعد فقه الليث بن سعد وعلمه :


    لقد شهد الكثير من كبار العلماء والفقهاء للإمام الليث بن سعد (رحمه الله) بنبوغه وكثرة علمه وفقهه ؛ فقال الشافعي (رحمه الله) : " الليث بن سعد أفقه من مالك ، إلا أن أصحابه لم يقوموا به " . وقال الفضل بن زياد : " قال أحمد : ليث كثير العلم ، صحيح الحديث " .

    كرمه الليث بن سعد وسخاؤه : من أبرز الصفات التي تظهر لنا في هذه الشخصية العظيمة صفة الكرم والسخاء ، فمع كثرة علمه وفقهه وورعه كان الليث بن سعد (رحمه الله) كريمًا معطاءً ، حتى عُرف بهذه الصفة وصارت من سجاياه التي لا تنفك عنه بحال من الأحوال .قال الصفدي: " وكان - أي الليث - من الكرماء الأجواد . ويقال : إن دخله كان كل سنة خمسة آلاف دينار، وكان يفرقها في الصلات وغيرها " . وقال منصور بن عمار: " أتيت الليث فأعطاني ألف دينار، وقال : صن بهذه الحكمة التي آتاك الله تعالى". وجاءت امرأة إلى الليث فقالت : يا أبا الحارث ، إن ابنًا لي عليلٌ ، واشتهى عسلاً . فقال : " يا غلام ، أعطها مِرْطًا من عسل " . والمرط : عشرون ومائة رطل .


    شيوخ الليث بن سعد :
    أسند الليث عن خلق كثير من التابعين كعطاء ، ونافع ، وأبي الزبير، والزهري . وقيل : إنه أدرك نيِّفًا وخمسين تابعيًّا .


    تلاميذ الليث بن سعد : روى عنه خلق كثير، منهم ابن عجلان شيخه، وابن لهيعة ، وهشيم ، وابن وهب ، وابن المبارك ، و عطاف بن خالد ، وأشهب ، و القعنبي ، و حجين بن المثنى ، وسعيد بن أبي مريم ، وآدم بن أبي إياس ، وأحمد بن يونس ، وشعيب بن الليث ولده ، ويحيى بن بكير، وعبد الله بن عبد الحكم ، ومنصور بن سلمة ، ويونس بن محمد ، وأبو النضر هاشم بن القاسم ، ويحيى بن يحيى الليثي ، وعمرو بن خالد ، وعبد الله بن يوسف التنيسي .


    بعض مؤلفات الليث بن سعد كتاب التاريخ، وكتاب المسائل في الفقه :


    ما قيل عن الليث بن سعد قال أبو حاتم : " هو أحب إليَّ من مُفَضَّل بن فَضالة " . وقال أبو داود : " حدثني محمد بن الحسين، سمعت أحمد يقول : الليث ثقة ، ولكن في أخذه سهولة " . وقال سعيد الآدم : " قال العلاء بن كثير : الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا " .وقال ابن سعد : " كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه " . و قال ابن تغري بردي : " كان كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره ، بحيث أن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته " .








    وفاة الليث بن سعد : كانت وفاته (رحمه الله) يوم الجمعة 15 من شهر شعبان 175هـ/ 16 من ديسمبر 791م . قال خالد بن عبد السلام الصدفي : " شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي ، فما رأيت جنازة قَطُّ أعظم منها ، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن ، وهم يعزِّي بعضهم بعضًا ، ويبكون ؛ فقلت : يا أبتِ ، كأنَّ كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة . فقال : يا بُنيَّ ، لا ترى مثله أبدًا " .


    المراجع - صفة الصفوة ، ابن الجوزي .- سير أعلام النبلاء ، الذهبي .- وفيات الأعيان ، ابن خَلِّكَان .- الوافي بالوفيات ، الصفدي .- الأعلام ، الزركلي .- هدية العارفين ، الباباني .
    --

  10. #10
    سلسلة الفقهاء





    الإمام أبو حنيفة



    أبو حنيفة نسبه وقبيلته



    هو النعمان بن ثابت بن المَرْزُبان ، وكنيته أبو حنيفة ، من أبناء فارس الأحرار، ينتسب إلى أسرة شريفة في قومه ، أصله من كابل (عاصمة أفغانستان اليوم) ، أسلم جَدُّه المرزُبان أيام عمر رضي الله عنه ، وتحوَّل إلى الكوفة ، واتخذها سكنًا .






    أبو حنيفة مولده ونشأته

    وُلِد أبو حنيفة رحمه الله بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة على القول الراجح (699م) . ونشأ رحمه الله بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة ، ويبدو أنه كان وحيد أبويه ، وكان أبوه يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة ، ولقد خَلَف أبو حنيفة أباه بعد ذلك فيه . حفظ أبو حنيفة القرآن الكريم في صغره ، شأنه شأن أمثاله من ذوي النباهة والصلاح . وحين بلغ السادسة عشرة من عمره خرج به أبوه لأداء فريضة الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم و مسجده .


    و كان أول ما اتجه إليه أبو حنيفة من العلوم علم أصول الدين ومناقشة أهل الإلحاد والضلال ، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة ، يناقش تارةً ويجادل ويرد الشبهات عن الشريعة تارة أخرى ، وكان يدفع عن الشريعة ما يريد أهل الضلال أن يلصقوه بها ، فناقش جهم بن صفوان حتى أسكته ، وجادل الملاحدة حتى أقرَّهم على الشريعة ، كما ناظر المعتزلة والخوارج فألزمهم الحجة ، وجادل غلاة الشيعة فأقنعهم .
    مضى الإمام أبو حنيفة رحمه الله في هذه السبيل من علم الكلام وأصول الدين ، ومجادلة الزائغين وأهل الضلال ، حتى أصبح عَلَمًا يُشار إليه بالبنان ، وهو ما يزال في العشرين من عمره ، وقد اتخذ حلقة خاصة في مسجد الكوفة ، يجلس إليه فيها طلاب هذا النوع من العلوم . ثم توجَّه أبو حنيفة رحمه الله إلى علم الفقه ، وتفقَّه على حمَّاد بن أبي سليمان ، حتى صار مقرَّبًا عنده ؛ قال حماد : " لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة " .





    ملامح من شخصية أبي حنيفة وأخلاقه

    ورعه وعلمه :



    كان زاهدًا ورعًا ، أراده يزيد بن هبيرة أمير العراق أيام مروان بن محمد أن يلي القضاء فأَبَى ، وأراده بعد ذلك المنصور العباسي على القضاء فامتنع ، وقال : " لن أصلح للقضاء " . فحلف عليه المنصور ليفعلَنَّ ، فحلف أبو حنيفة أنه لن يفعل ؛ فحبسه المنصور .
    قال ابن المبارك : قلتُ لسفيان الثوري : ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة ، ما سمعتُه يغتاب عدوًّا له . قال : والله هو أعقل من أن يُسلِّط على حسناته ما يذهب بها .
    و كان واسع العلم في كل العلوم الإسلامية ، وهو الذي تجرَّد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها بالقياس ، وفرَّع للفقه فروعًا زاد في فروعه ، وقد تبع أبا حنيفة جُلُّ الفقهاء بعده ، ففرضوا المسائل وقدروا وقوعها ثم بيَّنوا أحكامها .





    عبادة أبي حنيفة لله تعالى :

    كان أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم ، ثم حين اشتغل بالأصول والاستنباط واجتمع حوله الأصحاب أخذ يختمه في ثلاثٍ في الوتر. وصلى أبو حنيفة ثلاثين سنة صلاة الفجر بوضوء العتمة، وحجَّ خمسًا وخمسين حجة .
    قال مِسْعَر بن كِدَام : " رأيتُ الإمام يصلي الغداة ثم يجلس للعلم إلى أن يصلي الظهر، ثم يجلس إلى العصر ثم إلى قريب المغرب ثم إلى العشاء ، فقلتُ في نفسي : متى يتفرغ للعبادة ؟ فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد - وكان بيته بجوار المسجد الذي يؤم فيه حِسْبة لله تعالى - فانتصب للصلاة إلى الفجر، ثم دخل فلبس ثيابه - وكانت له ثياب خاصة يلبسها لقيام الليل - وخرج إلى صلاة الصبح ففعل كما فعل ، ثم تعاهدته على هذه الحالة فما رأيته مفطرًا ، ولا بالليل نائمًا ".





    شيوخ أبو حنيفة

    بلغ عدد شيوخ أبي حنيفة رحمه الله أربعة آلاف شيخ ، فيهم سبعة من الصحابة ، وثلاثة وتسعون من التابعين ، والباقي من أتباعهم ، ولا غرابة في هذا ولا عجب ، فقد عاش رحمه الله تعالى سبعين سنة ، وحج خمسًا وخمسين مرة ، وموسم الحج يجمع علماء العالم الإسلامي في الحرمين الشريفين . قال الإمام أبو حفص الكبير بعد أن ذكر عدد شيوخ الإمام رحمه الله : " وقد صنَّف في ذلك جماعة من العلماء ، و رتبوهم على ترتيب حروف المعجم " .
    وأستاذ الإمام أبي حنيفة هو حماد بن أبي سليمان ، وهو تابعيٌّ كوفي ثقة، روى عنه أبو حنيفة رحمه الله ألفي حديث من أحاديث الأحكام ، وأكثر من ثلث أحاديث الإمام في مسنده الذي جمعه الحَصْكَفي ، هي برواية الإمام عنه ، عن إبراهيم بن أبي موسى الأشعري ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنهم .
    ومن شيوخه رحمه الله أيضًا : إبراهيم بن محمد المنتشر الكوفي ، وإبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي ، وأيوب السختياني البصري ، والحارث بن عبد الرحمن الهمذاني الكوفي ، وربيعة بن عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة الرأي ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أحد الفقهاء السبعة ، وسعيد بن مسروق والد سفيان الثوري ، وسليمان بن يسار الهلالي المدني ، وعاصم بن كليب بن شهاب الكوفي ، وغيرهم الكثير .






    تلامذة أبي حنيفة

    روى عنه جماعة ، منهم : ابنه حماد ، و إبراهيم بن طهمان ، وإسحاق بن يوسف الأزرق ، وأسد بن عمرو القاضي ، والحسن بن زياد اللؤلئِيُّ ، وحمزة الزيات ، وداود الطائي ، وزفر ، وعبد الرزاق ، وأبو نعيم ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، وهشيم ، و وكيع ، وأبو يوسف القاضي ، وغيرهم كثير .






    منهج الإمام أبي حنيفة في البحث

    ابتكر الإمام أبو حنيفة رحمه الله نموذجًا منهجيًّا في تقرير مسائل الاجتهاد ، وذلك عن طريق عرض المسألة على تلاميذ العلماء في حلقة الدرس ليدلي كلٌّ بدلوه ، ويذكر ما يرى لرأيه من حجة ، ثم يعقِّب هو على آرائهم بما يدفعها بالنقل أو الرأي ، ويصوِّب صواب أهل الصواب ، ويؤيده بما عنده من أدلةٍ ، و لربما تقضَّت أيام حتى يتم تقرير تلك المسألة . وهذه هي الدراسة المنهجية الحرة الشريفة التي يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من التلامذة ، كما يظهر علم الأستاذ وفضله ، فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه على تلك الطريقة ، كان من العسير نقدها فضلاً عن نقضها .
    قال المُوفَّق المكي : " وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم ، لم يستبد فيه بنفسه دونهم اجتهادًا منه في الدين ، ومبالغة في النصيحة لله ولرسوله والمؤمنين ، فكان يلقي مسألة مسألة ، يقلِّبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده ، وربما ناظرهم شهرًا أو أكثر من ذلك ، حتى يستقر أحد الأقوال فيها ، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول ، حتى أثبت الأصول كلها . و إذا أُشكلت عليه مسألة قال لأصحابه : ما هذا إلا لذنب أذنبته . ويستغفر، وربما قام وصلَّى ، فتنكشف له المسألة ، ويقول : رجوتُ أنه تيب عليَّ " .






    آراء العلماء في أبي حنيفة

    قال وكيع بن الجرَّاح شيخ الشافعي : " كان أبو حنيفة عظيم الأمانة ، وكان يُؤثِر الله على كل شيءٍ ، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها " . و قال الإمام الشافعي : " ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالاً على أبي حنيفة ، وما قامت النساء على رجلٍ أعقل من أبي حنيفة ".
    وقال الإمام أحمد بن حنبل : " إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحلٍّ لا يدركه أحد ، ولقد ضُرب بالسياط لِيَلِيَ للمنصور فلم يفعل ، فرحمة الله عليه ورضوانه " . و قال الإمام أبو يوسف : " كانوا يقولون : أبو حنيفة زينَّه الله بالفقه ، والعلم ، والسخاء ، والبذل ، وأخلاق القرآن التي كانت فيه " . وقال عنه الإمام سفيان الثوري : " ما مقلت عيناي مثل أبي حنيفة " .






    وفاة أبي حنيفة

    تُوفِّي رحمه الله ببغداد سنة 150هـ/ 767م . يقول ابن كثير : " وصُلِّي عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام ، وقبره هناك رحمه الله ".





    المراجع

    - أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء ، وهبي سليمان ، دار القلم .
    - البداية و النهاية ، الحافظ ابن كثير .

المواضيع المتشابهه

  1. مناهج الفقهاء في التعامل مع النوازل الفقهية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-10-2015, 10:15 PM
  2. من أدبيات الشيخ .علي الطنطاوي "أديب الفقهاء"رحمة الله.
    بواسطة Husni Meho في المنتدى فرسان التجارب الدعوية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-16-2015, 01:22 AM
  3. جمهرة تراجم الفقهاء المالكية
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-21-2014, 11:13 AM
  4. أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-12-2014, 07:34 AM
  5. من غزل الفقهاء لـ علي الطنطاوي
    بواسطة عبد الرحمن سليمان في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-30-2013, 10:00 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •