الدكتور جيلالي بوبكر

أصول الفقه في الفكر الإسلامي المعاصر
1- عند محمد باقر الصدر: معالم جديدة لعلم أصول الفقه.
كان محمد باقر الصدر "1935-1980" بشهادة العديد من تلاميذه والمهتمين بفـكره و محاولاته التجديدية في عصرنا الحاضر من المفكرين الأوائل الذين اهتموا بالفقه و الاجتهاد و صلتهما بمستقبل المسلمين في موضوع نشره بعنوان "الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد" عبّر فيه عن رؤية تنويرية شديدة الوعي والإدراك بالانكماش و التراجع الذي حصل لحركة الاجتهاد، و تحول الفقه من فقه الأمة و المجتمع إلى فقه الفرد والأحوال الشخصية، و هيمنة النزعة الفردية على ذهنية الفقيه، وعلى التفكير الفقهي عامة، و ضاق الفهم و المضمون الاجتماعي العام و الواسع في النظر للنص الفقهي والدين عموما.
فلما كان كل من الاجتهاد و الفقه مرتبطا بأصول الفقه، فقـد أدرك محمد باقر الصدر الحاجة الشديدة الإلحاح إلى تدوين مدخل يتبيّن فـيه تاريخ حركـة الاجتهاد و طبيعة الظروف التي أثّرت على تطوراتها وتحوّلاتها في صورة مراحل متعاقبة في مؤلفه "المعالم الجيدة في الأصول" الذي صدر سنة 1964م. ويعتبر الباحثون والمهتمون بشأن تجديد التراث عامة وتجديد أصول الفقه خاصة هذا الكتاب أحسن ما كُتب في موضوع أصول الفقه، ومرجعا مهمّا في ذلك. ويقول الصدر في هذا: «و إنّما الهدف الذي أتوخاه من هذا الكتاب هو تقديم علم الأصول بصورة بدائية و مبسطة للمبتدئين في دراسة هذا العلم و لهذا راعيت في كل جوانب الكتاب أن يكون في مستوى هذا الهدف».[1]
أما كتابه "دروس في أصول الفقه" و الذي صدر سنة 1977 فأراد منه صاحبه أن يدرس أصول الفقه بكونه علما من خلال منهج متعاقب المراحل وبطريقة تصاعدية تُسهّل عملية الفهم و تُطوّر الذهنية الأصولية بصورة مرحلية تدريجية على النمط الأكاديمي الحديث في التعليم العالي، لا أن يُدرس من خلال أفكار و آراء و سبل تنتمي إلى أزمنة غابرة و تُنسب إلى أشخاص مهما كانت درجة تفوقهم العلمي، و لذا رأى بأن كتاب "دروس في أصول الفقه" لا يدل في شيء منه على أرائه ووجهات نظره الأصولية التي يتشكل بها، و لا يشرح قناعاته التي توصل إليها.
أراد من كتابه "دروس في أصول الفقه" تدريس علم أصول الفقه بالمستوى الذي بلغه العلم في حلقات تطوره تقدمه، وبالنظريات والابتكارات المتجددة التي دخلت على هذا العلم، لا أن يُدرس بالمستوى الذي عليه قبل عدة قرون، و قد شرح رؤيته المنهجية في مقدمة كتابه "دروس في أصول الفقه" حيث تضمنت ملاحظات نقدية مهمة جديرة بالقراءة والتأمل.
من جانب آخر قد أفصح محمد باقر الصدر عن قيمة الفقه الإسلامي وثروته العلمية للوسط العلمي و الأكاديمي و علاقته بالعلوم الاجتماعية وبالاقتصاد بوجه خاص، و هو من أكثر العلوم اهتماما في الأنظمة الاجتماعية السائدة في العالم، لذلك ألّف كتابه "اقتصادنا" الذي عاد فيه إلى الفقه و ثروته العلمية واجتهاداته التشريعية، و قد رأى المفكر "محمد المبارك" في هذا الكتاب أول محاولة علمية ومبادرة فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة الإسلامية بطريقة جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته.
علم أصول الفقه علم عملي يضع قواعد النظر واستنباط الأحكام. هو علم نظري عملي يضع قواعد الاستدلال من أجل تطبيق الأحكام.يشبه العقل النظري العملي، أمّا علم الفقه فهو العقل العملي.
اختيار علم أصول الفقه للتجديد فيه هو اختيار لأهم مواطن الإبداع في العلوم الإسلامية لأنه:- العلم الإسلامي الإبداعي بالأصالة – تأسس علم الأصول بشقيه أصول الدين و أصول الفقه قبل عصر الترجمة – فهو سابق على الفلسفة- وهو الذي يعبّر عن روح الحضارة الإسلامية .
علم توجّه إلى الواقع للسيطرة عليه عن طريق تنظيم الأفعال الإنسانية فيه ووضع قواعد للسلوك البشري، غايته ليست الآخرة بل الدنيا والآخرة، وليس الدين بل الدين وعمارة الأرض، و ليس الله وحده بل الله و العالم معا.
الله هو الشارع، واضع الشريعة، و الشريعة وضعية لها بنيتها في الواقع وفي الموقف الإنساني فلم تكن هناك حاجة لتشخيص الشريعة في الشارع. ليس مثل التصوف غايته الاتصال بالعقل الفعّال بل العقل الاستنباطي و الاستقراء التجريبي مع مباحث اللغة وتحليل الألفاظ.
اهتم محمد باقر الصدر بعلم أصول الفقه و له أعمال كثيرة فيه أهمها خمسة هي مباحث الدليل اللّفظي في ثلاثة أجزاء، و مباحث الحجج و الأصول العملية في أربعة أجزاء، و دروس في علم الأصول في ثلاثة حلقات في جزأين، و كتابه المعالم الجديدة للأصول و يضم جزء خاصا بالدليل و أنواعه اللفظي والبرهاني و الاستقرائي، أما الجزء الثاني فيخص الأصل العملي مثل الاستصحاب. ومؤلفه القواعد المنطقية للاستقراء وهو عبارة عن تنظير لعلم أصول الفقه وهو ليس في علم أصول الفقه مباشرة بل تنظيرا له، فيصبح منطقا خالصا يجمع بين الاستنباط والاستقراء، استنباط الأصـل واستقراء الفرع، بعد نقد المنطق الصوري الخالص والمنطق التجريبي الخالص، من أجل تأسيس منطق ذاتي للمعرفة وفي هذا يقول:«ونحن في هذا الكتاب إذ نحاول إعادة بناء نظرية المعرفة على أساس معين ودراسة نقاطها الأساسية في ضوء يختلف عما تقدم في كتاب فلسفتنا، سوف نتخذ من دراسة الدليل الاستقرائي و معالجة تلك الثغرة فيه أساسا لمحاولتنا ».[2]وقد طبّق المنطق الذاتي الصدري على أصول الفقه "السيد كمال الحيدري" في كتابه "المذهب الذاتي في نظرية المعرفة".
إن أعمال محمد باقر الصدر المتعلقة بمباحث الدليل اللّفـظي وبمباحث الحـجج و الأصول العملية من تأليف "محمود الهاشمي"، إلاّ أن ذلك من دروس الصدر في علم أصول الفقه. فالأفكار للصدر أما التأليف والتحرير لأحد تلاميذه.
الاختلاف واضح بين علم أصول الدين عند الشيعة و عند السنّة إلاّ أن ذلك الاختلاف قليل بين الجماعتين في علم أصول الفقه. يزخر أصول الفقه الشيعي بمصطلحات و مفاهيم غير مألوفة لدى علم الأصول السني مثل: التعهد، المنجزية، العلاقة، المرئية، التبادر،التزاحم، التعارض المستقر و غير المستقر، الورود، الأدلة المحرزة، هو ما يجعل المنهج الأصولي السنّي يعيش التجريد في المعاني والغرابة في الألفاظ، و مع ذلك توجد مصطلحات مشتركة بين الشيعة و السنة، وهي كثيرة.
ركّز الصدر في علم أصول الفقه ككل على طرق الاستدلال لا على الأدلة أو الأحكام أو المجتهد. المهم في العلم منهجه و المنهج هنا يتعلق بمناهج الاستدلال، فقد طغى عليه المنطق، و منطق الاستدلال يتعاطى مع النص و هو الأصل و مع الواقع و هو الفرع. صارت الألفاظ أهم مبحث في منطق الاستدلال. و الفرع هو الواقع الجديد الذي يحتاج إلى دليل، قام دور العقل و دور الدليل العقلي على التقابل، و منطق الاستدلال لا يحصل من خلال علاقة آلية بين الدليل اللّفظي و الدليل العقلي نتج الاستصحاب و هو دليل لا يميّز بين النص و العقل بين المنطق والوحي بل يقوم على المصلحة العامة التي هي أساس التشريع، ونظرا لأهمية مباحث الألفاظ لدى محمد باقر الصدر خصّص لها كتابا من أربعة أجزاء عنوانه "مباحث الدليل اللّفظي".
عرض الصدر عدّة نظريات في الدلالة اللّفظية كنظرية التعهد والاعتبار ونظرية الوضع. والدلالة الوضعية لا تقوم على التصور والتصديق بل تتوقف على الإرادة من دون أن تكون شرطا لها، الدلالة جماع الذات والموضوع الوضع و القصد، واللّفظ يدلّ حقيقة على المعنى كما يدلّ عليه مجازا، تصبح الحقيقة و المجاز جزء من مباحث الدلالة اللّغوية، و العلاقات ليست مجرد رموز اصطلاحية ومواصفات متفق عليها بل هي علاقات تُشخص المعـنى و تُحوله من عالم الذهن إلى عالم العين، وهي عدة أنواع:علاقات التبـادر و علاقات صحة العمل وعلاقات التعارض وغيرها، وفي هذا يقول الصدر: «الاستدلال بالدليل اللّفظي على الحكم الشرعي يرتبط بالنظام اللّغوي العام للدلالة».[3]
إذا كان المنطق أنواعا: صوريا و استقرائيا و استعماليا لأن نظرية الاستعمال التي تُبيّن أن الاستعمال هو مرآة و علاقة و هي تصورات ومصطلحات جديدة في علم الأصول، الاستعمال يعني إيجاد أقرب إلى الفعل الخلاق منه إلى الأداتية و الوسائلية.
و من خلال كتابه "الأسس المنطقية للاستقراء" استخدم الدليل الاستقرائي مع الدليل اللفظي و الدليل البرهاني و العقلي، و يعتبر القياس خطوة من خطوات الاستقراء و تعتبر المصادر الخارجية مثل الإجماع والشهرة و الخبر و غيرها من الدليل الاستقرائي غير المباشر. والاستقراء عند تكرار الأفعال الجزئية لأجل استخلاص قواعد عامة، وعلم القواعد الفقهية يتكون من مجموع القواعد المستخلصة من استقراء الأفعال الجزئيـة وسُمّي هذا العلم بعلم "الأشباه والنظائر" عند أهل السنة، و يقول الصدر في ذلك:«و نحن نسمي كل دليل يقوم على أساس القرائن الناقصة و يستمد قوّته من تجمع تلك القرائن دليلا استقرائيا».[4]
ويمثل منطق الاستدلال وعلم القواعد الفقهية المجال الثاني في أصول الفقه بعد مباحث الألفاظ و التحليلات اللغوية، من خلال الانطلاق من منطق اللغة إلى منطق العقل، و يتشكل منطق العقل الاستدلالي من أربعة أجزاء جزء خاص بالحجج و الأمارات التي تؤدي إلى اليقين أو الظن، و هما أهم معيارين في المعرفة. و الجزء الثاني يخـص البراءة و التخيير و الاحتياط و هي أصول ذات طابع عملي أكثر منه نظري، أما الجزء الثالث فيختص بالاستصحاب و أما الجزء الرابع في العملية فموضوعه تعارض الأدلة الشرعية و يستعمل لفظ التزاحم أي تدافع الأدلة في اتجاه الإثبات من نحو اتجاهات متباينة في الفعل و جميعها صحيحة.
يشهد العديد من الباحثين من تلاميذ الصدر و غيرهم أنّه قد تجاوز أصول الفقه الشيعي لدى القدماء، و صار واحدا من العلماء المجتهدين المجدّدين في عصرنا الحاضر. كان يملك الوعي بضرورة الاجتهاد والتجديد من خلال أعماله و كتاباته و دروسه. فكتابه "المعالم الجديدة للأصول" ملمح على إحساسه بضرورة الجدّة وشعوره بقصور أصول الفقه القديم عن مواكبة روح عصره الجديدة والمتجدّدة باستمرار في محتوياتها وأطرها في كافة مجالات الحياة. و يصف محاولته "السيد كمال الحيدري": «و قد تعرّض السيد الصدر ضمن أبحاثه الأصولية لدى مناقشته للإخباريين مدى حجية البراهين العقلية إلى نمط التفكير المنطقي الأرسطي و نقده بما لم يسبقه به أحد، و بعد ذلك طوّر من تلك الأبحاث و أكملها و أضاف إليها ما لم يكن يناسب ذكره ضمن الأبحاث الأصولية فأخرجها باسم كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء" الذي هو عبارة عن تنظير لأصول الفقه».[5]
علم أصول الفقه توقف عن التجديد بسبب الجمود و التحجر و التقليد على أنه نشأ و تطور في مرحلته الأولى تبعا لنشوء و تطور الحضارة الإسلامية بجميع علومها، على الرغم من أنه يمثل علم مصالح الناس المتجددة فلم يعرف التجديد إلاّ بعض المحاولات المحتشمة في العصر الحديث و الحاضر مثل محاولة محمد باقر الصدر التي تُعدّ بحق محاولة لإعادة بناء أصول الفقه تبعا لظروف العصر ومقتضياته و مستجداته. فثار منهج الصدر على الجمود و التحجر باسم السنّة وغيرها كما ثار على المنهج الإخباري المتقوقع في المذهبية و التمذهب، و اعتبره منطق الفقه و منطق الاستعمال يعطي الأولوية للدراية على الرواية و للعقل على النقل و للنص على الواقع و للمصلحة على النص و للعالم على الدين.
فالدليل العقلي له أولوية على الدليل اللفظي واليقين الداخلي مصدره العقل الخارجي بالإضافة إلى مصادر التشريع و النصوص المكتوبة، أما الروايات فهي ظنية بالرغم من تلازمها في المبدأ بين العقل والشرع. أما الدليل العقلي هو الدليل البرهاني و السيرة هي سيرة شرعية تستند إلى الرواية و سيرة عقلية تستند إلى قاعدة عقلية و تكـون أقـرب إلـى اليقين و الدليل العقلي قد يكون استقرائيا و يكون فيه القياس خطوة من خطوات الاستقراء، لأن العقل يتعاطى مع الواقع ويشترك مع الحس دون الانغماس في الاستقراء التجريبي البحت، و الاستقراء يرتكز على أسس منطقية، كل هذا متصل بالوجدان، فالعقل و الحس و الاستنباط و الاستقراء كل هذه المصادر و المناهج في الشعور أدوات إثباتية وجدانية. فالشريعة لم تأت لتأمر و تنهي فحسب بل تجمع بين الشرع و الواقع الإنساني، بيـن الوحـي و الوجدان، و الأحكام الشرعية لها أسس نفسية، الشعور محتواه في الشـرع و الشرع مدرك شعوري في واقع إنساني اجتماعي، و مصادر الشرع هي مصادر المجال الوجداني الذاتي في الإدراك الشرعي، لذا صار دليل الاستصحاب مهمّا جدا في علم أصول الفقه، لأنه جمع بين ما هو عقلي وما هو وجداني في الأدلة الأصولية.
و الأصل في الفعل التخيير أو الاختيار لأن الطبيعـة الإنسانية لا تفـقه الإكـراه و واحدية الاتجاه، فالتخيير هو أصل من الأصـول العملية للاستدلال والطبيعة خيّرة تتمتع بالبراءة، و الأصل في الأشياء الإباحة والشر أمر طارئ في حياة الإنسان و هو بريء بطبيعته يخلو من الشر، لكن ذلك في إطار أخذ الحيطة و الحذر للاحتراز من الشبهات، فالطبيعة البشرية مليئة بالإمكانات والشرع يساعدها على السعي في اتجاه الكمال.
تظهر في المنهج الأصولي الصدري مصطلحات كثيرة قديمة بمعان جديدة أو جديدة بمعانيها الجديدة مثل الواقع و العرف والوضع، لتعكس بنية جديدة لمادة علمية جديدة يتكون منها المنهج الأصولي الصدري،و يتبيّن بوضوح أن الغاية من الشرع والوحي و النص هي العالم والتوجه إليه، أي الانغماس داخله و بذل الوسع كدحا و عملا لعمارة الأرض وصلاح الدنيا. فالشريعة وضعية تُبنى في الواقع.وحين تتعارض الأدلة يحصل الجمع بينها بواسطة العرف الذي هو جزء من الواقع، والدليل يجمع بين الظاهر والواقع، والعقل النظري يكشف عن الواقع لا عن نفسه، والظهور يتميّز بالذاتية والموضوعية، بالعقلية و الواقعية معا.
ومن الاصطلاحات الأصولية الجديدة اصطلاح عند الصدر "العناصر المشتركة" الذي أُطلق على القواعد الأصولية، و عنوان "منطق الفقه" يدل على علم أصول الفقه، وتطبيق قواعد منطق الفقه للاستفادة منها في كل باب من الأبواب الفقهية مثلما يستفاد من علم المنطق بصورة عامة في كافة الفنون و العلوم في اللغة الأصولية الكثير من الاصطلاحات مثل التجرّي، الأدلة المحرزة، الحفظ الشرعي، التزاحم، نظرية العرف الأكيد، مسـلك حق الطاعة، القطع الذاتي، والتعارض المستقر وغيره، وتحرّر الأسلوب الصدري في التأليف من التقليد المألوف من حيث تصنيف و ترتيب البحوث والموضوعات، أو من حيث الأسلوب الخطابي السردي لدى الكثير من الباحثين القدماء والمحدثين.
لقد كان للصدر أراء فقهية و أصولية بارزة تميّز بها عن غيره فأضاف فيها الجديد إلى الذين سبقوه كما خالفهم في العديد من مسائل الأصول منها استخدامه لنظرية حساب الاحتمالات في حجية الإجماع، هذه النظرية حررته من عامل الكم الذي يفهم اعتباره من كلمات الكثيرين المفسرين للإجماع و يرى بأن عامل الكم لا موضوعية فيه وأن مقياس حجية الإجماع هو كل ما أدت ملاحظته تحقيق العلم أو التحقق الملحق به، يتطابق محتوى الإجماع للواقع و أن الحكم الذي قام عليه صادر من الشارع.
ومن المبتكرات في أصول الفقه إنكاره للبراءة العقلية المعتمدة على نظرية قبح العقاب بلا بيان، والقدماء أخذوا هذه النظرية وبنوا عليها البراءة العقلية في كل مورد لا يوجد فيه بيان من قبل الشارع على الحكم الشرعي.
كان الصدر قد جمع مبررات وضع منهج دراسي في أصول الفقه دفعته إليه حالة الجمود و التحجر الناتجة عن التقليد التي أصابت المنهج الأصولي، كما شدّه إليه التطلّع إلى التجديد في قراءة الأصول و إعادة بنائها وفق متطلبات العصر و مقتضياته. فأصبحت الكتب الدراسية القديمة تمثل الماضي وغير مواكبة للعصر و لحاجياته و لا تعبر في مضامينها عن مسائل و مباحث الأصول بالدقة المطلوبة و الكفاية اللاّزمة بل عماّ يعتقد مصنفوها و عن أفكارهم و للردّ على معارضيهم لأجل إقناعهم ، فهي تفتقد الغرض الجوهري في طريقة التدريس وهو تكوين الطالب تكوينا متجانسا بالتنسيق بين عدّة مراحل في مساره التعليمي. كما تعبر عناوين المسائل والمباحث الأصولية بطريقة تاريخية موروثة لم تعد تعبر عن الواقع ، هي المبررات التي دعت الصدر إلى استبدال الكتب القديمة بما توصل إليه من قراءة جديدة و فهم جديد و تأليف جديد في أصول الفقه، و هي محاولة جديدة لإعادة بناء علم أصول الفقه تستدعي الاهتمام و العناية قراءة وبحثا وعرضا على الواقع، و يصف "السيد كمال الحيدري" هذه المحاولة قائلا: "هي أفق جديد و نافذة جديدة اخترق بها محمد باقر الصدر جدار الفصل السميك بين المنهج العلمي الحديث و بين معطيات التاريخ الثقافي لحكماء ومناطـقة المسلمـين وكان هذا الأفق وصلا أصيلا صدر إثر تثوير إمكانات العقل والتراث دون أن يتردد صاحبه في الإفادة مما أنجزه الآخرون ، و دون أن يستسلم فيقلّد ما طرحه حكماء الغرب".[6]



2- عند علال الفاسي: مقاصد الشريعة من أصول الفقه
المقصود من مقاصد الشريعة عند علال الفاسي"1910-1974" هو«الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها».[7]
لقد اعتنى العلماء باستكشافها لأن الإسلام دين عقل وفكر ونظر، وأن الفعل الإلهي مبني على ما فيه صلاح الإنسان وعمارة الأرض، وهذا مؤكد في النصوص الدينية. وعلاقة الإنسان بخالقه أزلية تقوم على «عقد رباني إنساني، هو السرّ في خلق الله للكون وفي تكريم الإنسان وامتحانه بأنواع التكليف».[8]
أحكام الله هي خطاباته الإلهية موجهة للإنسان لتنظيم سلوكه الجوارحي والقولي والفكري الباطني. والخطاب الإلهي هو أساس التشريع، والأعمال الإنسانية هي موضوع الأحكام الإلهية، فوظيفة الشريعة «هي التعريف بصفات الأعمال الإنسانية وتبيين مفعولها وأثرها وعلاقتها».[9]وهي تقوم على الوجدان الإنساني وليس على قوة السلطة الخارجية، وغايتها مصلحة الإنسان باعتباره خليفة في المجتمع الّذي هو منه وأمام الله الذي استخلفه لإقامة العدالة وتحقيق السعادة الفكرية و الاجتماعية والطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة.
الشريعة الإسلامية تنبني على كون الإنسان نفسه حامي العدل والحق، ولا يكفي فيها التكليف بظاهر القضاء والقانون، بل كلّفت الإنسان بأن يُنصف غيره من نفسه ولو كان القانون والقضاء في صفّه. لذا ميّز الفقهاء بين ما هو ديني وما هو قضائي، «وقد أطلق الشارع اسم المكلّف على كل مسلم وغيره إشارة إلى أن المواطنة الإنسانية في الدولة الكونية إنما تقوم على شعور كل واحد بالمسؤولية في إحقاق الحق وتطبيق القانون الإلهي وضمان حرية الإنسان وكرامته، فالمكلّف في هذه الدولة هو المواطن وشعوره وسلوكه هما منهجه الأخلاقي، وواجباته هي عمارة الأرض والخلافة عن الله في استصلاحها».[10]
إذا تأسست فكرة العدالة خارج الشرائع اللاتينية والإنجليزية، فإن الشريعة الإسلامية مصدرها الوحي القرآني والسنة والاجتهاد الذي «هو بذل الجهد في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة بطريق المنطوق أو المفهوم أو القياس، فالعدالة في الإسلام من صميم التطبيق للأحكام الشرعية وليست نظرية مستقلة عنها».[11]
إن مقاصد الشريعة والأدلة الأصلية جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، والمقصد العام هو عمارة الأرض، وحفظ النظام تعايش فيها، «واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كُلّفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع».[12]
يستشهد علال الفاسي في حصر المقاصد في قول ابن القيم في كتاب 'أعلام الموقعين'، «وجماع المقاصد ما قاله ابن القيم: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها».[13]
أمّا التشريع بالمعنى العام هو السلطة التشريعية التي تمثل الدين والعرف والقضاء والفقه، والتي تضع القواعد أو تستنبطها لتكون ملزمة في تنظيم العلاقات داخل المجتمع وفقا للتدابير المقررة في ذلك. أما في معناه الخاص فهو تلك القواعد القانونية ذاتها.
أصول الشريعة في الإسلام الكتاب والسنة، وأضاف الجمهور من أئمة السنة إلى ذلك مصدرين هما الإجماع والقياس، وأضاف جمع آخر من الأئمة الاستحسان والمصالح المرسلة و الاستصحاب ومراعاة العرف وسد الذرائع.
القرآن كلام الله هـو مصـدر التشريع المجمل و التشريع المفصّل وغيره، والقصد منه هداية الخلق وإصلاح البشر وعمارة الأرض، وسبيل ذلك التربية والتعليم والإرشاد. والتشريع القرآني هو أقوى أدلة الإعجاز، أما السنة فهي عند الأصوليين «ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير من جهة دلالته على أحكام الشريعة»،[14]وهي متواترة وأخبار آحاد. إذا لم يكن هناك نص قطعي من القرآن ولا ظني من السنة فإن الحجة تُؤخذ عن طريق الدليل النظري بالإجماع أو القياس.
الإجماع في الاصطلاح هو «اتفاق مجتهدي الأمة بعده عليه السلام في عصر من الأعصار على حكم من الأحكام، قال الشافعي في الأم؛ ولا يكون عن قياس أو اجتهاد ولأنهم لو اجتهدوا لم يتفقوا».[15]أما « القياس عند الأصوليين فهو إلحاق فرع غير منصوص بأصل منصوص عليه لمساواته له في علة حكمه».[16]تبدأ عملية القياس من استنباط العلة (المناط) و هو تخريج المناط ثم التأكد من اعتبار العلة شرعا بنص أو إجماع أو استنباط و هو تحقيق المناط ثم التأكد من تساوي الواقعتين في العلة و من ثم في الحكم وهو هدف القياس.
ويأتي الاستدلال نوعا خاصا من الأنواع الأدلة و طريقة العقل المحض وهو ليس نصا و لا إجماعا و لا قياسا و هو على أنواع، منها نفي الحكم لانتقاء مداركه و منها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر. هذا الاستدلال المنطقي لا يفيد في عصرنا ما يصح الاحتجاج به، لكنه يُبرز تفتح الذهن الإسلامي و انفتاحه للنظر في كل ما يمكنّه من الوصول إلى اليقين.
من أنواع الاستدلال الاستصحاب، يقول به أئمة المالكية و يعني «اعتبار الحكم الذي ثبت في الماضي بدليل مصاحبا لواقعته و ملازما لها حتى يوجد دليل آخر يدل على زوال هذه المصاحبة».[17]ويتجلّى الاستصحاب في خمس صور هي البراءة الأصلية و النص حتى يرد التغيير، و العموم حتى يرد التخصيص والوصف الثابت شرعا حتى يرد ما يغيّره، والحال في الماضي أو الاستصحاب المقلوب.
أما أصل الشرائع السابقة فهو مرتبط بشرائع ذكر أمرها في القرآن أو في التوراة والإنجيل، و اختلف العلماء في حجية هذا الأصل، و يقول علال الفاسي في هذا الأصل: «و عندي أن مقاصد الشريعة لا تأبى أن تستـفيد من تجارب السابقين و من شرائعهم إذا كـانت تندرج تحت أصل عام من أصول الشريعة وأخرى إذا ذكرها الرسول وأكدّها».[18] و يضـيف «ومن حسن الـحظ أن الاتجاه العالمي لدراسة الشرائع المـختلفة و مقارنتها ببعضها سيـعمل على التقريب بينها، لأنها كلها تبحث عن طرق الإنصاف وتحقيق العدل بين الناس».[19]و« الاستحسان هو إيثار دليل على دليل يعارضه لمرجح يعتد به شرعا».[20]ومن أنواع الاستحسان مراعاة الخلاف عند الإمام مالك و يُعرف بأنه إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه و مثال ذلك «قولهم في النكاح المختلف في فساده أنّه يفسخ بطلاق و فيه الميراث. فقد روعي الخلاف بترتيب الميراث وبضرورة الطلاق لحلّ ميثاق الزوجية واعتبر مع ذلك فسخا».[21]
أما المصلحة المرسلة أو الاستصلاح عند الأصوليين هي تشريع الحكم في حادثة لا نص فيها و لا إجماع، بناء على مصلحة مرسلة أي مطلقة أو ساذجة لم يرد عن الشارع دليل باعتبارها و لا بإلغائها وهي مشروطة عند المالكية بثلاثة، اتفاقها مع مقاصد الشرع و معقوليتها في ذاته و حفظها لأمر ضروري أو رفعها لحرج لازم في الدين.
ومن الحنابلة "نجم الدين الطوفي" المتوفى سنة 716هـ الذي وقف عند شرح الحديث النبوي "لا ضرر و لا ضرار" فتوصل إلى نظرية كبيرة الأهمية لم يسبقه إليها أحد، و هي «اعتبار المصلحة و تقديمها على جميع الأدلة، و قد كان لما عمله "الطوفي" شفوف عظيم في العصر الأخير حينما بدأ المسلمون يبحثون عن وسائل التطور في فهم أحكام الشريعة و التوفيق بين مقتضياتها و بين حاجات العصر الحاضر».[22]
لقد اعتمد "الإمام مالك" عمل أهل المدينة في استنباط بعض الأحكام لاعتبارات عدة، منها قربهم من موقع الوحي وهم حديثو عهد بالنبوة وبالتشريع وباجتهاد الصحابة الأوائل. أما العادة باعتبارها أصلا فهي عند البعض «ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة».[23]ولم يفرق الفقهاء بين العرف و العادة، «فالفوائد و الأعراف تعتبر سببا للأحكام الشرعية فهي بهذا الاعتبار من مصادرها».[24]
ويعتبر سد الذريعة أصلا في التشريع الإسلامي و يعني أن الشريعة منعت المفسدة ابتداء، كذلك منعت ما فيه المفسدة نهاية، و يعرّفه البعض بأنه منع ما يجوز لكي لا يتطرق به إلى ما لا يجوز، و لم تعتبر الشريعة الذريعة من ناحية سدّها فحسب بل اعتبرتها من جهة فتحها، و سدّ الذريعة الفساد أما فتح الذريعة فهو الصلاح.
و يأتي الاجتهاد باعتباره استفراغ الوسع في طلب العلم بالأحكام و استنباطها من أدلتها التفصيلية يمثل العلم الذي وضعه الإسلام ليشرك به المجتهدين في التشريع، وهو ما يجعل الشريعة الإسلامية مرنة تتطور مراعاة للمصلحة العامة والخاصة في جميع الجهات و في كافة الأزمنة. ولما كانت الشريعة واحدة والفهوم عند أهل الاجتهاد متعددة فإن التباين في الأحكام يعود إلى عدة أسباب، مثل الخصوص و العموم، والرواية والنقل والإباحة والتوسيع، ومعرفة هذه الأسباب تمكّن الباحث من معرفة وجهة نظر كل فريق من المجتهدين، ومعرفة المجهود المبذول من قبل كل مجتهد لتطبيق الأحكام المستنبطة على أحوال البيئة التي يعيش فيها.
إن فهم مقاصد الشريعة على أكـملها شرط أول لبـلوغ مرتبة الاجتهاد ومراعاة المصالح مقصد أساسي، حيث توجد قواعد فقهية تقيّد المصلحة بالمقاصد مثل تحمل الضرر الخاص على اعتبار رفع الضرر العام، ودفع المفسدة أولى من طلب المصلحة. و قاعدة اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها. كما أن مكارم الأخلاق تمثل مقياسا لكل مصلحة عامة وأساسا لكل مقصد من مقاصد الإسلام، وفي هذه المكارم أصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع، من عفو وعرف و إعراض عن الجاهلين، وهي قواعد مستنبطة من القرآن، فالأخذ بالرفق وتجنب التكليف والأمر بالمعروف والتحلّي بالتواضع والدعوة إلى السلام هي من أخلاق الفطرة مقيّدة للمصلحة ومبيّنة لمقاصد الشريعة.
أما الجانب الاجتماعي في الإسلام مُصان بالقصد الأساسي من الدعوة الإسلامية التي تنفي أي شريك عن الله، « وهو تحرّر الإنسان من الخضوع لأي إله آخر مع الله، ولا سيّما هؤلاء الطغاة الذين كانوا يتعبدون شعوبهم من فراعنة ونماردة وأمثالهم من كل ملك جبار يعطي لنفسه صفة الإلوهية في الأرض أوصفة التمثيل الإلهي الذي لا يحده قانون ولا يتعرض عليه إنسان».[25]ومصدر السيادة والحكم في الإسلام هو القرآن والعمل به وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها، وإجماع أولي الأمر، وعرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة في الكتاب والسنة.
وفي إطار الوجود الاجتماعي الإسلامي، تكون الأمة وحدة سياسية دون اعتبارات جغرافية، وهي أوسع من الدولة بالمعنى الحديث والمعاصر، فقيام «الدولة نتيجة قيام الأمة وسلطتها الآمرة الناهية».[26]
إن التكّيف في الإسلام يحلّ محل المواطنة في العرف الديمقراطي الحديث، ويقترن التكليف بأداء الواجب وطلب الحق الذي يضمن أداء الواجب مثل حق الحياة، حق الأمن والسلام، حق الكرامة، حق الحرية الفردية والسياسية وحرية البحث العلمي وحرية العمل وحق الملكية مع مراعاة التعاون الاجتماعي وحفظ المساواة والعدل بين الأفراد وبين الدول وفي القضاء.
والقاعدة الأصولية الأصلية التي لم يتنبه إليها علماء الأصول حسب علال الفاسي هي قاعدة أمر الإرشاد، ومن الأمثلة لذلك قوله تعالى في تعدد الزوجات «فإن خفتم أن لاتعدلوا فواحدة».[27]فقد أرشد الشارع إلى الاكتفاء بواحدة عند الخوف من اللاّعدل، «فأي مانع من الاعتداد بهذا الأصل الذي هو أمر الإرشاد، والذي يتحقق بتحقق ما يقصد إليه الشارع في أمر معين».[28]
إن هذا البحث في مقاصد الشريعة ومكارمها يُعدّ لدى علال الفاسي من جوهر وروح و صميم علم أصول الفقه، به تجاوز نظرية المقاصد الشاطبية ، ولم يكن على منوال البحوث والكتابات التي تلت الشاطبي من حيث المادة والمنهج معا، فمن حيث المادة الأصولية المقاصدية جاءت ثرية بحقائق تاريخية وواقعية ودينية عن الإسلام وعن القانون و عن الأصول وعن المقاصد و عن الإنسان وعن الدولة والأمة وعن حقوق الإنسان وعن مكارم الأخلاق وغيرها. أما من حيث المنهج فقد اعتمد على أسلوب العرض والتحليل والنقد والاستنتاج وهو منهج شمل الموضوع من كافة جوانبه، وجمع بين الجديد والقديم في موضوع المقاصد وأصول الفقه في نظرة شاملة تتوفر على عنصري الانسجام والاتساق بين المقاصد والمصالح والأصول وفروعها. وتوصل إلى نتائج أثبتت كفاءة الفقه الإسلامي في تحقيق العدالة بأصوله وقواعده الذاتية دون اللّجوء إلى مصادر أخرى خارجة عنه، وأن ما تتضمنه الدعوة الإسلامية من مقاصد وأصول جعل الشريعة الإسلامية متفوّقة وتمثل بحق القانون الذي يضمن الوصول إلى العدل وهو مطلب كل شريعة.





3 - عند حسن الترابي: تجديد علم أصول الفقه الإسلامي ضرورة لا ترف.
دعا حسن الترابي «1932» في كتاباته ومحاضراته إلى ضرورة قيام نهضة شاملة في العالم الإسلامي تخلّصه من التقليد ومن الجمود، وتبني النظام الإسلامي على الشريعة الإسلامية، وتستغل لذلك العلوم والتقنيات المعاصرة. ولابد أن تقوم هذه النهضة على منهج أصولي قويّ، «علما بأن منهج أصول الفقه الذي ورثناه بطبيعة نشأته بعيدا عن واقع الحياة العامة وبتـأثره بالمنطق الصوري وبالنزعة الإسلامية المحافظة والميّالة نحو الضبط والتي جعلته ضيّقا لا يفي بحاجتنا الـيوم ولا يستوعب حـركة الحياة المعاصرة ».[29]
لمّا أصبحت مسائل أصول الأحكام مجردة ونظرية فلابد من ربط الفقه وأصوله بواقع الحياة، و أن يكونا معا في مواجهة التحديات العملية. والحاجة الملحّة لفقه جديد قامت بسبب عجز الفقه الكلاسيكي وأصوله عن توفير المناهج العملية لإدارة المجتمع والاقتصاد وتنظيم الحياة عامة، وهداية سلوك المسلم في المجتمع الحديث،«ذلك أن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جراء التطور المادي وهي تطرح قضايا جديدة تماما في طبيعتها لم يتطرق إليها الفقه التقليدي ولأن علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعها تبدلت تماما».[30] ناهيك عن التباين بين وضع العلم البشري في زمن نشأة الفقه وما يتميز به من محدودية في الأفق والتواصل وبين وضعه في عصرنا وما يتميز به من اتساع وانتشار وتجدد بالتجربة والنظر، والأمر الذي يقتضي التوحيد بين العلوم النقلية والعلوم العقلية في فقه الإسلام، « وبذلك العلم الموحد المتناهي نجدد فقهنا للدين و ما يقتضيه في حياتنا الحاضرة طورا بعد طور...».[31]
تجديد الفقه الإسلامي لا يكون إلاّ بتجديد أصوله، وفي عصرنا «أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن تُؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة»،[32]والمشكلة هنا في علم الأصول الكلاسيكي الذي لم يعد يفي بالحاجات المعاصرة لأنه موقوف و موصوف بالظروف التاريخية التي أفرزته و بطبيعة المسائل الفقهية التي كان يعالجها البحث الفقهي.
من الأحكام الفقهية ما يتصل بالشعائر و العبادات و مجال الاجتهاد والتقدير فيها محدود لا يتعدّى جمع النصوص و تفسيرها باستخدام القواعد الأصولية التفسيرية اللّغوية و التشريعية، و اقتصر الفقه التقليدي على ذلك. وما كان الفقهاء « يعالجون كثيرا قضايا الحياة العامة و إنّما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة و لذلك كانت الحياة العامة تدور بعيدا عنهم ».[33]وانحرفت الحياة الجماعية للمسلمين عما يستوجبه الإسلام، إذ اهتمت بالفرد على حساب قضايا السياسية والأسرة و الاقتصاد و الإنتاج و غيرها، الأمر الذي أغفل الأصول الفقهية التي تناسب هذا الجانب، و لمّا« كانت حياة الإسلام شاملة و كانت الممارسات الاقتصادية و السياسية العامة للمجتمع ملتزمة بالدين نشطت قواعد الأصول التي تناسبها».[34]
أشهر فترة تشريعية بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم رعت مصالح الأمة ومقاصد الشرع فترة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، و أخذ منها فقهاء المدينة السعة والمرونة، و بعد ذلك تعطّلت الأصول الاجتهادية وحاجاتها. وبعد اتساع دولة الإسلام وازدهار الحياة فيها استُعمل العقل والقياس و الاستحسان بشكل أوسع في العراق ثم أخذت الأصول تجمد، وشهد الفقه الأصولي التقليدي نهضة ثم تجمّد بفعل انحطاط واقع الحياة الدينية للمسلمين.
ففي تصور الأصول الفقهية و استنباط الأحكام الفرعية ينبغي الاتجاه إلى المشكلات و التحديات العامة لا الاجتهاد في الشعائر و لا في تطوير القواعد التفسيرية، لأن فقه التديّن الفردي عرف اتساعا نصا و شرحا أما الحياة العامة فالحاجة ملحة إلى الاتفاق على« منهج
أصولي ونظام يضبط تفكيرنا الإسلامي حتى لا تختلط علينا الأمور و ترتبك المذاهب ويكثر سوء التفاهم والاختلاف في مسائل تتصل بالحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية و الإدارية والدولية وغيرها مما يؤثر على وحدة المجتمع المسلم ونهضته».[35]
تحتاج الحياة العامة إلى نصوص و قواعد التفسير الأصولية، و لقلة النصوص ضرورة تطوير أساليب الاجتهاد و القياس بحكم مداه يتجاوز النص لكنه لا يستوعب حاجات الحياة العامة لضيقه و ارتباطه بالمنطق، لذا «لابـد من النظر فيـه حتى نكيّفه ونجـعله من أدوات نهضتنا الفقـهية».[36] والحياة العامة من الدين «لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي و ضعها له مناطقة الإغريق و اقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني وولع الفقهاء بالضبط في الأحكام التي اقتضاه حرصهم على الاستقرار و الأمن خشية الاضطراب و الاختلاف في عهود كثرت فيها الفتن وانعدمت ضوابط التشريع الجماعي الذي تنظمه السلطات».[37]
و لما كان القياس المعهود محدودا يمكن توسعته من خلال اعتبار مجموعة «من النصوص و استنباط من جملتها مقصدا معينا من مقاصد الدين أو مصلحة من مصالحه ثم نتوخى ذلك المقصد حينما كان في الظروف والحادثات الجديدة».[38]كما يتطلّب القياس شيئا من التجريد من الظروف الخاصة التي تسبق النصوص فيحصل الاختلاف الفقهي ويتعرّض المنهج القياسي للضيق و الاتساع، وليس في الاختلاف حرج، و يمثل قياس الاستصلاح الإجمالي أعلى درجة في البحث عن علل الأحكام.
إن المقصد الجامع لنصوص الدين هو عبادة الله، ثم تأتي كليات الشريعة، وهذا الإجمال يتناسب مع الاستصحاب، وحسب هذا الأصل فالأصل في الأشياء الحلّ و في الأفعال الإباحة و في الذمم البراءة من التكليف، فالمجتهد يتعاطى مع النص باستعمال القواعد التفسيرية وبعدها يتوسع في النظر باستخدام الأصول الواسعة من استصلاح واستصحاب، لكن هذا الترتيب نظري لأن الاجتهاد عملية تركيبية من النص و الواقع، خاصة في مجال أحكام الحياة العامة.
الحاجة إلى التحكم في نتائج الاجتهاد باستخدام الأصول الواسعة ضرورية، وأول ضابط للمجتمع المسلم هو وضع تدبير تسوية الخلافات بين أيدي المسلمين بالشورى والإجماع «إمّا بأن يتبلور رأي عام أو قرار يُجمع عليه المسلمون أو يرجحه جمهورهم و سوادهم الأعظم أو تكون مسألة فرعية غير ذات خطر يفوضونها إلى سلطانهم وهو من يتولى الأمر العام حسب اختصاصه بدءا من أمير المسلمين إلى الشرطي و العامل الصغير».[39]وليس حرج في أن تكون الأصول الفقهية أكثر اتساعا في مقابل الفتاوى الشرعية أكثر اختلافا بل فيها مصلحة اكبر.
لا يتم التحكم في نتائج الاجتهاد وأعمال ضوابط الفقه الاجتهادي الشوري السلطاني إلا بأهلية التصدي للفعل الاجتهادي، من قبل مجتهد أوثق من غيره «إحاطة بعلوم الشريعة و اللّغات و التراث و إحاطة كذلك بعلوم الواقع الطبيعي والاجتماعي وهما شعبتا العلم وحيا ونقلا و تجربة و عقلا ولا تقوم الحياة الدينية إلا بهما معا».[40]ومادام المجتهد أو المفكر الواحد عاجز عن الإلمام بكافة العلوم من كسبه الخاص، لابد للدولة من مراكز لتأهيل المتعلّمين و أخرى للبحث، فيصبح كل واحد متخصص في جزء من العلم.
أما الحاجة إلى التصدي للاجتهاد بالاعتماد على العلماء و المفكرين و على جمهور المسلمين على الدولة- من خلال تقدير أهلية الاجتهاد و هو أمر نسبي- أن تحقق الشورى و «تقنن الآراء و الأحكام المعتمدة بل عليها أن تحتاط لذلك التقنين و التدوين تنظيما مسبقا في حياة المجتمع الرشيد»[41].
لكن حسن الترابي لم يكن مطمئنا على دعوته إلى تجديد أصول الفقه وتصوره في ذلك، ففتح باب الاجتهاد بحرية مع نسبية الأهلية الاجتهادية، وإلحاق أصول اجتهادية مفتوحة وواسعة بالأصول الاجتهادية التفسيرية المضبوطة يؤدي لا محالة إلى كثرة وتباين في الآراء و المواقف، لكن دور سلطان المسلمين في اعتماد الآراء المعقولة و تأكيد إلزاميتها هوما يزيل العقبة أما تطبيق الشريعة، ويبقى الخوف من الحرية على الدين مؤديا إلى إنكار الجديد الذي هو«سنّة اجتماعية معروفة وعن طريقه يعمل المجتمع عملية التوازن بين عناصر الثبات وعناصر الحركة لئلا يجمد المجتمع فيموت و لا يعربد فينحرف كذلك ... ويستدعي القيام بتكاليف الاجتهاد في مثل ظروفنا جرأة في الرأي وقوّة في الصبر على ضغوط المحافظين لا سيما أن التجديد لن يكون محدودا بل واسعا يكاد يشكل ثورة فقهية تصلح الأصول مع الفروع و تسعى لتبدل الأحوال بسرعة الذي تذكّر بعد غفلة طويلة».[42]
يرى "حسن الترابي" أن التوازن بين التطور و التباين مطلوب وهو العدل والاعتدال، والتعاطي مع الحياة الإسلامية الراهنة بقيم التقليد والخوف من التجديد ومن التغيير مماثل للتعامل معها بأسباب النهضة والازدهار، لكن الظروف الحالية عرضة للضرر لأن ما نحتاجه من معاني و قيّم الحركة الحرة، واليقظة الحقيقة، والنهضة المطلوبة نائمة داخل خطاب نائم منذ قرون.
أتسم الخطاب بالمحافظة والتخويف والابتعاد عن الرجاء، و هكذا نجد المسلمين «في عهود الانحطاط ركّزوا على معاني المحافظة تركيزا شديدا، فالحياة الدينية في عهود الانحطاط منحصرة دائما تمرق أطرافها من الدين و الأرض منحصرة تقع أقاليمها في قبضة دار الكفر و لا مطمع الدعاة حينئذ أن يطالب الناس بالأقدام في الحياة والأرض بل غاية همهم أن يدعوا إلى المحافظة».[43]و«استمع إن شئت لإمام خطيب جمعة تجده يحاصر الناس بتخويف و لا يحفزهم بالرجاء إلا قيلا و تجده يذكر التقوى أكثر من الجهاد والورع أكثر من عمل الخير... و هذه الروح في تربيتنا الدينية لا بد من أن نتجاوزها الآن و لا نتواصى اليوم بالمحافظة بل لا ينبغي إطلاقا الدعوة على الاعتدال لأننا نكون قد ظلمنا ولو اقتصدنا نكون قد فرطنا، فالمطلوب أن نتلقى اليوم من حصة الكلام كل منبهة منعشة منشطة و أن نشيع من الدين ما يناسب المقام و ما يقتضي الحال كالتدرب و الاجتهاد و التبليغ و الدعوة».[44]
عامل الحرية في باب الاجتهاد الواسع لا يبعث على الخوف اليوم، لأن الحسّ الإسلامي في مراحله السابقة تصدّى لكل الابتلاءات و المشكلات الفكرية، فكان دوما ينهض بعد النكسة و يستقيم بعد الانفلات و يقوى بعد الضعف لذا « لا بد من أن نتعظ بتاريخ نهضتنا المتعثر و نفي بحاجات التحدي الذي يجابهنا اليوم ويكاد يجتاح ذاتيتنا الفكرية والحضارية، ولابد أن نضاعف الاجتهاد لاستكمال تصور ما يقضيه علينا الدين و نضاعف الجهاد لنمكّن ذلك التصور في العمل والواقع، و لا يمكن لجيلنا أن يتّكل على اجتهادات الغير مجاهداتهم وحدها فقد أدّوا واجب الدين فيما يليهم من زمان وظروف وعلينا أن نؤدي ما يلينا و يلزمنا».[45]
ولا يوجد سبيل في البلاد الإسلامية من تحكيم الإسلام و سيادته في السياسة والاقتصاد و الإدارة و تنزيله إلى أرض الواقع بصورة تفصيلية و الطريق إلى ذلك هو فتح باب الاجتهاد الواسع، و«أن يتجه هذا الاجتهاد إلى جوانب الحياة العامة التي أُهملت من قبل لأننا في أبواب الشعائر مثلا يمكن أن نكتفي بالمادة الفقهية الموجودة بغير حرج كبير ماعدا طريقة التقديم، وإنما يتجه جهدنا الأكبر لجوانب الحياة العامة و لتطوير الأصول الفقهية التي تناسبنا بدء من الأصول التفسيرية إلى الأصول الاجتهادية الواسعة».[46]
و يقول حسن الترابي في معرض كلامه عن التحديات التي تقف عائقا في سبيل النهوض بفقه الدين و هي نوعان: الأول «تحد خارجي وهو أننا في الاستعانة على عبادة الله فكرا أو اجتهادا بكل ما كسب البشر من العلوم قد نقع في أسر الغزو الثقافي، فتتغير معاييرنا من حيث لا نشعر وهذا خطأ نبّه إليه كثيرون و لا حاجة في الاستفاضة في بيان مغازيه».[47]
أما التحدي الثاني فهو داخلي أشبه ما يكون بالتحدي الذي عرفه دعاة التجديد مع الكنيسة لأن مشكلات التدين واحدة مع تباين الملل،فالمجتمع الإسلامي امتلك من المفاهيم والقيّم والصور القديمة ما لا يمثل الدين وهو يغار عليها ولا يرضى عنها بديلا، وأيّة محاولة لتغيير هذه القيّم والأعراف وتجديد التدين وتبديل الحياة الإسلامية الموروثة «يثور المجتمع التقليدي بتصوراته و ما عهد من مذاهب و طرق أضفى عليها التراث قداسة وأضافها إلى جوهر الدين الباقي، و لا بد أن نتهيأ للتعامل مع هذا التحدّي كما نتهيأ للتحدّي الغريب».[48]
يمكن التأسي بالمراجع الأولى لنشأة الفقه الإسلامي فكان يقوم على الشورى ويظهر هذا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم و في أفعال الصحابة و التابعين والأئمة أمثال "مالك" و "أبي حنيفة" و غيره، و بعد ذلك توقف التفاعل الفكري وانغلق باب النقد والاجتهاد و هو الحال الذي يعيشه المسلمون اليوم، و إذا غاب إعداد المسلمين في مرحلة الدعوة على الاجتهاد والنقد واستعمال الأصول الواسعة في الحياة العامة وحصول الخلافات الواسعة ثم الاهتداء إلى الحكم الشوري والإجماع تقييدا و التزاما، «فإننا حين قيام الدولة سنواجه فتنة عظيمة تُسلّمنا إلى الفوضى أو إلى الجمود حيث تؤثر الأمن في الركون إلى رأي الفرد الواحد».[49]
نظرا للتعقيد في حياة المعاصرة بـما لا يعرفه العالم الإسلامي سـابقا ينبغي تحكيم الشورى للسماح بتوسيع الفكر للتأثير و التأثر، و تمكينه من الأهلية العلمية والأخلاقية لضمان اجتهاد حر فعّال و شورى كاملة ثم ترتيب أنظمة القرارات الملزمة ما يعود إلى جمهور الأمة أو ممثليهم وما يعود إلى الأمراء، «ولابد من تخطيط شامل لنظام الأحكام السلطانية أو الدستورية المدون و نظام القوانين المجموعة المعتمدة مع إتاحة مجالات مرنة للفقه القضائي و العلمي و مع نسبة دقيقة بين أحكام الشريعة التي تضعها على الناس قضاء و جزاء على صعيد الدولة و تلك التي نبسطها في المجتمع آدابا مرعية بداعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج اختصاص السلطان الرسمي، و تلك التي نحيلها على مرافق التربية لأنها تلي وجدان المسلم المنفعل بمراقبة الله في ضميره وخلوته».[50]
تتضح مما سبق معالم دعوة "حسن الترابي" إلى تجديد أصول الفقه هذه الدعوة التي لقيت ترحيبا لدى الكثير من المفكرين و السياسيين، كونها تتجاوب مع تصوراتهم و تنهض بالدين و تراعي مقتضيات العصر و تفي بحاجات الواقع المعيشي. كما لقيت معارضة شديدة من قبل البعض حتى رمي صاحبها بالكفر والخروج عن الدين. تبقى دعوة "الترابي" محاولة فكرية جادّة لما تتوفر عليه من قوة و أصالة في المبادئ و الغايات ومراعاته القيّم الإسلامية ومتطلبات العصر ومستجداته و حاجات الواقع، لذلك تستحق كل الاهتمام و التناول بالبحث والدراسة بمنهج أدق و تحليل أوسع كما تستحق كل العناية قراءة و نقدا للكشف أكثر عمّا فيها من أصالة وإبداع، ولتساهم في القيام بإيجابية وبفعالية وبقوة بخطوة في سبيل تجديد التراث من منظور معاصر وبما يخدم المسلم في حياته الدنيوية والأخروية.


4- عند جمال الدين عطية: تجديد أصول الفقه و تفعيل مقاصد الشريعة.
جمال الدين عطية "1928" واحـد من دعاة تجـديد الفقـه الإسلامـي وأصوله في عصرنا الحاضر، إلى جانب الفقيه "وهبه الزحيلي"، و لكونهما متخصصان في الفقه فإن كتابهما "تجديد الفقه الإسلامي" يدلّ على اتجاه كل منهما في تجديد الفقه و أصوله، والتجديد الفقهي المتعلق بالموضوع عند "عطية" نوعان: «الأول هو التجديد الذي يأتي من خارج النسق الإسلامي أما الثاني هو التجديد الذي يأتي من داخل النسق الإسلامي. ومن أمثلة هذا النوع الأول ما نقرؤه لبعض الكتاب الذين يحاولون إسقاط نظريات غربية حديثة على الإسلام، تاريخه و لغته وفقهه، فيطبقون النظريات المختلفة مثل البنيوية والألسنية و التفكيكية و التركيبية و التاريخية و غير ذلك من النظريات على الدراسات الإسلامية، و هو الأمر الذي يؤدي إلى سحب المفهوم الإسلامي إلى الأنساق الغربية التي جاءت منها هذه النظريات».[51]ويضيف مبيّنا موقفه من المسألة: «وفي تصوري يجب أن يأتي التجديد من داخل النسق الإسلامي. والتجديد مطلوب في موضوعين أساسيين وهما:الفقه و أصول الفقه».[52]
فالحاجة ملحة إلى تجديد الفقه الإسلامي، و تبرز هذه الحاجة «فيما إذا ترتب على تطبيقها الحكم الشرعي الفقهي حرج شديـد أو مشـقة أو مضايقة، ويكون التجديد مطلوبا وضروريا إعمالا لمبدأ دفع الحرج في الإسلام، و للقاعدة الشرعية الكلية "المشقة تجلب التيسير" و"إذا ضاق الأمر اتسع"، وكذلك إذا كان الحكم الفقهي مجافيا لمقتضى المصلحة والواقع، وكانت المصلحة من جنس المصالح المعتبرة شرعا، و مراعاة مقصود الشارع، بحفظ الدين أو العقل أو العرض أو المال فيكون التجديد صائغا إعمالا لمقتضى المصالح وعملا بمقتضى اليسر والسماحة الذي قام عليه التشريع الإسلامي».[53]والتجديد لا يخص المسألة القديمة التي وردت فيها النصوص والاجتهادات بل يتعيّن«التجديد إذا كانت المسألة حديثة النشأة ليس فيها نص ولا اجتهاد معتد».[54]
إن التجديد في الفقه الإسلامي لا يخص الثوابت في الدين و الأحكام الأساسية المتعلقة بأصول الشريعة و مبادئها العامة مثل العدل والحرية والمقررة لغايات تشريعية كبرى مبيّنة بنصوص شرعية آمرة و ناهية كأصول الفرائض الدينية و العبادات و أحكام الأسرة و غيرها. فما لا يقبل التجديد «الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة (البداهة) والتي تثبت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة مثل وجوب الصلوات الخمس»[55]. أما ما يقبل التجديد في الفقه و الاجتهاد فيه «الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت أو دلالة أو ظني أحدهما، و الأحكام التي لم يرد فيها النص و لا إجماع».[56]أي الأحكام التي تتغير مع تغير الأعراف و المصالح و التي تفي بحاجات الناس لتصبح الشريعة صالحة للتطبيق في كل زمان و في كل مكان.
إن الحاجة إلى الاجتهاد في موطنين هما: «ما لا نص فيه أصلا، أو ما فيه نص غير قطعي، و لا يجري الاجتهاد في القطعيات، و فيما يجب الاعتقاد الجازم من أصول الدين».[57]أما فيما يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي في صلته بعلم أصول الفقه ففي هذا يقول عطية: «والحقيقة أن العلاقة بين التجديد في الفقه و بين التجديد في أصول الفقه علاقة وثيقة. فالتجديد في الفقه يقوم على التجديد في أصول الفقه. بمعنى أنه إذا كان هناك تجديد في أصول الفقه فإنه ينبني عليه بطبيعة الحال تجديد في الفقه، و اجتهاد جديد وفقا للمناهج الجديدة التي توضع في أصول الفقه قد يطول انتظاره حتى تتم بلورته ووضع القواعد المتعلقة به و فهمها ثم تطبيقها في الفروع إلى أن تصل إلى فقه جديد مبني عليه».[58]
والاجتهاد مثل الإبداع، ملكة خصّ بها الله البعض من عباده، و يكون في المستجدات الجزئية كفوائد البنوك أو الكلية مثل دور الدولة في الحياة الاقتصادية. و ينبغي أن يتسع فلا يقف عند البحوث النظرية بل ينزل إلى الواقع ليكشف عن رأي الشريعة فيه، كمـا يعيد النظر في المسائل القديمـة. و بعد التقدم المعرفي على الساحة الإسلامية ينبغي إقامة ضوابط شرعية للعلوم الجديدة تحدد مقاصد كل منها وفق مقاصد الشريعة العامة، وتحدد الأحكام الشرعية في الكتاب و السنة التي تضبطها فتنشأ نظريات إسلامية تقارن مع غيرها في الأديان و الفلسفات الأخرى و في هذا توسيع لمجال الاجتهاد.
إن علم مناهج الفقه أو علم أصول الفقه نما و تطور في القرون الأولى ولم يعرف حاليا الاجتهاد في إطار قواعده، و لا يملك أدوات لمواجهة التغيّرات المتباينة لظروف الحياة في القرون الأولى و لواقع التشريع فيها فراح التجديد يتعلق بما يضمن الغرض منه.
إنّ ما ينبغي أن يمسّه الاجتهاد الأصولي الفقهي السلطة الشرعية ومأسستها أي تحويل الإجماع و الاجتهاد و الشورى إلى مؤسسات و كذلك فروع الفقه وأصوله، لأن المذاهب الفقهية اختلفت آراؤها في فروع الفقه وفي أصوله، فالمتأخرون لهم أن يجددوا في الفروع و لهم أن يجددوا في الأصول، فالبحوث والدراسات الإسلامية المعاصرة بدأت تتبلور متحررة و مطلقة من المذهبية الفقهية و المذهبية الأصولية، حيث صارت غير مقيّدة بأصول مذهب معين، بل تسير على التوفيق بين أصول فقه المذاهب المختلفة. وصار منهجها هو الاستنباط المباشر من النصوص القرآنية و النبوية من أجل الوصول إلى فقه اجتهادي جديد أو نظريات إسلامية معاصرة ترتبط بعلوم الاجتماع و الاقتصاد والسياسة و غيرها.
توجد العديد من الكتابات التي تحدد أهلية المجتهد و شروط الاجتهاد لكنها تسقط شروط معرفة الواقع. و لقد انتبه "الإمام أحمد بن حنبل" إلى ذلك لماّ ذكر الخصال الخمس للفتيا و جاءت الخامسة "معرفة الناس". فالمجتهد المعارض لا تكفيه دراسة بعض العلوم التي ساعدته على فعله الاجتهادي في التشريع بل لا بد أن يكون متخصصا و أن يتلقّى تكوينا خاصا وإعدادا متميزا و ذلك لعدم وجود المجتهد المطلق، و المجتهد المتخصص لا في الجانب الشرعي فقط بل في التخصص الذي ينتمي إليه طب أو اقتصاد أو علم النفس أو غير ذلك.
دعا "عطية" في كتاباته إلى تطوير مباحث مقاصد الشريعة و كتابه "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" يطرح فيه تصوره الجديد للمقاصد و الأسس التي يقوم عليها هذا التصور و مبرراته، و يرى أن « الذي تتبع ما كُتب في المقاصد لا يفوته أن يلاحظ أن ما أورده اللاّحقون على "الشاطبي" لم يـخرج عما كـتبه واقتصر عملهم على اختصاره أو إعادة ترتيبه».[59]والعقل قادر وبمعية التجربة ومثل الفطرة على معرفة المصالح و المفاسد في حالة غياب النص هذا ما قرره السابقون على "الشاطبي"، فإذا وجد من ينكر في هذه المصادر فليس لذاتها بل لمحاربة فكرة التحسين والتقبيح المعتزلية وخشية القول بالاستغناء عن الشريعة بالعقل وحده.
اختلف الأصوليون في ترتيب المقاصد، فهي ليست على رتبة واحدة فإن حصل اختلاف في الترتيب قام كل مجتهد بتطبيق الترتيب الذي اخـتاره و ينتج عن ذلك الاختلاف في الأحكام الاجتهادية. و بالرغم من ذلك هناك حد أدنى ينبغي الإجماع عليه، وهو حالة وجود نص يحدد الحكم في حالة التعارض. و يقدم "عطية" "المنظومة الدائرية" لتجاوز مشكلة ترتيب المقاصد و هي عبارة عن ضرورات تتضمنها ضرورات أخرى، و« فكرة المنظومة الدائرية بديلا عن الترتيب التقليدي جديرة بالاهتمام».[60]
يبحث جمال الدين عطية ترتيب وسائل المقاصـد في الوازع الجبلّي والدينـي والسلطاني، الوازع الديني تناط به الوصايا الشرعية أما الوازع الجبلي فتناط به «المنافع التي تتطلبها الأنفس من ذاتها و بالتحذير من المفاسد التي يكون للنفوس منها زاجرا عنها»،[61]وعند ضعف الوازع الديني يصار إلى الوازع السلطاني. و مراتب الضروري و الحاجي والتحسيني تتعلق بالوسائل لا بالمقاصد. و الجديد الذي يضيفه "عطية" هو تحديد المراتب في المقاصد إلى خمسة و ليس إلى ثلاثة و في هذا يقول:«و لكن الذي أضيفه هو أنّ الحالة التي لا يتحقق فيها مواصفات الضروري، و كذلك الحالة التي يزيد فيها الإسراف عن الحد التحسيني كلاهما بحاجة إلى دراسة، لوضعهما موضع الاعتبار، و ترتيب ما يلزم الأحكام بشأنهما، بل لإعطائهما الأولوية في الإزالة باعتبار أنّهما حالتان غير مشروعتين».[62]وترتيب المقاصد إلى ضروري و حاجي و تحسيني هو إطار ثابت للكليات و فيه يتم وضع الكليات وهو يتغير بتغير ظروف الزمان و المكان و الأحوال والأشخاص وهذا معنى النسبية في التطبيق.
و ضع "عطية" تصورا جديدا للمقاصد ينبني على توسيع المقاصد المعروفة من خمسة إلى أربعة و عشرين دفعة واحدة، كما قدّم تصورا آخر حول التقسيم في المقاصد من "الكليات الخمس" إلى المجالات الأربعة فالمقاصد تتوسع من خمسة إلى أربعة وعشرين مقصدا موزعة على أربعة مجالات هي: مجال الفرد و مجال الأسرة، ومجال المجتمع و مجال الإنسانية.
وفي إطار الدراسات التي توظف مقاصد الشريعة، و تمثل الوضع الحالي لاستخدام المقاصد من خلال ما كُتب قديما و حديثا، وفي هذا يقول "عطية": «الاجتهاد المقاصدي بالصورة التي عرضناها في الصفحات السابقة لا تستحق أن يطلق هذا المصطلح- الاجتهاد المقاصدي- فما هي في الحقيقة إلا المصلحة المرسلة أو الاستصلاح كدليل شرعي تكلّم فيه الأصوليون منذ القديم، و ما عملنا فيه إلا التطوير لما كتبوا و البناء عليه».[63]ونظرية المقاصد لم توضع لتأسيس الأحكام و بنائها بل لتبرير ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون، و لم تعرف المقاصد تطوّرا يُذكر في البحوث و الدراسات الحديثة، و لتطويرها ينبغي تجاوز الثغرات و تقييم الدراسات و نشر الكتب التراثية التي لم تنشر بعد وما يلزم من أعمال موسوعية و معجمية و فهرسة وغيرها.
ترتبط المقاصد بأصول الفقه و ضروري تطويرهما معا أما ما يذهب فيه "محمد الطاهر بن عاشور" في بناء علم مستقل للمقاصد عن علم أصول الفقه فهو أمر يسيء إلى العلمين ويضر بهما معا، و ما تثيره بحوث أصول الفقه عند "عطية" السؤال التالي: هل يظل إطلاق "أصول الفقه" على المباحث مطابقا لمضمونها أم الأحرى و ضع اسم جديد؟، فالبحث هو الذي يكشف عن الإجابة، إن كانت النتيجة جزئية بقي الاسم على حاله و إن كانت شاملة وكلية فضرورة إنشاء علم منهجي يكون علم أصول الفقه جزءا منه، و يمكن أن تندرج علوم المناهج في علم واحد مع إمكانية إضافة مناهج جديدة.
ففي الفكر العربي الإسلامي المعاصر ومن خلال ما سبق نجد إيحاءات ودلالات جديدة انبثقت أساسا من دعوة المفكرين والباحثين المعاصرين ومبادراتهم في السعي إلى تجديد أصول الفقه وفق منظور معاصر يأخذ في الحسبان التطوّر الجاري في العالم العربي والإسلامي المعاصر فكرا وعلما ومناهجا، وهو جزء من العالم ككل الذي شهد ويشهد تقدّما في جميع المجالات الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وهي أوضاع مغايرة للأوضاع التي شهدها أصول الفقه التقليدي وتفاعل معها الأمر الذي يدعو إلى الاضطلاع بمهمّة تجديد الفقه وأصوله ليساير الرّكب الحضاري.











[1]محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للأصول، دار المعارف للمطبوعات، بيروت لبنان، بدون طبعة سنة 1989، ص 7.

[2] محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للاستقراء، دار المعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، بدون ط، سنة 1190، ص 7-8.

[3]محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للأصول، ص 119.

[4]المرجع نفسه: ص 169.

[5]السيد كمال الحيدري: المذهب الذاتي في نظرية المعرفة، دار الهادي، بيروت، لبنان، ط 1، سنة 2004،ص ،ص7.

[6] السيد كمال الحيدري : المرجع نفسه، ص12-13.

[7]علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء،المغرب، ص 3.

[8]المرجع السابق: ص 5.

[9]المرجع السابق: ص 7.

[10]المرجع: السابق ص9.

[11]المرجع السابق: ص41.

[12]المرجع السابق: ص 42.

[13]المرجع السابق: ص 50.

[14]المرجع السابق: ص105.

[15]المرجع السابق: ص114.

[16]المرجع السابق: ص 120.

[17]المرجع السابق: ص 127.

[18]المرجع السابق: ص 132.

[19]المرجع السابق: ص 133.

[20]المرجع السابق: ص 134.

[21]المرجع السابق: ص 136.

[22]المرجع السابق: ص 143-144.

[23]المرجع السابق: ص 151.

[24]المرجع السابق: ص 153.

[25]- المرجع السابق: ص206.

[26]المرجع السابق: ص 219.

[27]سورة النساء :الآية رقم 03.

[28]علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 241.

[29]حسن الترابي: تجديد أصول الفقه الإسلامي ،دار الوفاء 1980بدون طبعة ص 05.

[30]المرجع السابق: ص08.

[31]المرجع السابق: ص08.

[32]المرجع السابق: ص 10.


[33]المرجع السابق: ص 14.

[34]المرجع السابق: ص 15.

[35]المرجع السابق: ص 21.

[36]المرجع السابق: ص 23.

[37]المرجع السابق: قص 23.

[38]المرجع السابق: ص 24.

[39]المرجع السابق: ص 29-30.

[40]المرجع السابق: ص 31.

[41]المرجع السابق: ص 35.

[42]المرجع السابق: ص 38.

[43]المرجع السابق: ص 39.

[44]المرجع السابق: ص 40.

[45]المرجع السابق: ص 41-42.

[46]المرجع السابق: ص 42.

[47]المرجع السابق: ص 43.

[48]المرجع السابق: ص 43.

[49]المرجع السابق: ص 45.
[49]المرجع السابق: ص 45-46
[51]جمال الدين عطية، وهبة الزحيلي: تجديد الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ط 61 سنة 2000، ص 16.
[52]المرجع نفسه: ص 16.

[53]المرجع نفسه: ص 168.

[54]المرجع نفسه: ص 176.

[55] المرجع نفسه: ص 190.

[56]المرجع نفسه :191.

[57]المرجع نفسه: ص 192.

[58]المرجع نفسه: ص17.

[59]جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دار الفكر، دمشق، سوريا ، سنة 2001، ص 15.

[60]المرجع نفسه: ص 48.

[61]المرجع نفسه: ص 50.

[62]المرجع نفسه: ص 55.

[63]المرجع نفسه: ص 197.