من الذي سيكون سيدا ً

باقر جاسم محمد
أستاذ جامعي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
تأسيس السلطة العلمية في اللسانيات
تالبوت جـَي. تايلور
ترجمة: باقر جاسم محمد
إن نشوء وجهة النظر القائلة بأن اللغة يمكن أن تكون موضوعا ً لعلم تجريبي(امبريقي) وصفي هو واحد من أكثر الموضوعات إمتاعا ً في تاريخ اللسانيات. و ستركز هذه الورقة على خطوة مفاهيمية مهمة في تحويل الخطاب الميتالساني "****linguistic discourse" ( أقصد به الخطاب حول اللغة) من صيغة معيارية توجيهية إلى صيغة العلم الوصفي: أعني، استبدال مفهوم للدلالة مستمد من الاختيار و الإرادةvoluntaristic(و سنسميه لاحقا ً بالإرادي: المترجم) بآخـر مستمد من المؤسسة institutionalist( و سنسميه لاحقا ً بالمؤسسي). و هذا يتوقف على التخلي عن وجهة النظر القائلة بأن الصلة بين كلمة ما و ما تدل عليه إنما تصاغ بوساطة إرادة الأفراد الذين يتلفظون بتلك الكلمة و ذلك لصالح وجهة نظر أخرى ترى أن تلك الصلة موجودة بصورة مستقلة عن إرادة المتكلمين الأفراد.
’ عندما أستعمل كلمة‘، قال همبتي دمبتي ، بنغمة هازئة، ’ فهي تعبر تماما ً عما اخترته من معنى- لا أكثر و لا أقل.‘
’ السؤال هو‘، قالت أليس، ’ فيما إذا كان بوسعك أن تجعل الكلمات تعني أشياء كثيرة و متعددة جدا ً.‘
’ السؤال هو‘، قال همبتي دمبتي،’ من الذي سيكون سيدا ً- هذا كل ما في الأمر‘ [1]
و يمكن تلخيص الاختلاف بين المفهوم الإرادي و المفهوم المؤسسي للغة بالآتي. الاتجاه الإرادي يـَعـتبر اللغة فعلا ً إراديا ً يؤديه فاعلون أفراد، و هم فاعلون يتحملون بأنفسهم المسؤولية من أجل نجاح أفعالهم اللسانية. و قد يناقش ذو المذهب الإرادي ، تبعا ً لذلك، بأن الأفعال اللسانية ستكون ناجحة فقط إذا ما أخضع الفاعلون الأفراد حريتهم اللسانية لقيود المعايير و تحديداتها: و القواعد التوجيهية ’ للسلطات ‘ اللسانية هي أمثلة سيئة الصيت لمثل هذه المعايير. و وظيفة الخطاب حول اللغة( الذي أدعوه هنا ب’ الخطاب الميتالساني‘) هي، من وجهة النظر هذه، وظيفة معيارية : إنها تخبرنا كيف، بوصفنا فاعلين لسانيين، ينبغي لنا أن نتصرف. و قد يأخذ مثل هذا الخطاب المعياري حول اللغة على نحو تقريبي صيغا ً مؤسسة institutionalized. و داخل إطار مفهومي مثل هذا، فإن من الطبيعي أن يبدو سؤال همبتي دمبتي ’ من الذي سيكون سيدا ً؟ ‘ مبالغا ً فيه. من أو ما الذي يحدد أي المعايير يجب أن نطيع ، و لماذا؟ و بوصفها خطابا ً معياريا ً، فلن يكون مثيرا ً للدهشة أن تذهب اللسانيات من هذا النوع إلى أن وجهة النظر الإرادية في اللغة تستلزم إثارة أسئلة سياسية تتعلق بالمسؤولية و القوة و السلطة و الأيديولوجيا أساسا ً .
الاتجاه المؤسسي، من ناحية أخرى، يركز على اللغة عامة( أو على لغة ما ) بوصفها مؤسسة لها وجود مستقل عن الذوات الفردية التي تؤدي الأفعال اللسانية. فالفاعلون الأفراد، سواء أكانوا يتمتعون بسلطة سياسية أم لا يتمتعون، ليس لهم من رأي في تقرير مقومات تلك المؤسسة( من مثل ما الذي تعنيه كلمة ما)، أكثر مما للفاعلين الأفراد من رأي في تقرير، مثلا ً، البنية الاقتصادية في مجتمع زراعي. و للكشف عن ماهية تلك المقومات يجب علينا أن لا نلجأ إلى السلطات المعيارية و لكن إلى المحترفين المؤهلين مهنيا ً و المزودين بتقنيات متخصصة في البحث: أي إلى اللسانيين الوصفيين. و من هذا المنظور، إذا ما أ ُجري على نحو صحيح، يمكن النظر إلى الخطاب الميتالساني ( الوصفي ) على أنه علم تجريبي empirical، مع الحقيقة( كما تـُعارَض مع السلطة السياسية) بوصفها سلطته الوحيدة. و بناء ً عليه، و لأنها تنكر علاقة فاعلية الأفراد والآليات المعيارية التي تتأثر بها الفاعلية، يمكن أن يـُفـْهم َ علم ُ اللغةthe science of language على أنه مستقل عن القضايا السياسية للسلطة و القوة و الأيديولوجيا.
و خشية ً من الاعتقاد بأن هذه القضية هي مجرد اهتمام تاريخي ، فيجب أن نشير إلى أن لها صيغة حديثة في المناظرات حول استقلال اللسانيات( أنظر نيوماير1986) و في المناظرات حول مكانة القواعد اللسانيةَ(َ أنظر هاريس1987 و بيكر و هاكر1984 الفصلان 8 و 9). و استنادا ً إلى المناظرة الأَخيرة ، يمكن أن يفهم بوضوح الاختلاف بين المنظور المعياري و المنظور الوصفي. فمن جهة، قد نأخذ قواعد من مثل أن كلمة ’ " منوم " soporific) ) تعني يفضي إلى التسبب بالنوم ‘ ،( و هي قاعدة مستقاة من علم الدلالة: المترجم) أو ’ تتفق الأفعال مع الفاعلين من حيث العدد‘ ( و هي قاعدة مستقاة من علم التراكيب) على أنها توجيهات. و في سياق استعمالهما الاعتيادي، يتضمن التلفظ بهما قوة معيارية. و من جهة ثانية، و من منظور آخر يمكن أن تـُفهما على أنهما لا تحملان قوة معيارية و لكن الأصح قوة وصفية. بمعنى أنهما تفهمان على أنهما عبارتان تقريريتان تصفان أما على نحو صادق أو على نحو كاذب ، اعتمادا ً على فيما إذا كان في ( ما يسميه الكيان المؤسسي) الإنجليزية حقا ً تعني كلمة ’ منوم ‘ يفضي إلى التسبب بالنوم و ما إذا كانت الأفعال حقا ً تتفق مع الفاعلين من حيث العدد. و إذا ما فهمت على أنها تحمل قوة وصفية فإن القواعد اللسانية، مثل الفرضيات العلمية، أما أن تتطابق أو لا تتطابق مع الحقائق المؤسسية. و لكن من المنظور المعياري يعدّ ُ مثل هذا الشرط هراء ً. ليس ثمة وقائع مؤسسية تتطابق معها قواعد الباحث اللساني الوصفي أو لا تتطابق: و تتألف اللغة بوصفها ظاهرة تجريبية من أحداث تواصلية، و بالكاد يمكن تصور القاعدة اللسانية على أنها وصف لواحد أو أكثر من هذه الأحداث. و في الوقت نفسه، سوف يجادل الباحث المعياري ، لن يكون الأًمر أكثر دلالة لو رفعنا التوجيه اللساني إلى مرتبة ’ التطابق مع الوقائع ‘ منه فيما إذا رفعنا إلى المرتبة نفسها علامة تقول ’ يـُمنع التدخين في الصفوف الأربعة الأولى ‘. فإذا ما كان هناك من أحد يدخن أو لا يدخن في الصفوف الأربعة الأولى ليس فهذا الأمر لا علاقة لـه في تقرير ما إذا كانت العلامة توجيهية.
و بالرغم من أن لهذه المناقشة نكهة حديثة مميزة، فإن الرأي الذي نناقش من أجل دعمه هنا هو أن هاتين الطريقتين في النظر إلى القواعد كانتا موضع جدل و تنافس لسنين كثيرة. و هذا الفصل يختبر مثالا ً لهذا التنافس كما حدث في تطور الفكر اللساني للتجريبية الإنجليزية التقليدية. لأن واحدة من أهم خطوات تحويل اللسانيات التجريبية من الصيغة المعيارية إلى الصيغة الوصفية هو التخلي البطيء لممارسة معاملة الدلالة بوصفها وجها ً من وجوه السلوك الإرادي لصالح ممارسة أخرى تعاملها على أنها مستقلة عن إرادة الفاعلين اللسانيين.
هذا التحول من المدخل المعياري للغة إلى المدخل الوصفي قد جرى توضيحه بشكل جيد في النقد الشائع و شديد التأثير لوجهات نظر جون لوك اللسانية الذي قدمه جون هورن تووك في كتابه تحولات بيرلي. إذ بالرغم من كونه يتمتع بشهرة محدودة في هذه الأيام، فقد كان تووك، عند نهاية القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشر، يحظى بتأثير يماثل تأثير لوك في زمان ( أنظر آرسليف 1967، الفصل الثالث، و سميث 1984 الفصل الرابع). و مثل لوك عـُر ِف َ تووك ليس فقط بكتاباته الفلسفية و لكن أيضا ً بوجهات نظره السياسية المتحررة التي أدت إلى سجنه بتهمة التحريض على الفتنة و العصيان في العام 1777. بافتراض مكانة لوك بوصفه أحد مؤسسي الفكر الليبرالي السياسي، فإن من المقومات اللافتة للنظر في نقد تووك لأفكار لوك اللسانية هو أنها تستمد إلهامها من ليبرالية تووك السياسية الخاصة. في هذا الصدد، تدفق تطور الأفكار التجريبية اللسانية و كذلك تلك الأفكار الليبرالية السياسية في التيار العام لتطور الفكر البريطاني في عصر التنوير. لقد جادل تووك من أجل مدخل وصفي للغة جزئيا ً لأنه شعر أن ذلك قد يساعد في تحرير اللغة من سيطرة السلطات السياسية و بذا فقد يتيح ذلك إمكانية الوصول إلى تلك الأداة القوية و استعمالها من قبل المضطهدين سياسيا ً. و لكن لإعطاء شرح واضح لمناظرة تووك و كيف أنها وُجـِهتْ إلى ما تخيله ضروب َ نقص ٍ في فكر لوك اللساني فسيكون من الأفضل أن نبدأ بمخطط لخطاب لوك حول اللغة في الكتاب الثالث خاصته مقالة حول الفهم الإنساني(1690).
من منظور ( النزعة المؤسسية السائدة) في اللسانيات الحديثة، ليس سهلا ً أن نفهم تماما ً ما يحاول لوك أن يصل إليه في الكتاب الثالث من المقالة. فليس هدفه أن يعطي وصفا ً للغة بعينها أو لكل اللغات؛ و ليس هو تقديم ما يمكن أن ندعوه في هذه الأيام ب ’ فلسفة اللغة‘ أو ’ نظرية اللغة‘. و يمكن لنا أن نقدم تقويما ً أفضل لأسباب لوك لكتابة الكتاب الثالث للمقالة إذا ما قارناه مع أهدافه من مناقشة المجتمع المدني في رسالة حول التسامح (1689)، و مع المحتويات و العمليات العقلية في الكتاب الثاني للمقالة. فهنا لم يعد لوك منظرا ً لسانيا ً بقدر ما هو منظر سياسي، لاهوتي، أو نفساني. فلم يكن هدفه الواسع في مناقشة الشؤون الإنسانية العامة يرمي إلى الوصف أو التفسير؛ إنما هدفه هو تحسين طرقنا نحن البشر في إدارة تلك الشؤون. إنه يناقش العمليات و المحتويات داخل العقل ليزكي و يوصي بطرائق من أجل استعمال أفضل و أكثر كفاءة للعقل في تقدم المعرفة. و بالطريقة نفسها، كان لمناقشته المجتمع المدني في البحث الثاني حول الحكومة هدف هو تقديم أرضية يمكنه من خلالها أن يزكي و يوصي بالكيفية التي ينبغي أن تحكم المجتمعات نفسها بها. إنها ليست نظرية لمجتمع سياسي بعينه( مثلا ً مجتمع إنجلترا في أواخر القرن السابع عشر) و ليس لمجتمع سياسي مثالي أو للقوانين العامة التي يمكن تصورها لحكم كل المجتمعات السياسية. و في ضوء هذا قد يكون الأمر أكثر سهولة أن ندرك إدراكا ً كاملا ًبأن هدفه من مناقشة اللغة في المقالة هو لإقناعنا بالحاجة إلى عملية تحسين للغة و اقتراح طرق يمكن بوساطتها إحداث ذلك التحسين. فهدفه لذلك لم يكن وصفيا ً ، تفسيريا ً أو نظريا ً؛ الأصح هو أنه ربما يكون أكثر مناسبة أن نصطلح عليه ب ’ المعياري‘ و ’ العلاجي ‘، الذي يختص بما نسميه ’ الممارسة: ( و هي ) مهارة الصواب في تطبيق قوانا و أفعالنا،من أجل أجل الحصول على الأشياءِ الجيدة و النافعة‘( المقالةiii, 21, IV). و في هذا الصدد، لا يختلف البناء النظري في خطاب لوك حول اللغة عن ذلك الذي نجده عند نحويي القرن السابع عشر من مثل آرنولد و لانسيلوت من جماعة Port-Royal( للتوسع في هذه المناقشة أنظر كتاب هاريس و تايلور 1989 الفصلان 8 و 9).
و ’ الشيء الجيد و النافع‘ الذي هو غرض اللغة الذي عليها أن تحققه إنما هو الاتصال. فالكلمات يجب:
أن تثير، في السامع، الفكرة نفسها تماما ً التي ترمز لها في عقل المتكلم. و بدون هذا ، سيملأ الرجال رؤوس بعضهم بعضا ً بالضجة و الأصوات، و لكنها لن تنقل بذلك فكرهم و تطرح أفكارهم أمام بعضهم بعضا ً، و هو الهدف النهائي من الخطاب و اللغة.
( لوك 1690: 6, 9, III )
في الكتاب الثالث من المقالة، يناقش كيف لنا أن نحسن عادة تحقيق هدف اللغة هذا، و يتفحص السبب في أننا نفشل عموما ً ، و يقترح علاجات يمكن أن تساعدنا في تحقيق نجاح أعظم.
إن أحد العوائق الرئيسية التي تواجه التحقيق السليم لهدف اللغة الاتصالي يكمن في فشلنا بوصفنا فاعلين لسانيين في أن ندرك بأن النجاح الاتصالي يعتمد علينا. فنحن أنفسنا من يجب أن يسعى لاستعمال اللغة بطريقة سينشأ عنها الاتصال. فالنجاح الاتصالي غير مضمون من الطبيعة، أو من الله ، و غير منحدر إلينا من آدم، أو من المجتمع أو الخصائص المتأصلة في اللغة نفسها. و بدلا ً من ذلك، يرى لوك اللغة على أنها ناتجة من أفعال إرادتنا الحرة خاصتنا التي، إذا ما كان لها أن تحدث فهما ً مشتركا ً، يجب أن تـُؤدى على نحو فعال و عقلاني. و مناقشة لوك لصالح الإقرار بمسؤولية الفاعل اللساني من أجل تحقيق الاتصال من خلال اللغة هي بهذه الطريقة مماثلة لمناقشته في موضع أخر لصالح الإقرار بالمسؤولية الفردية في السلوك السياسي، و الديني و العلمي. و طوال عمله، كان يجادل ضد القبول دونما تمحيص بالعقيدة الموروثة التي تعتم على الحرية الطبيعية للأفراد و ما يترتب عليها من شرط ٍ أساسي ٍ بأن الأفراد يأخذون على عاتقهم المسؤولية الشخصية في إدارة شؤونهم المدنية و العقلية و الاتصالية.
و العقيدة اللسانية التي يجادل ضدها لوك هي الافتراض الموروث بوجود ’مطابقة مزدوجة ‘ في الدلالة: مطابقة ( تمثيلية ) للأفكار مع الأشياء بما هي أفكار تعبر عن تلك الأشياء و مطابقة أخرى ( اتصالية) للأفكار مـُعـَبـَّر ٌ عنها بوساطة استعمال شخص واحد للكلمات مع تلك المعبر عنها بوساطة استعمال فرد آخر للكلمات ذاتها.
و لهذا السبب، فإن الرجال تواقون جدا ً للافتراض ، بإن الأفكار المجردة في أذهانهم، هي على شاكلة، تتفق فيها مع الأشياء الموجودة بدونها، تلك الأشياء التي تشير إليها؛ و هي الشاكلة نفسها أيضا ً، التي تكون فيها الأسماء التي تسبغها على الأشياء تشتغل بوساطة الاستعمال و الملائمة اللذان يخصان تلك اللغة. لأنه و بدون هذه المطابقة المزدوجة لأفكارهم، سيكتشفون، بأنه ينبغي عليهم التفكير بكل من النقص في الأشياء بحد ذاتها، و بالكلام المبهم حولها إلى الآخرين.
( لوك 1690: II، 32، 8 )
و يعزو لوك أهمية كبيرة لإيمان الإنسان المغلوط بهذه ’ المطابقة المزدوجة ‘ في الدلالة؛ لأنه خطأ تترتب عليه تأثيرات بالنسبة لكل جهودنا من أجل توسيع معرفتنا بالأشياء و بتوصيل تلك المعرفة إلى الآخرين. و نحن نفترض بسهولة مفرطة، في النتيجة، بأن العلاقة بين الكلمات و الأفكار و الأشياء مثالية، و كاملة. وفوق ذلك فإننا نـَعتبر الأمر مسلما ً به بأن هذه العلاقة توجد بمعزل عنا و عن أفعالنا. و لا صلة بين اعتقادنا المغلوط فيما إذا كنا نأخذ كمال هذه العلاقة على أنه إرث من آدم، أو أنه هبة إلهية، أو أنه نتاج الطبيعة. فالأمر المهم حقا ً هو أن فعالياتنا اليومية مبنية على أساس افتراض كمالها و استقلالها.
و مهما يكن، فإن مناظرة لوك تقول بأن العلاقة بين الكلمات و الأفكار و الأشياء غير كاملة؛ فمن المؤكد حقا ً بأن التعبير عن المراد يعتمد على أفعالنا الخاصة و اختياراتنا. ويلزم من ذلك أن اعتقادنا في أسطورة ’ المطابقة المزدوجة‘ الكاملة يعني أن محاولاتنا لاكتساب المعرفة و توصيلها للآخرين غالبا ً ما يفسدها عدم الكمال هذا. و إذا لم نتوصل لإدراك عدم الكمال لعلاقة التعبير عن المراد بين الكلمات و الأفكار و الأشياء( و لعمل شيء ما حول عدم الكمال ذاك)، فسيبقى عائقا ً يمنع تقدم الفهم الإنساني.
و يهاجم لوك أولا ً عقيدة ’ المطابقة المزدوجة ‘ بإظهاره، في الكتاب الثاني، المدى الذي يعتمد فيه صوغ الأفكار( التي تعبر عنها الكلمات) على اختياراتنا الحرة: بهذه الطريقة يتحدث بصدد الأفكار المعقدة على أنها ’ إرادية ‘ و ’ اعتباطية ‘ في آن واحد. ففي صوغ فكرة معقدة نربط أفكارا ً بسيطة، و النتائج الكامنة للتجربة، في مكون جزئي أكبر. و بتحديد الصوغ السلبي للأفكار البسيطة فقد يفترض فيها بأن تتطابق تمثيليا ً مع الظواهر التي هي أفكار لها. و مهما يكن فإن الفرد يتخذ دورا ً فعالا ً و إراديا ً في صوغ الأفكار المعقدة. فنحن أنفسنا من يقرر أي الأفكار البسيطة يـُضـَمـَن ُ في أفكارنا المعقدة. و هذا الربط ليس مقررا ً من قوة خارجية ما ( الطبيعة، الله، و هلم جرا )، و هو لا يعكس مباشرة الأنماط الأساسية في الواقع المـُجـَرَّب. و على هذه النقطة الأخيرة يستند تمييزه المهم بين الجواهر الاسمية للأشياء، تلك الجواهر الكائنة في آرائنا المشكلة إراديا ً حول الأشياء، و جواهرها الحقيقية، التي هي غير قابلة للمعرفة. و نتيجة هذه المناظرة هو أنه ليس بالإمكان تبعا ً لذلك قيام مطابق تمثيلية بين أفكارنا الإرادية و الاعتباطية من جهة و الأشياء التي هي أفكار معبرة عنها.
في الكتاب الثالث يفتتح لوك هجوما ً ثانيا ً على مبدأ ’المطابقة المزدوجة‘ مجادلا ً بأن الأمر لا يقتصر على أن الأفكار مصوغة صوغا ً إراديا ً و اعتباطيا ً فقط، و لكن العلاقات الخاصة التي تربط بين الكلمات و الأفكار المعبرة عنها هي كذلك علاقات إرادية و اعتباطية. فالتعبير عن المراد بكلمة أقولها- الفكرة التي تقوم في عقلي- ليست مقررة قبليا ً بالنسبة لفعلي الحر المعبر عن إرادتي في استعمالها لمثل هذه الدلالة. فالكلمات تدلّ ُ ليس بوساطة قرابة طبيعية بأفكار محددة، بوساطة إرث من آدم، و ليس بوساطة أية ترتيبات قبلية أخرى؛ و رفض هذا، يقول لوك، هو نوع من ’ إساءة استعمال اللغة‘. و بدلا ً من ذلك، فإن الكلمات التي يستعملها فرد معين إنما تدلّ ُ بوساطة فعل إرادي، اعتباطي، متفرد و خاص يـُـنجز في عقل الفاعل المتحدث. و هي لا تمتلك دلالة قبلية سابقة لذلك الفعل.
و كل إنسان يمتلك حرية حصينة جدا ً و لا تنتهك حرمتها، في أن يجعل الكلمات تمثل الأفكار التي يرتضيها، و ليس ثمة من أحد يملك القوة لجعل الآخرين يمتلكون الأفكار نفسها التي يمتلكها الإنسان في عقولهم، و عندما يستعملون الكلمات، فليس كما يفعل هو.
( لوك 1690: III ،2،8 )
و الأكثر من ذلك ‘ فأن هذا يعني أننا لا نستطيع أن نتحقق من أن الفكرة التي عبرنا عنها بكلمة معينة هي نفسها التي عبر عنها الآخرون حين استعملوا تلك الكلمة بالذات. و الافتراض بأن أفكارنا تتطابق فعلا ً مع الأشياء التي هي أفكار معبرة عنها و بأنها أيضا ً تتطابق مع الأفكار في عقول الرجال الآخرين إنما هو افتراض غير مـُدَعـَّم، أنه عقيدة ضارة بالسلوك العقلي السليم و الفعال و هي ضارة أيضا ً باستعمال اللغة لأغراض تقدم المعرفة.
و بتحديد هذا، فإن من السهل أن نرى أنه سيكون من النادر، فيما لو حصل، أن يتحقق غرض اللغة الاتصالي. فإذا ما كانت الأفكار التي أ ُعبر عنها بكلماتي قد اختيرت إراديا ً و اعتباطا ً من قبلي في خصوصية عقلية، وإذا ما كانت تلك الأفكار هي نفسها قد صـِيغت بوساطة فعل إرادي، خصوصي، و اعتباطي على نحو كبير، فإذن من المؤكد أن الأمر لن يكون عقلانيا ً أن أفترض بأن الآخرين يفهمونني حين أتكلم. و حين يـجري التخلي عن الإيمان الجازم دونما بينة ب’ المطابقة المزدوجة‘، يترك لوك القارئ محدقا ً في هاوية مدوخة من النزوع إلى الشك في الاتصال.
غير أنه سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن غرض لوك في المقالة هو الإعلاء من شأن النظرية المشككة في الاتصال. لأن هدفه المهيمن هو من النوع العملي : و في هذه الحالة تكون النقطة المهمة في مناقشته للدلالة و التعبير عن الرأي هي أن يساعدنا في تحسين سلوكنا اللساني: لمساعدتنا في تحقيق قدر أكبر من الفهم و أكثر صدقية حين نتكلم أو نكتب. و تبعا ً لذلك فهو يصف في الكتاب الثالث، الفصل الثاني ، ’ العلاجات ‘ لوجوه النقص في اللغة. و هذه يمكن أن تعاد صياغتها على النحو الآتي:
1. لا تستعمل كلمة دون أن تعرف أية فكرة ستجعل من تلك الكلمة رمزا ً لها.
2. تثبت من أن أفكارك واضحة، و متميزة عن بعضها بعضا ً و حاسمة؛ و إذا كانت أفكارا ً حول الجواهر، فينبغي أن تكون قابلة للمطابقة مع الأشياء الواقعية.
3. حيثما أمكن، اتبع الاستعمال الشائع، و بخاصة استعمال هؤلاء الكتاب الذين يبدو خطابهم متضمنا ً أوضح الأفكار.
4. حيثما أمكن، صرِّح بمعاني كلماتك( و بخاصة قـُم بتعريفها).
5. لا تقدم على تغيير المعاني التي تعطيها للكلمات.
إذا كانت اللغة فعلا ً من أفعال الإرادة ، فهو إذن فعل يمكن للفاعل المتكلم أن يغيره قصديا ً من أجل هدف تحقيق التفاهم المشترك على أفضل وجه. و من المنظور الذي يؤكد النزعة الفردية و الإرادية الذي يتبناه لوك، تخضع اللغة لسيطرة الإرادة الفردية. و هي لذلك قابلة للتحسين، و إن كل متكلم فاعل فرد مسؤول عن هذا التحسين. و هذا الموقف يتعارض كليا ً مع الموقف الذي يعتمد على الثقة العمياء في القوى الخارجية مثل- الطبيعة، اللهُ، التاريخ، المجتمعً- لضمان أن أفعالنا الفردية تبلغ مراميها. و هكذا بعد إثبات ما يمكن أن نسميه ’حرية‘ الفرد اللسانية – و هي سيطرة المتكلمين رجالا ً كانوا أم نساء ً على القوة الاتصالية للكلمات التي يتحدثون بها- يقدم لوك التوجيهات التي، إذا ما اتبعت، ستعمل بوصفها محددات عقلانية على تلك الحرية و ذلك لكي يمكن أن تضمن أهداف الاتصال. و بهذا الصدد، كانت إستراتيجيته البلاغية في العمل باتجاه استنتاجات توجيهية غير مختلفة عن تلك التي استخدمها في مكان آخر في توصياته من أجل سلوك عقلاني للعقل و السلوك الصائب و المنصف للمجتمع المدني. إن لوك باحث ذا عـقيدة لسانية معيارية لأنه يعتقد بأن الفرد فاعل لساني حرٌ ، و لذلك فهو عمليا ً مسؤول و قابل للكمال.
إن وجهة نظر لوك بشأن اللغة مختلفة تماما ً و بشكل واضح عن تلك التي نجدها في النظريات اللسانية المهيمنة هذه الأيام. و برغم ذلك، فمن منظورنا نجد الأمر أكثر سهولة أن نرى على نحو أكثر وضوحا ً كيف أن وجهة نظره في اللغة متعلقة ( ربما نذهب إلى حد القـول ’ مقررة ‘) بوساطة أيديولوجيته اللبرالية الأكثر عموما ً، كما انعكست في أماكن أخرى في كتاباته السياسي، و التربوية، و الدينية. فهو يبدأ عمله بالحرية الإنسانية و يعمل باتجاه توصيات من أجل السلوك الأخلاقي انطلاقا ً من هذه المقدمة. و إذا أردنا التأمل في السبب في أن كتاباته كانت بعيدة التأثير، و مثيرة للاختلاف إلى حد بعيد، في حركة التنوير البريطانية، لن نستطيع أن نفعل شيئا ً أفضل من أن نبدأ بإبرازه لمفاهيم الحرية الفردية و المسؤولية. و لفهم أفكار لوك اللسانية و مكانته في الفكر البريطاني في عصر التنوير، فإن الاعتبار الأول يجب أن يعطى لدوره بوصفه واحدا ً من الأنصار الأساسيين للأيديولوجيا الليبرالية.
و مع ذلك فإن من اللافت للنظر أن وجهات نظره حول اللغة لم تطق البقاء في حقل الأيديولوجيا الليبرالية. و بدلا ً من ذلك فقد استـُبدلت بمنظور آخر يرفض المقدمة القائلة بأن اللغة تنتج من فعل حر للإَرادة الفردية. و عوضا ً عن ذلك، أخذ هذا المنظور الجديد، بوصفه نقطة بداية لـه، الافتراض بأن اللغة و الدلالة ليستا خاضعتين لسيطرة الفاعل المتكلم الإرادية ، و الأصح أنهما موجودتان على نحو مستقل عن الإرادة الفردية: في المجتمع، في عمليات الدماغ غير الواعية، أو في التجريد المنطقي. إن صعود ما يبدو أنه تفسير للغة مضاد لليبرالية يمكن أن يكون مفهوما ً إذا ما جاء في سياق أيديولوجيا مضادة لليبرالية على نحو متساو. و لذلك فإن من المثير للعجب تماما ً أن واحدا ً من أقدم مناصريها و أكثرهم تأثيرا ً قد كان سياسيا ً ليبراليا ً شهيرا ً في إنجلترا أَواخر القرن الثامن عشر: جون هورن تووك.
و مثل لوك ، كان هورن تووك مهتما ً بتحرير المتكلمين من العقيدة اللسانية. كلاهما أعتقد بأن الإيمان بمثل هذه العقيدة كان مصدرا ً رئيسيا ً لفشل الفلسفة و النظرية السياسية. و الأكثر من ذلك أن تووك وافق لوك بأن غرض اللغة هو توصيل الأفكار من فرد لآخر و بأن هذا الغرض قد تحقق فقط في حالات نادرة جدا ً. و لكن بينما أنحى لوك باللائمة على الخصائص الأساسية للغة و لعملية صوغ الأفكار لفشل الاتصال, وجه تووك اللوم جهة أخرى: إلى التحليلات سيئة التوجيه للغة و الأفكار التي اقترحها الفلاسفة، و النحاة، و السلطات الفكرية الأخرى. فمن وجهة نظر تووك، إن اللغة بعيدة كل البعد عن أن تكون ناقلة للاتصال يعتريها النقص كما يعاملها لوك. و الأصح، هو أن ’ أوجه كمال‘ اللغة، غير المفهومة بشكل صحيح، هي التي كانت و ما زالت واحدة من الأسباب في أوجه نقص فلسفتنا ‘ ( تووك 1857: 19). و حين يصل تووك إلى فحص الطرق التي من خلالها أساءت التحليلات الماضية للغة فهم خصائصها الحقيقية، فإن وصف اللغات خاصته على أنها مؤسسات تاريخية، مستقلة عن الإرادة الإنسانية ، يقف بمواجهة مباشرة مع المنظور الإرادي للوك.
من وجهة نظر تووك، أعطى لوك اهتماما ً زائدا ً عن الحد للهدفين الأولين من الأهداف الأساسية للغة.
الهدف الأول للغة كان لتوصيل أفكارنا؛ و الثاني هو إنجازه بسرعة و فعالية... و الصعوبات و الخلافات المتعلقة باللغة تنشأ كليا ً تقريبا ً من إغفال الأخذ بعين الاعتبار هدف الكلام الأخير ( الثاني: المترجم): الذي، و إن كان ثانويا ً بالنسبة للأول، يكاد يكون على الدرجة نفسها من الأهمية في التبادل الفكري للنوع الإنساني، و له نصيب أعظم في تفسير أنواع الكلمات. الكلمات التي طالما دعيت بالمجنحة؛ وهي تستحق عن جدارة ذلك الاسم ، حين تقارن مختصراتها مع التقدم الذي يمكن أن يحققه الكلام بدون هذه الاختراعات ؛ و لكن بالمقارنة مع تسارع الفكر، فليس لها أدنى ادعاء لذلك العنوان. لقد قام الفلاسفة بحساب الفرق في السرعة بين الصوت و الضوء: و لكن من سيحاول حساب الاختلاف بين الكلام و الفكر! و ما يثير التساؤل، إذن، أن اختراع كل العصور ينبغي أن يتواصل على أساس التوسع في التفسير لإضافة مثل هذه الأجنحة لمحادثتهم باعتبار أنها قد تمكنها، إذا كان ذلك ممكنا ً، من المحافظة على السرعة و المهارة بالقياس مع عقولهم. من هنا أساسا ً كان اختلاف الكلمات.
( تووك 1857: 14-15)
في كتابه تحولات بيرلي ( نشرت طبعته الأولى بمجلدين 1786 و1805)، يجادل تووك بالقول إنه على الرغم من أن الهدف الأول للغة هو لتوصيل الفكر، فهنالك هدف ثان ٍ: ألا وهو تحقيق الهدف الأول بكفاءة، و استنادا ًً إلى العوائق و القيود المرتبطة بالفترة الزمنية للتفاعل اللفظي العادي. لذلك لا يكفي بالنسبة للغة أن تمكننا من توصيل الأفكار؛ إذ يجب أيضا ً أن تجعل من الاتصال ممكنا ً بالسرعة التي يتم خلالها صوغ الأفكار المراد توصيلها أو قريبا ً منها. الفكر، بالنسبة لتووك، يتوقف على تيار من الأفكار البسيطة، أو الأحاسيس و المشاعر التي تحصل بسرعة بشكل سلسلة متعاقبة، واحدة بعد أخرى. و الأفكار المعقدة لا وجود لها. إنها من اختراع الفلاسفة الذين، مفترضين أن كل الكلمات يجب أن تعبر مباشرة عن الأفكار، يقومون تخيلا ً بتأهيل العقل بفكرة من نمط مختلف لكي يـُعبـَر عنها بوساطة كل كلمة من نمط مختلف. و لكن، بالنسبة لتووك، يتكون العقل فقط من أفكار مدونة سلبيا ً للشعور.
مهمة العقل، بقدر تعلق الأمر باللغة، تبدو كما لو أنها بسيطة جدا ً. فهي لا تمتد أبعد من استقبال الانطباعات، و هذا يعني، أن تنطوي على المشاعر و الانفعالات. و ما يسمى بعملياتها، إنما هو مجرد عمليات اللغة.
( تووك1857: 15)
إذن، بالنسبة لتووك، كل الأفكار مدونة سلبيا ً بوساطة العقل. و لا يمكن أن تكون ثمة أفكار تـُشكل من خلال العمليات الإرادية للعقل، لعدم وجود مثل هذه العمليات. و على أية حال، فإذا ما افترضنا أننا تلفظنا بكلمة لكل من الأفكار التي تحدث في تيار الفكر، لن نتمكن قط من التكلم بسرعة كافية للمواصلة دونما انقطاع بالقياس مع سرعة أفكارنا. و هكذا و لكي تكون اللغة أداة ناقلة فعالة للفكر فيجب أن تحتوي أشكالا ً لفظية للتعبير يمكن أن تـُنتـَج بمعدل سرعة شبيه بمعدل سرعة الأفكار التي تعبر عنها.
اللغات المتحضرة تحقق هذه الكفاءة الزمنية بتضمين ما يسميه تووك ’ المختصرات ‘: و هي كلمات ترمز على نحو غير مباشر لأكثر من فكرة بسيطة واحدة في الوقت نفسه. و من خلال التلفظ بمثل هذه المختصرات، يتمكن المتكلم أن ينتج الكلام بمعدل سرعة مساو ٍ لمعدل السرعة الذي تخطر به الأفكار البسيطة في عقله أو عقلها. و المختصر هو في الحقيقة بديل ذي جذر لغوي مشتق لكلمات أخرى ترمز هي نفسها مباشرة لأفكار بسيطة. ’ برغم أنه في الحقيقة... بدون الاختصارات تستطيع اللغة أن تتقدم و لكن بشكل ضعيف: و لذلك فقد وضعت ( المختصرات: المترجم) قيد الاستعمال، بأعداد مختلفة، و بفرص نجاح كثيرة أو قليلة، في كل اللغات ‘( تووك1857: 24). و في لب كل اللغات المتحضرة يجب أن توجد مجموعة من الصيغ، و الكثير منها ربما لم يعد مستعملا ً، معبرة مباشرة عن أفكار الإحساس البسيطة( لأن هذا هو كل ما هناك لكي تعبر عنه الكلمات ). و كل الكلمات الأخرى في اللغة- وهي ’المختصرات‘- تتعلق من حيث أصل اشتقاق الألفاظ بواحد أو أكثر من عناصر هذه المجموعة؛ و بوساطة علاقة أصل اشتقاق الألفاظ هذه تشتق معاني المختصرات. و حقيقة هذا الزعم قد تمت البرهنة عليها، يناقش تووك، بتطبيق المناهج التاريخية في تحليل أصول الألفاظ etymological analysis. و الكثير مما احتواه كتاب تحولات فيرلي يتألف من تحليل أصول الألفاظ لأكثر من 2000 كلمة إنجليزية، واضعا ً نصب عينيه هدف الكشف عن دلالتها الصادقة في كل حالة.
إذا كان استنتاجي... مبنيا ً على نحو سليم ، إذن يلزم أن يكون هنالك في اللغة الأصلية التي اشتقت منها اللغة الإنجليزية( و كذلك كل اللغات الأخرى ) ، حرفيا ً كذا و كذا من الكلمات التي تحمل بدقة كذا و كذا من الدلالات. ... و النتيجة الحاصلة كانت أبعد من توقعي: لأنني وجدت دائما ً ، وبعد التمحيص، أن كل تنبؤاتي قد تم إثباتها.
( تووك 1857: 67-9 )
يتولى تووك تكريس رأيه بأن تكون هنالك فوائد كثيرة مكتسبة من خلال الإدراك التام للدور الذي تلعبه المختصرات في اللغة. و الأكثر أهمية من هذه، و هو ما سأبني عليه ما أدعوه وجهة نظر تووك ’ المؤسسية ‘ في الدلالة، الإقرار بأن الكلمات لا تعني ما ’ نجعلها ‘ نحن أو أي شخص آخر تعني. فهي تنجز عملية الدلالة بصورة مستقلة عنا و عن الكيفية التي نستعملها بها. إذ يمكن تمييـز معانيها الحقيقية بوساطة تحليل أصول الألفاظ، كشفا ً عن ’ النويات ‘ البسيطة التي كانت الألفاظ قد اشتقت منها. فمثلا ً، فيما يأتي، يرينا تووك كيف أن لحرف الجر الإنجليزي ’through ‘معنى مختلفا ً عن المعنى الذي جعلنا النحاة و الميتافيزيقيون نعتقد به. فعلم أصول الألفاظ يكشف بأنه يعني ببساطة بابdoor .
فكما أن حرف الجر الفرنسي الفريد CHEZ ليس أكثر من الكلمة الإيطالية المستعملة كاسم CASA أو CA، فكذلك حرف الجر الإنجليزي thorough, thourough, thorow, through أو thro، ليس أكثر من الكلمة الغوطية dauro أو الكلمة التيوتونية thurrh: و هي مثلها تعني بابا ً أو بوابة أو ممرا ً... و أنا على قناعة بأن كلمتي Door و Through لهما الأصل الغوطي نفسه تماما ً وهو dauro ، و يعني الشيء نفسه تماما ً؛ و هو في الحقيقة الكلمة نفسها تماما ً.
( تووك 1857: 180-3)
هنا، الحقيقة المستفادة بأن كلمة ’ through ‘ تعني حقا ً كلمة door هي حقيقة في اللغة، و ليس في استعمال معين بحسب لغة متكلم فرد بعينه. و إذا استعملت كلمة through للتعبير عن شيء غيـر ذلك، فسأكون ببساطة على خطأ. ذلك أن الأمر لا يعود لي لكي أقرر معاني الكلمات التي أستعملها.
و في المقابل، فإن تحليل أصول الكلمات، و ذلك بمتابعة معاني المصطلحات المعقدة و المجردة و حتى الانطباعات الحسية التي تشكلها الأشياء البسيطة الملموسة، يحمل وعدا ً بالاستغناء عن النظريات الميتافيزيقية و النفسية المشوشة( بكسر الواو) التي كان هدفها فقط تفسير طبيعة الظواهر المعبر عنها بوساطة المصطلحات المعقدة و المجردة. إذ مع تفسير تووك للدلالة المستمد من علم أصول الألفاظ ، تختفي الحاجة إلى التأمل النفسي الميتافيزيقي, لأن كل ما يتضمنه هذا النمط من المصطلحات يمكن أن يشرح على أنه مختصرات لكلمات أخرى ترمز مباشرة للأفكار البسيطة. و على هذا النحو, يمكن أن تـُُستبدل الحقول المعرفية التأملية و النخبوية بعلم أصول الألفاظ التجريبي( الأمبريقي) الذي يأخذ بمبدأ المساواة بين البشر.
و هناك فائدة أخرى حاصلة بوساطة التقدير التام لدور المختصرات في اللغة و هي أنه لن تكون بنا حاجة للقلق حول مسألة فيما إذا كان التواصل ممكنا ً عبر اللغة. إذ أنه سواء أكان بصورة مباشرة أم غير مباشرة، فإن كل الكلمات تعبر عن أفكار الحواس البسيطة؛ و بما أن أفكار الحواس البسيطة مشتقة انفعالا ً من التجربة البشرية العامة، يمكن لنا أن نكون على يقين بناء عليه بأن الأفكار المعبر عنها بأية كلمة هي عينها بصرف النظر عمن يستخدم تلك الكلمة. و طبعا ً، قد يعتقد المتكلمون، ربما متأثرين بالنظريات الفلسفية التأملية، بأن بإمكانهم جعل الكلمات تعبر عن الكلمات التي يختارون. و مثل هذا الوهم يحظى برعاية الفلاسفة و النحاة و تشجيعهم. في الحقيقة، أن معاني الكلمات ليست خاضعة لسيطرتنا الإرادية. فعلاقة الدلالة بين الكلمة و معناها واقع تاريخي، محفوظة في علاقات أصول الكلمات التي تـُؤلـِفُ اللغة، و هي علاقة مستقلة عن إرادة المتكلمين الأفراد. و بناء على ذلك، فإن ما تعنيه كلمة بعينها لا يمكن أن يختلف بين مستعمل و آخر أو بين المتكلم و السامع. و الاستقلال المؤسسي، الذي يعزلها عن سيطرة إرادة الفاعلين الأفراد، هو ما يجعل اللغة تلك الناقلة الكاملة للاتصال التي اعتقد تووك بوجودها.
و الأكثر من ذلك، و هو ما يصل إلى درجة أننا نرفض المناقشات الاستبدادية و المربـِكة للفلاسفة و النحاة، سنصل في نهاية الأمر إلى أن ندرك بأن اللغة هي المؤسسة الاجتماعية التي، بسببٍ من استقلالها ذاته، توجد بوصفها مصلحة ً عامة ً لا يستطيع أي فرد أو جماعة أن يمارس سلطة أو سيطرة عليها. و أعتقـد تووك بأن السلطات السياسية قد كانت قادرة على أن ترفض أو تلطـِّف من المناقشات الشعبية من أجل حقوق أعظم، و حريات ٍ أساسية، و قوانين عادلة، و ما أشبه، لأن تلك السلطات قد تحايلت على مضمون موضوعاتها في قبولها الدلالات المظللة التي أعطتها السلطات للمصطلحات الحاسمة مثل ’ قانون‘ و ’ حق ‘ و ’ عادل ‘ وغير ذلك. ولكن إذا ما قبلنا مناقشة تووك المؤسسية، سنرى بأن مثل هذه الخطوات تقوم بمجرد وضع قناع على الحقيقة: فلكل الكلمات معان ٍ موضوعية يمكن الكشف عنها بوساطة التقنيات التجريبية لعلم أصول الألفاظ. و لـم يعد باستطاعة السلطة السياسية فرض معناها الذاتي الخاص بها على كلمة ’ حق ‘ أكثر من استطاعتها فرض تركيب كيميائي( آخر) على الماء. و معاني المصطلحات السياسية و الأخلاقية هي ’وقائع‘ لا تختلف جوهريا ً عن وقائع الكيمياء، و علم الأحياء و الفيزياء. فالمعاني هي مسائل تخص الحقيقة؛ إنها ليست، كما ذهب إلى ذلك لوك، مسائل تخص الإرادة و الفاعلية الفردية. و علم أصول الألفاظ يزودنا بتقنية تجريبية للكشف عن حقائق المعنى. و لذلك ليست عبارات المعنى بتوجيهات، إنما هي أوصاف( أو فرضيات علمية). إنها عبارات تجريبية، تعتمد على تقنيات علمية، أكثر من كونها عبارات معيارية، تعتمد على قوة القرار المرجعي و السلطة.
و هكذا فإن الدلالة السياسية لمناظرة تووك تكمن في دفاعها عن المدخل الحر، من خلال دراسة أصول الكلمات، استجابة للمعرفة اللسانية، و للمصلحة التي قد كان امتلاكها في السابق امتيازا ً حذرا ً للنخبة( و هي مصلحة اعتقد تووك أن على اللسانيات المعيارية أن تمنحها وهم الشرعية). و من هنا تصبح معرفة معاني الكلمات مفتوحة لأي شخص يرغب شرط أن يكون حائزا ً للمهارة التقنية التجريبية في حقل تحليل أصول الكلمات.
هنالك بالطبع سخرية كبيرة في تحويل تووك للخطاب التجريبي حول الدلالة من التقعيد و التوجيه للمعايير السلوكية إلى الوصف المؤسسي للوقائع: فمعظم ’ وقائع‘ أصول الألفاظ التي أوردها سرعان ما نـظر إليها زملاؤه المؤسسيون على أنها زائفة. غدا تووك معدودا ً مختصا ً بعلم أصول الألفاظ غاية في السوء. و المثال البارز للتحليل الرديء لأصول الألفاظ هو مساواة تووك بين كلمة’ through ‘ و كلمة’ door‘.
و لكن ذلك يوحي بالمقابل بسخرية أكثر عمومية في المدخل المؤسسي إلى اللغة. فمثل هذا المدخل يصف ’ الوقائع ‘ المؤسسية ( بالمقارنة مع القول بالكيفية التي يجب أن يتصرف فيها الفاعلون ). و لكن ’ الوقائع‘ الموصوفة من المؤسسي هي ليست قابلة للملاحظة مباشرة. فالوقائع المفهومة ظاهريا ً بأن كلمة ’ منوم ‘ تعني يفضي إلى التسبب بالنوم ، أو بأن كلمة through تعني حقا ً كلمة door هي غير قابلة للبحث التجريبي. و كذلك أيضا ً الواقعة المفهومة ظاهريا ً بأن في الإنجليزية قاعدة تقول: ’ الأفعال تتفق في العدد مع فاعليها‘. فما هو قابل للملاحظة إنما هو سلوك الفاعلين الأفراد: كأن يقوم شخص ما بجعل الفعل يوافق فاعله في العدد. لكن هذا المثال من السلوك ليس هو الواقعة الموصوفة من قبل المؤسسي: القاعدة هي ما يكون موصوفا ً. بيد أن ذلك لا يمكن ملاحظته مباشرة.
و بناءا ًعلى ذلك، وخلافا ً لما يـُسمى وقائع علوم الحياة، و الكيمياء، و العلوم الطبيعية الأخرى، فإن الوقائع المؤسسية المفهومة ظاهريا ً للسانيات الوصفية ستبدو متغيرة من عقد لآخر، و من جيل إلى جيل، و من مدرسة إلى أخرى [ بينما تكون وقائع العلوم الطبيعية على درجة عالية من الثبات. المترجم]. و الرفض بالجملة لوقائع تووك الدلالية المستمدة من أصول الألفاظ هو حالة مثالية في صميم الموضوع. و لكن ما هو الضوء الذي تلقيه هذه السخرية، و هي، و حتى نكون عادلين، ذات طبيعة تاريخية في الأساس، على الزعم الأكثر عمومية و الأكثر منطقية بأن اللسانيات المؤسسية هي خطاب لا سياسي، يقف في تضاد مباشر في مواجهة الخطاب الذي لا يمكن تجنب نعته بالسياسي للنزعة المعيارية؟
و لتناول الزعم الأكثر عمومية، فينبغي أولا ً ملاحظة أن ، و كما أشار آرسليف (1967)، أفكار تووك ربما كانت الملهم الأساسي الموجه لمقترح كتابة معجم أوكسفورد الجديد للإنجليزية ( سنسميه اختصارا ً المعجم: المترجم ) و لتأليفه في نهاية الأمر. فما الذي يـُفترض بالمعجم أن يكونه (و ما زال) سوى أن يكون مجرد وصف شامل لمؤسسة اللغة الإنجليزية، و خصوصا ً لمعاني كلماتها؟ إنه يقف موطد العزم في مواجهة الفكرة القائلة بأن ما تعنيه كلمة ما هو شيء يتم تقريره إراديا ً من الفاعلين الفرديين الذين يستعملون تلك الكلمة. إن المعجم يصف ببساطة الوقائع، المعاصرة منها و التاريخية. و هو بحد ذاته خطاب ميتالساني من نوع مختلف تماما ً عن المعاجم التوجيهية التقعيدية الأقدم التي أنشأها و عززها التراث المعياري.
و مع ذلك، فإن المعجم هو أيضا ً، و إلى حد ٍ بعيد، المؤثر الأكثر هيمنة و تأثيرا ً على سلوك المتكلمين الأفراد و كـُتـّاب اللغة الإنجليزية. إنه الخطاب المعياري الأرفع منزلة و سلطة حول السلوك الذي نسميه’ التكلم بالإنجليزية‘: أنه محكمة الاستئناف النهائية الحاسمة. وهو بحد ذاته يمتلك مغزى سياسي كبير[2] ، إنه الجوهرة الأخيرة المتبقية في تاج فيكتوريا.
و على الرغم من ذلك فإن الباحث المؤسسي سيجادل بأن الاستعمال المعياري للعبارات الوصفية في المعجم هو من الظواهر الخارجية اللاحقة. فأوصاف معاني الكلمات في القاموس نفسها لا تمنع المتكلمين الأفراد من استعمال الكلمات بأي طريقة يختارون. و قد يكون صائبا ً تماما ً أن التوجيهيين يستفيدون من العبارات الوصفية في القاموس من أجل غايات معيارية، و لكن ذلك لا يجعل من العبارات نفسها ذات صفة معيارية أو سياسية متأصلة فيها. و على نحو مشابه، قد يستعمل شخص ما بحثا ً تجريبيا ً في أسباب الموت في مجتمع ما لغايات سياسية؛ و لكن احتمال مثل هذا الاستعمال لا يجعل من ذلك البحث أو نتائجه الوصفية سياسية متأصلة. فما يحتويه المعجم، سيناقش المؤسسي، هو أوصاف الوقائع حول معاني الكلمات الإنجليزية؛ و ليس لمثل هذه الأوصاف أية علاقة، لا مع حرية الأفراد باستعمال هذه الكلمات نفسها لتعني أي شيء يرغبونه، و لا مع جهود ’ السلطات ‘ في قيادة ذلك الاستعمال و السيطرة عليه أو و ضع العقبات في وجهه.، و حتى أن تلك السلطات ينبغي أن تستفيد من أوصاف المعجم بوصفها جانبا ً من جوانب جهودها المبذولة. ففي عملية وصف وقائع معاني الكلمات ، فإن المعيار الوحيد الذي تـُمتحـَن استنادا ً إليه عبارات الباحث اللساني الوصفي هو الصدق و الصحة. و قد يكون من الأفضل، كما هي الحالة التي أظهرتها تحليلات تووك الزائفة لأصول الكلمات،أن تلك العبارات الوصفية تكون في بعض الأحيان، و حتى غالبا ً، مغلوطة. و لكن ذلك بحد ذاته لا يظهر أنه من حيث المبدأ ليس ممكنا ً تطبيقُ معيار التطابق مع الوقائع على العبارات اللسانية الوصفية. على العكس من ذلك: إنه يظهر وجود مثل هذا المعيار. و إلا فما هو المعنى الذي قد يكون محتملا ً في القول بأن تحليلات تووك لأصول الكلمات كانت زائفة؟ فإذا كانت هناك أوصاف زائفة للوقائع المؤسسية في اللغة، إذن يمكن أن تكون هناك أخرى صادقة، و ليس هناك من خطأ في كلامنا حول عبارات اللساني على أنها أوصاف أو فرضيات تجريبية. و الأكثر من ذلك، يستنتج المؤسسي، فإذا كان منطقيا ً حسبان عبارات اللساني على أنها أوصاف للوقائع المؤسسية، إذن سيكون منطقيا ً على نحو مكافئ القول بأنها، في حد ذاتها، لا تمتلك دلالة معيارية أو سياسية متأصلة.
في قوة الإقناع الجلية لهذه المناظرة، و هي نتيجة منطقية تبدو متقدمة إلى الأمام استنادا ً إلى إرادتها و قوتها الذاتيين، يكمن المفتاح لكل من تحويل الخطاب حول اللغة إلى صيغة وصفية علمية، و للهيمنة المستمرة لتلك الصيغة الخطابية حتى في هذه الأيام. و لكنها مناظرة مبنية على أساس إخفاء المسائل الأكثر أهمية كما تخفى الكناسة تحت السجادة. و لفهم ذلك فإن الأفضل هو أن نسأل: إذا كانت العبارات في المعجم وصفية، فما الذي تصفه؟ إنها ليست أوصافا ً تجريبية لأحداث كلامية محددة، و لا لتصرف الفرد في حدث من هذا النوع، و لا لتصرف كثير من الأفراد في مثل هكذا أحداث. فأوصاف تلك الظواهر قد تبدو مختلفة جدا ً عما تكون طبيعته في عبارات من قبيل’ " المنوم" تعني يفضي إلى التسبب بالنوم‘. و الرد بأنها أوصاف لتجريدات أو لمحتويات عقلية هو تهرب من السؤال، و العمل على الشاكلة التي نجدها تماما ً في طريقة تووك في تأييد النزعة المؤسسية قـُصـِد منه القضاء عليها: يعني، بوساطة التسليم بالعوالم الميتافيزيقية و النفسية غير القابلة للملاحظة المأهولة بظواهر تعمل بوصفها مؤشرات للتعبيرات الوصفية الغامضة و المعقدة. بمعنى، ينخدع المؤسسي، حالما ً و مفرطا ً في التفاؤل، بأقدم صيغ الإغواء في الميثولوجيا اللسانية: أعني، إذا كانت معاني كلمات مثل ’ سقراط ‘ و ’ حصان ‘ و ’ شجرة ‘ هي أشياء من النوع الذي ترمز لـه، إذن ما الذي ترمز لـه الكلمات ’ عدالة ‘ ، و ’ جمال ‘، و ’ إذا ‘؟ أهو أفكار؟ أم صيغ؟ أم علاقات؟ أم كيانات نظرية؟ و ليس ثمة من إجابة على هذا السؤال، لأن السؤال نفسه مناف ٍ للعقل.
و لكن إذا لم تكن هناك ظواهر تجريبية للعبارات اللسانية الوصفية حتى تكون أوصافا ً لها، يرد المؤسسي بحجة معاكسة، فكيف إذن يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة؟ كيف يمكن أن تكون عبارة " منوم " تعني يفضي إلى التسبب بالنوم كاذبة مرة، و " منوم " تعني يفضي إلى التسبب بالنوم تكون صادقة مرة أخرى ما لم تـُفهم تلك العبارات على أنها أوصاف لنوع من الحالة موضوع الاهتمام؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال المحير و الملغز على نحو سرمدي هو من البساطة بحيث يثير العجب: إن مثل هذه العبارات ليست أوصافا ً بل هي معايير و قواعد. فهي ليست صادقة و لا كاذبة بمعنى التطابق أو عدم التطابق مع الحالة موضوع الاهتمام. فالأصح، أن اعتبار مثل هذه العبارة صادقة يرقى إلى درجة التصديق و الموافقة على سلطتها المعيارية ليس أكثر. ففي اعتبار مثل هذه العبارة صادقة، يزعم المرء بأنها واجبة الاتباع؛ و بالطريقة نفسها، فإن مسألة ما إذا كانت العبارة القائلة ’ لا يسمح بالتدخين في الصفوف الأربعة الأولى ‘ صادقة أم كاذبة ليست مسألة يبت فيها بوساطة النظر فيما إذا كان أحد الأشخاص يدخن في الصفوف الأربعة الأولى و لكن الأصح باختبار ما إذا كانت هذه العبارة تـُستعمل معياريا ً لكي تسيطر، و توجه، و تـُعلـِم، و تضع قيودا ً على سلوك أولئك الجالسين في الصفوف الأربعة الأولى. و الخطأ الحاسم في الطريق إلى النزعة المؤسسية يكمن في مماثلة توكيد صدق العبارات المعيارية من قبيل" المنوم" تعني يفضي إلى التسبب بالنوم مع توكيد صدق عبارة وصفية من قبيل ’ الدببة الرمادية تقضي فصل الشتاء بالسبات ‘. فعملية توكيد صدق عبارة معيارية ما هي عملية توكيد بأن تلك العبارة يجري تنفيذها معياريا ً ( داخل سياق ما، بوساطة فرد ما أو جماعة ما )؛ أما عملية توكيد صدق عبارة وصفية ما فهي عملية توكيد بأنها تتطابق مع الوقائع. و في كلتا الحالتين، فإن الكيفية التي نتحقق بها من مثل عملية توكيد الصدق هذه تتضمن ممارسات شديدة الاختلاف حقا ً.
ما هي إذن العبارات الوصفية افتراضا ً لمعنى الكلمة الذي يقدمه معجم مثل المعجم؟ مثل هذه العبارات ليست أوصافا ً للوقائع، و لكنها استشهاد بالمعايير و تذكير بها. فالمعجم الذي يقول بأن ’ المنوم: يفضي إلى التسبب بالنوم ‘ إنما يستشهد بمعيار، و هي عبارة( كما هو مؤكد) سيتم تنفيذها معياريا ً بوساطة جماعة ما و في سياق ما. و لكن بوساطة أية جماعة وأي سياق؟ أيكون ذلك بوساطة أفضل المتعلمين؟ و في الحوار غير الرسمي و العامي؟ أم بوساطة النخبة الاجتماعية؟ و في فصل دراسي للكتابة؟ أم بوساطة أكثر الرجال وسامة؟ و على أية حال، لماذا ينبغي أن يـُطاع ذلك المعيار؟ و لماذا ينبغي أن تـُـقبل سلطة أولئك الذين ينفذونه؟ فإذا أُعيد فهم ما يفعله اللساني الوصفي على أنه استشهاد بالمعايير، إذن لن يكون هناك مسائل تم تجنبها حول السلطة التي تدعم هذه المعايير. ’ نعم، إنه لأمر صحيح بأن ليس من تدخين في الصفوف الأربعة الأولى. إنه مسرحي الخاص‘.[3] و لكن من يملك اللغة الإنجليزية؟ و ما هي المعايير التي يستشهد بها محررو المعجم، و لماذا ينبغي أن تـُـفرض تلك المعايير على سلوكي، أو سلوكه، أو سلوكها؟ . إن تقديم عبارات معيارية لمعنى الكلمة بحد ذاته، و إن كان الأصح أنها أوصاف لحالة مؤسسية من نوع ما، يرقى فقط إلى درجة طريقة مخادعة لمحاولة فرض سلطتها المعيارية: يعني، بإنكار أي مصدر آخر تستمد منه سلطتها سوى التطابق الوهمي المزعوم مع الحقيقة. فما هي أفضل طريقة لجعل الناس يتبعون المعايير من قولك: ’أنا لا أقول لك كيف ينبغي أن تستعمل هذه الكلمة، أو كيف لا ينبغي لك استعمالها. أنا أقول ببساطة ما تعنيه حقا ً في الإنجليزية. و يمكنك استعمالها بأية طريقة ترغب. بالرغم من أن عدم استعمالها طبقا ً لهذا التعريف يعادل ارتكاب خطأ.‘
إذا كان من الأفضل فهم الخطاب المزعوم كونه وصفيا ً على أنه ( صيغة تسلطية على نحو خفي) للخطاب المعياري، إذن فإنه لا يمكن المساعدة على استمرار ديمومة الزعم القطعي بعدم وجود صلة سياسية، و بالحياد الأيديولوجي لعلم اللسانيات بإيراد الحجج و الأدلة. فاللسانيات الوصفية ليست سوى طريقة أخرى لعمل اللسانيات المعيارية، و هي طريقة خادعة أيديولوجيا ً في ذلك. ففي اللغة، إذا كان وضعنا هو من النوع الذي لا مناص فيه من آليات السلطة، إذن فإن من الأفضل أن نكون على بينة من وضعنا هذا.
من المنظور المؤسسي لتووك، يمكن أن تـُدرس اللغة بالطريقة نفسها التي تـُدرس بها أشياء العلوم التجريبية. لأنها لا تتوقف على الأفعال الإنسانية الإرادية أو الخاصة، و لكن على الكلمات نفسها و على العلاقات المؤسسية بينها. و الأكثر من ذلك أن هذه العلاقات يمكن أن تلحظ بدقة فقط إذا ما دُرِس تاريخ اللغة. و تحت المنظور الفردي للوك تستمد السلطات التوجيهية قوتها في تحديد معاني الكلمات من مصادر سياسية أو اجتماعية: مثلا ً، من مكانتها في الكنيسة أو في الحكومة، أو من موقفها المعترف به ( أو المعين ذاتيا ً ) بوصفها تمثل المستعملين ’الأكثر مهارة‘ للغة( وهذا يعني، بوصفهم أفضل المؤلفين)‘. و لكن تحت نزعة تووك المؤسسية فإن سلطة تحديد المعاني تبقى في أيدي اللساني، بوصفه سلطة علمية، و بوصفه يمتلك المهارات التقنية اللازمة للكشف عن حقائق اللغة. في الواقع، إن هذا النمو و التوسع أمر مألوف في تطور الأساطير. فالملفوظات التي تنشأ و لها مكانة الحدود الأخلاقية تؤول إلى أن تـُـفهم في نهاية المطاف على أنها حقائق وصفية حول واقع غيبي. فنحن يجب أن نطيع الملك ليس فقط لأنه يزعم أننا يجب أن نفعل ذلك، و لكن لأنه الممثل الحقيقي لله على الأرض. و تحويل المعيار التوجيهي إلى وصف علمي هو واحد من أكثر الخصائص المميزة لتطور الأفكار اللسانية في عصر التنوير. و بوصفه أحد الشخصيات البارزة في الأيديولوجيا الليبرالية، دافع تووك عن هذا التطور لكي يحرر المتحدثين الأفراد من تحكم السلطات التوجيهية و لإعطاء كل شخص حرية متساوية في الوصول إلى اللغة و استعمالها. و لكن، و في واقع الأمر، إن نزعة تووك المؤسسية ليست أقل اتصافا ً بالتسلط من نزعة لوك المعيارية. و الفرق هو أن تووك يضع تلك السلطة تحت سيطرة مؤسسية لنخبة ممنوحة السلطة حديثا ً: أعني، علماء اللغة المحترفين.1
بقليل ٍ مِن المثابرة ِ و الانكباب، سيدرك أيُ شخص ٍ راغب ٍ في تخليص نفسه من منظومة الأيديولوجيا و الدعاية المشتركتين بسهولة ٍ حقيقة َ صيغ ِ التشويه ِ التي طورتها أجزاء ٌ كبيرة و لها وزنـُها من الانتلجانسيا. و كل فرد قادر على فعل ذلك. و إذا كان مثل هذا التحليل يـُـنجز على نحو رديء ، فذلك لأن من الشائع تماما ً أن التحليل الاجتماعي و السياسي يـُـنـْتـَج للدفاع عن مصالح خاصة أكثر منه لشرح و توضيح أحداث فعلية.
( تشومسكي 1979: 4 )
إذا كان بيتك من زجاج... .[ 4] د

ملاحظة
1. أنا مقر بجميل ليلي كنيزفتش، التي ساعدتني على إنعام النظر خلال مواضع كثيرة من هذه
المناظرة.( المؤلف )

المصادر

1. آرسلف،أتش.(1967) دراسة اللغة في إنجلترا،1780- 1860 ، ط2. 1983،
مينابوليس: مطبعة جامعة مينيسوتا.
2. بيكر،جي. و هاكر،بي.(1984) اللغة، المعنى و الهراء. أوكسفورد: بلاكويل.
3. تشومسكي، أن. (1979) اللغة و المسؤولية ، ترجمة جـَي. فيرتل، نيو يورك: بانثيون. وقد
نشر بالفرنسية أصلا ً في كتاب حوارات، باريس، فلاماريون،1977.
4. تووك،جـَي. هورن(1857) تحولات بيرلي. حرره آر. تايلور، لندن: وليم تيغ.
5. لوك، جـَي.(1690) مقالة حول الفهم الإنساني. حرره بي. نيدتش،1967. أوكسفورد:
كريندون.
6.ـــــــــــــــــ (1689) رسالة حول التسامح. لندن.
7.ـــــــــــــــــ (1689) بحثان حول الحكومة. حرره بي. لازليت. ط2 ،1967، كامبردج:
مطبعة جامعة كامبردج.
8. نيوماير،أف.جـَي. سياسة اللسانيات. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو.
9. هاريس، آر.(1987) ماكنة اللغة. لندن: دوكورث.
10. هاريس، آر. و تايلور، تي. جـَي.(1989) معالم في الفكر اللساني: التراث الغربي
من سقراط إلى سوسور. لندن: روتليدج.




ملاحظات المترجم

[1] النص مأخوذ من رواية " أليس في بلاد العجائب " لمؤلفها لويس كارول(1832-1898) و
أسمه الحقيقي تشارلس لتويج دوجسن. وهو أيضا ً عالم رياضيات و مفكر و باحث ضليع في اللغة. و لذلك كان يكتب بلغة رفيعة. و قد أثار في روايته أعلاه على نحو رمزي كثيرا ً من القضايا الخلافية في اللغة مما جعل بعضا ً من أشهر علماء اللسانيات يوردون مقتطفات منها على سبيل التنويه بمضمون ما يذهبون إليه من آراء.
[2] يذهب باحث أكاديمي بعيد عن حقل الدراسات اللسانية هو المؤرخ المعروف بيتر جران إلى توكيد الأهمية السياسية فضلا ً عن الأهمية العلمية لمعجم أوكسفورد للإنجليزية الذي صدر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فكان بمثابة نصب تذكاري للغة الإنجليزية منذ العام 1150 فصاعدا ً. و أن ذلك المعجم لم يكتف بتسجيل اللغة و إنما كان حكما ً على الاستخدام الجيد لها. للمزيد حول أهمية هذا المعجم السياسية و الثقافية، أنظر كتابه المهم " ما بعد المركزية الأوربية " (1996)الترجمة العربية(1998) الفصل التاسع المكرس لدراسة تطور تاريخ الهيمنة في إنجلترا، الصفحة515 و ما بعدها. المشروع القومي للترجمة. المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة.
[3] يرمي المؤلف من إيراد هذه العبارة الموضوعة افتراضا ً على لسان أحد مالكي المسارح
إلى التذكير بسلطة فرض المعيار أو القاعدة المستمدة من الملكية الشخصية في هذه الحالة بعينها. أما بالنسبة للغة، أية لغة، فإنها ملكية شائعة لا يستطيع أحد، سوى الهيئة الاجتماعية و من خلال مؤسساتها العلمية، أن يزعم لنفسه سلطة فرض المعايير فيها. و هي سلطة متنازع فيها و عليها إلى حد بعيد.
[4] المثل المبتور الذي أورده الكاتب ( و نصه الكامل: إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس
بالحجارة) و صيغته في الإنجليزية ( People who live in glass houses should not throw stones ) يشير إلى فحوى البحث المتمثلة بقناعة المؤلف، و استنادا ً إلى ما عرضه من وقائع و حجج علمية رصينة، و ما قام به من تحليل متعمق للمقولات المختلفة، أن اللسانيات كانت و ستظل ذات جوهر معياري و توجيهي لأنها ليست من العلوم الطبيعية. و هذا يطرح على بساط البحث مسألة ليست شكلية، ألا و هي ماهية الأساس أو المعيار العلمي و العملي الذي تعتمده بعض الجامعات الغربية، البريطانية تحديدا ً، عندما تصر على منح درجة الماجستير M.Sc للمتخصصين بالدراسات اللسانية، و هي من النوع نفسه الذي يـُمنح عادة لدارسي العلوم الطبيعية، و ليس درجة الماجستير M.A التي تمنح لدارسي اللسانيات في الكليات المتخصصة بالدراسات الإنسانية، و هو ما درجت عليه جامعات كثيرة و منها الجامعات العربية.