هل كان ثمة"حراك ثقافي"في المدينة .. قديما؟!!

طرأ على بالي السؤال الذي وضعته على رأس هذه الكُليمة،بعد قراءتي لمذكرات الأستاذ عزيز ضياء .. والأستاذ ولد في حدود سنة 1914م، والفترة التي تحدث عنها في مذكراته،لم تغط أكثر من عشرين سنة من عمره أو تزيد قليلا!!! وذلك يعني أنه حين يتحدث عن تعجب أحد أصدقائه من قراءته لتفسير "البيضاوي" وهو المثقف العصري !! فلنا أن نتعجب كثيرا .. وهو يتحدث عن تلك الفترة المبكرة !! فهل كان ثمة حراك ثقافي ينبثق منه (تصنيف) للمثقف بصفته (عصري) أو (رجعي) مثلا؟!!! قبل أن ننقل حديث المؤلف،نشير في البدء غلى نقطة أخرى .. وهي حديث المؤلف عن (جوته) و(شيلر) و(فرانس) و(نيتشه) و ( فولتير)!!! يأتي الحديث على شكل سال تخيل المؤلف أن ولده سوف يطرحه عليه أو على نفسه ... ( ربما رفت على شفتيك ابتسامة حيية،وأنت تقرأ هذه السطور لتمهد بها إلى سؤال تتوق إلى أن تسمع مني الإجابة عليه. وهو : ما هي البواعث التي تحملني على الكتابة عن حياتي؟ (..) وأصارحك يا بني أن هذه الأسئلة قد ظلت تدور في نفسي وظلت القدرة على الإجابة عليها حبيسة في أعمقاها وقتا طويلا،ربما يجب أن أقول دهرا أو عمرا فقد أحسست الباعث على الكتابة عن حياتي. منذ فرغت من كتابة أول قصة .. نشرت لي في جريدة صوت الحجاز كنت يومها شابا تعبث بمشاعري وخيالي لمسات الاتجاه والغرض .. من نوازع اليفع المجنون وأحلامه المحلقة وراء آفاق،أدرك اليوم بعد أن طويت السبعين،كم كانت بعيدة مترامية الأطراف موحشة،ومع ذلك،كم كانت تبدوا قريبة،محددة واضحة المعالم،غنية بالاحتمالات الوعّادة،والفرص المواتية،والسبل المفروشة بالورود والرياحين.كنت شابا .. وكانت صوت الحجاز،يومها تصدر أعدادها الأولى من سنتها الأولى .. وقد نشرت لي هذه القصة القصيرة،ولم يبخل محررها يومئذ،أن ينشرها في إطار أرضى غروري،,جعلني أدخل دار الجريدة برأس لا ترى ما يحملها على الانحناء أو الخشوع أو الإحساس بصغر السن،إن لم يكن بضآلة القدر .. ووجدت نفسي،أمام شخصيات كنت أسمع عنها فأراسلها لكل منها صورة في خيالي استمد ألوانها وملامحها من هؤلاء الذين أتيح لي أن أقرأ عنهم أو لهم من أدباء فرنسا وألمانيا،فهذا فولتير،وذلك روسو،والآخر،وقد قيل أنه فيلسوف،فهو إذن صورة طبق الأصل من جوته .. أو لعله أقرب إلى شيلر،كلا،لا يشبه نيتشه،فلك فيلسوف فقط،أما جوته أو شيلر فهما،أديبان فيلسوفان .. أما أنا،وقد استطعت أن أشق طريقي إلى مجلس هؤلاء "العباقرة"وأن أناقشهم في الأدب والفلسفة والفن .. وأن أراهم يصغون إليّ،ولا يستهجنون آرائي،ولا يجدون خيرا {هكذا! ولعلها "ضيرا"} في أن يخلعوا عليّ "لقب الأستاذ".. فإن كل ما يرضي غروري،أن أكون صورة من .. ممن؟) {ص 11 – 12 جــ 1(حياتي مع الجوع والحب والحرب) / عزيز ضياء) / مؤسسة الشرق الأوسط للإعلان الثقافة والنشر /الطبعة الأولى / د. ت}.لم يبخل ألئك العمالقة على المؤلف بنشر قصته .. ولا بوصفه بـ"الأستاذ"ولكنه بخل علينا بأسمائهم .. أو اسم أحدهم!!!نواصل نقل كلام المؤلف،ليرد على تساؤل نفسه .. ( في هذه الفترة بالذات كنت قد قرأت تاييس لأناتول فرانس للمرة العاشرة على الأقل بحيث بلغ بي الأمر أن حفظت عن ظهر قلب تلك الكلمات المجنحة التي ينثرها فرانس في حوار أبطاله .. وكان بافنوس في صراعه الرهيب مع،مع أفاعي الجنس التي تنهش صدره،والذئاب الجائعة التي في أعماق نفسه .. كانت صورة أخاذة عبقرية الملامح والألوان لقدرة فرانس كفنان منطلق لا سبيل إلى أن تقف أمام ريشته وأفكاره أية سدود أو قيود .. فأنا، يومئذ،صورة من فرانس؟أنا الشاب،الذي لم يبلغ العشرين،والذي يلتقط غذاءه الثقافي من فتات الموائد الحافلة الكبيرة،كما يلتقط الديك حبات من القمح أو كسرات من الفضلات التي تلقى في عرض الطريق .. أنا صورة طبق الأصل من أناتول فرانس في أقصى درجات السلم التي ظل يرتقيها واحدة واحدة خلال مرحلة من العمر الطويل،والكفاح المثابر الصابر،والجهد المتواصل الواعي .. وأغرب من هذا .. أني لم أكن أكتفي بالتمثل به – أو التوهم أني في مستواه،بل كنت أذهب إلى حد المحاولة الطائشة في نقد وتحليل صوره وأفكاره ومعانيه،وحين أخذت أقرأ له "الزنبقة الحمراء"بدا لي،أن إنسانيته التي تجلت وحلقت في تاييس قد أخذت تنطوي تلتف وتندثر في الجو الخاص الذي تدور فيه حوادث الزنبقة وأن حريته الواعية في تصوير تاييس،الغانية،ثم تاييس القديسة،قد جمدت،جمود البلور على الموائد المترفة،وجمود الماس واللؤلؤ على صدور النساء في حفلات العشاء التي يدور حولها،حوار الأبطال في الزنبقة ..وما دمت أنا هذا العبقري فلماذا لا أكتب .. بعد القصة القصيرة،التي نشرتها صوت الحجاز،قصة حياتي؟){ص 12 - 13}.توقفت عند إجابة السؤال الأول،والذي كشف بعضا من ثقافة ذلك الجيل،الأدبية والفلسفية .. وهي صورة قد لا تحضر إلى الذهن مباشرة،بسبب أرتال من الأفكار المسبقة،عن ثقافة السعوديين!! ولعل الغريب أن نجد – ذلك الشاب،في حينه – قد تجاوز الإعجاب بالأدباء المصريين،والأدباء في بلاد الشام .. و هم الأقرب إلينا!! هذا الانبهار بـ فرانس .. وجوته .. وشيلر .. ونيتشه .. سوف يقفز بنا إلى الجزء الثالث من هذه السيرة،لنقرأ ما جاء في السيرة بعد عودة صاحبها إلى المدينة المنورة،ولعل من سلبيات هذه السيرة أنها كُتبت من الذاكرة،لذلك فهي خالية تماما من التواريخ .. كان المؤلف في انتظار صديقه محمد نيازي،بعد أن أدخلته أخت صديقه إلى المجلس .. (ولهذا المجلس روشان صغير يطل على الزقاق وهو النافذة الوحيدة التي تستقبل الهواء،وألقيت نظرة حولي لأرى أرففا فرحت أرى كل رف منها يحمل كتبا ضخمة ولكنها كانت قديمة التجليد ..ألقيت الفراش جانبا وارتفقت المقعد الطويل الذي يسمونه "كرويت"على امتداد الغرفة الصغيرة .. ولم أتردد في أن أنناول واحدا من المجلدات الضخمة،وإذ فتحت غلافه وجدت أن اسمه"تفسير البيضاوي" .. ولم يسبق لي قط أن سمعت بهذا التفسير أو بغيره من مؤلفات تفسير القرآن الكريم .. ولم أجد – مع ذلك – ما يمنع أن أقرأ أو أن أشغل وقتي بقراءة هذا التفسير .. ولا أدري حتى اليوم كم من طلاب العلم قرأه،وهو في عدد من المجلدات {!!!!! علامات تعجب من عندي!}.. وشرعت أقرأ،لأجد نفسي منسجما وراغبا في الاستمرار،وعيني في نفس الوقت على المجلدات التي أيقنت أن فيها الكثير مما لا يستغني عنه كل طالب علم.){ص 169 جــ 3}. يبدو أن المؤلف – وهو المثقف الكبير - يصر على عدم ذكر الأسماء .. أو الاكتفاء بذكر أقل القليل منها!! ..( وقبل أن أدخل إلى زقاق العمارة الشاهقة رأيت الصديق الذي أذكر أن صداقتنا قد بدأت معه،ومع من عرفتهم عن طريقه.{وكأنه يتحدث عن"خلية"!!!!} فأصبحت أنقطع عن زيارة العم يوسف في منزله،لأجتمع بهم،إذ أستمتع بجانب من حرية الحوار معهم،حول كثير من المواضيع التي لاحظت أنهم يعالجونها أو يخوضون فيها وكأنهم في ندوة فكرية تتجدد آفاقها كلما اجتمعنا.كان حامد هذا رحمه الله على حظ من الثقافة إذ قرأ الكثير من الكتب التي ترجمت إلى اللغة العربية وعلى الخص أكابر الأدب الروسي،فكان يذكر ما قرأ لهذا،أو ذلك منهم حريصا على"نطق"الاسم كما كتبه المترجم على الغلاف .. فإذا اجتمعت الندوة الفكرية كان يطرح الأسئلة حول ما استغلق عليه فيما قرأ.وقد يحسن أن أذكر الآن أن مكان هذه الندوة كان"متجر"العم شاهين حدّادي {في الصفحة 180"ياسين ردّداي"} .. كنا نقضي معه وقتا يملأه هو بأفكاره الجريئة وآرائه الفلسفية التي كنا نشعر أنها أفكاره وآراؤه هو وليست مما قرأ للفلاسفة وأساطين الفكر .. ومن المضحك أن أذكر أن العم شاهين كان مشهورا في المدينة بالحرص أو "البخل" الشديد،ولم نكن نجهل ذلك،فلا يدهشنا أنه يأمر أحد مملوكيه بأن يجهز"الشاهي"لنكتشف أنه يضع بدل "الشاهي"كمية من الورد المجفف الذي نراه يملأ أطباق العرض. فإذا رأى بيننا من يستغرب .. يبدأ في الشرح المطول عن أضرار الشاهي الذي يسبب السهر الطويل .. وعسر الهضم وتغيير لون الأسنان،وإذا سقطت قطرة منه على الثوب الأبيض فإن إزالة أثره تحتاج "الدعك" الطويل بالصابون. (..) صعد معي حامد توفيق إلى المجلس وشاركني تنازل الغداء.وأخذ يقلب المجلات والكتب الموجودة في أحد رفوف الغرفة،ولفت نظره أن بينها كتابا في الفقه والسيرة والتفسير والنحو والصرف،فتساءل كيف يتفق أن أقرأ هذه الكتب الصفراء وفكرته عني أني مثقف عصري .. ودار بيننا حوار حول هذا الموضوع لم يطُل إذ نهض وهو يذكرني بموعد الندوة في متجر العم شاهين بعد صلاة العشاء وأن هناك شخصا سوف أتعرف عليه،ربما يسرني أن ينضم إلى أعضاء الندوة.){ص 178 – 179 جــ 3}. هل أفهم من هذا أن الأستاذ(ضياء) اشترى كتبا للتفسير بعد اطلاعه على تفسير(البيضاوي)؟!!! وهو الذي قال في الصفحة 169 أنه لم يسبق له قط أن سمع بتفسير البيضاوي ولا بغيره من التفاسير؟!!!!!!!! على كل حال .. تشير هذه الأسطر إلى وود(حراك ثقافي) واطلاع على الآداب العالمية،بصورة لافتة للنظر .. ولعل المؤلف 0 غفر الله لنا وله – لم يعط الأمر ما يستحق من التوثيق .. ولم يسلط عليه ما يستحق من الأضواء. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدنية المنورة في 29/1/1433هـ Mahmood-1380@hotmail.com