حركة التاريخ وفشل الأحزاب العربية
بقلم : أ . تحسين يحيى أبو عاصي – كاتب فلسطيني مستقل – 13-12-2011م –
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
فشل وسقوط الأحزاب الليبرالية العربية ومعها بعض الأحزاب الإسلامية هو جزء من حركة التاريخ ، وتلك الحركة هي نتيجة طفرة تراكمات وتفاعلات كان لا بد منها بحكم حتمية التاريخ ، فلا يعرف التاريخ حالات السكون ولا الثبات ، فقد شهد التاريخ دولا وأنظمة وحضارات ذات أيديولوجيات مختلفة ، انبثقت من رحم الثورات الناتجة عن معاناة متراكمة ، واستمرت تلك الدول عشرات السنين ومنها المئات ، كما حدث للدولة الرومانية التت استمرت ألف عام ، والدول الإسلامية فيما بعد بجميع مذاهبها – الخلافة الراشدة والأموية والعباسية والفاطمية والدولة السلجوقية وغيرها – وكما حدث لتركيا ما قبل مرحلة أتاتورك ، وكما حدث للاتحاد السوفيتي الذي استمر حوالي سبعين عاما .
ولا يقبل التفسير العلمي أن تكون قطر هي من وراء صفح شرطية تونسية لبوعزيزي ومن ثم حرق نفسه ، أو من وراء قمع نظام القذافي أول احتجاج في مدينة بنغازي والذي أدى إلى إشعال فتيل الثورة ، أو من وراء مقتل الشهيد ( خالد سعيد ) في الإسكندرية تحت التعذيب على أيدي زباينة النظام المصري البائد ، أو من وراء غضب السوريين بعد حادثة السائق السوري التي أشعلت الثورة هناك ، ولا يمكن أن تكون دولة قطر من وراء خروج جميع شرائح وفئات الشعوب الثائرة من عمال وفلاحين وموظفين وأكاديميين ومثقفين وطلاب من الرجال والنساء والأطفال في جميع الدول التي اشتعلت فيها الثورات ... إنها حركة التاريخ .
وبغض النظر عن الموقف الراهن لهذه القوة الإقليمية أو تلك ، ومحاولاتها لاعتلاء الموجة ، وتبديل مواقفها وفق مصالحها ، أو دعم هذا الطرف على حساب ذاك ، فإن حركة التاريخ هي الأقوى دائما ، وإن التغيير حتمية تاريخية لا بد منه .
إن انبثاق الثورات العربية ونجاحها يعني بالقراءة العلمية التحليلية فشل وسقوط تلك الأحزاب الليبرالية العربية ومعها بعض الأحزاب الإسلامية ؛ لأنها عجزت أن تكون البديل المعبر عن إرادة الشعوب في حقبة ما قبل الثورات ؛ من بعد تراكمات مؤلمة ذاقت من خلالها الشعوب أشد أنواع الظلم على أيدي حكامها ، ولم تنجح تلك الأحزاب في تحقيق أهداف شعوبها ولو بالحد الأدنى ، بل كان البعض منها هو الأقرب لأنظمة الحكم المستبدة ، ورفع البعض الآخر منها شعارات جوفاء أسقطتها الأحداث والمواقف ، ويعني أيضا فشل تلك الأحزاب فشلا فاضحا في فكرها وتوجهها وأدواتها وأغطيتها التي تدعمها ، تلك الأدوات التي فوجئت بقوة الإرادة الشعبية وبحجم التغيير الكبيرين .
لقد فشلت وسقطت الأحزاب العربية ( الحاكمة والمعارضة ) كلها بسبب قمع شعوبها ، أو بسبب مداهنتها لجلادي شعبها تارة ؛ من اجل نصيبها في الكعكة وخوفها على مصالحها ، وبسبب عجزها عن تحقيق التغيير بكل ما أوتيت من عوامل الدعم ؛ عاكسة بذلك فراغا أفرز نشاطا شكليا لم يقنع الشعوب ، كما فشلت وسقطت الناصرية والقومية والبعثية من قبل ثورات الشعوب ومن بعدها ، ومن العجيب انه لا زال البعض منها يجهد في لملمة أشلائه المبعثرة من تحت حطام الفشل ، فلم تتمكن من تحرير أرضها ، ولم تستطع حماية حدودها ولا شعبها ، ولم توفر حتى الحد الأدنى من مقومات الحياة الآدمية لشعوبها ، معبرة بذلك عن إفلاس سياسي عقدي منهجي أدائي على جميع الأصعدة ، وشاركها بهذا الفشل بعض الأحزاب الدينية التي حاولت أن تعتلي الموجة ؛ فوجدت لرؤيتها السياسية والفكرية ملاذا فوق جماجم الثائرين الحقيقيين الذين أشعلوا الثورات ولم يحالفهم الحظ إلا بالنذر اليسير ، ولا زال بعض تلك الأحزاب الدينية تشكل أدوات ودعائم لبعض الدول العربية المستبدة ، متشدقة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي أبعد ما تكون عن معاناة شعوبها في مجال التطبيق .
إن فشل وسقوط الأحزاب الليبرالية والعلمانية العربية ومعها بعض الأحزاب الإسلامية يعني هزيمة وراء هزيمة ، ليس فقط على صعيد الفكر والرؤية والموقف ، فماذا قدمت تلك الأحزاب لشعوبها في عشرات السنين الماضية ؟ وماذا فعلت لفلسطين والعراق والصومال ولبنان ؟ لقد سقطت الأقنعة ... كما لا زالت تلك الأحزاب المهزومة الفاشلة تُكابر وكأنها تعيش حالة نزاع خروج الروح من الجسد ، من بعد أن فقدت كل أوراقها ، وأمست عارية أمام الشعوب ، واستنفذت كل ما لديها من أساليب ، ولم يبق أمامها غير التشويه والتصريحات الكاذبة التي تتعلق بتلك الثورات ، لعلها بذلك تنفس عن مشاعر القهر والفشل والحرمان الذي تعيشه ، بدلا من البحث عن قواسم مشتركة – وهي كثيرة لو صدقوا – فيحفظوا ما تبقى من ماء وجوههم من خلال احترام إرادة الشعوب .
إن ضعف الرؤية التحليلية الراهنة لدى قادة تلك الأحزاب المنهارة ، يعني مزيدا من الهزيمة والفشل لها ، وعليهم تقديم رؤية جديدة وتجسيد انتمائهم لشعوبهم – إن كان لديهم انتماء – على أسس وقواعد جديدة ، من بعد أن سُحب البساط من تحت أقدامهم ، رؤية لا تقوم على أُطروحات وشعارات قد كساها العفن والزيف ، وأثبتت المعطيات كذب المُنظرين لها ، وكذب مَن يقف من خلفهم ، فالشعوب ليست مياه عكرة يحلو لهم الصيد فيها ، حتى لو أفرزت تلك الشعوب من خلال ثوراتها الحالية حكومات عملت على قمع شعوبها من جديد بعد سنوات من توليها الحكم – لا سمح الله - وهذا لا نتمناه ولكنه وارد بفعل طبيعة العقلية العربية والثقافة السائدة فيها والعادات والأفكار الموروثة ... وفي كل الأحوال ستبقى الجماهير مثل البحر تلفظ الميت ولا يعيش بها إلا الحي مهما طال الزمن ... لأنها حركة التاريخ ، فهل يأتي اليوم الذي ينتمي فيه العرب بأحزابهم وتوجهاتهم إلى قضايا الأمة بدلا من انتمائهم الضيق إلى هذا الإطار أو ذاك الحاكم ؟ آمل أن يتحقق ذلك بفعل حركة التاريخ ...
للاتصال بالكاتب :
من داخل فلسطين 0599421664
من خارج فلسطين 00970599421664
إميل :
tahsen-aboase@hotmail.com