المحور الأساسي الذي تدور حوله هذه الشخصية هو الشك في كل الناس، سوء الظن وتوقع الإيذاء من الآخرين. كل الناس في نظره سيئون. هذا هو موقفه الذي لا يتزحزح عنه. وهذا هو رأيه في كل الناس.
إن أي إنسان قد يشك أو قد يسيئ الظن في إنسان آخر أو في مجموعة من الناس في ظروف معينة، ولكنه إذا كان سوياً فإنه يغير رأيه، إذا أثبتت الظروف حسن نية الآخرين أو إذا كان هناك دليل على براءتهم. هنا يعتذر هذا الإنسان السوي عن سوء ظنه وشكه ويؤنب نفسه.
أما البرانويد فإنه يظل على موقفه مهما كانت الأدلة، ومهما أظهر الآخرون حسن نواياهم ومهما أجمع الناس على أنه مخطئ في سوء ظنه. إنه يتمسك بشكوكه ويظل يرى السوء في الآخرين، ولهذا فهو في حالة تحفز، في حالة استعداد دائم لصد عدوان يتخيله أو إفساد مؤامرة تحاك ضده.
وكل مَن يحاول أن يثنيه عن سوء ظنه يضعه في القائمة السوداء ويضمه إلى قائمة السيئين، ولهذا فهو دائم الشعور بالاضطهاد. والشعور بالاضطهاد يولد عدوانية داخلية، فهو ضد كل الناس ويضمر الكراهية أو عدم الارتياح أو عدم الحب لمعظم الناس، ومن السهل أن يتحول إلى شخص عدواني يؤذي إذا أتيحت له الفرصة لذلك.
والعدوان يأخذ صوراً متعددة، كالنقد اللاذع والسخرية والاستهزاء بالآخرين، قد يواجه الناس برأيه فيهم، وقد ينتقدهم من خلف ظهرهم، وانتقاداته جارحة وتسبب جرحاً وألماً. ولا يراعي مشاعر الآخرين، بينما هو لا يتقبل أي نقد أو توجيه، فهو شديد لآراء الآخرين ويتخذ مواقف عنيفة وعصبية فيها تهور إذا تعرض له بالنقد أو باللوم، ولذا فهو معدوم الأصدقاء وعزلته تزيد من شعوره بالاضطهاد وتزيد من عدوانيته وعداوته.
والحوار مع هذه الشخصية مضن ومتعب، فهو لا يتقبل ظاهر الكلام وإنما دائم البحث عن الدوافع الخفية والمعاني الدفينة، والنقاش معه يطول، وهو في الغالب محاور بارع يجهد مَن يحاوره، ويحمل المواقف والكلمات أشياء ومعاني بعيدة أو مبالغاً فيها، تتوه وأنت تحاوره وقد لا تفهم ماذا يقصد، وتندهش لتفسيراته وتحليلاته المشبعة بسوء الظن وتوقع الغدر الخيانة وكل ما هو سيئ.
هذا الشخص إذا أكدت الأحداث توقعاته شعر بزهو شديد، أما إذا أكدت الأحداث خطأ توقعاته وتحليلاته فإنه لا يتراجع عن سوء ظنه، حتى في المواقف الجديدة ومع الناس الذين يقابلهم لأول مرة. فإن سوء ظنه يكون هو الغالب، ولذا يجتهد في البحث عن أدلة لإثبات صحة نظريته.
وهذا الإنسان بلا عواطف أو عواطفه محدودة جداً وتستطيع أن تقول إنه إنسان بارد، وكلمة بارد ذات دلالة ومغزى كبيرين، ومعناها أنك لا تستقبل منه أي شيء، لا تستقبل منه دفئاً أو مودة أو تفاهماً أو تعاطفاً، بل على العكس تهب عليك من ناحيته رياح باردة شائكة وسامة. أيضاً وهو يفتقد لروح الفكاهة والمرح، قليل أو نادر الابتسام، لا يضحك من قلبه وابتسامته سوداء صفراء ساخرة، والغريب أنه يصف نفسه دائماً (ليدافع عن برودته) بأنه إنسان موضوعي عقلاني. العقل عنده مقدم على العاطفة، الحقيقة أنه لا عقل لديه ولا عاطفة، فهو لا يتألم من أجل أي إنسان أو حيوان.
وهو صلب لا يتنازل ولا يقبل حلولاً وسطاً، تقلقه محاولات التودد والاقتراب من الآخرين، يتحاشاهم ويبتعد عنهم، بالاكتفاء الذاتي، ولذا فهو متمركز حول نفسه بشكل خطير قد يصل إلى الإحساس المرضي بالتيه والزهو والشعور بالأهمية، إنها حالة من تضخم الذات التي تكون من سمات الشخصية البارانويدية. في غالب الأحيان تكثر هذه الشخصية بين المتعصبين والمتطرفين وأصحاب الأفكار الغريبة، والباحثين عن الزعامة والذين يتجسسون على الناس للإيقاع بهم، كما تكثر بين الذين تقدم بهم العمر بدون زواج، وأيضاً تكثر بين المطلقين والمطلقات.
وفي مجال العلاقة الزوجية فإننا نجد أن الزوج البارانويد علاقته بزوجته مضطربة، لسوء ظنه وغيرته وشكه وتقليله من شأنها وحساسيته لأي كلمة تصدر عنها. حياته الزوجية يسودها البرود وتلفها عداوة مستترة، ونفس الأمر في علاقته بأبنائه.
ولسوء ظنه وشكه الدائم فإنه يبث في أبنائه وبناته عدم الثقة والحذر المبالغ فيه وعدم القدرة على إقامة علاقات مشبعة مع الآخرين. والزوجة التي لها هذه الشخصية تحقق نفس القدر من الخيبة في الحياة الزوجية وغيرتها إلى حد المرض، ومن المستحيل أن تثق ولو للحظة في صدق زوجها، فهو في نظرها في كل الوقت كاذب ومخادع وخائن وتتوقع منه الغدر في أي لحظة.
إذن الحياة الزوجية للإنسان البارانويد رجلاً كان أو امرأة هي حياة فاشلة، فلا حياة تقوم على الشك وسوء الظن. ولا حب يستمر مع التعالي والغطرسة، ولا مودة تسود مع روح التحفز والتوقع السيئ.

والعلاج هنا لا يكون الا على يد طبيب نفسي يهتم بالأمور الأسرية ليضع الجميع امام ما هو مطلوب منهم لبناء حياة رغيدة متوازنة. فالبارانويا مرض نفسي خطير ويصعب التعاطي مع من يشكو منه بدون علاج متخصص.


دكتور بدر غزاوي