الطريق وبُنَيّاتُهَا
يحكى أن الأمير ابن طولون أراد أن يؤدّب ولده ، وكان الولد أكولاً نهماً ؛ فأرسل
الوزيرَ في ساعة من الليل, وقال له : ائتني به فوراً , ولا تسمح له بأكل شيء قبل أن
تشخصه إليّ ، ذهب الوزير, وقال للولد : أجب الأمير ، قال أمهلني قليلاً لآكل ، قال : أجب
الأمير فوراً على هيئتك الآن ، وذهب الولد ، فجلس في قاعة انتظار حتى طال به الجلوس
واشتد به الجوع ، قال والده : أدخلوه الغرفة ؛ فدخل ووجد على الخوان ألواناً من الأطعمة
اليسيرة التي نسميها (مقبّلات) الجرجير والبقول والسلطات وما شابه ، فوقع عليها أكلاً
حتى شبع وهدأت نفسه ، ثم أمر الأمير أن يؤذن للولد على مائدة من أجود أنواع الأطعمة
مما لذ وطاب من الوجبات الرئيسة ، وعليها الأمير ووزراؤه وحاشيته ، فأكلوا وانقبض الولد ..
سأله أبوه : لماذا لا تأكل ؟ قال : قد شبعت ، ولم أعلم أن ثمت طعاماً آخر هو ألذ وأطيب ..
قال الأمير : إنما أحضرتك لألقنك درساً في حياتك ، ليس لك إلا بطن واحد, فإذا ملأته
بالبقول والأطعمة الأولية؛ لم تجد نفسك في الطعام الذي هو أكثر نفعاً وأعظم لذة ، وهكذا
إذا ملأت وقتك بالأمور الصغيرة ضاق عن جلائل الأعمال وفضائلها .. (العقد الفريد)

أرى في درس ابن طولون بعداً أوسع يتعلق بالاهتمام والتفكير ، الذي هو محرك العمل
ودافعه في حياة الإنسان ، فإذا سيطرت على المرء انشغالات ذهنية جانبية أو صغيرة أو
جزئية واهتم بها ، أصبحت مدار الإنجاز؛ فيها يفكر ، وعنها يبحث ، وحولها يحاور ، ولا يضرب
المثل إلا بها ، وقد يتحدث عن غيرها وهو يريد أن يجر الحديث إليها ، مثل ذلك الساذج الذي
ذهب إلى كاتب العرائض, وقال له : اكتب لي عريضة للمسؤول, وحاول أن تضع فيها كلمة
(ولا سيما)! لقد سمع هذه الكلمة وراقت له ، فأحسّ أنها تعطي للمعروض قيمة زائدة ..

ليس للمرء إلا عقل واحد ، وقلب واحد (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ،
وليس صحيحاً أن المرء كلما عوتب في الإفراط في التفاصيل الحياتية أو اللغوية أو
الاجتماعية قال : لا تعارض نهتم بهذا وهذا ..
نظرياً لا تعارض ، بيد أنه من الجهة العملية طاقة الإنسان محدودة ، وإذا صرف هذه الطاقة
في أمرٍ ، فلن يستطيع صرفها مرة أخرى ، وفي الوقت ذاته في أمر أهم أو أعظم .
ولا تعارض بين هذا ومبدأ آخر تصل به ، وهو التخصص ؛ فإن تخصص الإنسان في شيء
مدعاة إلى المعرفة والفهم والإبداع وتحصيل الخبرة ، وكل ميسر لما خلق له .
لكن من طبيعة المتخصص أن يدري أن الناس ليسوا كلهم مثله ، و لا يحسن أن يكونوا
كذلك ، ويؤمن بأن في الناس من هو معني بأمور أكبر وأعظم مما يشغله هو ، لكنه مال
لتخصصه ؛ لأنه يتناسب مع طبعه أو شخصيته .
.
.
ومن شأن المتخصص أن يقتصد في الحديث أو المداخلة أو المعارضة في

المسائل التي لا تدخل في اختصاصه ، إلا فيما هو قدر عام يشترك فيه الناس .
عليه أن يملأ عقله بجلائل الأفكار وعظائمها ، وأن يملأ قلبه
بعظيم المشاعر ولطيفها وحسنها وأن يدع الحواشي للحواشي !
وكما قال المتنبي :
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ** وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ


وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ** وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

وضع معلم ذكي دلوا على طاولة, وأحضر عددا من الصخور الكبيرة ووضعها في الدلو
بعناية، وعندما امتلأ, سأل طلابه: هل امتلأ الدلو؟ قال الطلاب: نعم.
فسحب كيسا مليئا بالحصيات الصغيرة, ووضعها في الدلو حتى امتلأت الفراغات بين
الصخور الكبيرة .... ثم سأل مرة أخرى: هل امتلأ الدلو ؟ قال الطلاب بيقين: نعم.
أخرج المعلم كيسا من الرمل, ثم سكبه في الدلو حتى امتلأت جميع الفراغات بين
الصخور ..ثم سأل مرة أخرى : هل امتلأ الدلو الآن ؟
أجاب الطلاب دون تردد : نعم امتلأ الدلو!!
فأحضر المعلم إناء مليئا بالماء, وسكبه في الدلو حتى امتلأ.
ثم قال لطلابه: هكذا العقل والوقت والحياة ؛ لو لم نهتمّ بالصخور
الكبيرة أولا، ما كان بإمكاننا وضعها أبدا فكل له موضعه ووقته.