النظرية التأويلية في الترجمة - مدرسة باريس نموذجا



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

الدكتور عبداللطيف هسوف


الترجمة عملية تعتمد على فهم النص الأصل فهما عميقا وعلى إتقان اللغة العربية والإلمام بمبادئها وقواعدها للتمكن من التعبير بسلاسة وبأمانة عن نفس المعنى. فمتى فهم المترجم النص، أبدع في لغته الأم التي يترجم إليها، ذلك أن ذخيرته من المفردات والتعابير العربية ضخمة وهائلة وأسلوبه في هذه اللغة سيسعفه للتعبير بطريقة متماسكة ومتينة. وفي كل الأحوال فإننا نؤكد منذ البداية على أن الترجمة لا يجب أن تكون حرفية، بل يجب أن تسعى إلى نقل جوهر المعنى بعد أن يتشرب المترجم أفكار ومعاني النص الأصل.
ومن بين الأسئلة التي يجب طرحها ومحاولة الإجابة عليها قبل الشروع في أي نشاط ترجماتي هي:
- هل الترجمة مجرد انتقال من لغة أصل إلى لغة هدف؟
- هل هي تطابق حرفي أم تكافؤ في المعنى بين النص المترجم والنص الأصل؟
- هل هي إعادة للتعبير عن المعنى بصياغة ورؤية جديدة؟
- ما مدى التأرجح بين الوفاء للنص الأصل و خيانته؟
وإجمالا فإن الترجمة عملية معقدة تستدعي استحضار عدة معارف وتستلزم مهارات مختلفة متعددة. ويمكننا لتبسيط الأمور، تقسيم هذه العملية إلى ثلاث مراحل:
- الفهم: Compréhension
وهي مرحلة تتلخص في تأويل الخطاب في اللغة الأصل للإحاطة بالمعنى المراد تبليغه في اللغة الهدف.
- الانسلاخ اللغوي: Déverbalisation
وهي مرحلة تهدف إلى تحرير المعنى من البنيات اللغوية للنص الأصل حتى لا تتداخل مع بنى اللغة الهدف في النص المترجم.
- إعادة التعبير: Réexpression
وهي المرحلة الأخيرة في عملية الترجمة وتهدف إلى إعادة صياغة نفس المعنى باحترام كامل لخصوصيات الكتابة في اللغة الهدف.
هذا التقسيم لا يعني أن هناك استقلالا تاما لكل مرحلة مرحلة، بل إن هذه المراحل تتكامل ويجمعها ارتباط وثيق يفضي في الأخير لإنتاج نص مترجم متماسك، واضح المعالم، يحترم المعنى الأصل ويأخذ بعين الاعتبار الشروط الجديدة لاستقبال الترجمة في اللغة الهدف. كما أن هذه المراحل تتخللها عملية البحث التوثيقي التي تهدف إلى حشد المتممات المعرفية للمساهمة في تحصيل معنى النص الأصل وكذا احترام الاستعمال الوارد في اللغة الهدف وفي الحقل المعرفي أو المهني الذي ينتمي إليه النص المراد ترجمته.
1-1- مرحلة الفهم:
1-1-1- تأويل الخطاب في اللغة الأصل للإحاطة بالمعنى:
قد يعني من بين ما يعنيه مصطلح "التأويل" التفسير أو إظهار المضمر من المعاني عبر الأدوات اللغوية التي يقدمها النص الأصل، إذ يمكننا أن نقول إن التأويل هو الانطلاق من ظاهر النص للإحاطة بما أضمر فيه من معاني أو بصيغة أخرى يمكن أن نقول إن تأويل نص ما يعني أن نفتحه على إمكانيات متعددة للمعنى. ذلك أن ظاهرة الإضمار في الكلام مسألة معروفة، فالفكر يختار للتعبير عن معنى محدد أشكالا لغوية معقدة تظهر وتضمر حسب العلاقة التي تجمع المتكلم بمخاطبيه وحسب الصورة التي يرسمها لهم مسبقا، فأنت إذا أخذت خطابا بين أخصائيين مثلا تجد أن نسبة المضمر عالية جدا، بينما إذا أخذت خطابا متخصصا موجها في جريدة ما إلى جمهور عريض تجد أن اللجوء إلى الإفصاح وإلى التفسير والشرح يغلب كثيرا. وعلى العموم فإن الكاتب لا يقول بالكلمات كل ما يريد تبليغه من معنى، لأن المقام أو السياق يلعبان دورا كبيرا في التفسير وفي تبيين ما أضمر من كلام. ومن تم فإن المترجم يختلف عن القارئ العادي باستجلاء ما أضمر من أفكار وقراءة ما بين السطور ليتمكن من تحصيل المعنى كاملا ومن دون أي نقص.
وكما يقول جان دوليل:
"إن الانتقال من المفصح عنه في النص المراد ترجمته إلى المضمر يعني اكتشاف هذا النص انطلاقا من قراءة معمقة قصد فهم إيحاءاته الدقيقة. وهذا يتطلب من المترجم أن يحصل القيمة السياقية لكل الكلمات عبر وزن أهمية دلالاتها النسبية ثم تقييم الأسلوب وحصر معنى الجمل داخل المقامات التي جاءت فيها وليس منعزلة بتجميع دلالات الكلمات المكونة لها'.(Jean Delisle, 'Analyse du discours')


ويضيف عمر كوش:
"ويلعب التأويل دورا في تصحيح القراءة، وتعددها وتبريرها. وهو يؤسس للمعنى والتماسك في سياق محدد بغض النظر عن أية ضمانة مطلقة للقيمة أو الحقيقة، وعلى نظرية التأويل إدراج هذا الاختلاف الفلسفي بين الموضوعي والنسبي... ومن الممكن تصور المعنى بأنه ما ينتج عن كلمات النص وقضاياه، وهو يشكل "استقلاله الدلالي"، أو أنه يمثل قصد المؤلف أو القارئ بوصفه ذاتا، أي حقيقة النص "الموضوعية" مقابل فعل القصد."( كوش عمر، "التأويل والنظرية الأدبية عند غادامر: كل فهم وكل حقيقة تأويل")


إلا أنه، حسب تصورنا، لا يجب أن يتجاوز التأويل المعنى الذي يأتي به النص الأصل إلى قصدية الكاتب التي تسبق كتابته لهذا النص. لا يجب أن ينسب المترجم للنص الأصل غير ما جاء فيه من معنى، لدا يجب التمييز بين ما يبلغ عنه النص حقا وما تداوله الكاتب في ذهنه قبل كتابته لهذا النص. فالمترجم لا يعيد التعبير عن قصدية الكاتب التي تبقى في إطار الفرضية على كل حال، بل إنه يعيد صياغة معنى يستشفه من خلال قراءته للنص المراد ترجمته.
خلاصة الكلام، إن التأويل خلال عملية الترجمة يهدف إلى تحصيل معنى النص ثم التعبير عنه في لغة هدف عبر المحافظة على تركيبة مناسبة بين المضمر والمفصح عنه تأخذ بعين الاعتبار نوعية المتلقي. وبالتالي فإن التأويل يهتم بالخطاب داخل سياقه لتحصيل إمكانية للمعنى تتوافق مع ما جاء في النص الأصل ولا يبحث في الأفكار التي سبقت إنتاج هذا النص.


1-1-2 - وضع المقال في سياقه للمرور من إمكانيات المعنى إلى تحصيل المعنى الحقيقي للنص الأصل:


أن تترجم، فهذا يعني أن تخترق حاجز الكلمات والجمل المعزولة عن سياقها للوصول إلى المعنى. حقا إننا نستعمل العلامات اللغوية التي تكون النص، لكن بالإضافة إلى ذلك يحتاج المترجم إلى مكملات غير لغوية لتحصيل المعنى. هذه المكملات التي نسميها مكملات معرفية تتضمن كل ما هو مفاهيمي وثقافي وجمالي-عاطفي. إنها تنضاف إلى النص لتكون أبعاده السياقية العامة (السياق اللغوي، السياق المعرفي والسياق الضرفي). لنقل إذن إن الترجمة تستلزم الفهم أولا في اللغة الأصل، لكن هذا الفهم لا يقتصر على العناصر اللغوية فقط، بل يتجاوز إطار النص اللغوي ليستحضر معارف المترجم ومهاراته المتعلقة بتحليل الخطاب داخل سياقه العام.
والسياق يلغب في الحقيقة دور مصفاة تمكننا من اختيار واحدة من بين إمكانيات متعددة للمعنى في نص ما. ويمكن أن نقسم السياق العام المصاحب لأي نص إلى ثلاثة أنواع من السياقات:
- السياق اللغوي: إن إمكانيات دلالة كلمة أو جملة تحدد في لحظة أولى بواسطة دلالات الكلمات والجمل المحيطة (السياق اللغوي) وهذا يسمح في فترة أولى باختيار دلالة محددة للفظ متعدد الوجوه، لكن لن يسمح بتحصيل المعنى المتكافئ ككل.
  • السياق المعرفي: ونعني به مجموع الأفكار التي تنشأ في ذهن المتلقي وهو يقوم بعملية قراءة نص يرغب في ترجمته. إن تأويل الخطاب يقتضي مقابلة بين العالم الذهني للقارئ وعالم النص المراد فهمه. فكل عملية للفهم تستلزم إذن محصلة لتجارب قبلية يخزنها المتلقي-المترجم على شكل تمثلات مجردة تلعب دور جهاز مستقبل للمعلومات الجديدة التي يتضمنها النص.
- السياق الضرفي: نعني به مجموع العناصر الغير لغوية المصاحبة لإنتاج نص ما، أي الإطار الذي أنتج فيه النص ( الضرف الجغرافي، التاريخي، السوسيو-سياسي، الاقتصادي والثقافي...الخ.)
وعليه فإننا نكون المعنى انطلاقا من النص وكل العناصر المصاحبة له، أي ظروف إنتاج الخطاب وشروط إنتاجه المعرفية، الاجتماعية، التاريخية والثقافية...الخ. وفي الواقع، إن بناء المعنى يخضع لدلالات الكلمات في سياقاتها وكذا لمعلومات لا لغوية مصاحبة لإنتاج وتلقي النص. ومن تم، فإن تحصيل المعنى وفهم الخطاب يستلزم تكميل التحليل اللغوي للنص بمعطيات غير لغوية تكون السياق العام للنص المراد ترجمته. ويمكن الجزم بأن كل عملية للفهم تقصي السياق العام للخطاب تبقى غير كاملة وتسقط لا محالة في التشويه.
يسمح إذن السياق العام برفع الغموض، بتقليص التأويلات الشخصية الخاطئة وباختيار واحدة من بين إمكانيات متعددة للمعنى قصد فهم الخطاب فهما جيدا في اللغة الأصل قبل التفكير في إعادة صياغته في اللغة الهدف.
1-2- مرحلة الانسلاخ اللغوي
يجب التحرر من البنيات اللغوية الأصل والبحث عن بنيات لغوية جديدة في اللغة الهدف لتفادي التداخل بين اللغتين خلال مرحلة إعادة التعبير. وتضطلع عملية الانسلاخ اللغوي بمكانة مهمة داخل النظرية التأويلية للترجمة، بحكم أنها تبني تصورها للترجمة على ضرورة نقل المعنى في سياقه العام لا على تحويل العناصر اللغوية. وبالنسبة لسلسكوفيتش (صاحبة النظرية التأويلية بفرنسا والتي كانت إحدى الباحثات النشطات في المدرسة العليا للمترجمين والتراجمة – السوربون الجديدة - باريس) 'فإن المترجم لا يتتبع بنيات النص الأصل، بل بالعكس يجب أن يبتعد عن هذه البنيات بواسطة انسلاخ لغوي يمكنه من تحصيل المعنى ويحافظ له على حرية تعبيرية خلال إعادة كتابة النص الهدف'.
وتمثل هذه العملية الذهنية، التي تنطلق من مادة النص اللغوية لتحصيل الأفكار بالاستعانة بالمتممات الغير لغوية، ما سميناه بالانسلاخ اللغوي. ويجب على المترجم، كما تقول ماريان ليدرير (باحثة بمدرسة باريس للترجمة التأويلية– السوربون الجديدة): " أن يفصل المعنى المراد نقله بأناة عن الغشاء اللغوي الأصل لإلباسه غطاءا لغويا ملائما في اللغة الهدف. فالوضوح الذي يسعى إليه المترجم من خلال النص المترجم يرتبط إلى حد بعيد بمدى ملائمة الكلام المعاد صياغته لمنطق التركيب في اللغة الهدف".
إذن، خلال مرحلة إعادة الصياغة، يجب على المترجم أن ينتبه إلى مشكل تداخل اللغتين المترجم إليها والمترجم عنها، ويسعى إلى التعبير بحرية متفاديا إدخال تراكيب اللغة الأصل في النص المترجم.
1-3- مرحلة إعادة التعبير:
يمكن اعتبار الترجمة تأليفا غير مباشر في لغة ثانية أو إعادة للصياغة من لغة إلى لغة ومن حضارة إلى حضارة ومن مجال متخصص إلى نفس المجال ومن سياق إلى سياق... وينبغي للمترجم خلال عملية إعادة التعبير أن يحافظ على مضمون النص الأصل كاملا دون زيادة ولا نقصان ويخضع ترجمته لقدر كبير من الدقة والوضوح محترما ضوابط اللغة الهدف واصطلاحات التعبير في مجالات التخصص.
1-4-1- كيف نعيد صياغة النص في الترجمة؟
  • بين التطابق الحرفي والتكافئ في المعنى:
إن كانت الترجمة الحرفية قد تؤدي في بعض الأحيان المعنى، إلا أن تبنيها كطريقة للترجمة يوقع لا محالة في منزلقات خطيرة تحرف النص المترجم باستعمال لغة مرتبكة تتداخل فيها البنى اللغوية الأجنبية مع البنى اللغوية الأم. كما أن الإطناب والحشو خلال عملية الترجمة باللجوء إلى تفسيرات مطولة لما يشير إليه النص الأصل بواسطة الإيحاء فقط قد يكون مصدرا لأخطاء وقد يفضي إلى عكس المعنى المراد تبليغه. وبالعكس، فإن الترجمة التلخيصية، عندما لا ينجح فيها المترجم، تفضي غالبا إلى نص غير مكتمل يسقط في الابتذال والتفاهة.
ومن ثم، فإننا ضد أنواع الترجمات التالية:
الترجمة الحرفية: Transcodage
الترجمة الزائدة: Surtraduction
الترجمة الناقصة: Soustraduction
كيف يجب أن نترجم إذن؟
إن الأمانة في الترجمة ترتكز على علاقة التكافئ في المعنى بين النص الأصل والنص المترجم، في حين تبتعد الترجمة الحرفية عن الأصل على مستويات متعددة:
- على المستوى الدلالي: ينحرف المعنى ويكتنف الترجمة الغموض والالتباس.
  • على المستوى التركيبي: يضطرب النص المترجم لكونه يتبنى بنية اللغة الأصل لا بنية اللغة الهدف.
- وأيضا على المستوى الثقافي والجمالي- الأسلوبي لما هناك من اخلافات ثقافية بين اللغات وما يتميز به أسلوب التعبير في كل لغة.
لتمرير نفس معنى النص الأصل ، يجب إذن تبني نظرية ترجماتية تؤسس على تكافئ المعنى لا على تقابل الألفاظ. إن المشكلة لا ترتبط بالدلالات اللغوية المقرونة بكل لفظ لفظ، بل تتجلى في تحصيل المعنى السياقي للخطاب قصد تحديد تكافؤات المعنى قبل إعادة صياغتها في اللغة الهدف. قبل إعادة الصياغة، يجب تأويل النص المراد ترجمته بالعودة إلى المعنى الصحيح الذي يبتغيه كاتبه وذلك بوضع المقال في سياقه اللغوي، المعرفي والظرفي. ومتى حصل المترجم معنى النص الأصل تحول اهتمامه من اللغة الأصل إلى البحث عن تعابير مقبولة في اللغة الهدف.
  • إعادة التعبير باحترام الاستعمال الأصوب في اللغة الهدف:
يتعلق الأمر بإعادة صياغة معنى النص الأصل باحترام المحتوى المعرفي والجمالي والثقافي، لكن أيضا باحترام ضوابط اللغة الهدف واحترام الاستعمال في المجال التخصصي، أي التعبير بواسطة مصطلحات وتعابير وتقنيات في الكتابة سبق أن اصطلح عليها بين الأخصائيين في مجال معرفي محدد.
إن مهمة المترجم لا تقتصر على تحصيل معنى النص الأصل بل تتجاوز ذلك لمعرفة الضوابط التي تحكم إعادة صياغة هذا المعنى في اللغة الهدف. ومن المؤكد أن المترجم لا يعرف ضوابط الاستعمال في كل مجال تخصصي يريد أن يترجم له، لذا نأكد على أهمية البحث التوثيقي في اللغة المترجم إليها. فالانحراف عن الصيغ التعبيرية المتعارف عليها داخل مجال معرفي تخصصي قد يخلق مشكلا في تأويل وفهم النص المترجم. وكمثال على ذلك فإننا لن نترجم التعبير الاصطلاحي الفرنسي: " Concurrence atomique " بالمصطلح العربي " منافسة ذرية " لأن الاستعمال في المجال الاقتصادي العربي لا يجيز ذلك، بل سنترجمه بالمصطلح العربي الشائع " منافسة بين الوحدات الصغرى".
1-4-2- ما الذي نعيد صياغته في الترجمة؟
إن الترجمة تتطلب من المترجم أن يخضع نشاطه للدقة والإتقان والأمانة والإبداع، إذ إنه يجب أن ينتهج طريقة في الترجمة تتخذ المعنى كأساس، كما أن أسلوبه يجب أن يقترب من أسلوب الفنان المبدع لغة وبلاغة، بالإضافة إلى أن معارفه يجب أن تكون شاملة. لابد للمترجم إذن أن يتمتع بكفاءة تقنية عالية وبحس فني مرهف حتى يتمكن من نقل نفس المعنى في جميع تجلياته الإخبارية والثقافية والعاطفية المرتبطة بما هو لغوي-أسلوبي ومعرفي وحضاري-ثقافي.
  • إعادة صياغة المكون المعرفي:
إن المكون الإخباري-المعرفي يتصدر مكونات محتوى النصوص المتخصصة. ومن غير إعادة صياغة هذا المكون تبقى الترجمة المتخصصة قاصرة عن تأدية دورها الأول والأساسي، ألا وهو تقاسم الأخبار والمعارف مع القراء. وعليه فإن المترجم مطالب بامتلاك معارف معمقة في الحقل التخصصي الذي ينتمي إليه المقال المراد ترجمته. إلا أن هذه المعارف الشاملة ليست محصلة قبليا، بل إن احتكاك المترجم بالنص الأصل قصد تأويله وفهمه ثم إعادة صياغته هو ما يدفعه إلى القيام بعملية البحث التوثيقي قصد تحصيل المتممات المعرفية اللازمة.
من هنا ضرورة التركيز على الفهم وتحصيل المعنى كاملا، أي البعد المعرفي والإخباري للمقال التخصصي المراد ترجمته، قبل التحول إلى عملية الكتابة أو التحرير في اللغة المترجم إليها. ويمكن أن نقول بأن تشويه المكون المعرفي الذي يضمه النص الأصل أو الزيادة فيه أو النقصان منه يخل كليا برسالة الترجمة التي تسعى إلى تقاسم أخبار ومعارف مع القراء.
  • إعادة صياغة المكون العاطفي-الجمالي:
عكس النص الأدبي الذي يقبل تأويلات متعددة والذي تطغى فيه الذاتية على الموضوعية والذي يصبح الشكل فيه مكونا أساسيا للمعنى، فإن النص المتخصص يتسم بالموضوعية ويهدف إلى الاضطلاع بوظيفة محددة تتلخص أساسا في تبليغ أخبار وتقاسم معارف. لكن، هذا لا يعني أن النصوص المتخصصة مفرغة من كل المقاربات العاطفية والجمالية التي تؤديها صور أسلوبية تهدف إلى التأثير على المتلقي.
إن موضوع الترجمة يقودنا إلى الحديث عن مدى العلاقة بين المؤلف والمترجم، وإلى الحديث عن الترجمة كعملية إبداعية. فإذا كان مترجم الأعمال الأدبية على قدم المساواة مع مؤلف النص الأصل بحكم أن كليهما يقوم بعمل إبداعي في لغته، فهذا لا يعني أننا نهمل الجانب العاطفي والإبداعي في الترجمة التخصصية. بل بالعكس، إن نقل المصطلحات والتعابير والمفاهيم داخل النصوص المتخصصة يتطلب تضافر الدقة والإتقان والإبداع. نعم، الدقة والجدية في تناول المصطلحات والتعابير المتخصصة والإبداع في الأسلوب وفي الكتابة المتخصصة.
إن للنص المتخصص أيضا بعدين اثنين يرتبطان بالمضمون من جهة وبالشكل الخارجي المتمثل في اختيار العبارات والأسلوب ومستوى اللغة المستعملة من جهة أخرى. لا يقتصر إذن الوفاء للأصل على نقل الجانب المعرفي فقط، بل يتوجب على المترجم ألا يغفل الجانب العاطفي-الأسلوبي وأن يبحث في لغته الأم عن أنجع الطرق للتعبير عن المضامين الفنية والأسلوبية للنص الأصل حتى تقترب ترجمته من الكمال المنشود والوفاء والأمانة وتبتعد عن الخيانة.
  • إعادة صياغة المكون الثقافي:
لا يحتاج المترجم إلى تفعيل معرفته بلغتين فقط، بل هو في حاجة أيضا إلى استحضار معرفته بثقافتين مختلفتين وتقريب الثقافة الأجنبية ليسهل التعرف عليها من قبل المتلقي العربي. الترجمة ليست تماسا بين لغتين فقط، بل هي أيضا تماس بين ثقافتين مختلفتين. ويمكن أن نقول بأن المترجم وسيط بين ثقافتين.
نعم إن النصوص تخبر، تفسر وتدافع بالحجة والبرهان عن الأفكار مستعملة صورا بلاغية وأسلوبية في بعض الأحيان متطورة، لكنها تسعى أيضا إلى التعريف بحقائق ثقافية محلية ترتبط باكتشافات وبطرق جديدة للعيش. لا يمكن اعتبار النصوص كتركيب للكلمات فقط، بل إنها نتاج موروث ضخم ونسيج ثقافي تحمل طابعه المتفرد. ومن تم يمكن اعتبار الترجمة كنقطة تلاقي لثقافات مختلفة بعضها عن بعض.
كيف نعيد صياغة المكون الثقافي في الترجمة؟
- هناك من يدلي بحجة قصور الترجمة على نقل ما هو ثقافي من لغة إلى لغة أخرى.
- هناك من يدعو إلى اللجوء إلى استبدال الثقافي في اللغة الأصل بما هو معروف في اللغة الهدف.
- هناك من يدعو إلى المحافظة على غرابة المحتوى الثقافي الأجنبي في اللغة الهدف.
- هناك من يدعو إلى الإطناب والحشو الزائد قصد تفسير المحتوى الثقافي الأجنبي في اللغة الهدف.
نظن من جهتنا أن كل مكونات النص الأصل قابلة لإعادة الصياغة في اللغة الهدف، سواء تعلق الأمر بالبعد المعرفي-الإخباري أو البعد الجمالي-الأسلوبي أو البعد الثقافي. نعم، يمكن للمترجم أن يفصح أكثر مما جاء في النص الأصل ويفسر إن اقتضى الأمر ذلك، لكن دون أن يضيف شيئا جديدا إلى المعنى، يمكنه أن يغير الصورة الثقافية ليقرب المحتوى من الجمهور، لكن دون أن يغير وظيفة هذه الصورة. المهم هو أن يعيد صياغة ما نجح كاتب النص الأول في تبليغه لقرائه. الترجمة هي أيضا سعي إلى جعل القارئ في اللغة الهدف يتعرف على المحتوى الثقافي الأجنبي.
في نهاية هذا الفصل يمكننا أن نضيف أن هناك مرحلة تلي مرحلة إعادة الصياغة في اللغة الهدف، هي مرحلة مراجعة الترجمة. وتقتضي المراجعة أن يصل المترجم إلى خلق انسجام وتكامل بين مكونات النص المترجم، أي المكونات الإخبارية المعرفية، الأسلوبية الجمالية والمصطلحية التخصصية والثقافية الحضارية. علي المترجم إذن أن:
  • يعدل التعبير والأسلوب
  • يحذف الإطناب الزائد ويتفادى التكرار
  • يعوض المصطلح الغريب بالمصطلح الوارد والشائع الاستعمال
  • يعطي للترجمة وضوحا تاما
  • يعطي لأفكار النص المترجم تماسكا وانسجاما
  • يصحح الأخطاء الإملائية والنحوية
  • يعدل المستوى اللغوي ليفهمه الجمهور المتلقي
  • يبلغ ما غمض من مكونات ثقلفية وحضارية خاصة...الخ.
كان هذا إذن تلخيصا لما جاءت به النظرية التأويلية في الترجمة. ونظن أن الترجمة التي تحترم كل هذه المحددات قادرة على إنتاج نص يتميز بالوفاء للأصل من حيث المعنى و"بالقبول" في اللغة الهدف وكذا في المجال التخصصي أو المهني الذي ينتمي إليه هذا النص المترجم.