بإمكان المراقب المدقق في تاريخ العلاقة السورية-التركية للفترة التي تلت حكم الرئيس حافظ الأسد أن يتحسس نعومة الخيوط البراغماتية التي نسجت ثوب هذه العلاقة. إنها ببساطة خيوط من نوع الصوف الكاشميري الخفيف الوزن والمتماسك الحبكة.
ولايخامرني أدنى شك بأن الرئيس بشار الأسد قد فوجئ بحجم التركة الثقيلة التي تركها له والده اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، سيما أنه كان يتابع دراسته في انكلترا وغير متفرغ للاطلاع على دقائق الأمور والتي يمسك بها والده بقبضة فولاذية. ورغم ذلك، فإن الاقتصاد السوري عام 2000 لم يكن يعاني من أزمة ديون خارجية، نظراً لتوازن حجم الصادرات المتواضعة بقطاعاتها الثلاث: العام والمشترك والخاص مع حجم الواردات. وقد ساعد تباطىء الإنفاق على المشاريع الإنمائية والخدمية عبر الفترة الممتدة من الثمانينات حتى نهاية القرن المنصرم في توازن ميزان الصادرات والواردات وحال دون بروز مشاكل في مديونية سوريا.
إلا أن التحولات العالمية في بنية الاقتصادات العالمية من الصين إلى دول الاتحاد السوفيتي المنهار، واتجاهها صوب اقتصاد السوق، جعلت الاقتصاد السوري مكشوف العورة بانتمائه إلى المدرسة الاشتراكية في الاقتصاد التي أقفلت أبوابها وتنكرت لأساتذتها، وبات محتوماً على الرئيس الشاب إعادة هيكلة النظام الاقتصادي في سوريا ووضع بنية جديدة من التشريعات والمراسيم التي تكفل إحداث نقلة نوعية واسترايجية للنهوض بالاقتصاد السوري، وإحداث تنمية شاملة، وتطوير البنى التحتية.
ولأن الرئيس الشاب كان يراقب بدقة الآثار الكارثية التي شهدها الاقتصاد الروسي بعد حركة البريسترويكا، والواقع الاجتماعي السيئ الذي آل إليه النسيج الاجتماعي في مصر، وخطر الوقوع تحت مطرقة قروض البنك الدولي وشروطه، فقد قرّر إيفاد بعثات اقتصادية لدراسة التجارب الماليزية والتركية والصينية والمصرية، ومن ثمّ وضع أفضل الخطط الاقتصادية الكفيلة بنهوض باقتصاد سورية، للحؤول دون التردي في أتون التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة الناجمة عن الانخراط السريع وغير المتأني في اقتصاد السوق.
ومن خلال تتبعنا لجملة التشريعات والمراسيم الاقتصادية المتلاحقة منذ خطاب القسم الذي أداه الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب حتى بداية عام 2011، ندرك أنها كانت تواكب حركة متسارعة للنمو الاقتصادي وتدفقاً متصاعداً للمستثمرين الأجانب، رغم كل أنواع الحروب - المكشوفة وغير المكشوفة - التي حاولت فرض حصار على سوريا نظراً لعدم انصياعها لرغبات العم سام والقارة العجوز، رغم أن الرئيس السوري حاول خطب ودّ الغرب بداية؛ فقام بطرق أبواب الدول الأوروبية باباً باباً، وزار مع زوجته الشابة المثقفة أسبانيا وفرنسا وبريطانيا، في رسالة واضحة مفادها أن سوريا بقيادتها الجديدة راغبة بفتح آفاق تعاون سياسي واقتصادي مع تلك الدول مبنية على أساس الاحترام والثقة المتبادلة، بيد أن سقف الشروط الأوروبية المتطابقة مع شروط كولن باول يوم أن زار سوريا، وتضارب حزمة هذه الشروط مع الثوابت القومية التي ورثها الابن عن أبيه جعلت الباب موصداً دونه.

هنا تبرز حنكة الأسد الابن في إيجاد البدائل للخروج من عنق الزجاجة، فنراه يتجه صوب أقرب البوابات لسوريا؛ البوابة التي يغطيها جليد العلاقات المتأزمة بين البلدين، تجسدها مشكلة لواء اسكندر ون السليب، ومشكلة الأكراد السوريين في الخاصرة الجنوبية لتركيا، والعلاقة العسكرية الحميمة بين تركيا والعدو الإسرائيلي.

وبكل أناة وحكمة تتوهج كاريزما الأسد لإذابة هذا الجليد رويداً رويداً ، ليصبح ماء فراتاً يروي البلدين، ولتتحول العلاقة الدبلوماسية بين أردوغان والأسد إلى علاقة عائلية وطيدة، فيمنحه الأخير تأشيرة دخول إلى الاقتصاد السوري، وبطاقة مرور للجزيرة العربية عبر مشروع واعد لإعادة تشغيل الخط الحجازي. وبالمقابل يتخلى الجانب التركي عن خليلته إسرائيل (مؤقتاً)، محولاً الغرام إلى خصومة وقطيعة، وينهي شهر عسل بدء بحكم كمال أتاتورك. وبذا يحقق الأسد أحد أهم أهدافه الإستراتيجية من خلال العلاقة السورية-التركية في كسر الطوق المفروض حول سوريا.

وتدور الأيام، وتأتي الانتفاضة السورية، فتختلط الأوراق من جديد، وتكشف الأزمة أبعاداً جديدة لحقيقة التوجه التركي في تدعيم العلاقة مع سوريا. ويتضح أن هدف الجانب التركي في توطيد أواصر العلاقة مع سوريا كان مجرد سعي لدور أكبر في الشرق الأوسط بملئه الفراغ الحاصل في المنطقة بعد انسحاب الجيش الأمريكي من العراق، وفتح البوابة الشمالية للعالم العربي مشرعة أمام منتجاته، وإيجاد طريق برية رخيصة عبر سكة الحديد لنقل سلعه بسلاسة صوب دول الخليج، تحقيق المصالح والتوجهات الأمريكية الهادفة لزعزعة نفوذ إيران وقوتها من ناحية، وزعزعة النظام السوري وإنهاكه وتسهيل وصول جهة مطواعة مطيعة لسدة الحكم في دمشق. آنذاك، يمكن لجم الحركات الفلسطينية المقاومة، والقضاء على الجسم المقاوم في حركة حزب الله وتحويله إلى حزب سياسي، وذلك بالإجهاز على القيادة الحاضنة التي تغذي وتدعم وتموّل هذه الحركات. وهكذا تسطو إسرائيل على القدس وأغلب الأراضي الفلسطينية المحتلة وتنعم بالأمن والأمان.

لم تعجب الأسد القهوة التركية التي قدمها له أردوغان فهي مرة كالعلقم. ووفق قواعد الضيافة العربية فإن امتناع الضيف عن احتساء القهوة المقدمة له هو إيذان بالقطيعة ودق لطبول الحرب.