شعرية قصيدة النثر في المغرب (( رغم أنف أبي )) للشاعرة إلهام زويريق أنموذجا
عبد الرحمن الخرشي

تـــقـــديـــــم :

إن قصيدة النثر في المغرب اليوم قدعرفت حضورا مكثفا ، متزايدا ؛ وذلك بفعل فتح الطريق إليها وجعله سالكا أمام كل من قال لهم : أنا الشاعر .. قالوا له : أنت هو !! . لكن المتتبع لهذا الشعر سيلاحظ أنه قد طفاعلى السطح سرطانا خبيثا ، باديا في مجموعة / مجموعات مما يسمى (( ديوان شعر )) .. وجلها أبعد مايكون عن جمال وجلال ما يعرف به الشعر ؛ لغة نقية ، راقية . وإيقاعا ملتزما بآليات إيقاعية تمتح من إحساس الشاعر صدقا ، وتصويرا شعريا ، تعجز اللغة المباشرة والعادية عن التعبير عن دلالته . وأساليب فنية تتنوع وفق مايقتضيه التعبير .. وفي الحضرة المراكشية يصدم المتتبع عندما يرى هذا الكم الهائل ممن يحسبون على الشعر ؛ وكلهم فاقد لموهبة الشعر ، والتكوين السليم في الشعر .. وهم اليوم يتناسلون كالجرذان .. تجدهم في الأماسي الشعرية المفتوحة للزبونية - لا للكفاءة / للكفآت - وللجميع ينتفشون كالديك الرومي ، أمام نقاد ضاعوا في أتون المجاملة ، وقلة التتبع للأصوات الشعرية الواعدة بالعطاء ، ناهيك عن مرور ماكتب هؤلاء من تحت ستار التأمل النظري ، دون مساءلة نقدية جادة ، وهادفة ، ودون تروي في الطبع . ثم اقتفاء أثر شعراء حفروا لهم أسماء على شجرة هذا النوع من الشعر وطنيا وعربيا ،ناهيك من الاستخفاف بمقومات ضرورية لتكوين (( فرادة شعرية )) تخلق ذلك التميز الذي نجده عند شعراء كثر ؛ منهم شعراء أعرفهم بالهوية والإبداع .

إن عدم الاكتراث بالتكوين الصحيح ، ، والانسياق مع سفاسف الكتابة الافتراضية التي يجد معها (( الشاعر )) نفسه مطوقا بمجاملات التعاليق والردود ، كلها لم تحجب شمس الإبداع ، وجوهره الأعمق بغربال التعمية ، والتعتيم عند جلال شعراء صقلوا تجاربهم ، وبلوروا تصورهم الشمولي مما أتيح لهم ، ومن معين التراث العربي الغني بالتجارب . والشعر الحديث المجلل بالتجارب الوازنة محليا ، ووطنيا ، وعربيا ؛ وكذا شحذ الوسيلة / الوسائل ، من ضبط عناصر اللغة النحوية ، والتداولية ، وكذا انتقاء اللفظ المناسب تعبيرا عن الذات ؛ فكريا ، ووجدانيا . وفي بعدها العام ؛ تعبيرا عن الآخر في تجليته للإنساني فيه فاعلا في ملكوت السماوات ،والأرض ، وفيما تحبل به الحياة من مفاجآت تلعب دور المثير للقرائح ؛ قرائح الشعراء الكبار . شعراء أعطوا للحياة ملحها الأنقى .. وترياقها الأنجع !! .

بين يدي الآن الديوان الشعري (( رغم أنف أبي )) للشاعرة المراكشية الواعدة بالعطاء الجيد (( إلهام زويريق )) .. في طبعته الأولى - 2005 - وهو من الشعر المنثور المؤسس لحلقة التجريب في هذا الشعر .. تم التأكيد على القيمة الأدبية لهذا الديوان أن حظي بدعم مادي ، ومعنوي ، من مؤسسة (( أفروديت )) التي يشرف عليها الشاعر المراكشي الكبير (( أحمد بلحاج آية وارهام )) ، وتترأس تحريرها الشاعرةالصحفية مكتشفة المواهب - دائما - (( نجاة الزباير )) . كما صَمَّم َغلاف الديوان أخ الشاعرة الكاتب القاص ، والفنان (( فؤاد زويريق )) . وهو من طبع (( مطبعة وليلى )) بمراكش .. وتفسير هذا أن الديوان ، وصاحبته مدعومان لجدارة فيهما بهذا الطبع المميز .

قـــراءة فــي الــغـــلاف :

الغلاف مؤثت بالصورة ، والخط ، واللون ؛ الصورة مركبة من عناصر هي : الأب / الشاعر إسماعيل زويريق يبدو منتشيا ؛ أظنها نشوة سُكره بقصيدة (( موسم الورد )) ،وهو يلقيها في أمسية من أماسي الشعر الجميل ، يبدو ملوحا بيده اليمنى .. ألبنت / الشاعرة تبدو واقفة فوق منصة ، في شموخ ، وكأنها تنفث سحر قصيدتها في المجموعة (( فيلجة الريح )) لجمهور عريض ، وغيرها من النصوص الأخرى البـُذ َّخ .. تـُرَى وهي تفضي بسر للجهازاللاقط المكبر للصوت ، غير مكترثة بمن يوجد أمامها ، ولعل مصمم الغلاف - فؤاد - يريد أن ينقل للمتلقي رسالة التحدي الفني المحمل بها العـنـوان !! وصفحة الغلاف .. السماء ملبدة بالحمرة ؛ حمرة لون الشفق يتداخل مع اللون البني المائل إلى السواد . وقد جاءت محملة بما يؤسس لطبيعة الكتاب (( شــعــر )) - بالأبيض -واسم صاحبته (( إلهام زويريق )) - كتب بنفس لون عنوان الديوان - .. وكان الخط معبرا عن العناصرالدالة في الغلاف ؛ باللون ، والحجم ، والأرقام منها الجهة الطابعة له ( أفروديت ) ...

عـــتــبــة الــعــنــوان : ((رغــم أنــف أبــي ))

إن مكونات العنوان في هذا الديوان ؛ الصوتية ،والدلالية ، والإيقاعية ، لتشي كلها بما ترمي إليه الشاعرة من ظهورها - شاعرة - في باكورتها الشعرية الأولى ؛ بل وهي ترمي إلى إثارة المتلقي ، وجعله ينخرط معها في التسليم بكونها تركب بهذا - العمل الإبداعي - زورق التحدي . ولعلها بذلك تقطع الطريق على تلك الأحكام الجاهزة التي يعتقدها البعض ؛ وهي أن الشاعرة ثائرة متمردة على سلطة ما . وأنا أنكر ذلك ؛ فواقع تعيشه الشاعرة - وأنا قريب منه لحظة الكتابة هذه - وقصائد الديوان ، كل ذلك ، وغيره يؤشر إلى انضباط الشاعرة أمام كل السلط الإنسانية ، والدينية العميقة في حياتها بعامة .

العنوان كاملا : جملة (( رغم أنف أبي )) دلالتها / دلالاتها مستوحات مما تردد في التراث اللغوي ، والديني ، من صيغ ، ودلالات مختلفة . وهذا بيان ذلك :

أولا : لــفــظــة ( رغــــم ) . وردت في معاجم اللغة بصيغ ثلاثة هي : (( الـرَّغـْـمُ )) و (( الــرِّغـْـمُ )) و (( الــرُّغـْـمُ )) .. وقد دلت على عدة معاني ، هي : ( الــكَــرْهُ - الــكـُـرْهُ - الــقَــسْــرُ - الــذ ٍّلـَّـة ُ- والــهـَـوَان ُ ) .. جاء في معجم ( العين ) للخليل بن أحمد الفراهدي (( الــرَّغـْـم ُ )) : (( محنة ُ أن يفعل - المرأ - ما يَكرَه على كـُـرهٍ وذ ُل ٍّ )) (1) ...

ثانيا : لفظة ( أنــف )) . اشتقت من مادة ( أ . ن . ف ) . و( أنـْـف ُ) كـُل ِشيء ِأوَّلُه . جمعه ( أنـْـف ُ) و ( أنـْـآف ٌ ) و ( أنُـُـوف ٌ) (2).

ثــالــثــا : الربطبين اللفظتين ( رغم أنف ) ؛ جاء في معجم الفائق : أن معنى هذه الجملة قد تم ترحيله مما هو مادي إلى ماهو معنوي ؛ وذلك لما قال : (( رَغـَـم َأنـْـفـَـه ُرَغـْـمــاً: إذا ساخ في الرَّغام ، وهو التراب ؛ ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف من الظالم ... )) .. وقد ارتبطتا أيضا في الحديث النبوي الشريف ؛ ففي حديث مَـعـْقـِل بن يسار جاء (( رغــم أنفي لأمر الله )) أي أنه (( ذل َّ وانقاد )) .

وفي الدعاء نقول : (( أرغم الله أنفه )) - يلاحظ هنا زيادة الألف - بمعنى ألصقه بالرَّغـَام . وهو التراب .. نقول فعل ذلك على ( الرَّغـْم )من أنفه .. معناه : (( ذ ّل َّ وانقاد لأِ َنْ أمس به التـُّـراب )) .كما قال الرازي في الصحاح (3).

رابــعــا : لفظة ( أبـــي ) من الأب . قال علماء اللغة : وهو معروف أسند إلى ضمير المتكلمة / الشاعرة (( إلهام زويريق )) .. دل على حضورها الفعلي ؛ في الديوان : صفحة الغلاف . والإهداء الذكي - لم يستفد منه بعض الدارسين والنقاد في إصدار بعض الأحكام عن الشاعرة - إلى الأب ، والتقديم الذي ينساب عمقا فيما حمل من رسائل للشاعرة المرهفة الإحساس (( نجاة الزباير )) ومما دل على حضور الشاعرة الفعلي في الديوان صديقاتها المبثوث ذكرهن في ثنايا الديوان (( ربيعة الصالح - عائشة أحسين - هند بلبركة )) .. إضافة إلى مؤشرات أخرى .

إن كل هذه المعطيات - عندي - وما تحمله دلالة لفظة (( أبي )) تؤكد الحقائق الآتية :

1 ) إن جملة (( رغم أنف )) يمكن لأي كان أن يسندها إلى نفسه على سبيل قهرها ، وامتثالها لأمر ربها . وهذا مادل عليه الحديث النبوي الشسريف ؛ حديث معقل بن يسار .
2 ) كما يمكن إسنادها إلى الظالم إذا ماحل به البلاء . وهذا مادل عليه ماورد في كتاب ( الفائق ) .
3 ) إن الشاعرة قد أسندت الجملة / العنوان إلى أبيها (( رغم أنف أبي )) فبدا مستفزا للنفس ، وهذا تنبهت إليه مقدمة الديوان .. وفي اعتقادي - وهذا هو الصواب - إن العنوان يعتبر غير تام ، وهو قابل للتأويل ، ويمكن زيادة المسكوت عنه ، أو المطمورفي النص ، من خلال العودة من الغلاف إلى نص الديوان ، لنقف على عنوان / عناوين جديد / جديدة ، وهو / وهي : (( رغم أنف أبي أحطم هذا القيد )) ، (( رغم أنف أبي انسل من ثقل الزمان )) ، (( رغم أنف أبي أهدم جدار الصمت الرهيب )) ، (( رغم أنف أبي أعبرليل اليأس )) ، (( رغم أنف أبي أركب ظهر التمرد )) ، (( رغم أنف أبي أردد ألحاني العاشقة )) ... وبذا يبدوالعنوان مفتوحا على أكثر من إضافة دالة يستوجبها السياق الحياتي العام للشاعرة / الابنة ، والشاعر / الأب .


إن من يعرف الشاعرإسماعيل زويريق حق معرفتي به يعرف أنه شديد البوح لأبنائه جميعا ؛ وكم هو حارق جدا بوح إسماعيل !! .. وهذا ماترسخه الشاعرة ابنته إلهام في إهداء هذا الديوان حينما تقول : (( إليك أنت الذي غرس بعضا من حرقته في طريقي .. ماذا عسى شموع ندمك تهديك ، وهي التي شيعت جنازة حلمك .. شظايا مازال وقعها ينزف دما . )) .

ويبدو أنه في هذا النص الثمين توجد إشارة لطيفة إلى سمة وقف عندها غيرواحد من الدارسين والنقاد ، وقد سبق لي أن أكدتها (4) . وهي رسوخ سمة الحزن في أعمال الشاعر إسماعيل زويريق ؛ كما في أعماله : (( نخلة الغرباء - طائر الأرق - عندماترقص الجراح - شبابة الألم - أشجان الليل - شموع الندم ... )) .

وكم هي الدلالة الرمزية مرتفعة في العنوان الأخير (( شموع الندم )) ؛ حيث الدلالة الرمزية عند الشاعر تربط الشموع ب (( الأبناء )) .. إن الشاعرة (( إلهام زويريق )) وهي ابنة الشاعر ، بعد أن رضعت الألم من معينه الثر (( الأب )) لاشك أنها في هذا الإهداء ترمي إلى التخفيف عن والدها وجدانيا ؛ حتى لايبقى يعتصره الألم والسوداوية ، ويبقى - دائما - يعزف على وتر الحزن باكيا مولولا وحيدا .

وبهذا فالشاعرة الواعدة - وإن سلكت سبيل قصيدة النثر - فهي تملي علينا - بما امتلكت من أدوات فنية لابأس بها - تعديل عنوان هذا الديوان بجمل دالة منها : (( رغم أنف أبي أحطم هذا القيد ؛ قيد الحزن )) ، (( رغم أنف أبي أنسل ُّ من ثقل الزمان ؛ زمان الحزن )) ، (( رغم أنف أبي أهدم جدار الصمت الرهيب ؛ صمت تولد عن الحزن )) (( رغم أنف أبي أركب ظهر التمرد على الحزن تبديدا له )) ، (( رغم أنف أبي أعبر ليل اليأس / الحزن )) ، (( رغم أنف أبي أ ُرَد ِّد ُ أ َلْـْـحـانِي العاشقة َ الطاردة َ للحزن )) .

وبهذا يبدوا أن مايراه البعض في الشاعرة تمردا على الأب ، وعلى سلطته - هو في نظرنا اجتهاد غير سديد أملاه غياب معطيات عدة عن هؤلاء ، وقراءتهم للأمر قراءة خشبية ؛ وانصهارا في كل ما أملاه الحراك السياسي ، والاجتماعي لواقع عام ؛ هو واقع المرأة المغربية الذي يركب البعض أمواجه تنظيرا لاتفعيلا له بما ينفع المرأة والمجتمع .

إن التمرد الذي أرتاح إليه في هذا الديوان هو هذا . ويمكن أن نردفه بتمرد فني ؛ هو تمرد قصيدة النثر بشكلها الجديد ،على الشكل العمودي القديم ، ومن تبني قصيدة النثر باعتبارها الإعلان الصريح عن هذاالتمرد المجسد في (( أن ليس لقصيدة النثر قانون أبدي )) على حد تعبير(( أنسي الحاج )) .. وغير هذا تكذبه النصوص ؛ نصوص الديوان ، والواقع المعيش للشاعرة .

الخصائص الفنية للمجمـوعة الشعرية (( رغـم أنف أبي ))

أولا : مــن حــيــث الــمــضــمــون :

خرج هذا الديوان الشعري للشاعرة (( إلهام زويريق )) من رحم الحداثة الشعرية كاملا مكتملا من حيث نقله لتجربة إنسانية ، وفنية اتسمت بالفرادة ، والتميز . وكأن صاحبته تتوخى إقناع المتلقي - من خلال استراتيجية محددة المعالم - بأن تجربتها هاته قداكتملت ؛ بالرغم من كونها باكورتها الأولى التي تطل بها على عالم الطبع .. وفعلا فإن هذه الباكورة قد أعلنت عن ميلاد خطاب شعري ناضج عند الشاعرة ؛ من الناحيتين الفنية ، والجمالية . ومن فرادة التجربة الذاتية ، ومن النهل من الواقع المعيش .

من تجليات الذاتي في المجموعة الشعرية ؛ انفتاح الشاعرة على النفس ، من منطلق التحدي ، وتمجيد كل ماهو جميل في حدود العلاقات الإنسانية ، والمكان وهويحتوي الشاعرة ذاتا ، والبوح بالواقعي ، والمنتظر . . إضافة إلى مايؤرق الذات ؛ من قلق ، والإحساس بالفشل ، والخوف من المجهول . والاستسلام للطاريء تارة ، ومصارعته إلى حين الانتصار عليه تارة أخرى .. ومن تجليات الواقع في الديوان ؛ قضايا اجتماعية، وسياسية ، وطنية ( سادس عشر ماي ) ، وعربية ( أحداث سجن أبو غريب ) . ومما هومؤكد أن الشاعرة قد أكدت تركيزها على الذات ، وتأثيراتها ، متجنبة الخوض فيما هوإيديولوجي صرف .. وملاحظة أخيرة في هذا الصدد مؤداها أن الشاعرة قد حافظت لنصوصهاعلى وحدتها الموضوعية ، ووحدتها العضوية ؛ في جمل تشكل كلا منها عالما صغيرا ،مترابطا ، مشكلة خلية مؤطرة فيما هو ( الوحدة العضوية ) أو ماعبر عنه العقاد بـ (( البنية الحية )) .

ثـانـيـا : مــن حيــث الــشــكــل :

1 ) اســتــخــدام الــتــكــتــيــك الــطــبــاعــي :

أول ما له علاقة ؛ استعمال صورة مجسم ( أفروديت ) ورسوم لوحات تشكيلية - بالأبيض والأسود - تمثال أفروديت مثل ذاك القابع في متحف أثينا الوطني للآثار . ومعلوم أن أفروديت هي الإلهة الوثنية للحب و الجمال ، والخصب عند الإغريق .. وقد ولدت من زبد أمواج البحر في صـدفة لؤلؤة قريبا من جزيرة قبرص ، وهي عند الرومان فينوس .. ومنها وجوه نساء جميلات ، ورجال ؛ بعضهم في مقتبل العمر ، وبعضهم الآخر هده الزمان .. ومنها رسم لعين أنثى . ورسم للطبيعة في فصل خريفي .. كل هذه الرسوم اجتمعت في بدايةالمجموعة الشعرية إلى حدود نهاية التقديم . ومما يلاحظ أن هذه الرسوم تحمل طابعاغربيا تغريبيا يصدم توقعات القاريء الدقيق في الملاحظة ؛ خاصة القاريء الذي ينتظر من هذا العمل أن يكون متحررا من أوشاب وأذران الحداثة .

يلي هذا اختلاف الخط بين العناوين ، والإهداءات ، وكتابة النصوص ، والفصل بين المقاطع في أغلب النصوص ( ثلاثة عشر على ثمانية عشر ) واستعمال أدوات الترقيم ، وهندسة الجمل من حيث الطول ، والقصر ، وترك بياضات من أجل أن يملأها المتلقي من انفعاله ، وتفاعله مع النص / النصوص . وكذا التأريخ للتقديم ، وبعض النصوص لاكلها . والتعبير عن نهاية النص بتثبيت أيقونة هندسية ( زخرفة ) في آخره .

2 ) الإيــقــاع الــبــصــري والــكــالــيــغــرافــي :

وظفت الشاعر - في هذا الإطار - إيقاعا بصريا كاليغرافيا ؛ حققه التشكيل الهندسي لفضاء النص ، تحقق في الديوان بتماثل الشطرات ، واختلافها في الغالب .. وقد حققه في الديوان الكتابة - كما أسلفت - والرؤية البصرية ، ومخاطبتها للعين قبل الأذن ، والتوزيع الهندسي لفضاء النصوص ، الذي جاء محكوما بتوزيع البياض وفق الدلالة ، والإحساس في الجملة أو الكلمة ، أو بواسطة النجيمات الفاصلة بين المقاطع بنوع من التقابل الهندسي .. الأسطر الشعرية جاءت في مسافات لاتخضع لاستراتيجية معينة ؛ فقد يبدأ البياض متى ماتقلص السطر ، ويزداد كلما طال السطر .. النصوص بعضها طويل - نسبيا - وبعضها نصوص مركبة ومتنامية في بنائها .

3 ) الـلــغــة الــشــعــريــة :

عموما لغة المجموعة الشعرية ترتقي إلى مستوى مافوق لغة الحديث اليومي ، ولغة الصحافة اليومية . وهي على كل حال ليست لغة الطلاسم التي لامضمون لها ؛ كما في نصوص مجموعات شعرية تزامن ظهورها مع ظهور هذه المجموعة .. وبعامة فهي لغة سليمة ، احترمت قواعد اللغة العربية في التراكيب اللغوية . أما الألفاظ فأخالها حية ومشتعلة ألقا لكونها منتقاة ؛ بعضها من لغة الإحساس / الأحاسيس ، وبعضها من لغة النفس ودروبها المختلفة ؛ وبعضها من لغة العاطفة - عاطفة أنثى - وبعضها الآخر من الطبيعة ؛ أغلبها طبيعة صامتة ، وأقلها طبيعة صائتة .. ولغة المجموعة وجدتها تحتفي بالانزياح ، والخرق ، والتعبير بالصورة البيانية أوالرمز .. وغالبا ماتميل إلى الكلمات ذات الجرس الرقيق ، والهمس .


لنقرأ ولنتأمل هذا المقطع التأملي الحالم ؛ من قصيدة ( ليل ) :

أتأمل النجوم
تحت وطأة الذبول
أبصرت جسمي المصلوب
يرقص رقصة العشق الأبدي
ويحلم بالفارس الضبابي
يترصد نجما وضيئا (5)


ثم لنقرأ هذا المقطع المعبر عن العجز ، والاحتماء المؤدي إلى الإحساس بالوجود ؛ من قصيدة ( ماعادهناك رثاء )

دعني ألتحق بك
ألوذ بك َ من رياح الزمن .
أعانق فيك وُجُـودي
أرَقي (6)


وهذا المقطع السابر لعمق البعد القومي في نفس الشاعرة ؛ من قصيدة ( أبو غريب )

تطاردني ذئاب الآلام
في أعماق الرافدين
يترعرع قـُطـْر الجراح
تسبح ملمومة في الهواء
لاتلبث أن تتشَجَّــرفي جسدي (7) .


هذه النصوص تؤكد أن الشاعرة تمتلك ناصية الإبداع ؛ فهي تشاكس ببساطة الكلمة معاني شبيهة بتلك التي يقتنصها شعراء كبار ؛ وهي كلمة لم يأت بها مخاض عسير ؛ بل التلقائية ، والإحساس الصادق ، تعبيرا عن لحظة / لحظات تأمل في الحياة ، والطبيعة ، مشفوعة بجرعة شربتها الشاعرة سلافا من معين الوالد الذي لاينضب ( الألم ) ، وزادت هي ( الخوف ) .. وقد عززت الشاعرة كل ذلك بالسرد ، والدرامية فيه ، والغنائية ، والتنامي ؛ والغاية ، والمقصد : بناء الدلالة .. وكم أعجبتني الشاعرة وهي تتألم مما آلت إليه قلعة من قلاع الأمة العربية ( العراق ) التي تحولت إلى مذأبة للذئاب ، فارتكبوا المحظور في أبي غريب ( ) .. هذا وغيره جاءت اللغة المعبرة عنه لغة مستقيمة ، وخاضعة لقواعد سيبويه في لغة الضاد الخالدة .

4 ) الــبــنــيــة الإيــقــاعــيــة :

تأسس هذا المكون المهم في المجموعة الشعرية على الاستجابة لذبذبات النفس ، والحالة النفسية للشاعرة . وإني أرى أن الشاعرة قد راهنت على إيقاع من نوع آخر ؛ هو إيقاع مايتسرب إلى النفس من ذبذبات الإحساس . ومع ذلك فالدراسة المتأملة ، السابرة لأغوار المجموعة الشعرية يمكنها أن تدل على إيقاعات تنوعت مصادرها في نصوص المجموعة ؛ بعضها قـُصد إليه ، وبعضها جاء عفوا .. وكلها جاءت لخدمة التأثير في المتلقي ؛ في النفس ، وفي الأذن ، وفي البصر . لذلك وظفت الشاعرة وسائل تقوم عل الاستجابة لذبذبة النفس ، منها أصوات / حروف ، وألفاظ ، وتراكيب تم ضبطها في نسيج خاص .. وهذه بعض تجليات الظواهر الإيقاعية في المجموعة :

1 ) الــتــكــرار :

وظفته الشاعرة ترجمة لإحساسها ، ودعما للدلالة عبر :

ا - التكرار الصوتي : راكمت الشاعرة الصوائت القصيرة ، والطويلة ، ووزعتها في مقاطع توزيعا ترجم إحساسها بالتجلد في وجه جرثومة ( اليأس ) !! . لننظر كيف وزعت : المدود ، السين ، الشين ، والعين في هذا المقطع من قصيدة الديوان (( رغم أنف أبي )) :

سأخلع هذا السواد
أ ُشرع حدائقي
في وجه الإعصار
أرتشف كأسا مترعة من يد سراب عابر
أسحب تأشيرتي
أعبر ليل اليأس
مع طير اليمام (8)


ونفس الشيء في قصيدة ( سيدة المدائن ) حيث تكررت حروف : الشين ، الحاء ، التاء ، واللام في المقطع الأول ، وهي تبوح لمسقط رأسها بالعشق الجميل ، والشوق الملتهب :

عشقتك حد الرثاء
تحت جناحيك أيتها الحمراء
غنيت ُ وصلة عشقي الجميل
تحت نخيلك
أزهرت فصول أشواقي
شهبا ً
تتلاشى فرحا ً
تتلاشى حنينا (9)


ب - الــتــكــرار اللــفــظــي : رددت الشاعرة ألفاظا متجانسة ، ومتماثلة ؛ صوتيا ، ودلاليا ، كليا ، وجزئيا رفعا من مستوى الإيقاع عن طريق :1

- الــتــكــرارالأفــقـــــــي : كما هو تكرار كلمات ( شيئا - جرعة - محارة - واحدا ) . وذلك في نصوص ( رغم أنف أبي - أقبية الهزيمة - ولادة - ليل ) ولم يلح هذا النوع من النكرار على الشاعرة أكثر كما في نص ( سادس عشر ماي ) لما أحست بجرح طال عقيدتها الوطنية قالت في هذه الشطرة : (( أشلاء ، دماء ، أشلاء ، دماء ، دماء )) ...

2 - الــتــكــرار الــعــمــودي : كما هو تكرار كلمات ( تمضي - شموع - ليل ) في ( النص السابق الذكر -شموع أوابد - ليل ) .

3 - اجتماع التكرار الأفقي والعمودي : جمعتهما الشاعرة في نص ( ليل ) ؛ تقول في آخر مقاطع النص :

أمامي ليل
ورائي ليل
فوقي أقمار بكماء
تتراقص مثل فقاعات الماء
واحدا واحدا
يتساقط الفرسان (10) .


ج - تــكــرار الــجــمــل :استعملت الشاعرة هذا النوع من التكرار في النص الأخير من الديوان (( جئتك عاشقة )) ؛ حيث تكررت جملة العنوان هذه ثلاث مرات ، عند بداية كل مقطع من المقاطع الثلاثة للنص .

2) الــتــوافــق بـيـن الإيــقــاع والــدلالــة :

الشاعرة وظفت جملا خبرية في بناء إيقاع اتسم بالرتابة تأتيثا لنبرة غنائية وافقت بين نبرة الصوت ، وإيقاع الجمل ؛ تعبيرا عن حالتها النفسية . فالإيقاع الحزين استدعى نبرة حزينة في بناء الجملة ، تقول في قصيدة ( ماعاد هناك رثاء ) :

زرعتني وردَة ً
سرعان ما استحالت صُبَّارا ً
قبل أن تنعى موت السنين
صنعت لك من أشواكه بَلْسَما ً(11) .


أما الإيقاع المشرق فقد استدعته تعبيرا عن إحساس مشرق ؛ تقول في قصيدة (( لعيدك الفضي ))

لعيدك الفضي ّ
أراقص السعفات المراكشية
أنشر الحب دفءا ً وعطرا
يكلل شذى وأسراب حمام
أفتح الباب لأهازيج
تتفتق زهورا ً جوزيـَّة ً
تنفض ُّأسوار الحمراء شماعد (12)


3 ) الــتــوازي :

من باب التفنن الموسيقي ، وإذكاء لجمال التجربة التجربة الشعرية . استعملته الشاعرة ؛ ذلك أنها كررت تراكيب متماثلة في البنية النحوية ، والصرفية × والدلالية . وفي الطول ، والمسافة الزمنية ، وفي طبيعتها التنغيمية . كما في نص عنوان المجموعة (( رغم أنف أبي )) ، تقول :

بعيدا ً عـن الـتـربة التي أنـبـتـتـني نــو َّارة صـُبَّــار
بعيدا عـن كل الأسوار التي أخفتني عن دفء النهار (13) .


4) الــجــنــاس :

وهو لمن بديعي تناثر في بعض نصوص المجموعة الشعرية ؛ أكسبها إيقاعا أحدث تناغما أساسه الجناس ، والدلالة المتوازية وراء تشابك صوتي ، صيغي ، لغاية إثراء بعض النصوص ، وإمتاع المتلقي . حيث الآلة التي تتغذى على الجناس هي العين ، والأذن . وما وقفت عليهفي المجموعة لم يكن مقصودا لذاته ، أم لغاية التنميق اللفظي ، بل خدمة المعنى ، بما يساعد على إرسال الدلالة ، وسهولتها ، وسلاستها ، ومساندتها بالإيقاع الناجم عنها . والنوع المعتمد من الجناس الناقص ( غنت / أغنية - يرقص / رقصة ) أفقيا ( أتلاشى - أشلاء ) .

5 ) الــقــافــيــة :

ليس للشاعرة ميولا لاستعمال ( القافية ) أو ( التقفية ) التي تخقق تماثلات صوتية في آخر بعض الأسطر .. إذ نادرا مانجد مثل هذا المقطع الذي قفلت به نص (( فيلجة الريح )) :

أتعرى من أحزاني الدفينه
أبدد همومي السجينه
التي نهشت فكري المحاصر
أتشظى بين موسيقاك الحزينه ْ (14)


وبهذا الجزء من مقطع سابق عن سلفه في نفس النص :

تـُحـَرَّك ُ في َّ نزعاتي المشلولة
فتـُزْهر سؤالاتي المطوية
ترمقني الشمس بنظرة بارده
أغرق في غوايتك الأبدية (15)


6 ) الــتــنــغــيــم الــصــوتــي( 16) :

استعملته في قصيدة ( سراديب المحال ) ؛ ذلك أنها عمدت إلى كلمة (( واقفة )) فجعلتها تتدلى معبرة عن الوقوف ؛ وكأن الشاعرة واقفة حقا .. مشيرة إلى صمودها الإيجابي . تقول :

وا ....
قفة


**********************************

(1) ج .1 ص : 417 .
(2) لسان العرب . والصحاح . والقاموس المحيط ...
(3) ص : 249 .
(4) أضواء الظلال - إسماعيل زويريق . ج : 3 - ط 1 : 2006 . ص : 45 .
(5) رغم أنف أبي - إلهام زويريق . ط 1 : غشت 2005 . ص : 38 .
(6) نفسه - ص : 47 .
(7) نفسه - ص : 40 .
(8) نفسه - ص . ص : 16 . 17 .
(9) نفسه - ص : 50 .
(10) نفسه - ص : 39 .
(11) نفسه - ص : 48 .
(12) نفسه - ص . ص : 55 . 56 .
(13) نفسه - ص . 15 .
(14) نفسه - ص : 66 .
(15) نفسه - ص : 65 .
(16) يقصد به تقطيع الكلمة إلى أجزاء ، لتنطق به جزءا ًجزءا ً على شكل نغمات موسيقية . وهو تأثر من التأثر بالشعر الغربي استعمله كبار الشعراء العرب ( سميح القاسم ) في قصيدة ( توتم ) ، و( معين بسيسو ) في ( الرصاصة الأولى ) و( حجازي ) في ( المجد للكلمة ) ...