منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    ذكريات قرية لم تعد موجودة

    ذكريات قرية لم تعد موجودة
    عبد الغفور الخطيب-منتديات الحلم العربي

    لو فرغ أحدنا من الاستحمام ، فإنه يلحظ أن هناك شعرات قد سقطت منه ، والتصقت بجوانب الحوض أو أسفله .. ولكنها لم تعد تنتمي اليه بالتأكيد .. ويقال أن الإنسان يفقد أكثر من ثلاثين شعرة كل يوم .. وعند الحديث عن الأعصاب فإن الأطباء يقولون أن الخلايا العصبية التالفة لن تعوض بعد ..

    لا أدري أين تستقر ذاكرة الإنسان ، هل لها مكان معين في جسم الإنسان تستقر به ، أم أنها تكون كهالة تحيط بكيانه ، تسبح معه حيث عام .. ويستعين بها عندما يستفز ، أو يضطر الى اتخاذ موقف تجاه ما يرى أو يسمع أو يضطهد بفتح الياء أو ضمها .. ولكن لا بد لتلك الذاكرة أن يتساقط منها ما يقارب أعداد تساقط الشعر في الحمام ..

    هذا بالنسبة للفرد .. أما الجماعات ، فستكون مسألة تتبع نمو ذاكرتها و تفقدها من الصعوبة بمكان ، وتزداد صعوبتها كلما ازداد أعداد الجماعة وتفاوتت أعمارهم .. فسيكون على من يريد أن يتفهم تلك الظاهرة أن يتفقد ذاكرة كل فرد من أفراد الجماعة على حدة ، و هي مهمة شاقة وغير مسموح بها في جميع الأحوال .. وسيشوبها الكذب أو الاجتهاد في أحسن الأحوال ..

    كما أن للقبور شواهد .. فان للذاكرة شواهد .. فان كانت القبور بلا شواهد ستدرس وتزول مع الزمن .. وهناك من يشجع على ذلك ( فقهيا ) .. فبنظره ، لم يعد أهمية لتجميل قبر والكتابة عليه ، طالما أن ما بداخله أجزاء من مواد لم يعد لها أي فاعلية تذكر .. وهناك من يعاكس تلك النظرة فيقول : أن الشاهد على القبر و الكتابة عليه ، سيجعل من القبر بمثابة أيقونة في جهاز الكمبيوتر ، ما أن تضغط عليها العين ، حتى تستعيد شريط من في داخل القبر !

    بالقرى والمدن ، تكون الشواهد ، هي مجموع المعالم البارزة ، كمنارة مئذنة أو قصر بارز .. أو سفح جبل .. أو تمثال .. أو بيت يصدر منه صوت امرأة مجنونة .. أو زقاق يبرز منه كلب شرس يخيف الأطفال .. فتصبح سلطة الكائنات الحية شواهد إضافية على الشواهد الجامدة .. فشجرة عالية ، أو ارتطام قطيع أغنام بسيقان المارة .. تجعل من الذكرى .. مزيجا بين المكان والأحياء ..

    ويصبح كل إنسان شاهد إضافي على الشواهد السابقة ، وهذا ما يفسر لنا لماذا نحزن على ميت ، يرتبط معنا بذكرى ، وهو يقل شرفا ومكانة عن شخص آخر ، ولكن لا نحزن عليه .. ولكن حزننا سيكون على أنفسنا ، أو على وجه الدقة على ذاكرتنا ، إذ أنها فقدت شاهدا على مخزونها .. فان تسامرنا في طرائف أحمق قبل أربعين عاما ، فان كان من يشاركنا الحديث عن ذلك الأحمق ، فان الحديث سيكون بنكهة ممتعة ، وعندما لا نجد من يحفل بذلك الحديث سنحس بغصة ، لزوال شهود الذاكرة ..

    كانت قرية ( العتيقة ) هي صورة لكل ذلك ، فهي وإن كان اسمها قد يكون منحوتا ، فلم يعد للاسم أهمية ، فقد تجدها شمال غرب العراق أو في صعيد مصر أو على الحدود السورية الأردنية ، أو في جبال الأطلس .. فلا فرق ، طالما أن شواهدها قد زالت .. فلم يعد للاسم أي معنى ..

    يتبع

  2. #2
    ( 2)
    لو أقبلت على القرية من جهة الجنوب لرأيت مئذنة مسجدها الوحيد بارزة بارتفاع واضح حيث بني المسجد في أعلى نقطة بالقرية .. و سيكون عليك أن تسير بمحاذاة طريق معبد ضيق ، أو يمكنك السير فوق الطريق المعبد الذي قيل أن الألمان قد عبدوه .. ولم يتلف ، لا لدقة الألمان في التنفيذ ، بل لندرة ما يسير فوقه من سيارات .. وكانت بعض الجهات تقوم بين كل عدة سنوات في رش قليل من الرمل الناعم و سائل أسود يغلي ، لإخفاء ما قد يحصل على الطريق من تلف قليل ..
    وكان الأطفال يتمتعون بالسير فوق الطريق وهم حفاة ( طبعا كعادتهم ) .. وكانت لا تمنعهم حرارة الصيف من الاستمرار في السير على الطريق ، فكانت أقدامهم قد تطورت ، بحيث أصبحت أقرب الى خف البعير ، وكان ما يزيل إحساسهم بحر الطريق ، هو تتبعهم لفقاعات تكونت من فعل أثر الشمس على السائل الأسود الذي تجمد ، ولكن حرارة الشمس تنفخ بعض الفقاعات فيتتبعها الأطفال ليدوسون عليها بإبهام الرجل .. فتحدث صوتا يبتهجون به .. أو لعلهم كانوا يبتهجون به ، لندرة ما يبهجهم ..
    لم يكن للقرية ألوانا زاهية يصبغون به بيوتهم ، ولم تكن في القرية أشجار تظهر عن بعد ، بل كان في القرية شجرتان من الكينا ( اليوكاليبتوس) واحدة تظهر عليك إذا أتيت القرية من الشرق ، وواحدة تظهر اذا أتيتها من الشمال ، وكانت الشجرتان تسهل مهمة من يصف بيتا لأحد ، وكان نادرا ما يسأل أحد عن بيت و يتغلب في إيجاده .. لكن كانت كل شجرة من الشجرتين تشكل شاهدا استقر في ذاكرة من يتذكر ..
    كان الأطفال ، غالبا ما يسيرون باتجاه الطريق الذي يخترق القرية ، باتجاه الجنوب ، ويسيرون كفرق للبحث عن ألغام .. كلهم يرمون رؤوسهم في الأرض مطرقين ، عل أحدهم أن يجد علبة فارغة من أي شيء ، رموها السواح بعد أن استفادوا من محتوياتها .. فإن كانت العلبة مسطحة كعلب ( السردين مثلا) التقطها الطفل ، وربط بها خيطا ، بعد إحداث ثقب بطرفها ، و ملأها بالتراب وأخذ يلعب بها كسيارة .. و إن كانت العلبة أسطوانية ونظيفة ، فإنها ستضاف للأواني المنزلية ، كوعاء يغرف به الماء أو يسلق به البيض .. وإن كانت مغلقة من الجانبين ، لكنها ليست بتلك النظافة ، فإن الطفل يحدث في أوسط طرفيها ثقبين ويدخل بها سلكا و يعتبرها عجلة يلعب بها ..
    و كانت لحظات فرح كبرى ، إذا عثر الطفل على بقايا علبة بها محتويات غذائية ، أو حتى بعض أجزاء فواكه يرميها الموسرون الذين كانوا قد مروا فوق الطريق قبل أيام أو حتى أسابيع .. فلم يكن الأطفال المعدمون يوفروا شيئا ، أو يتعففون عنه .
    كان لون القرية في الشتاء هو لون التراب ، وكان في الصيف قد تلون عند بعض المقتدرين بلون حجري كلسي أبيض ، لا يصمد الا لشهرين أو ثلاثة ثم يختفي نتيجة لخواصه الكيميائية أو نتيجة لنزول مزنة من المطر خالفت الموسم وسقطت في غير حينها .. وعلى العموم لم تكن الألوان متوفرة ، فقد أدخلت الدولة لونا جديدا عندما صبغت المدرسة الوحيدة بلون ( سمني ) لا هو بالأصفر ولا هو بالبني .. وقد أثار ذلك اللون إعجاب المواطنين .. و أضاف عاملا جديدا لتهيبهم من الدولة ..
    إذا اقتربت من القرية ، عند المساء ، فتستطيع التعرف على رائحتها بسهولة ، فهي مزيج من روائح فضلات الحيوانات الطازجة ، أو المحترقة لإبقاء حرارة أفران الخبز على ما هي .. حيث كانت النساء تغطي ( التنور ) بطبقة كثيفة من زبل المواشي المتخمر ، والذي لم يجف تماما ، فحين يلامس بعض الجمر المختفي في الغطاء القديم ، فإنه يبدأ بالاشتعال البطيء طيلة الليل ، وحتى الصباح .. فإن جاء الصباح وضع بعض ( الجلة ) اليابسة ، أو قطع صلبة من سيقان نباتات القمح ( قصل ) لم تستطع الحيوانات أكلها .. فتشعلها النساء ، داخل الفرن ( التنور أو الطابون ) .. فيصبح مهيئا لإعداد الخبز .
    كانت تلك الروائح الممزوجة ، تلتصق بأثاث البيوت البسيط ، وبملابس الأهالي فلا أحد يتأفف من رائحة الآخر ، طالما أنهم يتشابهون فيها ..

  3. #3
    (3)
    لم تكن مهمة خبير المساحة الإنجليزي سهلة ، فقد أوكلت إدارة الانتداب البريطاني في أواسط الثلاثينات من القرن السابق ، الى المساح ( موفد ) مهمة تنظيم وتقسيم و إفراز أراضي ( العتيقة ) .. وقد أقام ( موفد ) مع فريق عمله عدة سنوات ، حتى أنجز مهمته الصعبة ..
    لقد كانت أراضي العتيقة والتي بلغت مساحتها أكثر بقليل من ثمانية عشر ألف هكتار ، في حالة تنازع بين سلطتي الانتداب الفرنسي و البريطاني ، وعندما تم إلحاق ( العتيقة) بإدارة الانتداب البريطاني .. شرعت لتنظيم تلك القرية .. والتي كان أصحابها يحتفظون بسندات تسجيل عثمانية ، وقسم كبير يحتفظ ب ( حجة) تملك .. وهي سندات تنظم بوجود شهود ، على أن فلانا قد باع لآخر أرض ..
    لقد مر على هذه القرية ، عدة موجات توطن ، فتجد بآثار ( الخرائب) ما يشير الى وجود توطن في العهد اليوناني و الروماني و الأموي و المملوكي .. ولكن ليس بالقرية من يدعي بالقدرة على تتبع وجود أجداده ، لأكثر من مائة وخمسين عاما .. رغم وجود علماء نحو و تاريخ تنتهي أسماؤهم بالعتيقة .. لكن لم أسمع من المسنين ، أن أحدا يقول أنه من أحفاد النحوي عبد الله العتيقي أو المؤرخ محمود العتيقي ..
    عندما تأملت في ظاهرة عدم تتابع وتواصل أجيال ( العتيقة ) ..عن دون القرى والتجمعات السكنية التي تقع غربها بعدة أميال ، ركزت نظري ، علني أجد لذلك سببا .. فوجدت أن القرية كانت تقع على مقربة من الصحراء ، لكنها تتفوق على الصحراء في أنها تستطيع إطعام بضعة مئات من العائلات من إنتاجها ..ولكن دون انتظام .. ففي بعض العقود كانت سنين القحط تمتد الى خمسة سنوات أو أكثر ..
    كان التصاق سكان القرية بها ، ضعيفا و إدارة الدولة العثمانية ، لم تغطيها بشكل يكفي لدرء هجوم رعاة الأغنام و الإبل ، الذين كانوا يستغلون سنين الغلال والمواسم الجيدة ، ليرعوا بها و يهجرون سكانها أو يقتلونهم .. فكان بقائهم بها يتوقف على الجانب الأمني ..
    وقد عاود السكان التوطن بها في أواخر القرن الثامن عشر .. ولو تتبعت أصل سكانها ، لأفادك كل منهم أن أجداده أتوا لتلك القرية ، بعد أن قتلوا شخصا في القرية الفلانية ، وستجد منهم أصولا من أربعة أقطار عربية مختلفة . أو هربا من الخدمة في الجيش العثماني ، حيث كنت تجد في القرية عشرات العرق ( بضم العين و مفرده عراق وهو ثقب أو كهف في أبط تل ) يسهل على المتخفي أن يبقى به هو عياله و حلاله دون أن يفضح أمره ..
    كان على (موفد) أن يوفق بين عدة مئات من الرجال الذين كانوا ينتمون لعدة عائلات ، انقسموا في السابق الى قسمين : قسم أراد أن يكون تحت الإدارة الإنجليزية و قسم أراد أن يكون تحت الإرادة الفرنسية ..
    فقسم الأراضي الى مائة و ثمانين ( ربعة ) والربعة كانت تساوي بين ثمانين هكتارا و مائة و عشرين هكتارا .. حسب خصوبتها .. وحسب تراضي لجنة ممثلي المالكين ..
    لقد كانت الأراضي قبل وصول ( موفد) تقسم الى ( دواقير ) و ( الداقورة) هي مساحة الأرض التي يمكن لأسرة حصادها في يوم واحد .. ويبدو من شكل التقسيم السابق ، أن دوافعه كانت أمنية بحتة ، حيث يرحل الحاصدون كلهم الى اتجاه واحد يحصدون و ينقلون قشهم و غلالهم في نفس اليوم على الجمال ، ويحتمون بكثرتهم أمام هجمات الرعاة ..
    وقد حسم أمر الرعاة و البدو قبل مجيء ( موفد) بحوالي عشرة سنوات عندما انتهت الحرب ( حرابة ) بين البدو والفلاحين والتي قتل بها عشرات الأشخاص من الطرفين وانتهت لصالح الفلاحين الذين أثاروا إعجاب سكان القرى المجاورة ببسالتهم .. و خلدت القصائد الشعبية تلك ( الحرابة ) التي استمرت تسع سنوات متواصلة .. حتى استقر شكل الأرض للفلاحين .
    كان رؤساء العائلات الذين جلسوا مع ( موفد) لتسوية أراضي القرية ، يراعون جانب العلاقات بين المتجاورين .. فوضعوا شكلا للملكية لا يزال يثير إعجابي لدقته و عدله في كثير من جوانبه .. فقسموا ال (180 ربعة ) الى 36 قسم سموه الخمسات أي كل خمس ( ربعات ) جزء ووضعوا له رئيسا و ممثلا عن الملاكين .. وبين كل خمسة وخمسة طريق ضيق بعرض ثلاثة أمتار ، وبين كل عشر( ربعات ) طريق بعرض ستة أمتار ..
    لقد ترك للبلدة جذرا سمي فيما بعد ( جذر البلد) و كان بمساحة تسعة كيلومترات مربعة .. و ترك حول الجذر ( بيادر ) لنقل القش ودرسه و تذريته واستخلاص الحبوب منه ..
    لقد طال رؤساء الخمسات ، نصيب من الحظوة الإضافية ، وكانوا ست وثلاثون شخصا ، حيث تضاعفت حصصهم عن دون سكان البلدة ، ولربما كانت تلك أجورهم من قبل الإنجليز بدلا من أتعابهم خلال سنين التنظيم .. وأصبح
    هؤلاء أكثر أهل البلدة وجاهة ، وهم الأكثر تأثيرا و الأكثر قربا من الحكم !
    تم تحرير المشاركة بواسطة عبدالغفور الخطيب: Apr 1 2006, 05:05 PM

المواضيع المتشابهه

  1. خاصة موجودة فقط في ويندو 10!!!
    بواسطة أوس الحكيم في المنتدى فرسان التقني العام.
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12-05-2016, 01:46 PM
  2. 3 وسائل إسعافات أولية موجودة في كل مطبخ !
    بواسطة د.إيهاب الدالي في المنتدى فرسان المطبخ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-28-2013, 01:48 PM
  3. ذكريات ق.ق.ج
    بواسطة ياسر ميمو في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-25-2011, 07:47 PM
  4. أريد أسطوانة للصيدليات غير موجودة على النت
    بواسطة فيصل أحمد حجاج في المنتدى فرسان التمريض والصيدلة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 12-17-2009, 09:38 PM
  5. طلب مساعدة عاجل - هل هذه الكتب في اللغة موجودة أو محققة؟
    بواسطة فراس الحكيم في المنتدى فرسان اللغة العربية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 02-28-2009, 06:47 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •