-أسلوب الاستفهام :
قد يخرج أسلوب الاستفهام بأنواعه المختلفة عن معناه الوضعى الحقيقى ،
وهو الاستفهام عن حقيقة الشئ إلي معنى دلالي أخر وهو التعجب لأنه وثيق الصلة به ،
فالاستفهام يستلزم ، الجهل بالشئ ، والجهل بالشئ يستلزم التعجب ،والدهش ، والانفعال ، والتعجب –كما يقول ابن عصفور- لا يكون إلا مما خفى السبب".
والشئ إذا أبهم كان أعظم في النفس. وقد ورد هذا النوع من الاستفهام التعجبى في كثير من المواضع في الشعر الجاهلى ، كما في قول الشاعر عمرو بن كلثوم :كشفنا الخوف والسَّعيات عنهم فكيف يغرّهم منا الغرور
وكما في قول الشاعر طرفة بن العبد :وكيف نضل القصد والحق واضح وللحق بين الصالحين سبيل
وقوله :إذا القوم قالوا : من فتى ؟ خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
ومما جاء بلفظ الاستفهام ومعناه التعجب قول الأعشى :
شباب وشيب وافتقار وثروة فلله هذا الدهر كيف ترددا
وقد ذكر سيبويه هذا النوع من الاستفهام التعجبى ، حيث قال :
"وأيما فتى استفهام ألا ترى أنك تقول : سبحان الله ، من هو وما هو؟ هذا استفهام فيه معنى التعجب".
ومن الألفاظ السماعية الدالة على التعجب قولهم : سبحان الله ، وقد ورد استعمال هذا المصدر عند سيبويه حيث ذكر عند قوله :
هذا باب من المصادر ينتصب بإضمار الفعل المتروك إظهاره قال :
"ولكنها مصادر وضعت موضعاً واحداً لا يتصرف في الكلام تصرف ما ذكرنا من المصادر ، وتصرفها أنها تقع في موضع الجر والرفع ، وقد تدخلها الألف واللام ، وذلك كقولك : سبحان الله ،
وزعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك : براءة الله من السوء ، كأنه يقول : أبرئ براءة الله من السوء".
وزعم أن مثله قول الشاعر الأعشى :أقول لمن جاءنى فجره سبحان من علقمة الفاجر .
وهو ما ذكره أيضاً أبو اسحاق الزجاج ، والأخفش الأوسط ، والنحاس ، وذكر البغدادى أن سبحان الله في البيت للتعجب وأصل "سبحان الله" أن يسبح الله تعالى عند رؤية العجب من صنائعه ، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه.
وقد ذكر السيوطى "أن الكوفيين يتعجبون بقولهم : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، وقال : وهذا يستعمله الناس كثيراً إذا شاهدوا أمراً فظيعاً فيقول القائل منهم : لا إله إلا الله ما أعجب هذا ، وسبحان الله ما أدق هذا ......"
وقد ذكر أيضاً أن من مفهوم التعجب : سبحان الله ولله دره ، وحسبك بزيد رجلاً ، ويالك من ليل ، إنك من رجل ، وما أنت جارة ، وواهاً له ناهياً".
وقد ربط بعض العلماء هذه الأساليب السماعية في دلالتها على التعجب بالقرينة الدالة عليها. وقد ورد استعمال هذين اللفظين : سبحان الله ولا إله إلا الله بغرض التعجب في الحديث النبوى الشريف ، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :"سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن ، وماذا أنزل من الفتن ، من يوقظ صواحب الحجر ، فرٌبّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة".
وقوله صلى الله عليه وسلم :"سبحان الله إن المؤمن لا ينجس" ، وقوله صلى الله عليه وسلم :"لا إله إلا الله ، ما أطيبك وأطيب ريحك ، وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمة منك"
والملاحظ هنا أن التنغيم يلعب دوراً مهماً في رصد الانفعال والإعجاب في هذين اللفظين ، وهو ما يعد – حسب وجهة نظرنا – من القرائن اللفظية التي يمكن بواسطتها التعرف على أن سياق الكلام يحمل بين ثناياه تعجباً وانفعالاً.ومن الألفاظ السماعية الدالة على التعجب قول العرب "لله دره" أي خيره وعطاؤه ، ومما يؤخذ منه : قال الميدانى : هذا هو الأصل كما يقال لكل متعجب منه.
وقد أورد المبرد هذا اللفظ "لله دره" في باب التبيين والتمييز ، حيث قال : ومن التمييز : ويحه رجلاً ، ولله دره فرساً ، وحسبك به شجاعاً ، إلا أنه إذا كان في الأول ذكر منه حَسٌن ، أن تدخل (فيه) توكيداً لذلك الذكر فتقول : ويحه منه رجلٌ ، ولله دره من فارس ، وحسبك به من شجاع.
فتقول العرب "لله دره فارساً : أي أتعجب من دره من حيث أنه نشأ منه فروسيته أو في حال فروسيته. أما ابن السراج فقد ذكر عدة ألفاظ مسموعة عن العرب قاصداً بها التعجب ، حيث قال : وحكيت ألفاظ من أبواب مختلفة مستعملة في حال التعجب ، فمن ذلك : ما أنت من رجل تعجب ، وسبحان الله ، ولا إله إلا الله ، وكاليوم رجلاً ، وسبحان الله رجلاً ، ومن رجل والعظمة لله من رب وكفاك زيد رجلاً ، وحسبك بزيد رجلاً ومن رجل ، تعجب والباء دخلت دليل تعجب ....."
وقد ذكر لفظ التعجب السماعى "لله دره" كثير من العلماء ، كأبى على الشلويين في شرح المقدمة ، وأبى حيان في الارتشاف والسيوطى في البهجة والهمع ، والأشمونى في شرحه ، والدسوقى في حاشيته ، والصبّان (ت 792 هـ) في حاشيته
وقد استعمل هذا اللفظ أيضاً في قول عنترة بن شداد :ألا لله درك من شجاع تذل لهوله أسد البقاع لله در بنى عبس لقد بلغوا كل الفخار ونالوا غاية الشرف
وفى قوله أيضاً :لله در بنى عبس لقد نسلوا من الأكارم ما قد تنسل العرب
وفى قول لبيد بن ربيعة العامرى
كم شامتٍ بى أن هلكـــ ــت وقائله لله دره
وفى قول عبيد بن الأبرص :والشيب شين لمن يحتل ساحته لله در سواد اللمة الخالى
ويقول الزجاج نقلاً عن غيره أن قوله : لله درك أن هذه لام التعجب ، وِإن كانت دعاء للمخاطب به أو الخبر عنه في قوله :"لله دره ، وقالوا معناه : كثر الله خيره وأن لله درك أي : لله ما أتانى به".
ومن الألفاظ السماعية المستعملة في التعجب استعمالهم في المثل "فبها" في الدلالة على التعجب ، ومن ذلك قولهم :"إن فعلت كذا فبها ونعمت ، معنى "بها" تعجبت ، كما يقال : كفاك به رجلاً ، فالمعنى : ما أحسنها من خصلة ، ونعمت الخصلة هى ومما ورد في استعماله للتعجب من الصيغ السماعية قولهم :أبرحت فارساً أي ما أبرحت فارساً ، وقد عدّ الكوفيون هذا الاستعمال من قبيل الصيغ القياسية حيث قالوا :إن صيغ التعجب القياسية هى : ما أفعله وافعل بهوأفعلت بغير ما مسندة إلي الفاعل.قال الأعشى :أقول لها حين جد الرحيـــ ــيل فأبرحت رباً وأبرحت جاراً
وقد صرّح بورود هذه الصيغة على معنى التعجب ، المبرد.
فعلى هذا ما ذكره الكوفيون فيه معنى التعجب ، فهو من باب التعجب السماعى ، وليس من باب التعجب القياسى ، وهو مِن قبيل : ويحك فارساً ، وأحسبك به رجلاً ، إذ قد ورد هذا الاستعمال كثيراً عند علماء اللغة والنحو ، وتناولوه في كتبهم ، ومن بينهم : ابن السراج ، والسيوطى ، وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام ، أنه يقال : ما أبرح هذا الأمر أي : ما أعجبه.
ونقل لنا البغدادى عن الإمام الشنتمرى أنه قال في تفسير المعنى "أبرحت فارساً" المعنى : فأبرحت منه فارساً أي بالغت وتناهيت في الفروسية ، وأصل أبرحت من البراح ، وهو المتسع من الأرض المنكشف أي تبّين فضلك تبيّن البراح من الأرض.

ومن الصيغ السماعية أيضاً قول العرب : بخٍ بخٍ، حيث ورد في المثل : قال الميدانى : بخ كلمة يقولها المتعجب من حسن الشئ وكماله الواقع موقع الرضا ن كأنه قال : ما أحسن ما أراه ، وهو ساق محلاة بخلخال ، ولا يجوز أن يريد بالياء معنى "مع" فيكون التعجب من حسنها
أي ما أحسن الساق والخلخال معاً ومن الأساليب السماعية استعمال أسلوب القسم لغرض التعجب ، وهو ما يسمى بـ (القسم التعجبى) ، إذ قد جرت عادة العرب على استعمال حرفى التاء واللام في الدلالة على القسم ، وهذا القسم يفيد التعجب ، ومن ذلك أنك تقول : تالله لإفعلن ، فتقسم على معنى التعجب ، ولا تدخل التاء على شئ من أسماء الله الحسنى غير هذا الاسم ، لأن المعنى الذي يوجب التعجب إنما وقع هاهنا.
فالتاء المتحركة في أوائل الأسماء حرف جر معناه القسم وتختص بالتعجب ، وباسم الله تعالى. ونسب الدسوقى في حاشيته إلى الزمخشرى أنه قال في تفسير قوله تعالى :"تالله لأكيدن أصنامكم"
إن الباء أصل حروف القسم ،والواو بدل منها ،والتاء بدل من الواو ، وفيها زيادة معنى التعجب.
ولام القسم قد تكون خافضة للمقسم به ، إلا أنها متضمنة معنى التعجب في الله وحده.
وقال العكبرى :"وقد استعملوا اللام في القسم إذا أرادوا به التعجب كقولهم :"لله أبوك لقد فعلت ، وإنما جاءوا بها دون الحروف الأوّل ، ليعلم أن القسم قد انضم إليه أمر آخر ، وكانت اللام أولى بذلك لما فيها من الاختصاص والمقسم به مع التعجب مختص".

ومن الأساليب السماعية الدالة على التعجب "الدعاء التعجبى" وقد وردت عن العرب عدة تراكيب، وألفاظ حملت معنى الدعاء والتعجب والمدح ، منها قولهم ": "لا أباً لك" إذ قد نقل عن العينى قوله :"إن هذا القول قد يذكر في معرض التعجب دفعاً للعين كقولهم : لله درك ، وقد يستعمل في معنى جد في أمرك وشمِّر لأن من له أب يتكل عليه في بعض شأنه".
وهذا اللفظ يستعمل في التفجع والتعجب ، ويقال في المدح والذم ، وربما قالوا : لا أباً لك ، وهو نادر.وقد ذكر البغدادى : أن لفظ لا أباً لك يكون للمدح بأن يراد نفى نظير الممدوح بنفى أبيه ، ويكون للذم بأن يراد أنه مجهول النسب".
وأما لفظة :"لا أمّ لك" فلا يقال إلا في الذم وحده إذ حكى عن الأخفش قوله :
إن العرب كانت تستحسن "لا أبا لك" وتستقبح "لا أم لك"
وذكر الميدانى أن لفظة "لا أم لك" هى للشتم الصريح ، وهى بمعنى : ليس لك أم حرة ، وأما لفظة "لا أبا لك" فهى للشتم أيضاً وهى أكثر من سابقتها شتماً".
ومما ورد في معرض التعجب أيضاً قول العرب : لا شل عشره أي أصابعه العشرة التي يرمى بها ، ويقال لمن أجاد الرمى على معنى التعجب وقد وردت بعض هذه التراكيب في الشعر الجاهلى ، وذلك كما في قول عنترة بن شداد :فاقنى حياءك – لا أبا لك – واعلمى أنى امرؤ سأموت إن لم اقتل
وقول زهير بن أبى سلمى :سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً – لا أبا لك- يسأم
وفى قول لبيد بن ربيعة العامرى :أولئك فابكى – لا أبا لك- واندبى أبا حازم في كل يوم مذكرَّ
ويتضح من خلال بعض التراكيب الدعائية أنها تدل على معنى التعجب شأنها في ذلك شأن الصيغ الانفعالية التي تدل على الدهش استحساناً واستقباحاً ، غير أن بعض هذه الأساليب يعد من المشترك اللفظى ، فهى تؤدى المعنى أو نقيضه حسب السياق الموضوعة له إضافةً إلى هذا سمع عن العرب أيضاً بعض المصادر الدعائية ، ومن هذا ما ذكره سيبويه من نحو كرماً وصلفاً قال سيبويه :"ومما ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره ، ولكنه في معنى التعجب قولك : كرماً وصلفاً ، أنه قال : ألزمك الله وأدام لك كرماً وألزمت صلفاً ، من قولك : أكرم به ، واصلف به ....... ، وسمعت أعرابياً وهو ابو مرهب يقول ، كرماً وطول أنفٍ أي : أكرم بك وأطول بأنفك".
ومن الأساليب السماعية الدالة على التعجب : النداء قد يخرج النداء عن معناه الموضوع له ، وهو طلب الإقبال إلى معنى دلالى انفعالى وهو التعجب ، وقد أورد سيبويه هذا الاستعمال في باب ما يكون النداء فيه مضافاً إلى المنادى بحرف الإضافة ، وذلك في الاستغاثة والتعجب ....وأمّا التعجب فقوله ، هو فرار الأسدى :لخطاب ليلى يا لبرثن منكم أدل وأمضى من سكيك المقاتبوقالوا : يا للعجب ويا للفليقة ، كأنهم رأوا أمراً عجباً ، فقالوا : يا لبرثن أي مثلكم دعى للعظائم ، وقالوا : يا للعجب ، ويا للماء لما رأوا عجباً ، ومن ذلك قولهم : يا للدواهى ، وكل هذا في معنى التعجب والاستغاثة.
وقد أشار ابن السراج إلى هذا النوع من التعجب حيث قال :وربما تعجبوا بالنداء تقول : با طيبك من ليلة ويا حسنه رجلاً ومن رجلٍ ، ومن ذلك قولهم : يا لك فارساً ، ويا لكما ويا للمرء ،
وقد وردت تفسيرات لبعض هذه الألفاظ التعجبية : قال الدسوقى : يا للماء أي يا هؤلاء أدعوكم لتحبوا من كثرتهما ، ويا لك من ليل أي أتعجب من طول ذلك الليل ، ويا لك رجلاً عالماً ، أي يا هذا أعجب من رجولتك حال كونك عالماً.
وقد ورد التعجب بأسلوب النداء في عدة مواضع من الشعر الجاهلى :كما في قول امرئ القيس :فيا لك من ليل كأن نجومه بأمراس كتانٍ إلى صم جندل
ويرى ابن مالك أن قوله : "فيا لك من ليل" في حكم المستغاث والمتعجب منه ،
وقول طرفة بن العبد :يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضى واصفرى
وقوله :فيا لك من ذى حاجة حيل دونها وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله
وقول الأعشى :فيالدنية ستعود سزراً وعمداً دار غيرك ما تريد
وقوله أيضاً :يا لقيس! لما لقينا العاما ألعبد أعراضنا أم على ما
من الصيغ السماعية الواردة عن العرب ،والتى يراد بها التعجب ما كان على وزن "فعل" بضم العين ، فقد ذكر ابن مالك :"أن من بين ألفاظ التعجب الكثيرة التي لم يتعرض لها النحويون في باب التعجب ما كان على وزن "فعل" وذلك نحو قولهم : قَضٌوَ الرجل فلان أي ما أقضاه
وذكر أبو حيان عن أبى على الفارسى ، قوله :"أن فعل إذا أريد بها المدح والذم جرى مجرى نعم وبئس فاعلاً وتمييزاً ومخصوصاً ، فنقول : حسن الرجل زيدٌ ، وحسن رجلاً زيدٌ ، فإنها لا تأتى ، والمراد بها التعجب ، ونقل عن الأخفش قوله في الكتاب الكبير أن العرب تارةً تريد به ما ذكره الفارسى ،وتارةً تريد به معنى التعجب ، فتقول :"ضربت اليد أي ما أضرب اليد ، ورموا الرجل في معنى ما أرماه".