منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    ضرورة التأليف بالعربية في العلوم التجريبية والتقنية

    ضرورة التأليف بالعربية في العلوم التجريبية والتقنية

    الشيخ عبدالرحمن الباني

    تاريخ الإضافة: 28/12/2008 ميلادي - 29/12/1429 هجري








    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




    هذا كتابٌ باللغة العربية عن تقنية الخرسانة، وأرى من المُناسب أن أُدْلي برأيِي في أمرٍ أجِده في غاية الخطر، وأجد أنَّ الغفلة عنه قد بلغت غايتَها وأورثت نتائِجَ سيِّئة وثَمرات مرَّة، وعاقت نَهضتنا في العلوم الكوْنيَّة والتجريبيَّة وفي الفنون التطبيقيَّة والتقنيَّة على وجْه الخصوص.

    ويتساءل القرَّاء ما هذا الأمر الخطر؟ فأقول: إنَّه إهمال التَّأليف باللُّغة العربيَّة في هذه العلوم والفنون المشار إليها، وإليْكم البيان يا قرَّاءَنا الأعزَّاء.

    1 - إنَّ العِلْم لا يُصبِح ملكا للأمَّة، ولا يتمكَّن في أرْضِها إلا إذا كان بِلُغتِها، وما دام يتداول بلغةٍ غيْر لغة الأمَّة فستبقى الأمَّة معزولةً عن ذلك العلم، ويبقى العلم منفصِلاً عنْها.

    وإنَّ تأليف كتاب في عِلْمٍ من هذه العلوم باللغة الأجنبيَّة هو إثراء لمكتبة تلك اللغة، وعوْن لأهْلِ تلك اللُّغة على ما ألِّف الكتَّاب من أجل تَحقيقه.

    فالتأليف باللغة الفرنسية - من أي مؤلِّف كان وفي أيِّ بلد ظهر - هو قوَّة لهذه اللُّغة وإثراء لمكتبتِها وعوْن لأهْلِ تلك اللغة على تَحقيق مقاصِدِهم في ميْدان ذلك التأليف، وكذلِك القول إذا ظهر كتابٌ ذو قيمة في عِلْم من العلوم أو نوْع من أنْواع المعرفة باللغة الإنجليزيَّة فهو في الحقيقة قوَّة لتلك اللُّغة واستمرار حياةٍ ومدٍّ لَها في البقاء وقوَّة لتلك الأمَّة.

    وقد يقال: إنَّ المعرفة أصبحت مشاعة، وإنَّ الكتاب الذي يؤلَّف باللغة الإنجليزية وقد بلغت ما بلغت من الشيوع والانتِشار هو إثراء للمعرفة بوجه عام، وهو نافع لكلِّ مَن يعرف تلك اللغة أيضًا، وهذا صحيح لا نُنازع فيه.

    ولكن هل ننازع في أنَّ ذلك التأليف بتلك اللغة هو قوَّة لتلك اللغة وعون لأهلها قبل غيرهم؟

    وهل ننازع بأنَّ تلك اللغة التي انصرف النَّاس عن التَّأليف بِها وأُهْمِل استخدامها في تلك العلوم يصيبُها من الضعف والخمول بقدْر ما حصل من ذلك الانصراف والإهمال؟

    وهل ينازع أحدٌ بأنَّ أهل تلك اللغة التي يؤلَّف بِها "محظوظون" بسبب الإقْبال على التأليف بها، وأنَّ أهل اللغة الأخرى التي أُهْمِل التَّأليف بها "محرومون" من رقِيِّ لُغتِهم وثقافتِهم جميعًا؟!

    وكيف يُرْجَى لِهذه الأمَّة النهوض والتقدُّم والرِّفعة والرُّقي إذا ما كان حالها على هذا المنوال؟ أعني أنَّه كلَّما نبغ نابغٌ من أبنائِها كتب بلغةٍ غير لغة أمَّته وقومِه واختار لغة أُخرى ليكتب بها ويؤلِّف، وكلَّما ظهر نوْع من المعرفة افتقد أهل تلك اللغة أن يكون بين أيديهم كتابٌ نافع بِلُغتهم وأصبح عامَّتهم مَحجوبين عن هذه المعرفة، جاهلين بهذا النوع من الكشْف والاختراع!

    وقصارى حالِهم أنَّ أفرادًا منهم ينتفعون به إذا توفَّرت لهم القدرات والإمكانيات، وواتتهم الظروف المحيطة، وتعلَّموا تلك اللغة التي ظهر فيها ذلك التأليف.

    لقد أطلْتُ في هذه النقطة، وهي جديرةٌ بالبحث والتأمُّل وبالتداوُل والتشاوُر، وبالبحث المنهجي والتجريبي، لنخلص من هذا الوضْع الشَّاذ الشَّائن الذي نعيش فيه وقد أسَغْناه وألِفْناه حتَّى لا نكاد نحسُّ بِما فيه من الشُّذوذ والضَّرر، وهو مع ذلك ماضٍ يعمل عمله فينا إضعافًا وتَخذيلاً وتعويقًا للنهوض.

    إنَّ الكتاب الذي يؤلَّف بالعربية هو مِلْك لتلك الشعوب التي تتكلَّم العربيَّة أوَّلا وبالذات، وهو تَمليك المعرفة في ذلك الموضوع لكلِّ واحد من أهل العربيَّة شدا من العلم ما شدا، بَلْهَ من يكونُ قد تخصَّص أو تعمَّق.

    وإنَّ تأليف مَن يعرف العربيَّة من أهلِها كتابًا باللغة الأجنبيَّة هو حجْبٌ لذلك العِلْم عن أهْل العربيَّة، وحرمان للأمَّة من فوائدِه وثَمراته.

    فلننظُرْ إلى هذا التَّاريخ الطَّويل البغيض الذي خلفناه وراءَ ظهورنا، منذ رضِينا لأنفُسِنا ما رضيه العدوُّ لنا وفرضه عليْنا، وإنَّما فرضه أوَّلا بسوْط الاستِعْمار وبقوَّة الحديد والنَّار، ثُمَّ بالمكْر والدَّهاء وغزْو الفكر والقلب، حتَّى زيَّن لنا أنَّ ما يضرُّنا حقًّا هو الذي ينفعنا بعيْنِه، وأنَّ الذي ينفع عدوَّنا وحدَه هو ما يفيدنا.

    يُقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حتَّى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالحَسَنِ


    وما يفعل هذا الذي فعلنا إلا عدوُّ نفسِه الغافلُ عن مصلحته، وأمَّا إذا تطلَّعْنا إلى استمرار هذا العيْب فينا ومضائِنا فيما يضرُّنا ولا ينفَعُنا، وتأتي الأجيال بعدها الأجيال والغفلة شاملة والمرَض سارٍ سرَيان السُّلِّ في الرِّئتين والسرطان في الأعضاء.

    أقولُ: إذا تطلَّعْنا إلى هذا المستقبل الكريه البَغيض الخطر فالمصيبة أدْهى وأمرُّ.

    2 - ولستُ هنا بسبيل الدِّفاع عن العربيَّة وردِّ الحُجج الواهية التي يتذرَّع بها الجاهلون لفضْلِها، الجاحدون لنِعْمة الله بِها عليْنا، والكسالى الذين يردِّدون لطلاَّبهم ما تعلَّموه باللغة التي تعلَّموا بها، والذين يكتُبون لقرَّائهم باللُّغة التي تعلَّموها في مكانٍ من العالم، في إنجلترا أو أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو روسيا، غير عابئين بالمصلحة العامَّة إيثارًا للرَّاحة والسَّلامة.

    نعم، لستُ هُنا بالمُدافِع عن العربيَّة، ولا بالمُناقِش النَّاقض لتلك الحجج الداحضة والشبه الواهية، فلهذا مجال غير هذا المجال، وله رجال من أهل الإنصاف والتخصُّص من أهل العربية وعلمائِها بل من غيرهم أيضًا من الأجانب، ويكفي أن أذكِّر قارئي العزيز بالنقط المضيئة الموجزة التالية:

    أ - أنَّ اليابان واجهت منذ مطلع نَهضتها وتطلعها إلى ما عند الغرْب مما هي فقيرة فيه من العلوم والمعارف مثل الذي واجهنا، وكان بدء التطلُّع لديْنا ولديْهم متقاربًا زمنًا، أمَّا هم فمضَوا وهم الآن في عالم العلوم الكونيَّة والتجريبيَّة والفنون التطبيقيَّة والتقنية ما هم، ونَحن نكاد نكون في أرضنا نراوح.

    واليابانيُّون ما ألَّفوا بلغات أهْل تلك الشعوب التي عندها تلك العلوم التي كان اليابانيون فقراء فيها، ولا فرضوا على طلاَّبهم تلك اللغات.

    أرأيتُم ما مصير النهْضة اليابانية، لو أنَّ كلَّ ياباني إذا تعلَّم شيئًا ونبغ فيه اختار لغةً غير لغة قومه فألَّف بها في ذلك العلم؟

    ولعلَّ قضيَّة اللغة العبرية التي دفنت ألفي عام - وما ألْفَا عام بالقليل - ثم اجتمع عليْها علماء اليهود من سكَّان المعمورة فأحيَوْها وكانت ميتة، وشدُّوا أوصالَها المقطَّعة ونفخوا فيها وهي رميم، وأصبحت لغة العِلْم والتَّعليم من صفوف الحضانة ورياض الأطْفال إلى أعلى مستوى في عُلُوم الذَّرَّة وعلوم الحاسب الآلي، وعلوم الفضاء وعلوم القضاء على الأمم التي تغطُّ في نومها مثلنا.

    هذا، وهؤلاء اليهود الذين اجتمعوا من أقْطار الأرض ما كانوا يعرفون من هذه العبريَّة حرفًا، والعالم النَّاشئ في روسيا ما كان يعرِف إلا الرُّوسيَّة يُحاضر بِها، ويتحدَّث بِها وبها يكتُب، والنَّاشئ في ألمانيا يعرف الألمانيَّة لا غيرها، وبِها يُحاضر وبها يدوِّن اكتشافاتِه، وكذلك مَن كان في فرنسا أو إنْجلترا أو أمريكا.

    فهؤلاء أحيَوْا لغةً ماتت ألْفَي عام ثم تعلَّموها ولم يكونوا يعرفونها، وما كانت لغة علم ولا معرفة وهم بها الآن يعلمون ويؤلفون.

    ونَحن أصحاب اللغة الموغلة في القدم والبقاء، والتي لا يدري ذوو العلم والاختِصاص بداية لنشأتها، اللغة التي لم ينقطِعْ بها التَّأليف ولا أهملت في الاستِعمال لحظة منذ مئات السنين، يتَّهم هذه اللغة من يتَّهِمها بالقصور، ونحن - أصحابها - ساكتون وجاهلون بل "حياديُّون" بل موافقون ومؤازِرون للعدوِّ عليْها، سبحانك هذا بُهتان عظيم.

    ج - ثُمَّ إنَّه من الحقِّ أن نقول: كما أنَّ اتِّخاذ لغةٍ أجنبيَّة ليس حلاًّ للمُشْكِلة - العِلْميَّة الحضاريَّة - التي تُواجهُنا، فكذلك الاكتِفاء بما يُكْتَب في لغتنا ليس وحْدَه حلاًّ لها.

    وفي هذا العصر الذي تنفجر فيه المعرفة في شتَّى أقطار الأرْض لم يعد أهْلُ أي لُغة - مهْما بلغوا من العلم - يستغْنون عن التَّرجمة، فالتَّأليف والتَّرجمة معا هُما الواسِطتان المتآزِرتان للوفاء بالحاجات العلميَّة، وكل هذه الشعوب السَّابقة في ميدان العلوم التجريبيَّة والتقنيَّة وغيرها، لا مَعْدى لها عن الاستعانة بالترجمة.

    وأجهزة التَّرجمة الإلكترونيَّة تقوم الآن بعملها في كل قطر من أقطار تلك الشعوب السابقة التي أشرْنا إليها، وها نحن أولاء قد أصبحْنا الآن وجهًا لوجه أمام الحلِّ الذي يؤازر التأليف، وأمام الاقتِراح الذي ينتهي إليه الرأْي وهو قيام مؤسَّسة للتَّرجَمة على أعلى مستوى من المتخصِّصين الأكْفاء الغيورين، يَجتمع فيها ذوو البصر باللغة العربيَّة واللغات الأخرى مع أصحاب التخصُّص في كل فرع من فروع المعرفة الإنسانيَّة، يُتَرْجِمون أمَّهات الكتب في شتَّى العلوم ويتَرْجِمون أيضًا ما يجدُّ كلَّ يوم في ميدان المعرفة.

    أمَّا هذه الحالة المزْرية من الكسل في التأليف بالعربيَّة، والعدول عن التَّدريس بها والقعود عن التَّرجمة والاستغناء عن كل عمل جدِّي في هذا المجال باتِّهام لغتنا العربيَّة بالقُصور والجمود، فما أبعدها عن الحقِّ والصَّواب، وما أبعدها عن الخيْر والمصلحة لأجيالِنا وأمَّتِنا، وما أخطرها على مستقبلنا!

    د - وبعد فمِن نافلة القول أن نَختم هذه الصيحة بقولنا: إنَّ لغتنا أغنى لغات الدنيا بالمفردات وأكثَرُها طواعيةً لحركات الفِكْر وهمسات القلْب، تعبيرًا عنهما بدقَّة لا مطمعَ بعدها.

    وفيها من الصيغ والتَّراكيب ومن ألوان الاشتِقاق وفنون التَّصريف ما يسدُّ كلَّ حاجةٍ من ألْوان البيان في ميْدان العلْم أو الفكْر أو الصناعة، أو الفن أو الشعر أو الإلهام.

    ونسأل اللهَ أن لا يأتِيَ عليْنا جيلٌ آخَر فيقول النَّاصح كما نقول ويصيح كما نَصيح، ثُمَّ يقال للصَّائح الناصح:


    لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا وَلَكِنْ لا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي


    والله أكرم من أن يَمنع رِفْدَه وعوْنه عن السائلين والعاملين، وآخِرُ دعْوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.

    ضحوة يوم السبت 14 جمادي الآخرة 1401 هـ





    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/4461/#ixzz1MRYrrAsH

    http://www.omferas.com/vb/showthread...020#post130020
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2

    رد: ضرورة التأليف بالعربية في العلوم التجريبية والتقنية

    رحم الله هذا العالم الجليل. ولقد سبق لي أن أشرت إلى نفس الكلام من خلال مقال سابق رغم أني لم أقرأ ماكتبه غيري ممن أهم أجل وأقدر. إنه مامن شك في منطقية وأحقية تلك الضرورة التي تحدث عنها هذا الرجل الفذ الذي ودعته الرياض منذ ثلاثة أيام فقط. ولاشك بأن نصيحته أو توجيهه ليس موضع جدل من قبل أي عاقل, فالعلوم أو التقنيات التي باتت العربية أفقر ماتكون إليها أصبحت تنادينا نداء المستغيث لتقول لنا: أين لغتكم مني؟؟
    ألا فليتذكر أولو الألباب
    هشـام الخاني


    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريمه الخاني مشاهدة المشاركة
    ضرورة التأليف بالعربية في العلوم التجريبية والتقنية

    الشيخ عبدالرحمن الباني

    تاريخ الإضافة: 28/12/2008 ميلادي - 29/12/1429 هجري









    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





    هذا كتابٌ باللغة العربية عن تقنية الخرسانة، وأرى من المُناسب أن أُدْلي برأيِي في أمرٍ أجِده في غاية الخطر، وأجد أنَّ الغفلة عنه قد بلغت غايتَها وأورثت نتائِجَ سيِّئة وثَمرات مرَّة، وعاقت نَهضتنا في العلوم الكوْنيَّة والتجريبيَّة وفي الفنون التطبيقيَّة والتقنيَّة على وجْه الخصوص.

    ويتساءل القرَّاء ما هذا الأمر الخطر؟ فأقول: إنَّه إهمال التَّأليف باللُّغة العربيَّة في هذه العلوم والفنون المشار إليها، وإليْكم البيان يا قرَّاءَنا الأعزَّاء.

    1 - إنَّ العِلْم لا يُصبِح ملكا للأمَّة، ولا يتمكَّن في أرْضِها إلا إذا كان بِلُغتِها، وما دام يتداول بلغةٍ غيْر لغة الأمَّة فستبقى الأمَّة معزولةً عن ذلك العلم، ويبقى العلم منفصِلاً عنْها.

    وإنَّ تأليف كتاب في عِلْمٍ من هذه العلوم باللغة الأجنبيَّة هو إثراء لمكتبة تلك اللغة، وعوْن لأهْلِ تلك اللُّغة على ما ألِّف الكتَّاب من أجل تَحقيقه.

    فالتأليف باللغة الفرنسية - من أي مؤلِّف كان وفي أيِّ بلد ظهر - هو قوَّة لهذه اللُّغة وإثراء لمكتبتِها وعوْن لأهْلِ تلك اللغة على تَحقيق مقاصِدِهم في ميْدان ذلك التأليف، وكذلِك القول إذا ظهر كتابٌ ذو قيمة في عِلْم من العلوم أو نوْع من أنْواع المعرفة باللغة الإنجليزيَّة فهو في الحقيقة قوَّة لتلك اللُّغة واستمرار حياةٍ ومدٍّ لَها في البقاء وقوَّة لتلك الأمَّة.

    وقد يقال: إنَّ المعرفة أصبحت مشاعة، وإنَّ الكتاب الذي يؤلَّف باللغة الإنجليزية وقد بلغت ما بلغت من الشيوع والانتِشار هو إثراء للمعرفة بوجه عام، وهو نافع لكلِّ مَن يعرف تلك اللغة أيضًا، وهذا صحيح لا نُنازع فيه.

    ولكن هل ننازع في أنَّ ذلك التأليف بتلك اللغة هو قوَّة لتلك اللغة وعون لأهلها قبل غيرهم؟

    وهل ننازع بأنَّ تلك اللغة التي انصرف النَّاس عن التَّأليف بِها وأُهْمِل استخدامها في تلك العلوم يصيبُها من الضعف والخمول بقدْر ما حصل من ذلك الانصراف والإهمال؟

    وهل ينازع أحدٌ بأنَّ أهل تلك اللغة التي يؤلَّف بِها "محظوظون" بسبب الإقْبال على التأليف بها، وأنَّ أهل اللغة الأخرى التي أُهْمِل التَّأليف بها "محرومون" من رقِيِّ لُغتِهم وثقافتِهم جميعًا؟!

    وكيف يُرْجَى لِهذه الأمَّة النهوض والتقدُّم والرِّفعة والرُّقي إذا ما كان حالها على هذا المنوال؟ أعني أنَّه كلَّما نبغ نابغٌ من أبنائِها كتب بلغةٍ غير لغة أمَّته وقومِه واختار لغة أُخرى ليكتب بها ويؤلِّف، وكلَّما ظهر نوْع من المعرفة افتقد أهل تلك اللغة أن يكون بين أيديهم كتابٌ نافع بِلُغتهم وأصبح عامَّتهم مَحجوبين عن هذه المعرفة، جاهلين بهذا النوع من الكشْف والاختراع!

    وقصارى حالِهم أنَّ أفرادًا منهم ينتفعون به إذا توفَّرت لهم القدرات والإمكانيات، وواتتهم الظروف المحيطة، وتعلَّموا تلك اللغة التي ظهر فيها ذلك التأليف.

    لقد أطلْتُ في هذه النقطة، وهي جديرةٌ بالبحث والتأمُّل وبالتداوُل والتشاوُر، وبالبحث المنهجي والتجريبي، لنخلص من هذا الوضْع الشَّاذ الشَّائن الذي نعيش فيه وقد أسَغْناه وألِفْناه حتَّى لا نكاد نحسُّ بِما فيه من الشُّذوذ والضَّرر، وهو مع ذلك ماضٍ يعمل عمله فينا إضعافًا وتَخذيلاً وتعويقًا للنهوض.

    إنَّ الكتاب الذي يؤلَّف بالعربية هو مِلْك لتلك الشعوب التي تتكلَّم العربيَّة أوَّلا وبالذات، وهو تَمليك المعرفة في ذلك الموضوع لكلِّ واحد من أهل العربيَّة شدا من العلم ما شدا، بَلْهَ من يكونُ قد تخصَّص أو تعمَّق.

    وإنَّ تأليف مَن يعرف العربيَّة من أهلِها كتابًا باللغة الأجنبيَّة هو حجْبٌ لذلك العِلْم عن أهْل العربيَّة، وحرمان للأمَّة من فوائدِه وثَمراته.

    فلننظُرْ إلى هذا التَّاريخ الطَّويل البغيض الذي خلفناه وراءَ ظهورنا، منذ رضِينا لأنفُسِنا ما رضيه العدوُّ لنا وفرضه عليْنا، وإنَّما فرضه أوَّلا بسوْط الاستِعْمار وبقوَّة الحديد والنَّار، ثُمَّ بالمكْر والدَّهاء وغزْو الفكر والقلب، حتَّى زيَّن لنا أنَّ ما يضرُّنا حقًّا هو الذي ينفعنا بعيْنِه، وأنَّ الذي ينفع عدوَّنا وحدَه هو ما يفيدنا.

    يُقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حتَّى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالحَسَنِ



    وما يفعل هذا الذي فعلنا إلا عدوُّ نفسِه الغافلُ عن مصلحته، وأمَّا إذا تطلَّعْنا إلى استمرار هذا العيْب فينا ومضائِنا فيما يضرُّنا ولا ينفَعُنا، وتأتي الأجيال بعدها الأجيال والغفلة شاملة والمرَض سارٍ سرَيان السُّلِّ في الرِّئتين والسرطان في الأعضاء.

    أقولُ: إذا تطلَّعْنا إلى هذا المستقبل الكريه البَغيض الخطر فالمصيبة أدْهى وأمرُّ.

    2 - ولستُ هنا بسبيل الدِّفاع عن العربيَّة وردِّ الحُجج الواهية التي يتذرَّع بها الجاهلون لفضْلِها، الجاحدون لنِعْمة الله بِها عليْنا، والكسالى الذين يردِّدون لطلاَّبهم ما تعلَّموه باللغة التي تعلَّموا بها، والذين يكتُبون لقرَّائهم باللُّغة التي تعلَّموها في مكانٍ من العالم، في إنجلترا أو أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو روسيا، غير عابئين بالمصلحة العامَّة إيثارًا للرَّاحة والسَّلامة.

    نعم، لستُ هُنا بالمُدافِع عن العربيَّة، ولا بالمُناقِش النَّاقض لتلك الحجج الداحضة والشبه الواهية، فلهذا مجال غير هذا المجال، وله رجال من أهل الإنصاف والتخصُّص من أهل العربية وعلمائِها بل من غيرهم أيضًا من الأجانب، ويكفي أن أذكِّر قارئي العزيز بالنقط المضيئة الموجزة التالية:

    أ - أنَّ اليابان واجهت منذ مطلع نَهضتها وتطلعها إلى ما عند الغرْب مما هي فقيرة فيه من العلوم والمعارف مثل الذي واجهنا، وكان بدء التطلُّع لديْنا ولديْهم متقاربًا زمنًا، أمَّا هم فمضَوا وهم الآن في عالم العلوم الكونيَّة والتجريبيَّة والفنون التطبيقيَّة والتقنية ما هم، ونَحن نكاد نكون في أرضنا نراوح.

    واليابانيُّون ما ألَّفوا بلغات أهْل تلك الشعوب التي عندها تلك العلوم التي كان اليابانيون فقراء فيها، ولا فرضوا على طلاَّبهم تلك اللغات.

    أرأيتُم ما مصير النهْضة اليابانية، لو أنَّ كلَّ ياباني إذا تعلَّم شيئًا ونبغ فيه اختار لغةً غير لغة قومه فألَّف بها في ذلك العلم؟

    ولعلَّ قضيَّة اللغة العبرية التي دفنت ألفي عام - وما ألْفَا عام بالقليل - ثم اجتمع عليْها علماء اليهود من سكَّان المعمورة فأحيَوْها وكانت ميتة، وشدُّوا أوصالَها المقطَّعة ونفخوا فيها وهي رميم، وأصبحت لغة العِلْم والتَّعليم من صفوف الحضانة ورياض الأطْفال إلى أعلى مستوى في عُلُوم الذَّرَّة وعلوم الحاسب الآلي، وعلوم الفضاء وعلوم القضاء على الأمم التي تغطُّ في نومها مثلنا.

    هذا، وهؤلاء اليهود الذين اجتمعوا من أقْطار الأرض ما كانوا يعرفون من هذه العبريَّة حرفًا، والعالم النَّاشئ في روسيا ما كان يعرِف إلا الرُّوسيَّة يُحاضر بِها، ويتحدَّث بِها وبها يكتُب، والنَّاشئ في ألمانيا يعرف الألمانيَّة لا غيرها، وبِها يُحاضر وبها يدوِّن اكتشافاتِه، وكذلك مَن كان في فرنسا أو إنْجلترا أو أمريكا.

    فهؤلاء أحيَوْا لغةً ماتت ألْفَي عام ثم تعلَّموها ولم يكونوا يعرفونها، وما كانت لغة علم ولا معرفة وهم بها الآن يعلمون ويؤلفون.

    ونَحن أصحاب اللغة الموغلة في القدم والبقاء، والتي لا يدري ذوو العلم والاختِصاص بداية لنشأتها، اللغة التي لم ينقطِعْ بها التَّأليف ولا أهملت في الاستِعمال لحظة منذ مئات السنين، يتَّهم هذه اللغة من يتَّهِمها بالقصور، ونحن - أصحابها - ساكتون وجاهلون بل "حياديُّون" بل موافقون ومؤازِرون للعدوِّ عليْها، سبحانك هذا بُهتان عظيم.

    ج - ثُمَّ إنَّه من الحقِّ أن نقول: كما أنَّ اتِّخاذ لغةٍ أجنبيَّة ليس حلاًّ للمُشْكِلة - العِلْميَّة الحضاريَّة - التي تُواجهُنا، فكذلك الاكتِفاء بما يُكْتَب في لغتنا ليس وحْدَه حلاًّ لها.

    وفي هذا العصر الذي تنفجر فيه المعرفة في شتَّى أقطار الأرْض لم يعد أهْلُ أي لُغة - مهْما بلغوا من العلم - يستغْنون عن التَّرجمة، فالتَّأليف والتَّرجمة معا هُما الواسِطتان المتآزِرتان للوفاء بالحاجات العلميَّة، وكل هذه الشعوب السَّابقة في ميدان العلوم التجريبيَّة والتقنيَّة وغيرها، لا مَعْدى لها عن الاستعانة بالترجمة.

    وأجهزة التَّرجمة الإلكترونيَّة تقوم الآن بعملها في كل قطر من أقطار تلك الشعوب السابقة التي أشرْنا إليها، وها نحن أولاء قد أصبحْنا الآن وجهًا لوجه أمام الحلِّ الذي يؤازر التأليف، وأمام الاقتِراح الذي ينتهي إليه الرأْي وهو قيام مؤسَّسة للتَّرجَمة على أعلى مستوى من المتخصِّصين الأكْفاء الغيورين، يَجتمع فيها ذوو البصر باللغة العربيَّة واللغات الأخرى مع أصحاب التخصُّص في كل فرع من فروع المعرفة الإنسانيَّة، يُتَرْجِمون أمَّهات الكتب في شتَّى العلوم ويتَرْجِمون أيضًا ما يجدُّ كلَّ يوم في ميدان المعرفة.

    أمَّا هذه الحالة المزْرية من الكسل في التأليف بالعربيَّة، والعدول عن التَّدريس بها والقعود عن التَّرجمة والاستغناء عن كل عمل جدِّي في هذا المجال باتِّهام لغتنا العربيَّة بالقُصور والجمود، فما أبعدها عن الحقِّ والصَّواب، وما أبعدها عن الخيْر والمصلحة لأجيالِنا وأمَّتِنا، وما أخطرها على مستقبلنا!

    د - وبعد فمِن نافلة القول أن نَختم هذه الصيحة بقولنا: إنَّ لغتنا أغنى لغات الدنيا بالمفردات وأكثَرُها طواعيةً لحركات الفِكْر وهمسات القلْب، تعبيرًا عنهما بدقَّة لا مطمعَ بعدها.

    وفيها من الصيغ والتَّراكيب ومن ألوان الاشتِقاق وفنون التَّصريف ما يسدُّ كلَّ حاجةٍ من ألْوان البيان في ميْدان العلْم أو الفكْر أو الصناعة، أو الفن أو الشعر أو الإلهام.

    ونسأل اللهَ أن لا يأتِيَ عليْنا جيلٌ آخَر فيقول النَّاصح كما نقول ويصيح كما نَصيح، ثُمَّ يقال للصَّائح الناصح:



    لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا وَلَكِنْ لا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي






    والله أكرم من أن يَمنع رِفْدَه وعوْنه عن السائلين والعاملين، وآخِرُ دعْوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.

    ضحوة يوم السبت 14 جمادي الآخرة 1401 هـ




    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/4461/#ixzz1MRYrrAsH

    http://www.omferas.com/vb/showthread...020#post130020

المواضيع المتشابهه

  1. عبقرية التأليف العربي
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-11-2014, 08:11 AM
  2. رئيس شركة جوجل يزور مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية
    بواسطة ذيبان في المنتدى فرسان التقني العام.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-15-2010, 12:57 AM
  3. التأليف إلى جانب الترجمة؟
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى foreign languages.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-13-2008, 07:46 AM
  4. الجات ومؤسساتنا التدريبية..البقاء للأفضل!
    بواسطة م/علاء محمود في المنتدى مال وأعمال
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-24-2007, 09:14 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •