لمـاذا يحاسبني الله علـى شيء قد كتبه لـي

السـؤال / تحدثنا في القضاء والقدر، فقـالت لي صديقتي : إذا كان الله قدر
كتـب
لي كل ما سأمرّ به في حياتي قبـل أن يخلقني فكيف يحاسبـني على ذلك ؟

وقالـت: إنه حسب مفهومهـا أن الله سبق في علمـه ما سيفعل الإنسان وإنـما
لم
يكتب عليه ذلـك .

وأنـا في الواقع لا أحاول أن أخـوض في هذا الموضوع لأنـني لا أملك فيه
علما
واسعـاً وأخشى أن أقول في هـذا الموضوع ما ليس لي بِعلـم .

وهـي في الواقع ليست المـرة الأولى التي أتعرض فيهـا لهذا السؤال وأجد
حـرجاً
في الردّ و لا أجد ما أقـول، فأرجو سيدي الكريـم إعطائي جوابا مبسطا
وكافيا
لهذا السـؤال .

وهـو سؤال يسعى المشككون فـي ديننا إلى طرحه ما تسنّـت لهم الفرصة
للتـشكيك في
عقيدتنا والعيـاذ بالله، وأنا أعرف أن هذا السؤال قديـم فقد طرح حتى على
الأئمة
أصحاب المذاهـب.

أرجـو أن تفيدني، وجزاك الله خيـرا.



الجـواب: وجزاك الله خيراً، قال الإمـام الطحاوي : وأصل القدر سرّ الله
تعالى
في خلقـه، لم يَطّلع على ذلك ملك مقـرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظـر في
ذلك
ذريعة الخـذلان، وسُلّم الحرمان، ودرجة الطغيـان.

فـالحذر كل الحذر من ذلـك نظراً وفكراً ووسوسـة، فإن الله تعالى طَـوى علم
القدر عن أنامه، ونـهاهم عن مرامه. اهـ .

وقـال ابن عبد البرّ رحمـه الله: وقال العلماء والحكماء قديـما ( القدر
سرّ
الله، لا تنظـروا فيه. فلو شاء الله ألاّ يُعصـى ما عصاه أحد، فالعباد أدق
شأنـا وأحقر من أن يَعصوا الله إلا بـما يريد )

وقـال أيضا ( والقدر سرّ الله، لا يُـدرك بجدال، ولا يشفي منه مَقال،
والحجـاج
مُرتجّة مُغلقة لا يُفتَح شيء منهـا إلا بِكَسْرِ شـيء.

وقـد تواترت الآثار عـن السلف الصالح بالنهي عـن الجدال فيه والاستسلام له
والإيـمان به ) اهـ .

وأمـا أن الله علِم ما سيفعلـه الخلق فهذا صحـيح، ولذلك فإن مراتب القـدر
عند
أهل السنة أربـع :

الأولـى: العِلم ؛ وهـو أن الله علِـم بكل شيء قبل خلق الخلـق .

الثانيـة: الكتابة ؛ وهـي أن الله كتب في اللـوح المحفوظ ما هو كائن إلى
يوم
القيامـة .

الثالثـة: المشيئة ؛ وهي أن الله قـد شاء كل ما هو كائـن، فلا يكون شيء
إلا
بـمشيئته سبحانه وتعالـى .

الرابعـة: الخلـق ؛ وهي أن الله خَلَـق كل شيء، والخلـق مُتأخّر عن العِلم
وعن
الكتابـة .

فمـن علم بـهذه المراتب استبان لـه الحق في مسائل القضاء والقـدر، فلو خلق
الله
الخلق وكتـب عليهم الشقاء ما كـان ظالماً لهم، لأنـهم عبيده وفي مُلكِه
وتحت
تصرّفـه .

فكيـف وهو لم يَكتب الشقـاء على الأشقياء إلا وقـد علِم سبحانه وتعالى ما
سوف
يَعمَلـون .

ثـم أخرجهم إلى دار الابتـلاء، وأقام عليهم الحُجـج والبراهين، وأرسل
إليهـم
الرُّسُل، وأنزل إليهم الكُتُـب، وأنذرهم، وأعذر إليهـم .

فاللـوم إذاً يَقع على الإنسـان الذي رأى الخير والشرّ ثـم اختار طريق
الشـرّ.
أرأيت لو أن إنساناً قيل لـه: هذا الطريق مَخْوف وخطيـر، وذلك طريق آمِن،
ثـم
اختار لنفسه أن يسلك الطريق الْمَخُوفَـة .

فعلـى من يقع اللوم ؟ هل يقع علـى الذي أخبره بأن الطريق مَخوفَـة ؟ أو
على
الذي سَلَك الطريق المَخُـوف ؟

وكمـا يُقال: بالمثال يتّضِح المقـال: لو أن مُدرِّساً درّس مجموعة من
الطلاّب،
ثـم عرف مستوى الطلاّب، ثـم في آخر السنة كَتَب في ورقة وأخفاها عنـده :

هـؤلاء يرسبون ( وكتب أسماءهـم ) وهؤلاء يَنجحون ( وكَتَب أسماءهـم ) وكان
ذلك
بناء علـى معرفته بـمستوى طلاّبِه .

ثـم جاءت النتيجة كما توقّع المـدرِّس. فهل كتابة المدرِّس هذه لهـا أثر
في
نتائج الطـلاّب ؟ وهل رسوب طالب وإخفـاقه في الامتحان يَقع على المدرِّس،
أو
على الطالب المُهمـل ؟

لا شـك أن العقلاء يتّفقون علـى أن كتابة المدرِّس ليس لهـا أثر على مستوى
الطـلاب ولا على نجاحهم ورسوبـهم .

ولا يقـع عليه لوم في كتابته تلك، وإنـما اللوم يقع علـى الطلاّب الذين
أهملـوا، والذين غَفَلوا عن دراستهـم .

ولله المثل الأعلـى: فالله كَتَب في اللوح المحفـوظ قبل خلق السماوات
والأرض
مـقادير كل شـيء .

وكتـب على الإنسان ما سوف يَعملـه، وهو في بطن أمه، فكُتِـب: رزقه وعمله
وأجله
وشقـي أو سعيد. كما في الصحيحين مـن حديث ابن مسعود رضي الله عنـه .

فهـذه الكتابة مبنية على عِلـم الله السابق، والذي أحـاط علمه بكلّ شيء،
وليست
مُجرّد كتابـة .

ثـم لما خَرَج هذا الإنسان عَـرَف طريق الخير من الشـرّ، وعُرِّف إياه
بالإضافة
إلـى ما فَطَره الله عليـه من معرفة الخير والشـرّ .

ثـم قيل له: هذا طريق الجنـة، وهذا طريق النار، ثـم اختار طريق النـار.
فلا يقع
اللوم على غيره ، وإنـما يقع على من اختـار لنفسه ما يضرّها وما يُهلكهـا
.

وكـل إنسان مأمور بالسعـي في فِكاك رقبته وعتقهـا من النار، ومأمور
بالسـعي
والجدّ والعمل الصالـح .

ولذلـك لما سُئل رسول الله صلـى الله عليه وسلم: فيمَ يعمـل العاملون؟
قـال (
كُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق لـه ) رواه البخاري ومسلـم .

وأفضـل من رأيته كَتَب فـي هذا الباب، وشَفى وكَفَـى: ابن القيم رحمه الله
في
كتـابه النافع الماتع ( شفاء العليـل في مسائل القضاء والقدر والحكمة
والتعلـيل
) والله تعالى أعلـم .

( المصـدر: شبكة مشكـاة الإسلامية )

والله الموفـق