في مجاز « الكذب » الروائي!ليس سجالاً ما يمكن الذهاب إليه في «الكذب» في الإبداع وامتداحه مجازاً، وليس بطبيعة الحال لذاته، وإنما وقوفاً على ذلك السؤال الذي طالما ظل مؤرقاً..«لماذا يكذب الروائيون»؟! قد قيل في الشعر إن أعذب الشعر أكذبه، ويمكن لنا أن نقف طويلاً أمام « جماليات الكذب » في الشعر، لكن السرديات ومنها الرواية ستأخذنا إلى مفارقات كثيفة، لايختزل فيها الكذب بقيمة أخلاقية صرفة، بل كضرورة، إبداعية بتواتر تفسيرها وتأويلها ، إذ ثمة علاقة مركبة ، تحيلنا لتعدد زوايا النظر بصدد العمل الأدبي، حتى تكون لسؤال « لماذا يكذب الروائيون»، حساسية نقدية، تقارب دلالات « الكذب الروائي » كتقنية فنية في المقام الأول.
لقد تبدّى ـ على سبيل التندرـ لروائيين ونقاد أن الأديب الراحل غسان كنفاني كان «يكذب» ليقول الحقيقة، لكن مجاز الكذب سينفتح على الأمكنة والشخصيات ، ومسرح الأحداث، ومعها أصبح من الناجز أن الروائي سيمارس نوعاً من لعبة الإيهام ،التي لاتبدأ ـ مثلاً ـ بذكر اسمه الصريح، إمعاناً في الإيهام ، واستثماراً لتقنية الراوي الكلي القدرةـ الراوي العليم ـ وإن ذكر في عتبات روايته، أن الأسماء وإن تشابهت ، فهي محض خيال، حتى يخيل للقارئ بأن ثمة سيرة ذاتية يتقصد الروائي بثها في متن عمله الأدبي ، معللة بذكر مسقط رأسه وميلاده.. وهكذا ..
ولاتنتهي لعبة الإيهام تلك بمخاتلة المبدع، أي بالاستمرار في هدم الحدود المحتملة بينه وبين القارئ ، وبينه وبين ( بطل) روايته إن صح التعبير، وصولاً إلى ذكر أسماء الأماكن بوضوح، أقرب إلى التسجيل منها دغدغة المتخيل ومناوشته لدى القارئ، لكن ذلك سيكون مجرد تبسيط إن اتكأ على ذلك واكتفى به، وحقيقة الأمر أن الروائي يذهب ليبني واقعاً جديداً بعيداً عن ما يجعل من ـ عمله الأدبي ـ مجرد انعكاس للواقع ، يعاضده بشخصيات متخيلة ولايشبهها سوى رصيدها الواقعي، لتتغذى من واقع افتراضي له مايشبهه وينقضه في آن معاً .
صحيح أن استدعاء الخيال سيمثل نسيجاً للعمارة الروائية، لكن الواقع بوصفه خيالاً إضافياً ، سيحيلنا إلى كيف تتبدى الواقعة الموضوعية كنموذج فني ، ولعل هذه الكيفية هي التي نتأملها لنظفر بجودة الأعمال الإبداعية ذات البنية الفنية المتماسكة ، والكثافة الجمالية العالية ، في ذهابها لمتخيلها الخاص.
وبهذا المعنى ، كانت رواية « أرض السهل » للروائي موسى العلي ، ذهاباً إلى متخيل خاص بني على وقائع صريحة، لم تتخفّف من الواقع بقدر ماسعت لإحيائه ، لاسيما على مستوى أسماء الأماكن والقرى.
كانت «عوليس» جيمس جويس،تشيد مدينة « دبلن » على نحو خاص، فلو أزيلت تلك المدينة، لوجدت في رواية عوليس محفوظة ومخلدة، مع اختلاف السياق كما الموضوع ، فالرواية هي عقد مع القارئ، بمختلف مستوياته، لاتُقصي مغامرة التخوم القصية، لكنها تجددها بأساليب وطرائق معينة وهنا امتيازها لتبقى في الذاكرة جملة سردية شديدة الإيحاء، يتكئ عليها متخيل القارئ، أي يعيد بناءها وفق سياقه اللغوي والثقافي ..
يذهب الروائيون لأمكنتهم ووقائعهم، ويرسمون شخوصهم ، ويبتدعون حيواتها، حتى لو كان ذلك معروفاً في ظاهره لدى متلقيهم، وبذلك يصبح « الكذب» حيلة فنية ، تتطير لمغامرتها المحسوبة في الأعم ّالأغلب ، ويذهب سجال « الواقعية» إلى مساءلة واقعية إضافية، لاتهدم ثوابت القراءة، بقدر ماتعيد بناءها، ألم يخرج كثيرون على الروائي البيروفي ماريو بارجاس يوسا، لاسيما في بعض رواياته، بدعوى « كذبه» بأسماء ومسرح الأحداث ؟!
لعل ذلك «المجاز» سيأخذنا إلى مفارقاته المتواترة بقيمتها المضافة للقارئ والقراءة وللذاكرة الأدبية في لحظتها المعرفية الطليقة..
أحمد علي هلال

المصدر
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1106&a=98269