قراءة في مجموعة "عدنان كنفاني" "على هامش المزامير"
سليم عباسي

مجموعة "على هامش المزامير"، دمشق عام 2001، تقع في ثمانين صفحة تضم سبعين قصة قصيرة جداً. ولعل القاص قد أدرك أن بعضها لم يكثف إلى الحد المطلوب ففضل أن يُدَوِّن على الغلاف "قصص قصيرة". وربما آثر لجمال السرد في بعضها ألا تُحصر في قيود صارمة، أو لينوع فيها فلا تأتي على وتيرة واحدة، فزادت عن الصفحة واعتبرها أقرب إلى القصة القصيرة.‏
استطاع القاص أن يجعلنا نعيش مع الحدث خطوة خطوة، وتشدنا قصصه منذ الافتتاحية المشوقة حتى القفلة الصادمة، وإذا توقفنا عند قصة بعنوان "نعمة عصرية"، نجد فيها أركان القصة القصيرة جداً، من القصصية ووحدة الموضوع، إلى التكثيف والجرأة، بالإضافة إلى القفلة الصادمة، وقدرة على الترميز، واختيار عنوان بعيد عن مفردات النص، يوهم المتلقي بشيء، لتأتي المفارقة على عكس ما توهم: "استوقفني بلهفة.. أخرج من جيبه زجاجة صغيرة وهمس: -توصلت إلى اختراع مدهش.. ثم مدّ الزجاجة حتى كادت تصدم أنفي.. فلم أشم لها رائحة. قال:‏
-ليس لها طعم ولا رائحة لكنها تعمل عمل السحر. قطرة واحدة في كأس ماء ورشفة منه تفي بالمطلوب.. نظرت إليه باستغراب، وقبل أن يرتد طرفي، رشق قطرة من تركيبته السحرية في حلقه، فالتصق لسانه فوق فكه الأسفل...‏
رجوته بسعادة، لو يعطني رشفة..!". ص 14.‏
يعالج القاص "عدنان كنفاني" فكرة الحرية في أماكن عدة، وإذا لجأ إلى الرمز فلا يميل به إلى الإغماض، وفي قصة "أخيراً الحرية" يأتي أيضاً بسخرية ظاهرها الضحك وباطنها النقد والتنبيه، وتقترب السخرية من الجرأة حتى لتكاد تندمج معها اندماجاً:‏
"تقارير وتحقيقات شهود وقرائن، أثبتت أنه استنشق ريح وردة من حديقة السلطان.. أوصلته إلى حكم بالإعدام.. أُحكم الحبل حول عنقه.. سألوه (كالعادة) عن رغبته الأخيرة.. ضحك المحكوم بحبور، معلناً عن سعادته القصوى.. قال:‏
"الآن فقط أستطيع أن أبصق على من أشاء، دون أن تمسّني لحظة رعب واحدة..!"، ص22.
وتبلغ السخرية الأوج حينما يوغل في الحياة الاجتماعية يسلط الضوء على سلبيات مريضة، ينقلها بجرأة، فتغدو السخرية عنده جرأة على الواقع.. كتلك الموظفة التي تسجل الولادات لرتل طويل من المنتظرين. قالت له: "المولود صبي.. ما شاء الله.. ألف مبروك!...‏
-شكراً.. أجابها الرجل وهو يرسم على شفتيه ابتسامة شكر صافية. – قلنا مبروك!.. قالت الموظفة بضيق ونزق. دسَّ الرجل يده في جيبه، وناولها على استحياء ورقة مائة ليرة، تناولت الورقة المالية.. قلبتها بسخرية ثم ألقتها دون اهتمام في الدرج".‏
وقد حيكت الدهشة هنا في أفق من الطرافة المنتزعة من صميم الحياة، ومألوف العبارات، فكُرِّرت كلمات مطروقة في الواقع، تحفر في القلب أثراً عميقاً:‏
"أردفت على مسمع رتل طويل من المنتظرين:‏
-العمى.. صحيح الناس فقدت الحياء.. العمى.. قلنا مبروك، وقلنا ألف مبروك..!". ص 57، وإذا فجرت المفارقة ههنا ضحكاً يخفي الحزن، فالمفارقة في قصة "فن ابتزاز مبتكر" مشحونة بأعمق أشكال الحزن:‏
"داهمتها أزمة قلبية مفاجئة فنقلوها على جناح السرعة إلى قسم العناية المركزة في أقرب مستشفى. خرج الطبيب هاشاً باشاً يطمئن أولادها على صحة والدتهم وأنها تتماثل للشفاء.. ومن اللائق أن تدعم هذه البشارة بوجبة عشاء "محرزة"... فانطلق أحدهم إلى السوق القريب وأحضر من الأطعمة ما لذ وطاب".‏
ويتلاعب القاص هنا بالزمن المتحرك في فترتين يستغله لتقوية عنصر الإدهاش ببراعة: "بعد أقل من ساعتين أبلغوهم بوفاة الوالدة.. لكن أحداً لم يخبرهم أنها ماتت منذ أكثر من ساعتين..".ص59.‏
وما يزال القاص وهو يغوص في أعماق المجتمع، يدهش المتلقي بمفارقات شديدة التأثير، بسرده القصصي الممتع، ففي "سوء فهم":‏
"شقّ بأكتافه طريقاً بين الجماهير المحتشدة.. اجتاز الطوق الأمني المحكم حول جلال الموكب، ثم ألقى
بنفسه أمام سيارة الزعيم، وقد مد يده إلى جيب قميصه البالي..‏
خمسون رصاصة انطلقت على الفور طرّزته قتيلاً على إسفلت الشارع.. فتّشوه على عجل، فكّوا قبضة يده عن ورقة مكتوب فيها:‏
-أعطني فرصة عمل.. لم أتناول طعاماً منذ يومين..!". ص23.‏
ومن خلال المعاناة الفلسطينية في ظل احتلال غاشم، نستشف لدى القاص روح الأدب النضالي المقاوم النابع من القلب، حيث يظهر فن تناول الحدث، واقتناص اللحظة بذكاء لتؤدي ومضة مشبعة بالصدق والإحساس، تنتهي بخاتمة مفتوحة للتخيل والتفكير.. كما في قصة "اكتموا الأنفاس":‏
"غرز أنبوب مسدسه المحشو في فمي.. وألصق فوق وجهي عينين مبحلقتين ككوزين من الصبّار.. صرخ من بين أسنانه: -أقطع لسانك أو أقتلع حنجرتك؟! أغمضت عيني، أتحسس بطيف ظلامها صوت احتكاك الزناد.. قفزت أصابعي وغرزت أظافرها الحادة في عنقه..‏
وقتها.. ربما أطلق النار..!"ص7.‏
ومن أدبه النضالي قصة "لا شيء آخر"، وهي تصف حالة شخص "سكنته روح شريرة، صار يرى كل الألوان حمراء"، وقد عالجوه بشتى العلاجات دون جدوى. حتى توصلوا إلى عرافة عجوز قالت: "أحضروا زيتاً من زيتون عكا، وليمونة من بيارات يافا، تينة ورمانة من بساتين صفد، سنبلة قمح من حقول الجليل، سمكة من بحيرة طبريا، وريقات ريحان من حدائق الرملة..‏
طحنت وعصرت ومزجت الخليط، واستخرجت منه مصلاً حقنته منه في وريده..‏
تعافى.. وعاد سيرته الأولى..". ص 46‏
وفي قصة "إصرار" تجسيد لانتصار الضعيف صاحب الحق على القوي المغتصب، بأسلوب الأنسنة، وهي هنا بين عصفورين:‏
"عصفوران يطيران في فضاء تناسلت فيه العصافير منذ قرون". وتبدأ المشكلة برصاصة من صياد تصيب أحدهما ويسقط فيدعوه رفيقه إلى الهرب.. تتأزم القصة: "الصياد يقترب منهما أكثر فأكثر"، وهو مكسور الجناح لا يستطيع الطيران، وتسطع لحظة الإدهاش حين يهمس العصفور المصاب إلى رفيقه:‏
"ما زلت قادراً على القفز.. ننقضّ عليه في وقت واحد ونقتلع عينيه..".ص15.‏
ويترك الإدهاش عمقاً وأثراً لا يمحى من النفس حين يطل من خلاله "الكاتب الشهيد" في أقسى فترة من حياته بعنوان "الرعب الحقيقي":‏
"يومها بدأ أول حصص تدريسه لمادة الرسم ولم يبلغ بعد السابعة عشرة من عمره..‏
كتب على اللوح بخط عريض: "ارسم صورة مرعبة".‏
أحد التلاميذ رسم دبابة، آخر رسم ضبعاً، وآخر رسم حريقاً.. استعرض رسوماتهم كلها.. ثم شطب عليها..‏
توجه إلى اللوح، رسم دفتراً لوّنه باللون الأحمر، وكتب تحته بخط عريض أيضاً: "دفتر الإعاشة"،‏
يرحم الله غسان كنفاني.."ص45.‏
وكان من المنتظر بعد رسمه للدفتر، أن يبين القاص ما هو الشيء المرعب، غير أنه أتى بمفاجأتين اثنتين هما دفتر الإعاشة واسم المعلم المؤجل للنهاية.‏
ومن أكثر قصصه نجاحاً في الاستهلال المشوِّق والقفلة الموفقة السياق التالي، وقد جعل اسم الفاعلين في "سامعي الصوت" "سامعين" ليناسب الكلام المحكي وليضع المفردة في جوها الطبيعي:‏
"يا ناس... يا عالم.. يا سامعين الصوت.. سقط حمدان في البئر الغربي..‏
فزع أهل القرية.. وتراكضوا للمساعدة..".‏
عل المفارقة الصادمة على النحو التالي:‏
"بعد أن غسّلوه ونظفوه... اكتشفوا أنه ليس حمدان..!". ص 12.‏
لقد نجت القصص من العناوين التي تطفئ الخاتمة كلياً أو جزئياً، أو العناوين المنتقاة من النص دون عناء، واتسمت بالتنويع: "أيها الأخوة –من هو- وتشرق الشمس- إصرار- رد سريع- أنا وظلي...الخ".‏
واستقلت كل قصة في صفحة منفردة دون حشرها مع بعضها بعضاً.‏
واقتصرت على أقل عدد ممكن من الشخصيات والحوارات، ولم تشعَّب الفكرة وتُحمَّل أكثر مما تحتمل، فكان الموضوع مركزاً كما يتطلب هذا اللون الأدبي الجميل، وكانت العبارات رشيقة موحية.‏
وهناك بين الحين والآخر برزت إحالات مثل "عذراً همنجواي، نور على نور، وعاد سيرته الأولى....".‏
غير أن شكل الكتابة على الأسطر خرج عن المألوف فكان أشبه بالكتابة الشعرية لقصيدة التفعيلة، وبخاصة كثرة النقط التي أتخمت الجمل والمفردات:‏
"أوصله إلى حكم بالإعدام..‏
أحكم الحبل حول عنقه..‏
سألوه "كالعادة" عن رغبته الخيرة..". ص 22.‏
وقد خلت المجموعة من الأغلاط اللغوية ماعدا كلمة "طحالباً" ص 12، صرفت وهي ممنوعة من الصرف، وكلمة "لو يعطني رشفة"، ولعلها غلطة مطبعية صحيحها "يعطيني". ومع ذلك، تبقى مجموعة "على هامش المزامير" في عداد الكتب الأدبية المميزة، ومحاولة جادة لتوطيد هذا الفن الأدبي.

منشط ( فائز ع حاجب )
خي فائز
تحياتي الطيبة
أشكرك فقد غابت عني هذه القراءة للأخ سليم عباسي، وها أنت تحييها من جديد
أتمنى بل وأرجو أن نُفاد منها جميعاً فقد شرح وأوضح ونقد وحلّل بقيمة معرفية عالية.
الشكر موصول أيضاً للأخ عباسي.
دمت بود
ع.ك