حرمان عاطفي
بقلم عبد القادر كعبان
-1-
عندما إستيقظت أحسست بأنني كنت تائهة وسط صور دموية.. نزيف حاد.. ممرضات تحوم حولي تحمل حقنا.. أطباء يوشوشون.. أرقد وسط السرير.. شعرت بأن هناك شيئا سيئا يجري من حولي.. كان الشعور الذي أحس به مثل شعوري لو قال لي أحدهم أنك مصابة بداء خبيث.. فتحت زجاج النافذة.. وقفت لأتنشق الهواء الرطب.. بدت شوارع مدينتنا كأم حزينة لألم ابنتها.. عدت لأقف أمام المرآة على غير العادة وجدتني أتأمل وجهي.. باهت لونه.. دفعتني الشهوة لأمرر إصبع أحمر شفاه على شفتيه.. إستعدت تلك الصورة.. الصورة الحلم.. ممرضة تمسك بيدي و هي تحمل تلك الحقنة.. حقنة للتخدير.. حينها تخيلت جموعا من النسوة مخدرات و ممدات على الأسرة بنفس غرفتي.. استوقفتني كلماتها وهي تضغط على يدي بشدة:
- كفى حراكا.. لا تدفعيني إلى منعك من الحركة..
انتهكتني حركتها المباغتة بشدة.. أحسست بوخز الإبرة.. بدأ قلبي يخفق بالخيبة و الهزيمة.. شعرت بالشفقة على روحي وجسدي.. أفقت على أمواج الكآبة تتلاطمني.. أنهيت رحلتي التي كانت أشبه بحلم.. أخذت نفسا عميقا وتوجهت إلى المطبخ لأرى من تظل كل ليلة ساهرة دون أن يغمض لها جفن.. دخلت.. و سارعت هي تقول:
- صباح الخير يا وردتي..
بغير مبالاة جلست على احدى الكراسي.. قهوة ساخنة بالإبريق.. قطع من الحلوة مطلية بالشوكولا السوداء.. فنجانين.. سحبت إحداهما ببرود.. سكبت قهوتي و عدت لأرتشفها على عجلة.. تأملتني مليا ثم ابتسمت قائلة:
- أنصحك أن تأخذي دشا قبل أن تذهبي إلى كلية الحقوق..
قاطعتها:
- لقد تأخرت.. علي الذهاب..
قالت في صوت خافت مرتعش:
- أتملكين نقوذا..
استدرت اليها وقلت:
- لا تهتمي..
كان يخيل الي أحيانا أنها معذبة بسببي.. لطالما كنت أشعر بالخجل من نفسي حين أعاملها بتلك البرودة.. و إذا حدث ولففتها بثوب من العاطفة فإن ذلك لم يكن ليدوم سوى بضعة دقائق.. هممت لأخرج من المطبخ متجاهلة نظراتها المحبة التي تعمل على رفع معنوياتي.. دخلت غرفتي.. نظرت إلى ساعتي.. فكرت في محاضرات اليوم.. مدرجات تسكنها البرودة.. أساتذة و طلبة بين كفتي الميزان.. ميزان يدعي العدالة.. سمعت صوتها و هي تستعجلني:
- الوقت يمضي.. عليك بالإسراع..
هززت كتفي بلا مبالاة.. عدت لإرتداء ملابسي.. استوقفني ذلك الكعب العالي بلونه الأحمر القاتم الذي ألقيته منذ مدة في ركن من أركان الغرفة.. أسرعت و انتعلته.. انتابتني نشوة لذيذة.. عدت لأضع عطري المفضل "رائحة الأنثى".. حملت حقيبة يدي و انصرفت..
-2-
فوضى من الحواس متفتحة على تلك الحياة الصاخبة وسط شوارع تلك المدينة.. مدينة تملأها التناقضات.. أمشي بين وجوه حزينة و أخرى سعيدة.. إستوقفتني تلك المرأة تمسك بإبنتيها التوأم.. خيلي إلي أنني أرى وردة حمراء تحوم بها فراشتين جميلتين.. لكن ما شد إنتباهي هو بكاء إحداهما بينما الأخرى تضحك و هي تمسك بقطعة شكولا.. تأملت حركات و تقاطيع وجه تلك الباكية، تنبهت كم كانت تشبهني عندما كنت صغيرة.. أعطاني هذا الشبه إحساسا بالحرمان، و لا أعرف لماذا دفع بي للغطس ببحر ذاكرتي.. صورة أمي تمسك بقطعة الحلوة و هي توبخني بشدة لأنني إنتزعتها من يدي أختي.. غشيت وجهي سحابة حزن.. نظرت إليها نظرة كلها عاطفة وحنان..
أصوات عالية للباعة المتجولين قطعت شريط ذكرياتي.. وددت لو أصرخ بهم قائلة:
- أخفضوا أصواتكم.. فلا أحد يبالي بكم.. لكن صوتي صدمني بخيانته.. أحسست بعطش شديد و كنت بحاجة لأشرب.. إنتبهت لوجود بيتزيريا قريبة مني.. أسرعت و لكن إستوقفتني تلك اللافتة بيتزيريا " البيت السعيد".. تساءلت بيني و بين نفسي:
- من بات يعرف معنى السعادة اليوم؟
قاطعني أحد العمال قائلا:
- ما طلبك؟
تمتمت:
- طلبي بسيط.. أن يشعر بوجودي الآخرون..
كرر:
- ماذا تطلبين؟
وبصعوبة لفظتها.. تلك الكلمة:
- الماء..
ناولني قارورة و كأسا فارغا.. هممت بفتح القاررة.. فجأة إنزلق من يدي.. كان كأسا من زجاج تناثر على الأرضية دون أن أعرف لذلك سببا.. و فجأة إلتفت إلي الجميع يتمتمون، ثم ساد سكون قطعه صوت العامل وهو يبخني:
- ماذا فعلتي؟
- لا شيء، لا أعلم، كل ما في الأمر أنني..
- ليس ذلك صحيحا..
- كأس من زجاج..
- كسرته..
أحسست بأن وجهي قد إحمر وشعرت كما لو كان قد وجه الي احدهم تهمة، كما شعرت بموجهة من الحرارة و بالدم يغلي في وجنتي.. و قبل أن أعتذر.. تدخلت تلك السيدة و أخذت تحاول السيطرة على أعصاب العامل قائلة:
- ابنتي لم تقصد ذلك..
- لا عليك سيدتي.. لا بأس..
فقلت لها وأنا أغالب دقات قلبي:
- سيدتي.. كيف يمكن..؟
قاطعتني ابتسامتها و هي تقول:
- عليك بالحذر مرة أخرى يا ابنتي، فلكل شيء قيمته..
انتبهت لتلك الكلمة المتكررة (ابنتي)، ثم عدت غارقة بين صور الذاكرة.. توقفت عند تلك اللقطة الحلم.. ممددة على سرير المستشفى ألمم ذاتي المبعثرة في المكان.. لا يمكنني وصف تأثير تلك الحقنة.. حقنة التخدير الرهيبة.. أرهقتني تلك الحالة.. لسيت هناك حالة أصعب من يحرم الإنسان من العاطفة.. فما إن إستيقظت وجدتها قد تركت الحرية لدموعها بالانهمار.. مددة على السرير بجانبي و هي تحمل صورة بين يديها.. ثم أشارت لي بحركة من رأسها كما لو كانت تريد أن تقول شيئا مهما.. رفعت الصورة.. طفلة صغيرة.. تبادلنا النظرات في صمت.. فجأة بدأ الخوف يداخلني و شعرت كأن شيئا لمس جلدي.. قالت وهي تكفكف دموعها:
- لقد حرمتني الحياة منها.. لقد رحلت بعيدا دون رجعة.. أنا أيضا سأرحل، فلا حياة لي من بعدها..
وكانت هذه اللحظة هي التي شعرت فيها بأن شعاعا رقيقا من العواطف كالشعرة قد مزق حياتي و كسرها كآنية زجاجية..
ضحكات ودردشة بعض الشباب أخرجتني من تلك الصفحة.. صفحة من فوضى العواطف.. نظرت إلى الساعة.. تأخرت كثيرا حتى أنني نسيت محاضرة قانون الأسرة..
خرجت من البيتزيريا و كانت الحرارة و الانفعال ينبعثان من جسمي بطريقة جعلتني لا أشعر بقوة الجاذبية و بحركة الكعب العالي الأحمر الذي انتعلته..
-3-
صدمتني أشعة الشمس بالخارج كما لو أنني قضيت سنوات في العتمة.. بدا كل شيء جديدا في عيني.. و قد ابتسمت عندما فكرت في أن خيالي قد خدعني في انطباعاتي الأولى عن العالم بأسره.. "العالم فوضى من الحواس.. أجل فوضى من حواس الناس"، هذا ما كان يردده قلبي قبل عقلي.. لم أشعر بقيمة الحياة يوما كما شعرت بها في تلك اللحظة.. صدمني صوت داخلي يردد منفعلا بدأت أمواجه تثور كبحر قضى سنوات طويلة في الصمت:
- هو الحرمان العاطفي..
أسرعت أوافقه.. لم تكن بي رغبة في أن أستفهم حول أي شيء.. لقد بهرتني تلك العبارة التي بدت كلغز يصعب فهمه (الحرمان العاطفي).. تذكرت وجه أمي الحزين.. احتشدت في رأسي جمهرة من صور الحرمان تلك التي باتت تعيشها.. شعرت بأن يدا قوية تعصر قلبي لتخرج منه تلك العاطفة المخزونة التي حرمتها منها.. فكرت بالعودة إلى البيت الذي بات خاليا من الأمان لمواجهتها..
وصلت وقبل أن أقوم بفتح الباب.. بدأ قلبي يخفق بشدة.. امتدت يدي إلى حقيبتي للبحث عن المفاتيح.. أخرجتها وفتحت.. دخلت و لأول مرة أحسست بأنني أتوق لرؤيتها.. لكن شعرت للحظة بكثير من الخجل من نفسي و كدت أبكي.. وقفت أمام باب غرفتها وكان شبه مفتوح.. سمعت صوتا خفيفا ينبعث من الداخل.. لم يكن من مجال للهروب من المواجهة.. طرقت ودخلت.. تجلس على حافة السرير وسط مجموعة من الصور.. كانت تبكي بحرارة.. أما أنا فقد أحسست أنني شبه منهارة لما رأيته.. شعرت أن الوقت لم يكن مناسبا.. بقينا نحن الإثنتين ننظر إلى بعضنا البعض برهة ثم قامت وعانقتني بقوة و هي تحمل تلك الصورة.. صورة أختي التوأم التي تركتنا و رحلت بعد المعاناة من مرض خبيث بذلك المستشفى.. قبلتني في وجنتي على غير عادتها ثم تركتني و خرجت في عجلة شديدة تائهة وسط تلك الصور..
انتهت..