إحساس
بقلم عبد القادر كعبان –الجزائر-
-1-
أخيرا وصلت الطابق الأخير.. طرقت الباب.. أسمع وقع خطوات تقترب.. وقع إمرأة تنتعل الكعب العالي.. تخيلت كيف يمكن أن تكون.. شقراء طويلة و سوف تبتسم لي لمجرد أن تفتح.. لكن لبرهة.. من وراء الباب سمعت صوتا بنبرة ترجل:
- من يطرق بابي في هذه الساعة؟
تغيرت ملامح وجهي و كأنني في مركز للشرطة كمفتعل لجريمة قتل..
- ساعي البريد.. أحمل لك..
ثم غيرت من لهجتها و قالت:
- ماذا تريد مني؟!
تنهدت قائلا:
- أحمل لك رسالة..
فأجابت مسرعة:
- و كيف أثق بأنك فعلا ساعي البريد؟
- انك لست ذكية يا سيدتي.. أو.. أو آنستي..
صرخت:
- إنك تستفزني يا سيدي.
(عدت أقول لنفسي: هل قلت شيئا مستفزا؟)
- أعتذر منك يا..
أحسست كأنها تبتسم ابتسامة "مارلين مونرو".. تلك الأسطورة.. و هي تقول:
- آنسة لو سمحت..
- بحث عن صندوق البريد ولكن..
- غير موجود نحن نسكن عمارة "الأشباح" يا سيدي..
- أفهمتي لما طرقت بابك..
وبعد مضي لحظة قالت لي:
- حسنا إرمي بالظرف من تحت الباب..
- لا يمكنني..
صاحت في عصبية:
- أعد.. أعد ماقلته..
أدهشني ذلك:
- عليك الإمضاء على ورقة الإستلام فهل سمحت..
وفي تلك اللحظة فتح الباب و قبل أن أسلمها.. إمرأة شقراء في حوالي الأربعين.. و كنت ظننت أنني سأرى أسطورة السينما الأمريكية (نورما جين بيكر) لأنني من صنف الرجال الذين يفضلون الشقراوات.. لكن.. انتابني تغيير مفاجئ أذهلني حين سمعتها تقول:
- آسفة سيدي.. نحن بعمارة "الأشباح"..
استوقفتني تلك الكلمة التي ذكرتها مرتين (الأشباح)، فتمتمت:
- من تقصد بالأشباح يا ترى؟
انتابني شعور بعدم الإطمئنان أمام التغيير الذي لف ملامح وجهها و هي تقول لي:
- تفضل لندخل فأنا أخشى عليك منهم..
ترددت في بداية الأمر .. ساد الموقف كله شيء من القلق.. جو العمارة حار وخانق كما لو كان الهواء الذي فيه راكدا و فاسدا.. و عندما أردت أن أقول أنني على عجلة.. وقع أقدام على السلم.. إلتفت.. كانت بعد النسوة قد ظهرن في المكان و كأنهن أشباح.. شعرت بجلدي يقشعر عندما وقعت عيني على واحدة منهن يلفها ثوب شديد السواد كأنها نمر أسود.. فاستبد بي إحساس رهيب.. دخلت مسرعا و أغلقت الشقراء الباب..
-2-
كان ذلك المسكن يلفه صمت رهيب.. دخلنا الصالون.. جلست بأحدى الكراسي.. كانت هناك طاولة كبيرة تتوسطها مزهرية فارغة مهملة.. لوحات لشخصيات عالمية معلقة على الجدران.. مكتبة صغيرة تزينها روايات وكتب قديمة.. ظهرت في مواجهتي غرفة الطعام و لها شرفة مفتوحة للشمس..
أدارت الشقراء رأسها و فاجأتني إبتسامتها و كأنها هي.. من كنت أبحث عنها (مارلين مونرو)، و قالت:
- سأحظر لك عصيرا فالجو حار..
- أريد أن..
أسرعت نحو المطبخ دون أن تعرف أنني كنت أشعر بالجوع من كثرة الدوران بين العمارات لتأدية عملي.. عدت أتأمل تلك اللوحات العديدة التي تملأ الجدران.. وقفت و اقتربت قليلا من تلك الروايات.. أخذت واحدة.. "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز..
فاجأتني:
- لك عصير البرتقال..
أعدت الرواية وبإرتباك:
- أأ.. أشكرك لكن يجب أن أنصرف لأنه..
- نعم، نعم و لكن بعد شرب العصير..
جلست من جديد.. هممت بشرب العصير متناسيا الرسالة.. نظرت إلي و سألتني:
- أين هي تلك الرسالة؟
- تفضلي.. إمضي من فضلك يا آنسة..
و قبل أن تمضي على ورقة الإستلام:
- كنت أتوقع ذلك..
تمتمت:
- ربما هو أمر مهم للتتوقع حدوثه..
قاطعتها:
- أشكرك.. علي بالإنصراف الآن..
ضحكت وهي تقول:
- كانت مغرورة بشكل جنوني ساذج و لكن أخيرا قررت العودة.. ما رأيك؟
- في ماذا؟!
كان رد الفعل غير متوقع.. ضربت على الطاولة بقبضة اليد.. وهي تقول:
- إنه فعلا حقير.. أجل حقير لقد غدر بها لذلك قررت العودة..
وشعرت بانقباض كالذي يحدث عندما يكون الجو ثقيلا و عاصفا لأنني لم أفهم من تكون هي التي قررت فجأة أن تعود؟!.. و لما عاملها هو باحتقار؟!..
صاحت بعصبية:
- كان عليها قتله..
ارعبتني تلك الكلمة (قتله) فتمتمت بارتعاش:
- قتل.. تقول قتل.. أيمكن أن تفكر الآن بذلك..
نظرت إلى ساعة يدي.. كانت عقاربها توشك أن تقف على تمام الواحدة.. نهضت وقلت:
- حسنا.. فرصة سعيدة..
بابتسامة مرتعشة:
- آسفة.. حقا آسفة..
كانت عيونها تنظر إلي نظرة قلقة و فيها كثير من التوسل و كأنها تقول:
- أرجوك لا تذهب..
حينئذ بدأت تتمتم وهي مرتبكة:
- كيف يمكن؟!.. ستعود إلى هنا.. تريد أن تكون ضحية مثلي.. في عمارة الأشباح..
قاطعتها:
- الوقت يمضي..
- أتريد أن تعلم مضمون الرسالة..
أحسست لحظتها بفضول جعلني أندفع في الإجابة قائلا:
- من قصدت بقولك (كان عليها قتله) ؟!.. متناسيا أنني كنت أود الإنصراف للحظات..
فعلت وجهها نصف إبتسامة و ارتبكت:
- زوج شقيقتي.. التي فضلت الهروب يوما وراء البحار خوفا من عالم مخيف..
- عالم مخيف؟!
و بعد فترة صمت قالت:
- أجل عالم الأشباح..
قلت لها بسرعة:
- عن أي أشباح تتحدثين؟
- لا ترفع صوتك.. فقد يسمعك أحدهم..
شعرت بتوتر شديد و قلت:
- أظن أنها مريضة..
و مكثنا صامتين. ثم اقتربت مني بهدوء وهمست:
- كل من يسكن هذه العمارة مع عائلته ينتهي به الأمر أن يبقى وحيدا حتى يصبح عجوزا ثم يموت..
- و ما دخل ذلك بالأشباح؟!
- ألم تلاحظ تلك النسوة عند دخولك..
- أجل..
- كلهن أرامل..
و لأول مرة أحسست بأنني بعالم آخر.. غير عالمنا..
و انخفض صوتها و هي تقول:
- هذا هو سبب هروب أختي إلى مرسيليا مع إحدى زملائها بالجامعة بحجة متابعة الدراسة و لم تعد.. تزوجته هناك.. لم يستطع تحمل المسؤولية.. فر هاربا و تركها.. هاهي تبعث برسالة تقرر فيها العودة..
ضحكت ضحكة هستيرية:
- العودة إلى عمارة الأشباح..
أسرعت نحو الباب.. فتحته و غادرت.. و قبل وصولي إلى باب العمارة.. خطوات تقترب.. لقد كنت فعلا متعبا بعد ما حدث.. كنت أشعر في تلك اللحظة بحرارة جعلتني أتعرق.. تقترب مني.. تصعد السلم.. صدمتني.. شقراء أيضا.. لكنها صغيرة السن.. عرفت لحظتها أنها هي.. كانت تنظر إلي و هي تبتسم، و كانت تنظر أيضا إلى حقيبتي بنفس الإبتسامة.. لحظتها أحسست برغبة جامحة تدفعني نحو باب العمارة مسرعا لإستنشاق نسمة من الهواء النقي..
انتهت..