البداية والنهاية في ربيع
للشيخ توفيق الصائغ

الثاني عشر من ربيع الأول تاريخ له ما وراءه ، بعيداً عن الحديث عن حكم الاحتفال من عدمه ، بعيداً عن الجدل في : هل المنة حاصلة ٌبمولده صلى الله عليه وسلم أم بمبعثه ؟ بعيداً عن كل شئ ..يظل التاريخُ تاريخاً غير عادي ، والحدث حدثاً غير عادي وإن شئت فقل : الحدثان غير عاديين ..

أجد صعوبة بالغة أن يمرّ هذا التاريخ كغيره من التواريخ التي تمرّ هكذا دون أن تستوقفنا ، دون أن أسطر فيه ترنيمة الحبّ الخالد ، أنشودة الشوق الجامح ، دون أتذكّر فيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأذكِّربه ، وصدق الله : (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) .
إنه تاريخ خروج هذه النسمة المباركة للدنيا ، وبروزها للعالم .. إنه لحظة خروج محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمة الرحم إلى دنيا كلها الظلم والظلمات ، فخرج نورٌ وأي نور ، وعدلٌ وأي عدل ، أضاء الدنيا وملأ الكون عدلاً ورحمة
وُلِـد الُهدى ، فالكائنات ضياء ** وفــــــم الزمان تَبَسُّمٌ وثناءُ
الروح والملأ الملائـك حـوله ** للـــديــــــن والدنيا به بُشـراء
يومٌ يتيه على الزمان صبـاحُه ** ومســاؤه بمحمــد وضـــــــاءُ

خرجت من رحم آمنة نفسٌ لم تتكرر في الدنيا ولن ، نارٌ على الكافرين ونور للمؤمنين ، خرجت يا لهف نفسي ، ولا أدري كيف استقبلت الدنيا كل الدنيا هذا القادم ؟!
ما هو تعبير البحر لو قُدّر له أن يعبر ، الصحراء ، الجبال ، النجوم الشجر الدواب ، ما عساه تقول لو أمكنها ؟!!
تجلى مولد الهادي وعمت ** بشائره البوادي والقصابا
وأسدت للبرية بنت وهب ** يداً بيضاء طوقت الرقابا
لقد وضعته وهّاجا منيراً ** كما تلد السماوات الشهابا
فقام على سماء البيت نوراً ** يضيء جبال مكة والنقابا
وضاعت يثرب الفيحاء مسكاً ** وفاح القاع أرجاءً وطابا

كانت ولادته بشارة خير لأهل الأرض ، وإذناً من الله بأفول الظلم والجور
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار ** وحيا و أفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوّة طافت كالشذى سحرا ** وأعلنت في الربى ميلاد أنوار
و شقّت الصمت و الأنسام تحملها ** تحت السكينه من دار إلى دار
و هدهدت " مكّة " الوسنى أناملها ** وهزّت الفجر إيذانا بإسفار
فأقبل الفجر من خلف التلال و في ** عينيه أسرار عشاق و سمار
كأنّ فيض السنى في كلّ رابية ** موج و في كلّ سفح جدول جاري
تدافع الفجر في الدنيا يزفّ إلى ** تاريخها فجر أجيال و أدهار

ما الذي أستطيع أن أزيد ؟!!
لا مزيد .
فقط أستطيع أن أقول : اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ..
وتمضي قافلة التاريخ سريعاً شأن الأيام الحلوة في دنيانا ، تمضي أيام الربيع ، ربيع الدنيا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يعطّر وجه الأرض قولاً وفعلاً ، وتزدهي به الأرض وتضطرب فرحاً وزهواً وهو يمشي عليها فتباهي الجبال فخراً .. إلى أن يأذن الله ، فيرجع التاريخ ذاته ، الثاني عشر من ربيع الأول مرة أخرى ليتوارى عن دنياناً جسداً محمد صلى الله عليه وسلم ، ينام الناس ثم يصبحون فلا يجدون السراج المنير ، أي فاجعة قطّ في الدنيا كانت أشد من هذه ؟!!
يعود مسافرهم ، ييمم وجهه شطر المسجد فلا يجد الإمام .. أي خيبة أمل وحسرة قطّ كانت أشد من هذه ؟!!
بطيبة رسم للرسول ومعهد ** منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تمّحي الآيات من دار حرمة ** بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آثار وباقي معالم ** وربع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ** من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها ** أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده ** وقبرا بها واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت ** عيون ومثلاها من الجفن تسعد
يذكرن آلاء الرسول وما أرى ** لها محصيا نفسي فنفسي تبلد
مفجعة قد شفها فقد أحمد ** فظلت لآلاء الرسول تعدد
وما بلغت من كل أمر عشيره ** ولكن لنفسي بعد ما قد توجد
أطالت وقوفا تذرف العين جهدها ** على طلل الذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ** بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا ** عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيد وأعين ** عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ** عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ** وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السماوات يومه ** ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك **رزية يوم مات فيه محمد

يا لله ، التاريخ هو التاريخ ، والحدث غير الحدث ، ويبقى كلا التاريخين من أيام الله ( وذكّرهم بأيام الله )
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد