قصص طالب عمران..
بين الخيال العلمي و الفانتازيا العلميةلابد من الإشارة قبل الخوض في موضوعنا حول مفهوم أدب الخيال العلمي وشروطه، إلى أن مصطلح (الخيال العلمي) (science fiction) وفد إلينا مترافقا مع هذا النوع من القص الأدبي الذي نتج في أوروبا بتأثير التطور التكنولوجي.
ومن الجدير بالذكر أنه لم ترسم بدقة ضوابط قصص الخيال العلمي لتباين الآراء في هذا النوع القصصي الجديد، فعلى سبيل المثال يقول (نهاد الشريف) وهو من أبرز من كتب في هذا المجال في الوطن العربي: (الأدب الذي يتناول الأفكار والتصورات العلمية الحاضرة والمستقبلية). بينما وسع حدوده آخرون أمثال (فالنتينا إيفاشيفا) التي ترى أنه: (صـورة من الأدب الإمتاعي بغض النظر عن درجة المعرفة العلمية التي قد يكون الخيال العلمي قائماً عليها). وحول التعريف الأخير نشأت عدة آراء، حيث يرى بعض المختصين أن الأدب الذي لا يلتزم بالقوانين العلمية يندرج في خانة الرومانسية العلمية (science romanticism) أو بما يعرف بالفانتازيا العلمية (science fantasy) ومنهم من فضل اصطلاح (الخيال العلمي اللين) (soft science fiction) أخذاً بعين الاعتبار المرونة في طرح المواضيع، والتحرر من صرامة النظريات العلمية التي تحد من خيال الكاتب، أي بما يوازي اصطلاح (الأدب العلمي الصعب) (hard science fiction) حيث الالتزام بدقة النظريات العلمية.
بين الخيال والعلم
بعد قراءة المجموعة القصصية (ملامح من الفوضى القادمة) نكتشف أن مفهوم قصة الخيال العلمي لدى الدكتور (طالب عمران) ليست محددة بالعناصر والسمات التي تستند إلى قوانين العلم ونظرياته، سواء المكتشف منها أو المفترض اكتشافها لاحقاً، حيث نجد أن الدكتور (طالب عمران) يصنف القصص التي تتناول ظواهر غريبة غير مفهومة ولا تفسير لها، تندرج بدورها أيضاً في قائمة قصص الخيال العلمي، وإن لم تكن تلك الظواهر مبنية على أسس العلم وقوانينه، ودليلنا على ذلك مجموعته القصصية هذه التي أخذناها كنموذج لدراسة الجانب الفانتازي في قصص الخيال العلمي التي يبدو أنها قد تتسع حدودها دون ضوابط صارمة، ولعل هذا من أهم خصائص هذا النوع من القص الذي يطلق خيال الإنسان دون قيود تحدّ من آفاقه الجامحة.
فإذا كانت قصص الخيال العلمي (science fiction story) تنطلق من شروط إمكانية استشراف المستقبل المتطور وما يتحقق به من تقدم تكنولوجي، فإن قصص الفانتازيا العلمية (science fantasy story) لا تخضع لشروط الممكن ولا تراعيه. ولا بد من التنويه أنه ليست ثمة حدود حادة بين النوعين، لاسيما أن الشيء المستحيل في الزمن الماضي قد يغدو واقعاً متحققاً في المستقبل.

أمثلة وتطبيقات
قصة (سيل من الإشعاعات) تندرج ضمن النمط المتعارف عليه في قصص الخيال العلمي، من حيث مراعاتها للواقعية العلمية. أما بطل هذه القصة فهو العالم العربي زيد الذي يكتشف أن نسبة الإشعاعات في المختبر الذي يعمل فيه تزيد عن نسبة الإشعاعات المسموح بها في المنشآت العلمية، فيصرح لزملائه الباحثين بالأمر، ولكن القرار يكون بيد قوى عليا لا تعير للحياة الإنسانية أي قيمة، لهذا يتم ابعاد المصابين عن المختبر واستقدام مجموعة من الباحثين الشباب الجدد من بعض الدول الفقيرة للعمل في هذا المختبر الكائن في أحد الدول الصناعية. وبرغم جهامة قصص المجموعة وقسوتها، فإنها لا تخلو من علاقة حب تتحدى بصدقها طغيان الحياة الاستهلاكية، ففي هذه القصة يتحدى زيد الظروف الظالمة، ويتزوج من زميلته التي تعمل في المختبر ذاته، والمصابة أيضاً بالإشعاعات السامة، ليعيشا معاً حباً صادقاً نقياً برغم الآلام الجسدية والنفسية، قبل أن يسلّما الروح.
أما قصة (ملامح من الفوضى القادمة) فلم تلتزم كسابقتها بشروط الأحداث العلمية الممكن تحققها على أرض الواقع، فأحداثها تدور عن بطلين انتقلا إلى الزمن القادم، وعاشا أحداثاً ستقع لاحقاً بعد مدة من الزمن، ثم عادا إلى زمنهما عن طريق المصادفة الطبيعية البحتة أيضاً، ودون أن يتعمدا ذلك في كلتا الحالتين. ومن الجدير بالذكر أن موضوع السفر عبر الزمن من المواضيع التي عالجتها قصص الخيال العلمي من زوايا عدة. ولكن لابد من الإشارة إلى أن القصص التي تدور حول السفر عبر الزمن، سواء السفر خلفاً لمعايشة أحداث وقعت سابقاً، أو السفر إلى المستقبل لرؤية ما سوف يقع لاحقاً، ثم العودة في كلتا الحالتين إلى الزمن الراهن الذي لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، لا تندرج ضمن قائمة قصص الخيال العلمي، بل في دائرة قصص الفانتازيا العلمية. وهنا لا تغيب عن ذهني الرواية الشهيرة (آلة الزمن) للكاتب المعروف (هربرت جورج ويلز) الذي برر الانتقال عبر الزمن عبر آلة مخصصة لهذه الغاية. مع العلم أن الانتقال عبر الزمن هو افتراض علمي يستند إلى معادلات وقوانين رياضية/ فيزيائية لا غير.
ومن الجدير بالذكر أن قصص المجموعة عامة تصور مستقبلاً متطوراً من الناحية التقنية وحسب، ومتخلف من ناحية العلاقات الإنسانية، فالقصص أغلبها لا تستشرف المستقبل السعيد، حيث نجد أن الزمن القادم هو زمن الضياع والفوضى والوحشة، تنعدم فيه العلاقات الإنسانية، باستثناء القليل من العلاقات التي يحرص عليها بعض الناس الذين مازالوا يؤمنون بانتصار الخير في خاتمة المطاف.
وعلى الرغم من صعوبة الظروف وبشاعتها نعثر في القصص على الحب الذي يتحول إلى أمل واعد في المستقبل، فبالحب وحده يستطيع الإنسان تحمل الصعاب الحياتية، وبرغم ذلك يبدو الحب ضعيفاً لا يستطيع الصمود في وجه الموت الذي يبرز بقوة ضارية في أغلب قصص المجموعة. ففي قصة (إيقاعات الحياة المتناغمة) يختطف الموت خولة وهي في ربيع العمر بعد معاناتها الطويلة مع المرض الذي لم يمنعها من تبادل الحب مع الشاب سعد الذي لديه طاقات فوق بشرية في فهم وتعليم لغة النباتات والأشياء من حوله. وعادة نجد في قصص المجموعة أن هؤلاء الذين يمتلكون طاقات خارقة يظهرون دون مقدمات، وقد يختفون دون مبرر، كسعد في هذه القصة. كما أنه ليس في هذه القصص شرح أو وصف للأسباب التي جعلت هؤلاء الخارقين يمتلكون مثل هذه المواهب والميزات فوق العادية.
وقصة (طواحين الموت) تتحدث أيضاً عن المستقبل الذي تسود فيه الجريمة المنظمة، ويسود فيه الرعب. وضمن هذه الأجواء تظهر مجموعة من الشبان الأثرياء المتنفذين العابثين الذين يدهسون بسياراتهم الفارهة النساء اللواتي يرفضن دعواتهم وتلبية رغباتهم، ومن ضحاياهم زوجة عادل بطل القصة الذي يحاول معرفة الجناة. وتكتشف العصابة مسعاه فتحاول قتله، ولكن عادل ينجو في اللحظات الأخيرة. وتبدو القصة كباقي القصص البوليسية، لولا دخول فارس وابنته غادة للمساعدة وللانتقام من الأشرار، فغادة تحاول اقتناص الشباب بينما والدها فارس يهجم على سيارتهم بعصاه العجيبة الرهيبة، ويفتك بهم بقوته الخارقة الجبارة.
وامتلاك قوة غير طبيعية لبعض الأشخاص يتكرر أيضاً في قصة (تلك القرية اليمنية البعيدة) حيث يسافر مدرس سوري إلى إحدى قرى اليمن النائية ليعمل في إحدى مدارسها، وهناك تظهر له الأشباح التي لم يكن يعتقد بوجودها من قبل، ثم يقوم بطل القصة المغامر برحلة إلى الكهف الذي لا يجرؤ أحد على دخوله، وهناك تنقذه شيماء، وهي فتاة تتمتع بطاقات خارقة وقوى غير بشرية، فيقع في حب هذه الفتاة العجيبة ويتزوج بها، ولكنها تموت بعد الولادة التي أفقدتها قواها السحرية. وتنتهي القصة كالقصة السابقة دون تفسير أسباب امتلاك هذه الطاقات فوق البشرية. ويبدو أن الكاتب لا يعنيه تفسير هذه الظواهر بقدر ما يعنيه تقديمها للقارئ على طبيعتها.
أما بطلة قصة (جنون البحث عن المتعة) فهي تسخّر قواها الخارقة الشريرة لإشباع شهواتها الجامحة، فهي امرأة شبقة لا تكف عن اقتناص الرجال الأشداء لتتمتع بفحولتهم إلى حين، فسرعان ما يفقد الرجال قوتهم بعد معاشرتها ليموتوا وهم مأخوذون بجمالها الفاتك الذي لا يرحم أحداً. ويكاد الدكتور سميح أن يقع بدوره في شراك تلك المرأة، ولكنه يكون أكثر حذراً من سواه، فيأخذ عينة من دمها ليكتشف بأنه ليس طبيعياً كما لدى باقي البشر. ثم تختفي تلك المرأة فجأة دون أن يعرف أحد من أين أتت، ولماذا ذهبت، ولماذا هي امرأة غير طبيعية كباقي النساء. وهذه القصة تتشابه مع القصص السابقة التي يمتلك أبطالها قدرات مذهلة، ولكنها تختلف عنهم في كون هذه القدرات غير الطبيعية شريرة تماماً، بعكس القوى التي امتلكتها بطلة القصة السابقة. مع الإشارة إلى أن نهاية هذه القصة لم تختم الأحداث، حيث أن اختفاء بطلتها قد يعني ظهورها في مكان آخر لتكرر الأحداث ذاتها مع أناس آخرين. كذلك قصة (طواحين الموت) بقيت نهايتها مفتوحة، فلم يتم إلقاء القبض على أعضاء العصابة ومعاقبتهم.

نتيجة وخلاصة
لابد من التأكيد أخيراً، أن الأديب الدكتور (طالب عمران) ابتعد في بعض قصص مجموعته (ملامح من الفوضى القادمة) عن قصص الخيال العلمي (science fiction story) بصيغتها التقليدية، وأنظمتها الضابطة، وصرامتها المعهودة، وقدم مجموعة من القصص الإشكالية التي يمكن تصنيف بعضها في خانة قصص الخيال العلمي لالتزامها بالأحداث المبنية على فرضيات وقوانين علمية لها شروطها الفنية الخاصة، وقصص أخرى يمكن تصنيفها في خانة قصص الفانتازيا العلمية (science fantasy story) لاعتمادها على وقائع وأحداث عجيبة لا تفسير علمياً لطبيعتها.
وفي الختام، أستحضر قولاً للكاتب الأمريكي الأفريقي الأصل (رالف والدو إليسون) الذي نشر عام 1952روايته الأولى (الرجل الخفي) التي تعد من أهم وأشهر كتبه. قال (إليسون): (أدب الخيال الجيد منسوج من الواقع، ومن الصعب الوصول إلى احتمالات حقيقته. فالكثير منها يعتمد على مدى رغبة الفرد في اكتشاف نفسه الحقيقية عبر تعريفها استناداً على خلفيته).

سامر أنور الشمالي
http://www.albaath.news.sy/user/?id=945&a=84480