هذا أبي" قراءة..


--------------------------------------------------------------------------------



كتبت بواسطة معاذ الديري





*
هذا أبي
لم يرتحل يوما
وسوف يظل في ذات المكانْ
هذا أبي
تلكمْ هناكَ عباءة سوداء
مثل الوقتِ بعد رحيلهِ
وبها روائحه الزكيةُ
شيبةٌ عَلِقتْ بها بيضاءُ ..
مثل العمرِ لمّا كانْ.
هذا أبي
وهناك مصحفهُ القديم
وشرشفٌ كم ضمّهُ
كم كان يغفو نائماً في صِبْيةٍ
ويقول: يا أولاد إن نمت اتركوني ههنا
فالنوم بينكمُ انْتعاشٌ لا يُعوّضهُ الزمانْ
أمَضى أبي؟
هل ترحل الأنسامُ ان جاء المطرْ؟
هل يترك العصفور عنوان السفرْ؟
هل تقبل الشمس المغيب بلا قمرْ؟
أمضى ابي فعلا.. مضى؟
أوما تأخرَ .. وانتظرْ؟
وهل الذي قد كانَ, فعلا كانْ؟
لا تسخروا مني ..
وكفوا عن مزاحكم الثقيلْ
هل يرحل البحر اشتياقا للرحيلْ؟
هل تشرق الشمس انتظارا للأصيلْ؟
هل تعلن الدنيا بداية موسم الوجع الطويلْ ؟!
هذا ابي ..
مازال يضحكُ بيننا
وبناتُهُ من حولِهِ كالبدرِ في ليلٍ جميلْ
وأنا اقدم قهوتي ليديه شوقا تائها..
وأقبّل الجرحَ القديمَ
اشمّ فيْ قسماتِها ..
والخاتم الفضي يخنقني
فأجهش بالعويلْ
آه أبي
سأسير في النعش المهيبْ مظفراً
ولسوف ألْتحفُ الفرحْ
ولسوف اقرأ آية الصبر الجميل عليك عند القبرْ
واقبل الارض التي سينام فيها الفجرْ
ولسوف افترش التراب...هنيهةً
لاراه هل يكفيك ؟... ثم أرشه بالعطْرْ.
ولسوف أزهو فيك بين القوم ..
مَنْ يا تُرى كأبي الذي
مِنْ طيبِهِ قد طاب حتى المرْ.
إن يمضِ يا أبتِ الجسدْ,
فلسوف تبقى الروح..
ولسوف يبقى الفخرْ
وأعود كي ألقى أبي
في بيتنا كمُعلّمٍ للصّبرْ.


*مهداة إلى كل ظهرٍ كسره الرحيل.




"بعيدا عن الشعر والشعور" سبق لي وعلقت على هذا النص هنا ولكني علقت بما رأيته عابراً كمعظم من يعلقون دوما بمجاملة وخوفا على مشاعر الشاعر من أن تكون هناك كلمة نقد جارحة في جو موضوع محزن كهذا، ولكن فوجئت بكلمة الدكتور سمير بدءأ "بعيدا عن الشعر والشعور" فكرت كثيرا في مقصده.. ما أعرفه عن ذلك الرجل أنه حكيم ويكفي دلالة لهذا تلك المساحة التي أكتب فيها الآن فهي بفضل فكره ومجهوده بدءاً وإلى الآن .. وانظر أخي في كتاباته ولا أقول كلها ولكن معظمها إنه ظاهرة فهذه ظاهرة موجود عند أعظم شعراء الإنسانية بلا فصل ولا مقاطعة.. المهم أنا راجعت قراءة القصيدة ثانية مستنيرا ببصيرة كلمات الدكتور سمير وها هي المحصلة





الإشارة هنا حسية متخيلة لا شك وبعدا توقعت تفصيلاً على سبيل الإخبار... إقرار وشهادة من الكاتب هنا أن الأب المتوفى لا زالت آثاره موجودة كما هي -ذلك بالربط العام ببقية القصيدة.. خاصة راحل النكوص لعدم التصديق والتشكيك بكل يعد بعيدا عن النمطقية بإطلاق- الإشارة جاءت بـ"ها" التنبيه ولها حقوقها في الإشارة، وأعتقد أن أخي معاذا يعرف هذا،ولكني صدمت بعد ذلك بـ"اللام" في "تلكم" وكذلك بـ"هناك" وهي عند ابن مالك للبعيد؛ فالأب الغائب فعلا قيل معه "ذا" وهي إشارة ذهنية هنا على سبيل التجوز، وكان الأحق أن تكون حروف في "اسم الإشارة" تساعد على تقبل ذلك الأمر، بمعنى أنه لما قيل "ذلكم الله ربكم" فقد كانت الإشارة نفسها نفس التي في المنظومة، ولكن أعان على التجوز من الحسية إلى الذهنية أن اسم الإشارة لم يكن "هذا" وإنما لك" والفرق بينهما شااااااااااااااااااااااااااااااسع.
ولكن الكاتب يأتي فيما بعد ويقول "تلك" وهنا أحاول منقشة هذه الكلمة من زاويتين: الأولى مدى الانزعاج الحاصل والاضطراب بين القرب في "هذا" وبين البعد في "تلك، هناك" برأي ابن مالك. فما أجدني إلا وكأنني صدمني صخرة رماها الكتاب في عيني، فسامحه الله، والزاوية الثانية ذلك الانحراف والتقوس والهاد والنجاد بين "تلك"..... "العباءة" "السوداء" روائحه الزكية..
وفيما يأتي بيان إشارة..
إن التشكيل الفكري في الشعر حين يتغلب على التشكيل الفطري والإيقاع النفسي الطبعي يجعل الشاعر على حافة (السقوط/القمة) وهنا في هذه المنظومة الجميلة أراد الكاتب التي هي أشبه ما يكون بخواطر ونمثورات فكرية -ولا أقصد المنثورات كتابةً ولكن وهي لا تزال بطور الفكرية غي المصوغة- حين أراد الكاتب هنا
أن يشكل ساقته إغراءات التشكيل من حيث المقابلة والتضاد وغيرهما.. ولكن ألم يكن واجباً عليه أن يسأل نفسه قبل الشروع في مثل هذه التشكيلات الواسعة أن يسأ نفسه سؤالا.. أو أسئلة!!
هل كانت كلمة "سوداء" أحق أم كلمة "سمراء"؟
لنقل إن كلمة "سمراء" أخف وقعاً من حدة "الدال" في "سوداء" بما يناسب الحزن وطغيان الصمت والهدوء والرقة في حضرة الذكرى، ففي الكلمة موسيقى الميم والراء ولا يخفيان عن خبير، وكن الكاتب هنا اراد أن يحدد صفة للوقت بعد رحيل اأب (الذي ليس أبيه) وهو وقت "أسود" بالنسبة له -وإن كنت لا أراه يتناسب مع ما جاء في آخر المنظومة من "ولسوف ألتحف الفرح"- المهم- يكون ذلك في حين يأتي فيما بعد ليوضح في جملتيه "وبها روائهحه الزكية، وشيبة علقت ........." مدى تحبب وقرب هذه العباءة "السوداء" إلى نفسه، فما -يا ترى هو المطلوب من القارئ (الغلبان) بالضبط؟ كيف ينظر إلى تلك العباءة السحرية التي تحمل ازدواجية معكوسة واضحة في تشكيل الكلمات.. أهي سوداء بما يحمله جرس الدال وأخطأ الكاتب على مستوى الاختار الانتقاء الذي تحدث عنه شيخنا الجرجاني، إن قلت "سوداء" وليست "سمراء" وحدسي هو المخطئ، فكيف يغضبنا أو يثيرنا بإحساس امتعاض أو ما شابه تلك الحاجيات التي خلف أحبتنا الراحلون ..إننا يا صاحبي نشتم هذه الحاجيات ونتعامل معها بكل رقة وشوق ولهفة الذكرى اللذيذة..
ثم هناك التبيه الواقع إلى أبعد ما يكون تشبيه لم يفكر فيه كاتبه إلا بربع عقله..
مثلما فعل الكاتب كامل الكفراوي ذات يوم في إحدىرواياته حين جعل اسم بطلها "محمد اثناسيوس" موضحا من سياق الرواية أن الجامع بين الاثنين هوالقدرة والمقاومة على درء الظلم وإصلاح العالم، فقد اعتمد الكاتب على مقاومة الأسقف المذكور لسيطرة الكنيسة البيزنطية على الكنائس السكندرية والحبشية ما يقرب من خمس مرات ونسي أن اثناسيوس كان يقول بألوهية المسيح..
ما علينا!!
التشبيه السطحي في منطقة "التلوين" بين العمر وبين الشيبة فمن ناحية يمكن أن نقول فيه ما قلناه في نصفية الرمز عند كامل الكفراوي، ومن ناحية أخرى نجد الجملة ينقصا شيء ما: قد يكون كلمة أو قد يكون حاشية -شأنها شأن جمل كثيرة آتية- يجب على الكاتب أن يضعها تحت القصيدة؛ فإن عدم وجود ذلك الأمر المتمثل فيما أوضحنا سلفا يجعل مثل تلك الجملة ذات معنيين متناقضين فالبياض من إيحاءاته أو نتائجه انشراح النفس ببهجة أو هو معادل للطهر طهر العمر ومتعته ولكن بياض الشيب!! كيف نشأ؟ إنه نتيجة قلة إنزيمات تصنيع صبغ الميلانين مع كبر السن حسب ما سألت وعرفت ومن ثم فالسيب وبياضه علامة للكبر والشيخوخة والهرم والضعف و...........و.........و..........
ولو أخذنا بالطهر فكيف أفهم سقوط لاطهر تساقط الشيب .. بصراحة أخي أنا في مأزق أمام كلماتك؟




ولفت انتباهي كذلك كلمة "روائحه"، فهي جمع، وحتى الآن لا أجد لها تفسيراً محدداً.. أنا أعرف أن الروائح تمزج في قارورة واحدة وتكون حينئذ مدعوة بـ"رائحة" لكن لا أضع من هذه القارورة بعض الرائحة، ومن تلك بعضاً ومن تالك بعضا آخر ، وأقل عدد في الجمع "ثلاثة"، فهل كان المقصود يفعل هذا؟ وإن لم يكن فسوف تنقلب الجملة ذماً وإظهار أمر لا يحسن ذكره كما لا يحسن في أنفي رائحة العرق.
**

ذلك الإقرار بدءاً في "لم يرتحل" وكلمتي "بعد رحيله"..

**
أما في استخدام الفعل "علق" فلا أدري هل أفلح الكاتب في إيراده؟ إن الكاتب يجب أن يكون الآن في حالة من الحزن الرقيق؛ لأنه في محاضرة مع حاجيات المرحوم.. والفعل "علق" أول ما يطرق الذهن بذكره أن يعلق الظبي بالحبالة، ففي الفعل من إيحاء للمقاومة والرفض والانزعاج ما فيه، فهل قصد الكاتب أن يقول إن عباءة الوالد وبرية خشنة، فهي تمسك بتلابيب الشيب الساقط منه!! هل صح اختيار الكاتب لتلك اللفظة من زاوية؟ ومن زاوية أخرى إن الأمر يصل إليّ –إذ لم يذكر الكاتب قصة مرض أو غيره- يصل إلى متناقضا؛ فأنا أعرف والكل معي أن من تفوح الرائحة الزكية من عباءته من غير المعقول أو المنطقي ألا ينظف عباءته يمشطها مما علق بها، وبالذات في عصرنا الحالي بكل متغيراته من ظروف الأناقة عن السابق... بل إنني أجد الرجل المتزوج قبل أن يضع الرائحة يمشط ثوبه الوبري إن كان، فما بالك بالوالد الذي لديه البنات من حوله كما ذكر الكاتب، أما إمكانيات العملية التشبيهية هنا فكانت سلفا محدثا عنها.
"هذا أبي"، وتصدمني في مرة أخرى كلمة "هناك" وهناك لمحة ما وهي المقابلة بين "هذا" بما فيها من تناقضات ذكرناها وبين الحديث عن الأب لضمير الغائب فأيهم أبعد (المصحف – العباءة – الأب) فيشار إليه مصحوبا باللام، وأيهم أقرب فيشار إليه بهاء التنبيه.؟؟

وأنا أحسب أن في حالة الحزن هذه يكون الابن الباكي قاعداً وحوله حاجيات أبيه يمسكها بيديه فلا مكان للإشارة بعيداً مطلقاً.

واسمح لي بالتدخل أكثر في أعماق الكلمات؛ فأنا أحب دوما أكل "الكبدة والقوانص".
- مصحفه القديم - الكلمة معرفة موصوفة بمعرفة.
- شرشف كم ضمه - الكلمة نكرة موصوفة بجملة في حكم النكرة حسب أقوال كثيرين.. المصحف كان خاصاً بالوالد لا شك في فهم الكلمة بهذه الدرجة، ولكن أيكون في تنكير كلمة "ِرشف" ما يوحي بظروف اجتماعية معينة.. لا أريد طرح وجهة نظر قطعية، ولكنه تلميحات..
مما جعلني أتطرق إلى هذه الفكرة استخدام الكاتب نفسها "شرشف" فهي لا توجد في المعاجم التي اطلعت عليها على الأقل، ويبدو أنها كما يقول الدكتور الكبير/ سمير العمري إنها ليست فصيحة، ولكني أستغرب من رد الكاتب على ناقده مبررا ذلك الفعل بأن الكلمة شائعة الاستخدام!!
وكذلك المبرر الآخر هو كلمة "كم ضمه" فالتكثير في "كم" يعني من وجه آخر أنه أحيانا ما ضمه..
وبرغم المشهد الذي أراد الكاتب رسمه هنا في امتلاء روح المرحوم بمحبة الأطفال وحيويته وعيشته عيشتهم إلا أن هناك أمراً ما أحب السؤال عنه أحب السؤال عنه، وهو كيف يمكن لرجل عجوز أن ينام في اجتماع الصبية إلا أن يقضي على لعبهم وحركاتهم الدءوبة المستمرة هنا وهناك أو يقضوا راحة نومه.
وهنا وقعت الفاء التي يجب أن تربط الجواب بالشرط..
"أمضى أبي" سؤال في محله !! ربما!!!

ولكني لا يمكنني قبول ما بعده إطلاقاً في جملة الأسئلة، وأما رد الدكتور سمير فلا أرفض المبدأ الذي عليه وأما إجابة الكاتب عليه بقول: "فهل أخبرتك؟؟" فهو مما لا يجوز بحال فالمفروض، فالمفروض أن الكاتب يأتي بتلك الأمثلة فيما بعد ليقنع القارئ.. أما أن يأتي بدلا من جمل قاطعة مقنعة أراه يأتي بأمثلة تحتاج إلى إقناع بها نفسها قبل أن تتخذ طريقا للإقناع بما قبلها؟؟

فأما الأنسام فإنها إن قصد بها الخلق والناس فما المانع من رحيلهم وهناك وسائل مواصلات حديثة، وإن كان يقصد بها الريح اللينة قبل شدتها فمن الممكن كذلك أن تفعل وتشتد ومن الممكن أن يسكن الهواء شديد جدا ولا مانع كذلك.
وأما العصفور فالاستخدام هنا في مثل سياق تلك المنظومة لا يعين على التفهم الرمزي أبداً وأنا أرى أن كثيراً من العصافير تفعل؟ وأما الشمس فوالله إن استخدمتها كما فسرت للدكتور سمير فهذا أشد التمحل، ولا يمت سياقها هنا إلى أي نوع من الرمزية أو الإسقاطات!!!!!!!!
وأنا مع آخر التعليقات التي قالت بـ"لولا التأخر" فهي أوقع وأعمق دلالة وسحرا وبلاغة ونشكر صاحب هذا التعليق والاقتراح.

وأما الجملة المحشورة في وسط المنظومة "لا تسخروا مني وكفوا عن مزاحكم الثقيل" فوالله أشعرتني أني دخلت دار السينما في محافظة الزقازيق من الساعة "التاسعة" إلى الساعة "السادسة".؛ فلقد تقبلت السؤال الأول "أمضى أبي؟" على سبيل الحزن الشديد وحاجة الشاعر إلى عدم التصديق بينه وبين نفسه، بعد أن قرر بدءاً أن الوالد رحل بالفعل، ولكن سؤاله للساخرين أن يكفوا عن المزاح فهو مكانه البداية لا أن يكون في نهاية الحفلة..
ويقع الكاتب ثانية بين موجات الأسئلة الغريبة اتي تضيف إلى جملة التناقضات السالفة تناقضاً من نوع جديد فأخاف أن يقول لي إن البحر هنا بالمفهوم الفرعوني كما قال "والشمس والقمر رأيتهم ....."

هناك وأشم في قسماتها..
أحسب الهاء عائدة إلى اليدين واليدان مثنى لا جمع ولا مفرد

احمد حسن محمد