رولان بارت و«التحليل النصي»يعتبر رولان بارت نفسه كاتباً قبل كل شيء، فالكتابة عنده كتابة متحررة ومحررة من هيمنة «الماسلف» و«الجاهز» و«الدوغمائي»، فنجده يحلل نصوصاً لذاتها لينجز تطبيقاً للنظرية، وليمارس القراءة الإنتاجية وتفكيك أنساقه المكونة لنسيجه، والكشف عن اشتغاله الدلالي المتواصل، وفي هذا الكتاب الذي يحمل عنوان « التحليل النصي»، والذي ترجمه عبد الكريم الشرقاوي، والصادر عن دار التكوين، نلمس طريقة بارت المتميزة في القراءة والتحليل لنص من الإنجيل، ونص من التوراة، وقصة قصيرة لادغار بو، حيث نرى فيها الكتابة المرنة والمتحررة من هيمنة الخطاب التنظيري كما يقول المترجم، والاستخدام الإبداعي لمنجزات النظريات البنيوية واللسانية والسردية، ومن هنا هذه التحليلات للنصوص، فهي ذات قيمة تاريخية، إذ تؤرخ لمرحلة نشوء النظرية الأدبية الحديثة، وتأسيس مناهج التحليل الحديثة، وقيمة منهجية، لأن قيمة نظرية أو منهج من المناهج هي في قوتها التفسيرية، ونفاذها إلى ظواهر جديدة في النص لم تلاحظ من قبل، وقيمة تعليمية، لأن تحليل النصوص يمثل الأساس في تعليم الأدب في مختلف تخصصاته.
وقد اختار بارت النص الأول من أعمال الرسل، وهو تكملة للإنجيل دوّنها لوقا، ويروي أعمال تلامذة المسيح أثناء تأسيسهم للكنيسة ونشرهم للمسيحية في بداياتها بين اليهود أولاً، ثم بين سائر الأمم ثانياً، والنص يتناول أساساً مشكلة انضمام غير اليهود «غير المختونين» إلى الجماعات المسيحية الأولى.
ولا بدّ من الإشارة إلى الترتيبات العملية الأساسية التي يقوم عليها التحليل النصي عند رولان بارت، بصرف النظر عن قيمته التحليلية ونتائجه المنهجية، فهو يعتمد على تقطيع النص إلى وحدات قرائية متفاوتة الحجوم، ويشرح في كتابه S/Z مبدأ هذه العملية: «إن النص سيقطّع إلى سلسلة من شذرات قصيرة متجاورة، ستسمى وحدات قرائية، وستشمل الوحدة القرائية تارة بضع كلمات، وتارة أخرى بضع جمل، فهي مسألة تتعلق بتسهيل المعالجة، وكذلك تجري ملاحظة الارتباطات المتبادلة فيما بين الوحدات القرائية المختلفة، فيمكن للتحليل أن يتخذ كل الاتجاهات دون اهتمام بخطية النص ولا بالسيرورة الزمنية المنطقية للسرد».
إن تقطيع النص الدال المادي يمكن أن يكون اعتباطياً تماماً، وهذا التقسيم يمنحنا شذرات النص التي سنشتغل عليها، وقد أنجز فيما يخص الإنجيل والكتاب المقدس لأنه مقطّع إلى آيات.
والمبدأ الثاني لتحليل النص عند بارت، هو النسق والإيحاء، ويرى بارت أن النص ليس له معنى وحيد أو معان مترابطة منطقياً وسببياً، تفضي إلى معنى نهائي، والقراءة ليست استهلاكاً للنص، أي تلقياً سلبياً لمعنى موجود سلفاً، وما على القارىء أو «المحلل» إلا أن يتوصل إليه في «عمق» النص إذا اتبع منهجاً تأويلياً، أو خارج النص إذا اتبع منهجاً تحديدياً أو محاكاتياً.. فالنص يتشكل من تضافر وتشابك وانجدال عدد من الأنساق، فالنسق هو مجموع الإحالات والاقتباسات وقواعد «المقروئية» والبناء الرمزي أو «المناخ» الأيديولوجي التي تمنح النص مظهر «الانسجام والاتساق».. إنه منطلق ما سلف قراءته وكتابته ومشاهدته، أي النص المجتمعي والثقافي، وإن مفهوم «التناص» يتسع اتساعاً هائلاً ليشمل «كينونة» النص ذاته.
إذاً لا يبحث المحلل عن بنية النص، «فالبنية لا تتجلى على صعيد نص فردي، بل على مستوى نظري، تجريدي، صوري»، وكما يقول بارت، فهو يبحث عن البنينة، أي تلك الحركة الدائبة التي تكوّن النص وتفتحه على تفاعل مستمر مع النصوص الأخرى ومع الأنساق الثقافية، وحركة النص هذه هي ما يسميه بارت «الدلالية»، فالأنساق هي، كما يبدو من تحليلات بارت، تجسيد لمفهوم عام مفاده أن النص الأدبي يقوم على الإيحاء.
في نص أعمال الرسل «من الآية 1- 3» نجد نسقين موظفين في النص: «وكان في قيصرية رجل اسمه كورنيليوس، ضابط من الفرقة الايطالية في الجيش»، في هذه الجملة أربعة أنساق، فصيغة «وكان» تحيل ثقافياً على نسق نسميه سردياً هذا المحكي الذي يبدأ بـ «وكان»، ويحيل على مفتتحات السرد.
وفي «قيصرية» يوجد نسق مكاني متعلق بالتنظيم الشامل للأمكنة في المحكي، و«توجد وظيفة سردية للأمكنة، ونجد هنا أنموذجاً إبدالياً وتعارضاً ذا دلالة بين قيصرية ويافا، فمن اللازم أن تتطابق المسافة بين المدينتين مع مسافة من الزمن، إنها قضية بنيوية نموذجية كما يقول بارت.
وفي «رجل اسمه كورنيليوس»، نجد هنا نسق أسماء الأعلام، وفي «ضابط من الفرقة الايطالية في الجيش» يوجد هنا النسق التاريخي الذي يستلزم معرفة تاريخية، إنه نسق ثقافي، أما نسق الأفعال فيحيل هذا النسق على تنظيم الأفعال التي يقوم بها الفاعلون الحاضرون أو التي تقع عليهم.
أما المبدأ الثالث فهو التحليل والتحديد: يميز بارت التحليل، أي العمليات الإجرائية التي تهدف إلى تبيان السيرورات الدلالية في النص، و«دلاليته» عن التحديد، أي المحددات الخارجية للنص.
ويؤكد بارت أن التحليل النصي هو الذي يقدم المادة الخام للمناهج النقدية المختلفة التي تسلك سبيلاً واحداً من السبل العديدة التي كشف عنها التحليل النصي، فالمحلل ينتج نصاً جديداً هو النص الواصف عبر عمليات التحليل وترتيباته التي أجراها على النص الأصلي الذي هو موضوع التحليل.
هذا النص الواصف حسب بارت: هو النص الأصلي نفسه، وقد تشظى وانبذرت معانيه، وتفاعلت أنساقه، وتجلت إيحاءاته، وتشكلت صورة حركته الداخلية.

عوض الأحمد
http://www.albaath.news.sy/user/?id=900&a=80910