صحيفة الشروق الجديد المصريه الأحد 29 رجب 1431 – 11 يوليو 2010
طُز – فهمي هويدي
كانت البداية فى أحد مطاعم اسطنبول حين أثار انتباهى أن وعاء الملح كتبت عليه بالأحرف اللاتينية كلمة «طز»، وهو ما استغربت له.
ومن باب الفضول حاولت أن أتحرى العلاقة بين الملح والكلمة، التى أصبحت تجرى على لساننا، مسكونة بمعانى عدم الاكتراث والرداءة وقلة القيمة.

لم أجد لها أثرا فى قوامسينا اللغوية. وحين رجعت إلى كتاب «المحكم فى أصول الكلمات العامية»،
وجدت انها فى الفارسية تكتب دز (بكسر الدال) وتطلق على ما هو قبيح أو ردىء أو سيئ الخلق.
وفى التركية تكتب «طكز» وينطقها العامة طُنز التى تعنى السخرية والهزل.
وفى لسان العرب أن الطنز هو السخرية. وقد عربت الكلمة وحرفت إلى طُز،
وقالوا لى فى تركيا إنهم أطلقوا على الملح كلمة طز للتدليل على تواضع شأنه وقلة قيمته.

سألت أحد أساتذة التاريخ، إذا سلمنا بكل ذلك، فما الذى أوصل الكلمة إلى مصر وأشاعها على ألسنة الناس بنفس المعنى تقريبا؟
رد صاحبنا قائلا إنه فى عهد الدولة العثمانية كان جباة الضرائب يحصلونها من التجار عن كل سلعة يبيعونها، ويستثنون الملح لقلة شأنه واستصغارا لقيمته.
وإذ أدرك التجار ذلك فإنهم لجأوا إلى حيلة بسيطة للتهرب من الضرائب.

إذ اصبحوا يخفون بضاعتهم فى قاع أجولة أو أوعية كبيرة ويضعون فوقها طبقة من الملح، لا تظهر شيئا من السلعة المخفية. وحين كان يمر عليهم جباة الضرائب ويسألونهم عما لديهم فإنهم كانوا يشيرون إلى تلك الأجولة والأوعية قائلين: «فيها طز»، مستخدمين مفردات لغتهم التركية.
ومنذ ذلك الحين ارتبطت الكلمة بالملح عند الأتراك، وسرت على ألسنة المصريين بالمعنى المتداول فى الوقت الراهن.

وانضمت بذلك إلى قائمة المفردات التركية التى شاعت فى لغتنا الدارجة، ومنها: كوبرى ــ شراب ــ شنطة ــ أوضه (حجرة) ــ فستان ــ توكه ــ فرشة ــ قفطان ــ أورنيك ــ بقلاوة ــ بومبار (الأمعاء المحشية وينطقونها منبار) ــ ياميش (الثمر الجاف فى التركية) ـ جلاش ــ ماسورة ــ بويه ــ أويمه (للنقش أو الحفر) ــ طابور ــ شلته ــ حنطور ــ جزمة (حذاء) ــ ماهية (الراتب الشهرى) ــ طاسه ــ بسطرمه (ينطقونها باصدرمة) ــ أورمان بمعنى غابة (حديقة الأورمان) ــ جردل (ينطقونها كردل) ــ طقم ــ ضُلمة (المحشى) ــ برش (حصير) ــ ازان (وعاء كبير لغلى الماء) ــ كبشة (المغرفة) ــ كركون (لمركز الشرطة) ..الخ.

ليست المفردات التركية وحدها التى اخترقت خطابنا المتداول، ولكن هناك قائمة طويلة من المفردات الفارسية أيضا (غير الكلمات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية). وهو اختراق كان متبادلا. ذلك أن المفردات العربية التى دخلت على اللغتين التركية والفارسية لا حصر لها. ويقدر بعض الباحثين ان نسبتها فى هاتين اللغتين تتراوح بين 30 و40٪ من المفردات المستخدمة. ولا غرابة فى ذلك لأن انتشار الإسلام فى تلك البلدان استصحب معه انتشارا للغة القرآن العربية.
يقول مؤلف كتاب المحكم فى أصول الكلمات العامية إن «اللغة التى يتكلمها أهل مصر فى الآونة الحاضرة (الكتاب مطبوع سنة 1939م) هى اللغة العربية محرفة عن أصولها. خارجة عن قيودها وقواعدها، وإن التحريف فى العربية قديم يرجع عهده إلى زمن النبوة.

..لأن اللحن فى اللغة ظهر فى كلام الموالى والمتعربين آنذاك. فقد لحن أحدهم أمام النبى محمد، فقال عليه الصلاة والسلام «ارشدوا أحدكم فقد ضل».
وإذ يذكر المؤلف أنه إذا كانت مخالطة العرب لغيرهم من الأعاجم من الأسباب الخارجية التى أدت إلى تحريف اللغة، فهناك أسباب داخلية أيضا أدت إلى ذلك. وهذه الأسباب ثلاثة هى:
تعدد اللهجات بتعدد القبائل واختلافها ــ وخصائص اللغة وسننها ــ واتساع اللغة.

بقى أن تعلم أن مؤلف ذلك الكتاب النفيس اسمه الدكتور أحمد عيسى بك، الذى وجدت تعريفا له على الغلاف ذكر أنه:
عضو المجمع العلمى المصرى، وعضو بالأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم بباريس ــ وعضو المجمع العلمى العربى بدمشق ــ وعضو بالمجلس الأعلى لدار الكتب الملكية، وعضو اللجنة العليا لمتحف فؤاد الصحى ــ
هل لدينا أحد الآن يملك مثل هذه المؤهلات؟!
..................


--