القدس، مدينة الله
رد على الأستاذ عادل الأسطة
عدنان كنفاني
إنه لشعور صعب عندما نقرأ مقالاً لا يجنح إلى الحياد في تقويمه لنصّ روائي أدبي إبداعي فيه النبض الوطني واستحضار الذاكرة، وهي الحاجة الملحّة في وقت بدأت تتلاشى، أو تتغير فيه ملامح المكان، بل يبحث "مستفزّاً" عن الهنات والسقطات حتى في مسألة الغلط المطبعي مثلاً، وإذا لم يجد، يبتكر تفكيره طرائق للنيل من النصّ ومن الكاتب، أليس هذا سؤال كبير يطرح نفسه ونحن نقرأ ما كتبه الأستاذ عادل الأسطة عن رواية حسن حميد "مدينة الله".؟
حسناً أيها الأديب الناقد الأكاديمي الأستاذ عادل الأسطة، فقد كتبتَ وشرّحت وتساءلت.. وأجبت، وقوّمت وقررت، ثم جئت بما لم يأت به الأولون ولا الآخرون عندما دقَقتَ وتداً اعتبرته معياراً أساساً يرفض، على قاعدة نقد أكاديمي كما قلت، كتابة رواية عن مكان لم نره إلا في خيالاتنا، أو من خلال قراءاتنا، أو حتى من خلال نبضه المتواصل في خلايانا، أو من خلال وسائل الإعلام بحدودها الواسعة والضيّقة أيضاً.
وتراني أعرض عليك رد السؤال بسؤال: وما الضير في ذلك.؟
هل نفتعل حتى في أدبياتنا تلك التقسيمات اللولبية نتحدث عن أحقيّة من يكتب عن هذا المكان أو عن ذاك.؟
وهل يبقى حكراً على من أقام في حيّ ضيّق، لنقل "مخيم مار الياس" مثلاً في بيروت، أن يتفرّد في الكتابة عن ذلك المخيم والحيّ، ومن المحرمات أن أعرّج أنا أو غيري في ملامسة مواجع أهل المخيم.؟
عجباً والله عندما نقولب الأدب والإبداع كي يتأطر في حدود "أنانا" الضيّقة، نستعرض من خلال تعليقاتنا أو نقدنا، عضلاتنا، ـ يا سيدي الأكاديمي وقد وصمتنا بالجهل من زاوية منظورك ـ، أو انطباعياً كما خلق الله، ونضع له حيّزاً جبرياً مقتصراً على من يقيم في المكان ليكتب عنه.!
لقد أتيت في مقالك على نموذجين من الرواية موضوع المقال، وقد أدهشني فعلاً أن هذين المقطعين الرائعين لم يحركوا فيك، يا سيدي الناقد الأكاديمي، مشاعر تفيض عن فقد المكان إلى التلهّف للإمساك به، كأن موضوعة الإبداع في الكتابة مجرد ترف ليس له لزوم، فهل تعتقد يا أستاذنا الكريم أنه كذلك.؟
وأرجو أن لا تحسبني أتكلم عن أو بلسان أو نصرة للأديب حسن حميد، ولكن في المقابل لن أقف متفرجاً أمام سيل من المغالطات الأدبية، والتجريحات التي لم تسعَ إلا إلى تغييب الإبداع من الأفق الفلسطيني بالكامل، وقصره على "أصدقاء" يقيمون، أو كانوا يقيمون في القدس أو في أكناف القدس.
لقد أتيت على ذكر بعضهم، وأنا أحترمهم جداً، هم أيضاً قدّموا للأدب الفلسطيني حزمة تنتمي إلى الإبداع بكل جدارة، وإلى عالم الرواية بتقدير، وإلى القدس بصفة خاصة، ولكن يا أخي الفاضل الأكاديمي الذي تفهم وتعرف ما لا يعرفه ولا يفهمه الأولون ولا الآخرون، هل فلسطين الجغرافية التي تعرف تماما مراميها، مختصرة في القدس فقط.؟
وهل من المحرمات أن أكتب أنا أو غيري عن القدس في حدود رؤانا ومعاييرنا ومفاهيمنا.؟
يا أخي إنه وجع عام، يعاني منه القاصي والداني، الفلسطيني والعربي والمسلم أيضاً في كل مكان، فهل نمضي في التفتيت حتى نطال ثقافتنا التي لم يبق لنا في هذا الزمن الرديء، غيرها مَمسَكاً وقيمة وأصلاً.؟
ومن قال لك يا سيدي أن كل من كتب رواية على المستوى الخاص الفلسطيني، أو العام العالمي، عاش المكان.؟
ولو تماثلنا مع منظورك التحليلي، سؤالك الأول الذي بنيت عليه كل ما جاء في مقالك، فهذا يعني يا أخي الكريم أن الأجيال القادمة، بعد جيلك وجيلي، تلك الأجيال التي ولدت في الشتات بعيدة عن الأمكنة، عن فلسطين المحتلّة، ليست مؤهّلة للكتابة عنها، ويعني فيما يعني أن فلسطين في أدبياتنا يمكن أن تصبح شيئاً من الوهم، فهل يرضيك ذلك وأنت الفلسطيني المخلص الوفيّ.!
نعم لقد استطاع حسن حميد في بعض روايته أن يمسك يدي ويقودني عبر شوارع ومعالم القدس، وقد عشت أنا شخصياً في القدس لعامين متتاليين بين 1954 و 1956 وأعرف حواريها ومعالمها وآثارها التي كانت.! وأتحدث عن يقين وعلم ومعرفة واطلاع وليس من فراغ، وأعرف أن حسن حميد في مشروع كتابته للرواية درس كثيراً، واطّلع كثيراً، وسأل كثيراً حتى استطاع أن يتماهى مع حبيبته وحبيبتنا القدس، فأعملَ في حواريها حِراك روايته، ومن الظلم والإجحاف الحقيقي أن يقول أديب مثلك: "إن رواية "مدينة الله" تفتقد عناصر الكتابة الأصلية" فهل تكرّمت وأفهمتنا كي نستزيد من ماعون علمك، ما هي الكتابة الأصلية.؟
ثم دعني أعرّج على ملاحظة مرتبكة تفضّلت بها في مقالك عندما قلت: "ستغدو الكتابة عن القدس كتابة غزل وعشق، كتابة إنشائية أكثر مما هي كتابة واقعية"، فكيف وأنت ناقد أكاديمي تخلط بين غزل وعشق، وبين إنشائية غير واقعية.؟ وما هي الواقعية غير الإنشائية، أو الغزل العشقي المبرّأ برأيك.؟ وكيف يمكن أن تتفق كل هذه المفردات المتنافرة في نسيج مقالك.؟
لقد أستطاع حسن حميد في روايته "مدينة الله" أن يستنهض الذاكرة، أن يبني ما يحاولون الآن طمسه في القدس، فهل مدينة القدس الآن تشبه القدس التي كنا نعرف قبل نصف قرن مثلاً.؟ ثم نأتي ونقول: يا حسن حميد ممنوع أن تكتب عن القدس لأنك لست فيها.؟
يا أستاذنا الفاضل وأخطأت في تصويرك لرواية حسن حميد "جسر بنات يعقوب"، وقد عاشها ويعرف تفاصيل المكان بالتأكيد أكثر مما تعرّف عنه أنت، فمن أين أتيت بهذا التقويم النقدي الأكاديمي لتقول إنه لا يعرف الأمكنة التي كتب عنها رواياته الثلاث.؟
يقولون يا سيدي، وهذا على ذمّة من قال، إن أديباً كبيراً لم يزر البحر في حياته، لكنه أبدع عندما تحدث عن البحر.
عشرات بل مئات من الروائيين (عربا وغير عرب) لم يتواجدوا في الأمكنة التي كتبوا عنها، لكنهم كتبوا وأبدعوا وبصموا، ولم يأتهم ناقد أكاديمي لينسف بجرّة قلم تعبهم ومقالهم، ربما يا صديقي، وأنت واسع الاطّلاع، تدرك يقيناً إن الكتابة لا يمكن أن تقتصر على من يتواجد في المكان، لسبب بسيط جداً فقد يكون المكان هو الذي يعيش في قلب وصدر وفكر ورؤى الكاتب.
غسان كنفاني لم يعد إلى حيفا، لكنه أبدع في "عائد إلى حيفا"، ولم يعش في خزّان على طريق الكويت، لكنه أبدع في "رجال في الشمس"، ولم يكن رفيق الساعة والصحراء ومريم وزكريا لكنه أبدع في "ما تبقّى لكم"..
لا أريد أن آتيك بما كتب جبرا أو سميرة عزام أو سحر خليفة أو عشرات غيرهم وهم خارج، أو لم يعيشوا في الأمكنة التي كتبوا عنها، وحلّقوا وكانوا علامات باهرة في عوالم الرواية والقصّ.. فما رأيك دام فضلك.؟

ـ ـ ـ