عقيدة الجيتو وسلوكياتها
سوسن البرغوتي

قد يتبنى امرؤ عقيدة ليست سوية سواء أكانت دينية أو سياسية، دون توظيفها للإضرار بشعوب أخرى، إلا أن اليهود في الغرب مارسوها، وأدى تطبيقها إلى استثمار خسائر الانعزالية الاختيارية، لتعود عليهم بفوائد الفكر العقائدي الصهيوني، وبناء كيان خاص بهم.

حسب مصادر عدة، فإن أول جيتو، أقامه اليهود، كان في البندقية عام 1516، وهي كلمة إيطالية مشتقة من يورجيتو، أي الحي الأوربي. بداخله أقاموا طقوسهم الخاصة، وانعزلوا بمحض إرادتهم عن كافة المواطنين في بلادهم، والحاكم الفعلي لهذا الحي، هو الحاخام، واكتظ الحي بكثافة سكانه، الذين تعلموا اللغة اليديشية وتاريخ التعاليم والطقوس الدينية. كما كان تعلم أي لغة من لغات الأغيار، يعد كفراً، يستحق اليهودي عليه حرق عينيه!.
وقد لخص دافيد فرايد، الإطار العام لتلك المدرسة التلمودية، بالتالي: (كان في إمكان الطالب أن يفتي فيما كان من الواجب رجم أم حرق ابنة الحاخام الزانية، ولكنه كان لا يعلم شيئاً عن تاريخ البلد).

بنى اليهود أحياءهم وفق مفاهيم ترجع أصولها إلى الإرث التوراتي المشبع بقصص تخيلية أسطورية – الميثولوجيا-، بتميزهم عن مواطنيهم وبلدانهم التي يعيشون فيها، وأن الأغيار كل من هو خارج هذا الحي، فنشأت ثقافة الانعزالية، وسط أجواء ترى في الغير عدواً لهم، وبالتالي تطورت إلى تأصل روح العدائية ضد "الجوييم"، وهي لها معاني سلبية متعددة، منها جماعات الجراد – الأشرار والأعداء-. فرفضْ الاندماج، انطلق من سلوكيات تلك العقيدة وممارستها، وأدى إلى اختلاق المزيد من قصص، لترسيخ النزعة الانتقامية في ذهنية اليهود، لإشاعة الدمار والقتل ضد الشعوب. فانسلخوا وانفصلوا داخل جدر ثقافية وإسمنتية، تراكمت فيها تعاليم الثأر والانتقام، ضد من انعزلوا عنهم، بمحض إرادتهم!.
وهكذا انتشرت الأحياء الخاصة لهم في الغرب، وفيما بعد تطورت لتصبح المنظمات اليهودية- الصهيونية في العالم وخاصة في أمريكا، وسيطرت على الاقتصاد والإعلام، مما أتاح لهم النفوذ في الأروقة السياسية. وكما ذكر المفكر والأديب الاشتراكي جورج برنارد شو، المدخل إلى التحكم السياسي، المال والقوة، وهذه أحد عوامل سر نجاحهم في السيطرة على عدة مناحٍ، وصولاً لغاياتهم.

الصهيونية وُلدت من رحم اليهودية

هيأت أجواء الجيتو، والتجمعات اليهودية الخاصة، تشكيل اللبنة الأولى للصهيونية، فلم يُعرف في بدايتها أن غير اليهودي انضم لها، ومع الزمن تشكلت منظمات مسيحية تحمل الفكر الصهيوني، وعرب متهودين.
من أحد أهم الأعمدة التي منحت بصمة وهوية خاصة لبروتوكولات "حكماء صهيون"، نصوص اعتمدت على تعزيز وتوظيف رفض الأغيار وثقافة الجيتو، تتمحور حول خطط كيفية سيطرة اليهود على العالم، وربطها بنظرية "السامية"، التي ليست لها أي مرجعية عرقية أو تاريخية موثقة، غير النص التوراتي، بحيث أصبح الارتباط عضوي لا انفصام بينهما.
تطورت تلك المفاهيم والموروثات، للبحث عن إيجاد وطن لليهود منطلقة من ضرورة التجمع تحت يافطة ديانة وليس قومية على أرض أطلقوا عليها "أرض الميعاد والالتقاء"، وسخرتها الحركة الصهيونية لبناء كيان "استيطاني" لا ينتمي أفراده بأي حال إلى تاريخ وهوية الوطن العربي، معتمدة على نظام العسكر و"الجيش الذي لا يُهزم".

المنطق السائد لتلك السلوكيات التي ترعرعت بتربة قاسية جلفة وانفصالية، نُقلت إلى فلسطين بعد احتلالها، فلا عجب من زراعة الفكر (الجيتوي) من خلال الجدار الفاصل، والكنتونات المبعثرة – الأحياء الفلسطينية-، على غرار "المستوطنات" المطورة عن الجيتو نفسه. إلا أن التصدي والرفض الكامل لعزل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، وعن محيطهم العربي والإسلامي، دليل عجز الصهاينة بإخضاع الفلسطينيين، وتقبل هذه السلوكيات العنصرية والمتأصلة بالفكر اليهودي. فثبات الفلسطيني وتمسكه بحقه في أرضه، رافضاً التماهي مع تلك المدرسة الشيطانية، أعاق تطبيق النظرية الصهيونية للتحكم بالشعب والمصير، لاستمرار وضمان وجود (إسرائيل).

نخلص إلى أن القضية الفلسطينية، وأبعاد الصهيونية الثقافية الدينية والاستعمارية، أساس الصراع، فإن القضية ليست احتلال أراضي شعوب "الجوييم"، وحسب، ولكن استعمار العقل واللسان، وتنامي شعور الاضطهاد، ليناضل الشعب ضد عنصرية المحتل، وليس ضد المحتل نفسه، وهذا أخطر ما نواجهه حالياً. فالمستعمر مصيره إلى زوال، لكن زرع بذور هجينة وغريبة، لا تنسجم وتتناغم مع طبيعة الثقافة العربية والاسلامية، يجعل السلوكيات تلقائياً تتوجه إلى التخلص من الجيتو الفكري والثقافي، مع إبقاء الآخر الإسمنتي حاضراً في ذهنية المتقبل له. فالتبادل السكاني وأراضٍ على الأرض الفلسطينية، تنطلق من نفس المعايير السابقة، لذا فإن مقاومة ورفض عقيدة الجيتو وسلوكياتها وتفكيك رموزها، واستئصالها من بلادنا، بمثابة سحق مصدر الشر.



--