بعد أن عانت المدينة من بركة يومين عاصفين بالمطر والبرق والرعد لم استطع التفريق بين لون سيارتي ولون إسفلت الشارع من شدة الأوساخ الترابية وهباب عجلات السيارات الملتصقة على جسم السيارة مما توجب علي إدخالها للمغسلة لإعادة بريق لون دهانها الذي يعكس صورة المار من جانبها .

عند الانعطاف الأخير الموصل لبيتي هدأت مجبرا من سرعة السيارة لاتيح فسحة من الوقت الإضافي لقط يمر متهاديا عبر الشارع من الجهة اليسرى إلى الجهة اليمنى لكني استبطأت خطواته فنبهته بالزامور أن يحث الخطى . فتوقف . لم التفت إلى شكله سابقا وهو يمر عبر الشارع لان هيئته هيئة قط لا يثير فضول أي شخص لاعتياده على رؤية القطاط . لكن توقفه المفاجىء وارساله نظرات التحدي لي وسط الشارع جعلني أوقف السيارة وأمعن النظر في شكله الرشيق الأشعث الأغبر . وجسمه متوسط الطول ويقارب وزنه الخمسة ونصف كيلو غرام , ذو رأس صغير يحمل شاربان باللون الابيض وأذنين كبيرتين وأنف صغير وتدي الشكل. وتأخذ قزحية عينية ألوانا مختلفة فأحدى العينين تتلون باللون الأخضر والأخرى باللون الأزرق فوبره الطويل منتصب كحزم شوكية كأنه متأهب لدخول ساحة الوغى إذ يبدو أنه متوحش نسبيا , وأنه لمن كرم أخلاقي أن انصعت لرغبته في التوقف مع المحافظة على حالة التحفز للانطلاق حالما يسمح لي هذا القط الذكي بالضغط على بدالة البنزين .

أرسل شعاع من عينيه فأصاب شبكة عينيّ التي اهتزت لجرأة هذا القط الذي تحداني بوقوفه كأنه يقول لي :" ما لك والعجلة ؟ ولماذا تزعجني بصوت الزامور ؟ هل شكلي غير النظيف لا يعجب ؟ أم انك تتباهي أن تقود سيارة جيب نظيفة ؟ ألا تعلم أنني أحب النظافة مثلك وأبحث عن لقمة العيش والمكان الدافيء للنوم التي لا تتوفر لكثير من البشر ؟" .

استمر على تسمره لا يحيد قيد أنمله لا إلى الأمام ولا إلى الخلف . التفتُ إلى رصيف الشارع للتأكد من عدم وجود إشارة مشاة للقطاط كما كنت أتوقع لأنني لا أعيش في بريطانيا التي تضع إشارة مرور مشاة للضفادع لتنبيه السائق بتهدئة السرعة وإعطاء الأولوية لنطنطة الضفادع على الطرقات واجتيازها بسلام بحماية القانون . وهو نفسه القانون الذي شرع باقامة اشارات مرور قتل الانسان في العراق !

لماذا يستمر هذا القط الرمادي بالتحديق الاحتجاجي ضدي وهو لم يتخلص من الأوساخ العالقة على وبره ؟ ولا ادري متى يتخلص وبره منها كما تخلصت سيارتي منها ، ؟ هل يأخذ موقف سلبي تجاهي؟ فلم يحصل تعارف سابق بيننا وأنني لم ادهس أي قط من قبيلته ولم أحاول البته ضرب قط باليد أو بالعصا . بل من شدة حبي للقط أنني اعرف أسماءه التي ينادونه بها : الهر ، السنور ، الغيطل، الخيدع، الضَيْوَن، والقَيْعَمُ، الخاز باز، والدم وكنيته أبو خداش وأبو غزوان وابو الهيثم وأبو شماخ والأنثى أم شماخ .

تعرق جبيني وتوجس الخوف داخلي أن يكون هذا القط أحد أحفاد قط فرعوني ،إذ أن المصريون هم أول من روض القطاط ، وانه قد يكون مسكونا بلعنة الفراعنة فينثرها علي فيما لو استفززته فالقط معروف عنه الغدر. ألا يكفينا ما نعانيه من البافالو ( الثور) الأمريكي الذي يهدم بيوتنا على رؤوسنا بطريقة رقمية (متحضره ) والعجل اليهودي الذي سيجعل الشعب الفلسطيني مجموعة بقية مثل بقية الهنود الحمر ويطالبوننا الاعتراف بالآخر لأنه احتلال ارهابي بريء؟ هل نعاني من احساس مستتر بالتفاهة ؟

هل نظرة الاحتجاج تعكس تساؤل لديه بأنني فرح بغسيل سيارتي فمن يغسله هو . أم أنه يعاني من تعاسة الوضع السياسي ألقططي العربي العام وانه يشاركني التذمر بالصمت لأننا نعيش في كون يسع كلانا البائس .

أرى أن أفضل وسيلة دفاعية هي في إتباع عكس بعض الأساليب الإدارية معه وهي أن اختلف معه لكن لا أتجاهله ؟ وهل أجرؤ على تجاهله ؟ لأجرب ! فهو الذي أعاقني عن مرافقة أبنائي إلى المطعم وهم ينتظروني في البيت ويتحسبون ألف حساب عن سبب تأخري . علي الأخذ بعين الاعتبار بان اسلم طريقة لتجنب لعنة الفراعنة القادمة مع هذا القط هي أن أتجاهله حتى أفسد عليه متعة نشر النكد الذي يمارسه ضدي . هل كُتب في صحيفة قدري أنني على موعد مع هذا القط في التو والحال . سحبت من على طبلون السيارة كتاب رواية " العطر " لباتريك زوسكيند لكني لست غرنوي الذي تتركز قوته في حاسة شمه التي تميز آلاف الروائح التي يحتفظ بها في ارشيف ذاكرته . "فرائحة الجسم البشري عادة لدى غرنوي إما أن تكون بلا نكهة أو مقززة . فروائح الاطفال تكون غير محددة لديه وروائح الرجال بولية ممتزجة برائحة التعرق اللاذع والنساء تفوح منهن رائحة السمك الفاسد . لكنه عندما شم رائحة الفتاة التي هي من الثراء والتوازن والسحر فبدت له تراكيب الروائح السابقة التي ابتدعتها مخيلته فجأة خواء جافا . فتوجه نحو الفتاة ببطء مقتربا أكثر فأكثر . تقدم نحوها وتوقف وراءها على مسافة خطوة واحدة . لم تسمعه . تجمدت عندما رأته وهو يمد يديه بهدوء يحيط بهما عنقها" . لا أستطيع شم رائحة هذا المخلوق مثل غرنوي لا لأقتله فالقتل أسهل الحلول بل لأني لا أحمل أي جينات أمريكية استخدمت القنابل النووية أو جينات أوروبية لشن حربين عالميتين أو جينات يهودية تقتل الإنسان بمتعة تناول وجبة الكوشر بل للتعرف على رائحة معاناتة ولا أستطيع أن أخاطبه مثل سيدنا سليمان أو أن أرسل رسالة سلام مثل الممثل أيدي ميرفي الذي يخاطب الحيوانات في فيلمه (Dr.Dolittle) وأنني أتفهم تألمه إذا ما رأيت أي قط على الطريق مدهوس وأمعائه تطل خارج بطنه ومن القطاط ما يكون جلدها ملتصق بإسفلت الشارع وحركة السير لا تتوقف . ولا استطيع شم تعاستة وتشرده كونه لا يقبع ساكنا في غرفته . كيف أرسل له رسالة تعاطف معه بأنني ضد الكلاب الحيوانية ولا أحبها باشكالها الآدمية مع أنني لا أرى أي كلب في هذه المدينة لان الجالية الفلبينية والكورية أخذت على عاتقيهما مهمة القضاء عليها باصطيادها وطهيها.

هل توقف هذا الصديق أمامي على بعد ثلاثة أمتار لأنه قرأ رقم لوحة سيارتي (ع و و) واعتبر ذلك نوع من التحدي له أو الاستهزاء بلغة المياووو . كيف افهمه أن الأمر يعود لدائرة السير في اختيار رقم لوحة السيارة مع أنني احتججت على هذا الرقم وطلبت منهم أن يكون الرقم ( م ي و ) وهي لغة الحيوان الوحيدة التي أحبها . فكان رد الدائرة لي :" كن ذيب ولا تكون قطو" .

وضعت الكتاب أمامي حاجبا عنه رؤية وجهي وبدأت أقرأ أو التظاهر أمامه بالقراءة حتى أشعره بأنني مسالم وان لغة التفاهم بيننا هي الحوار . كنت اسحب الرواية عن وجهي إلى أسفل عيني واخطف نظره متلصصة عليه لكن موقفه لم يتغير فهو واقف بشموخ ولم يشيح نظره عني وكانت نظرته فيها حرارة التفكير والتأمل .

أنا متأكد أن هذا الشهر ليس شهر ابريل ليمارس هذا الصديق الكذب علي كما يمارسه أبناء جلدتي معتقدين أنها كذبه بيضاء . أنني متنبه إلى الكذب والمقالب التي يمكن أن ترسل لي أو أتلقها في هذا الشهر وكأننا نعيش طوال أيام السنة في واحة خضراء من الصدق مما أوصلنا إلى حافة الشعور بالملل من الصدق فنروح عن أنفسنا بممارسة الكذب ليوم واحد لكسر الروتين .

هذا القط لا يكذب فهو واقف أمامي ليثير حفيظتي وشكوكي اللامتناهية . انه متجرد من حمل أي أداة حادة لإلحاق الأذى بي . ربما لو سمع بالحزام الناسف لخشيت أن أكون تجربته الأولى مع أنني أشفق عليه في زمن يتطلب منا الخشونة في الكلمات والأفعال لكن التخاطب الحيواني الأخوي لن يحرمنا من العيش بسلام مشترك لعل الغد يجعلنا نطبأط ( نأكل من طبق واحد) ونتبأط ( الاضطجاع مع الاطمئنان ) معا.

هل يريد هذا القط أن يفهمني أن الأحداث التي نعاني منها لا تجري حسب رغبة أمريكا وحدها وان كانت أمريكا تريد تسخير كل مجريات العالم لصالحها لأنها تفكر أن القوة ستدوم مع أن سنة الحياة قائمة على تدافع المصالح أي أن هناك أطراف أخرى غيرها تساهم في الحدث الحضاري .

منذ أمد طويل لم اسمع صوت مياووو . يبدو أن أمريكا أكلت ألسن القطاط . لأن القطاط التي في حارتنا لا تموء ويبدو أنها في حالة إضراب عن المواء بسبب الأوضاع الساخنة أو يبدو أنها خائفة من إسماع صوتها فيصلها صاروخ توما هوك فيبح صوتها أو يجعلها أشلاء .

لقد ازجى هذا القط بعض الوقت من التواصل معي إلى أن شعر بالراحة نحوي فاسترخت عضلات جسمه فتمطى وتمغط لثوان قليلة فبان جسمه أكبر من حجمه المعتاد فعكس مزاجه الطيب فتحركت قدمه الأمامية اليمنى ذات الخمسة أصابع ولحقتها رجله الخلفية اليمنى ذات الاربعة أصابع مجتازا النصف الآخر من الشارع واطلق صرخة مواء خافته فأولتها على أنها تحية وداع حزين فانزاحت كتل الضغط النفسية عن روحي .

لملمت نفسي وانتظرت ليس انتظار منكوبي الأسهم . وابتسمت مرسلا رسالة شكر لهذا القط على همس التعابير الصامتة التي تحمل في طياتها حركات زلزال التمرد الواعي الذي يسعد ضحاياه بالفوز بها . فان عشقت التمرد وهذا آكد فهو باب التواصل في عالم مسكون بالملل .

شعرت أنني املك أمنيات مشتركة مع هذا الصديق حتى لو لم تتحقق واننا لسنا بعيدين عن الشعور المشترك بأن لدينا مخزون يسع مشاعر التمرد والجنون . هل نطلق صرخة ومواء حتى نثبت تمردنا ؟ أم نعلن عن مشروع التمرد بهذه الأحرف ؟


المصدر
http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=4184