فِلَسطين في الشِّعر الإماراتي

تاريخ النشر: 21/06/2010 - 10:35 ص
د. يوسف حطيني
اهتمّ الشعر في الإمارات العربية المتحدة اهتماماً واضحاً بالقضايا الوطنية والقومية، ورافق التطورات التي طرأت على قضايا الأمة العربية، فتناول وحدة سورية ومصر، والوضع في لبنان، والكويت، وفلسطين، متخّذاً من المواقف ما يمليه عليه ضميره الوطني والقومي. ويمكن أن يلاحظ المرء اهتمام الشعر في هذا القطر العربي بالقضية الفلسطينية خاصة، منذ فترة مبكّرة، فعلى سبيل المثال يقول الشيخ صقر بن سلطان القاسمي مخاطباً النبي محمداً عليه الصلاة والسلام، شاكياً وقوع القدس في أيدي الغزاة:
طه.. فـداك أبي وأمـي كـلّهم أولا تطـلّ على سـواد الحاضرِ
القـدس أولى القبـلتين سـليبةٌ وعُـمان بين مغامـرٍ ومـهاجرِ
وعلى ربى القدس الشريف قذائفٌ تُـردي الأبيّ بكـلمةٍ من غادرِ [1]
كما كتب الشاعر العقيلي قصيدة تعود إلى عام 1937، يفضح فيها جرائم الانتداب البريطاني، ومنها قوله:
أيقضي على الأعواد شنقاً ذوو الإبا وأبنـاء صـهيون اللئام تكـرَّمُ
أهـذا انتـداب أم عـذاب تصبه علينا أوروبـا إن قـومي أعلمُ
ففي كل درب في فلسـطين سافك وفي كـلِّ بيـت للعروبة مأتم [2]
وقد برزت صورة فلسطين في جميع الخيارات الفنية التي انضوى الشعراء الإماراتيون تحت لوائها، فثمة حضور لها في الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر سواءٌ بسواء، فالشاعر إبراهيم محمد إبراهيم يتجه بشعره إلى فلسطين محمّلاً بالعشق والحزن، في شبه صورة رومانسية ثورية، فيقول:
"فلسطين يا نجمة في سمائي
ويا ثورةً
يتوثّب بركانها تحت مائي
(...) أزفّ إليك مواويل حزني
إلى أن أزفّ إليك دمائي"[3]
والشاعر حبيب الصايغ يعبّر، من خلال لعبه باللغة، عن انتمائه للتراث العربي، وللثقافة العربية، وللمكان الذي تربّى في أحضانه عبر القرون، ويعبّر أيضاً عن حنينه للجبال والسهول والنيل والأبيض المتوسط، وعن حنينه لفلسطين التي تنسج وعيه ومستقبله، فيقول معبّراً عن ذلك الحنين في فسيفساء لغوية:
أنا لام لامية العرب الأولينْ
ولام جبالهم والسهولْ
أنا لام نيلك يا مصرُ
إذ يتدفق عبر حجارة روحي
إلى الأبيض المتوسط بين الحنين وبين الحنينْ
ولام فلسطين
إذ تستفيق فلسطينْ
ناسجةً وحدها، وعلى مهلها
صحوَنا، ونهار السنينْ [4]
وهكذا فإنّ فلسطين تظهر في حلّة قشيبة رومانسية، سواءٌ أكان ذلك في أحلام الشعراء أم في أحلام المشردين، ولعلّنا نشير هنا إلى الشاعر محمد شريف الشيباني الذي يقول على لسان المشرّد الفلسطيني:
أنـا فـي هـذه البـلاد ألاقي مـن صـنوف العذاب كلّ بليّـهْ
بعدما كـنتُ في فلسـطين أهنا بظـلالٍ مـن الكـروم نـديّـهْ
وغصـون الزيتون ترقص حولي بأكـفّ النسـيم كـلّ عشيّـهْ
(....) غير أنّ اللئام لما استباحوا تـربـها بالمـكائد الثعـلبيّـهْ
شـردونا مـن أرضـنا فغدونا نصحب الحزن في القفار القصيّه [5]
وتخرج الصورة الشعرية الرومانسية للوطن من حيّز العشق والحنين إلى رؤيته الواقعية داخل ساحة الصراع، ففلسطين لدى عارف الشيخ عديل الروح في الجسد العربي، لذلك فهو يشعر بالألم الشديد حين انقضّ الكيان الباغي عليها، فنزعها من جسد العروبة، كما يُنـزع الفؤاد الخافق من جسد الإنسان:
تلكمُ الأربُعُ.. ما أضيعَها بينَ حاخاماتهم والقُسـُسِ
ليست "اِسرائيل" إلا حفنةً كالخفافيش سرَتْ في الغبَسِ
نزعتْ مني فؤاداً خافقاً إذ هوتْ كالكاسر المفترسِ [6]
ويستمرّ عارف الشيخ في تصوير المأساة الفلسطينية ويحثّ العرب والمسلمين على الفعل الثوري من خلال الاعتراض على الصبر الذي جاوز مدى قدرته على الاحتمال، فقد تعرّضت فلسطين للاغتصاب، وانتهكت الأعراض، وسُفكت الدماء، وتعرّض أهلها لظلم النفي والتشريد، فيما ما زال العرب صابرين على كلّ ذلك، مما يستدعي قوله:
وإلامَ الصبرُ والأعْـ ـراض قسراً هتكوها
وفلسـطين دمـاءٌ دون حـقٍّ سفكوها
وأراضيـها بظلـمٍ نُهبـت، فامتلكوها
وبحكم البغيِ قد شُرْ رِد في الأرض بنوها [7]
وكذلك فإن الدكتور مانع سعيد العتيبة يصوّر ما تعرّضت له فلسطين على أيدي الطغاة، وما عاناه شعبها الذي استغاث بأبناء أمته، ويسخر سخرية مُرّة من أولئك الذين يكتفون بإصدار بيانات الشجب والاستنكار التي لا تسمن ولا تغني، ولا يصل صوتها إلى أيّ مدى، فهو يقول:
سمعنا من فلسـطين المنادي فلبّينا وأصـدرنا بيـانا
شجبنا فيه ما فعل الأعادي فلم يبلغ مسامعَنا صدانا [8]
وينحو الشاعر شهاب غانم المنحى ذاته حين يسخر من التضامن العربي الذي يبقى في معظم الأحيان أمنية لفظية، في حين يدنّس الغزاة أرض الأقصى المبارك:
تضامن العُـربِ آمـالٌ مبـدَّدةٌ ووحدةُ العرب تاريخ وأخبـارُ
وتربة المسـجد الأقـصى يدنّسها نعلُ الغزاةِ.. ولا خزيٌ ولا عارُ
لا خالدٌ، لا صلاحُ الدينِ، لا عُمَرٌ لا مرهفٌ من سيوف الله بتّارُ [9]
وتبلغ السخرية مداها في شعر شهاب غانم، إذ يردّد صدى صرخة كان قد أطلقها إبراهيم طوقان قبل نصف قرن [10] ، إذ يقول ساخراً، والألم يعتصر قلبه:
فلماذا قـرعُ الطّـبولِ طويلاً ولدينا حلـولنا السـلميّهْ
ولماذا هـدرُ النقـود هـباءً ولماذا سفك الدماء الزكيّهْ
كلّما يغصـب العـدو بلاداً اُشـجبوهُ بخطبـةٍ ناريـهْ
فامنحونا من الشعارات سيلاً إنها منـجزاتـنا القـوميهْ
وعلينا ردّ الجميل هتافـــاً للزعـامات بكرةً وعشيّه [11]
ويشترك إبراهيم محمد إبراهيم مع سابقيه في مهاجمة الصمت العربي، بل إنه يبلغ مدى أبعد في تعرية بعض "رجال الدين!!" الذين أخضعوا الدين بغير وجه حقّ لما تقتضيه مصلحة أسيادهم، فيسخر بمرارة من "مفتي الديار!!" الذي حرّم العمليات الاستشهادية التي ينفذها المجاهدون ضدّ المعتدين المحتلّين، فيقول:
"أعلن مفتي الديارْ
بأن الذي يتزنّر قنبلةً،
ويموت دفاعاً عن الأرض والعرض
.. في النّارْ [12] "
وقد حضرت المدن الفلسطينية الأسيرة حضوراً لافتاً في الشعر العربي في الإمارات، إذ يجد القارئ العربي إشارات متعددة إلى القدس وحيفا ويافا وجنين وغزة، وغيرها من المدن الفلسطينية التي تعرّضت للقهر والعذاب والمذابح المتوالية، دون أن تفقد أملها بالنصر القريب.
وقد كان للقدس حضور متميز في شعر الإماراتيين، كيف لا؟ ومكانة القدس في النفوس مرتبطة بكثير من الأحداث التاريخية والدينية التي تجعلها مهوى أفئدة العرب والمسلمين، فالشاعر محمد شريف الشيباني يضفي على القدس صورة الإنسان الذي يشكو حاله لأمته، فيقول على لسانها:
أينَ أنتم إن القـيود كسـتني ثـوبَ ذلٍّ وأذبلت لونَ زهري
أينَ أنتم لكي تزيلوا حدادي بثيـابٍ بيضاء في ضوء فجري
أترى تلكم الدمـا والضحايا والسبايا تضيع من دون ثأرِ [13]
والشاعرة جويرية الخاجة تلحّ إحدى قصائدها في السؤال عن سبب نوم الأمة عن تحرير القدس، على الرغم مما تتمتع به من القداسة، من خلال إشارتها إلى معجزتي الإسراء والمعراج:
ورسولنا شدّ الرحال لمسجدٍ صـلّى بـه فلتقتفوا آثـارَهْ
معراجه كـم شدّني لمكارمٍ أرستْ لنفسي شرعةً ومنارهْ[14]
ويرصد عارف الشيخ في قصيدة "القدس الحزين" صورة محزنة للمسجد الأقصى الذي سرى إليه النبيّ وعرج منه، وينتظر من التاريخ أن يعيد نفسه، فيرسل إليه عُمَرَ وخالداً من جديد حتى يتم تطهيره من براثن المغتصبين، فيقول:
مسرى النبيّ يبيت الشـرّ يسكنه مخيـّم فيه أهل الشـرك والوثنِ
قد دنسوا المسجد الأقصى فواحزناً ومن يطهّر بيت القدس من درنِ
يا ويح قلبي هل للسيف من عمرٍ وأين خالد للباغي وذي الدّخَنِ [15]
ويتابع الشيخ في قصيدة بعنوان "ثورة القلم" تأكيده وإصراره على أن ينتبه العرب والمسلمون إلى صرخة القدس، فالبغاث يستنسر في المدينة المقدسة، ويدنّس طهرها، لذلك فمن واجبنا أن نستعدّ للفداء، وأن نمدّ يدنا لليد الجريحة الممدودة نحونا:
هو القـدسُ مَدّ إليكَ يدا فقم يا أخـي واستعدْ[16] للفدا
لقد جاس فيه بغاث اليهود وبالأمس كان رحاب الهدى[17]
غير أن الشاعر محمد شريف الشيباني لا يتساءل عن سرّ الصمت العربي، بل يلجأ إلى تذكير الصهاينة أنّ يافا والقدس لن تعيشا طويلاً في ظلام القيود، فيقول:
أترجون أن نترك الأرض نهباً لكم يا صهاينُ دون البُغاةْ
وتبقى على الأسر يافا وقدسٌ تعيشان في غمرة الداجياتْ
كما شئتمُ اسجنوني اقتلوني سيثأر لي بالسيوف الأُباةْ [18]
من هنا فقد استنهض الشاعر الإماراتي رجال الأمة، من أجل إعادة التاريخ إلى نصابه، وها هي ذي الشاعرة هند بنت صقر القاسمي تستصرخ الهمم، من أجل إعادة يوم حطين الذي خلّص الأمة من عار الصليبيين:
أنتم الجذوةُ في سـاح الوغى أشعِـلوا الحرب بعزم الشرفاءْ
وأعيدوا يوم حـطّينَ كـما قـد عهـدناكم عتاةً أقوياءْ
حرّروا السيف من الغمد فما صدئ السيفُ ولا عزَّ الرجاءْ [19]
وينظر الشاعر الإماراتي حبيب يوسف الصايغ إلى الوضع العربي الراهن، ويقرأ حزن القدس، ويستغرب صبر أحرار الأمة على أذى الصهاينة، فيقول:
أرى القُـدس ترنو للسـماء مشـيرةً إلى قـدر الأحـرار وهو محتّـمُ
أيفتقـر الأقـصـى لعـونٍ وقـوّةٍ؟ ويسـتنجدُ البيت العتيق المحـرّمُ
جزعتُ لكم كم تصبرون على الأذى وخـالدُ منكمْ وابن أيّوب منكمُ
أيسـكتُ مـن أتـباع عيسى مهنّدٌ ويصـمتُ من أتباع أحمدَ مُسلمُ [20]
ويطلق محمد شريف الشيباني الصرخة ذاتها، إذ يخاطب الأرض المقدّسة، ويستعين بذاكرة التاريخ ليسرد أهميتها الدينية، وليؤكد أنها مقبرة الغزاة الذين واجههم صلاح الدين الأيوبي:
فداء أرضك عمري يا ابنة العرَبِ يا منبعـاً من رفـيع المجد والأدبِ
وأنتِ منـزل إبـراهيم في قـدمٍ ومنـزل العـزّ في عصرٍ لنا ذهبي
وساحةٌ لصـلاح الدين شـاهدةٌ على الشـجاعة والإقدام والحرَبِ
وأنتِ بيتٌ لـه أسـرى على ثقةٍ فوق البـراق بجنح الليل خير نبي
وأنتِ مهدٌ لعيسى حيث قد رفعتْ جثمانه نسل صهيونٍ على الصُّلُبِ [21]
وفي قصيدة أخرى يخاطب الشاعر الشيباني القدس في لهجة حماسية، خطابية ينقصها جمال الصورة، ولا ينقصها التدفق الوجداني العاطفي، فيقول:
لا تحزني يا قدس إنّي قد نذرتُ دمَ الأعادي
للنصـر قرباناً وإنّي سوف أثبتُ في عنادِ [22]
وقد طغت مثل هذه الخطابية على كثير من شعر الشيباني، ومنها قوله:
هكذا معركتي يوم
الكرامة
هكذا في يوم أيلول.. وبيروت
وصيدا..
هكذا هم ينتهون
وفلسطين بثوراتي
تبدأ [23] "
وعلى الرغم من القتام الذي يسيطر على الموقف العربي عامةً، فإن الشاعر لا يفقد الأمل في أن تعود القدس، قلب العروبة، مع أخواتها العربيات، حتى ينبض جسد الأمة بالحياة من جديد:
ستـعود لنا حيفا داراً وتعـود لنا يافا وطنا
ما جـاء الليل بحلكته إلا والفجـر أتى بسنا
يا بيت القدس، لنا أملٌ سـيجيب الله لدعوتنا
ونطهّر ساحتك العذرا ء وننشر فوقك رايتنا[24]
ونستطيع أن نلمس مثل هذا التفاؤل بالمستقبل لدى كثير من الشعراء الإماراتيين، على اختلاف انتماءاتهم، ورؤاهم، وإيديولوجياتهم، فهذا سلطان خليفة الذي يرى الصراع في أساسه صراعاً بين المسلمين، وصهاينة اليهود لا يفقد الأمل، مستنداً إلى ثقته بأنَّ الذين يحاصرون الشعوب هم المحاصَرون، فيقول:
يا أيّها اليهودْ
حلّت عليكم لعنة الإله
وأنتم المعذّبون
والثأر بيننا وبينكم
وإنكم لخاسرون!
لن ينتهي عداؤنا
لن ينتهي الجنون
فحاصروا وقتّلوا
فإنكم محاصرون [25]
ويلمس قارئ الشعر الإماراتي تتبعاً مستمرّاً لما يجري على الأرض الفلسطينية، إذ يتم رصد جزئيات الانتفاضة والفعل المقاوم، كما يتم رصد المذابح التي تعرّض لها الفلسطينيون في فلسطين وخارجها، ولعلنا نشير هنا إلى مذبحة جنين التي صوّرها إبراهيم محمد إبراهيم أنثى معفّرة الشعر، مغبرّة القدمين، ترتدي نصف قميصها الممزق، وتغطي جماجم أطفالها، بينما ما زال "ملوك الطوائف" مشغولين بخلافاتهم الصغيرة:
على بعد خفقة قلبٍ
وطرفة عين
تنام جنينْ
ركاماً من التعب الأبديّ
على عشقها الأبديّ
برائحة الموت تغفو..
معفّرة الشعر
مُغْبرّة الشفتين
بنصف قميصٍ
تغطّي جماجم أطفالها..
وتعرّي ملوك الطوائف للعالمينْ[26]
ويشير أحمد راشد ثاني، وهو أحد أهم شعراء قصيدة النثر في الإمارات، إلى قصيدة قصيرة جداً عن مذبحة "صبرا وشاتيلا" التي ارتكبها الصهاينة وأعوانهم في هذين المخيمين الفلسطينيين عام 1982، ليؤكد من خلال تراسل الحواس أن صورة المذبحة كانت صرخة مدوّية يسمعها العالم:
صدقوني أنا لم أر المذبحهْ
بل سمعتُ الصوَر[27]
وينظر الشاعر شهاب غانم إلى المذبحة ذاتها من زاوية أخرى، مديناً الصمت العربي، ومستنكراً الاكتفاء بالبكاء على الضحايا، لأن البكاء لن يردع المحتلين المغتصبين، بل سيشجّعهم على ارتكاب المزيد من المذابح:
يا من تبكون شتيلا وتنوحونَ على صبرا
بالأمس بكيتُم تلّ الزعترْ
واليوم تنوحون بدمعٍ أغزرْ
لكن صبرا
ما دمنا أبداً لم نتغيّرْ
فانتظروا مذبحةً أخرى
مذبحةً كبرى[28]
ويتناول الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم قضية إبعاد الفلسطينيين التي كثيراً ما تلجأ إليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، من خلال استعراض نموذج "مرج الزهور"، فقد قال مخاطباً أحد المبعدين:
صباحُكَ أزهى
دعِ النائحاتِ،
فما أنتَ أوّل كبشٍ
تُسنّ المُدى حولهُ
لستَ إلا احتضاراً
لهذا المساءْ
صباحُكَ رجعٌ لهمس القبور جديدٌ،
صهيلٌ على باب غزّةَ،
زنبقة عند مرج الزهور،
تخبّئ في صدرها جمرةً للشتاءْ[29]
وينظر الشاعر شهاب غانم إلى المذبحة التي ارتكبها الصهيوني هاري غولدمان الذي اقتحم المسجد الأقصى، وراح يطلق النار على المصلين، مما أدى إلى سقوط ستين فلسطينياً بين شهيد وجريح، فيكتب قصيدة بعنوان "المجنون" من وحي هذا الاعتداء الآثم الذي حاول الصهاينة تسويغه، عبر الزعم أن غولدمان يعاني مرضاً نفسياً، يقول شهاب غانم:
كالجرَذِ تسلّلَ بين الجدران
والحقد النابع من أعماق الأزمان
من أحجار الهرم الأكبر..
من أسواط نبوخذ نصَّر..
من كلّ أذانٍ في خيبرْ
يغلي بين الأضلع كالطوفان
والكفّ على الرشّاش كمخلب شيطانْ
وانطلقَ الحقدُ رصاصاً في بيت الله
في الحرم الثالث.. في قدس الإسراءْ
سال نجيعُ الخشّع بين صلاة ودعاءْ [30]
وقد اهتمّ الشعر الإماراتي بالفعل الفلسطيني المقاوم، فمجّد مفهوم المقاومة، وأشار إلى حتمية انتصار الشعب الذي يواجه الرصاص بفعل الخصب، ويقدّم جيلاً جديداً يتابع المسيرة التي بدأها الأجداد، وفي هذا الإطار يقول الأديب ناصر جبران:
جماهير من شجر لا تهابْ
تجابه بالخصب فعل الرصاص
تسوّر بالعري أعناقها
تراب النياشين والمفخرة
فلسطين يا جبلاً من حديدْ
بصدري
سواجعُهُ حَنجَرة [31]
من هنا رافق الشعر في الإمارات العربية المتحد انطلاقة الانتفاضة الباسلة التي رفعت الحجر سلاحاً في وجه السلاح الإسرائيلي الفتاك القادم من البيت الأبيض:
قُضِيَ الأمرُ، ولا تنظير اليوم
لقد زرع الفلّاح الحقلَ،
ولن يحضرَ غير الفلّاح حصادَهْ
هذا الحجر الباسلُ
ربّانيّ الصنع، فلسطيني المنبت،
ما جاء من البيت الأبيض محمولاً
فوق ظهورٍ تعشقُ أن تتغنّى طرباً
تحت سياط السادَهْ [32]
وثمَّ دائماً تأكيد على دور الحجر، ودور اليد التي حملته، في الفعل الانتفاضي المقاوم، ولعل من الطريف أن نجد مثل هذا المعنى عند شاعرة إماراتية رومانسية مثل الشاعرة حمدة خميس، التي لم يكن انحيازها إلى جانب التمرد الاجتماعي، وسعيها إلى الحرية فردياً، بل كان جزءاً من منظومة فكرة رشّحتها أن تكون إلى جانب فعل التمرد الانتفاضي، الذي يسعى إلى تغيير واقع الإنسان الفلسطيني، ورفع الظلم عنه، تقول حمدة:
كم جرّدوك من السلاح
لا البيت لك
لا الأرض
لا الرشاش لكنّ الحجرْ
ملقى على درب المشاة! [33]
وفي رصد الفعل الانتفاضي يشير الشعر الإماراتي إلى أنّ العدو الذي جرّد الفلسطيني من جميع الأسلحة لن يكون قادراً على تجريده من سلاح الحجارة لأنّ أرضه تهبه هذا السلاح، وترصد حمدة خميس دور الحجر في البناء والتحرير، مبرزة تطوّر دوره من بناء البيت إلى المحافظة عليه، فتشير إلى أن الفلسطيني بنى بالحجر بيته، ثم صار في يده سلاحاً يستردّ به البيت وحدود الوطن:
كم أنتَ في الحبو الوئيد
أقمته بيتاً
ومملكةً
وهرجت في إيقاعه
لكنما في كل ما صوّرت
لم تدرك
بأنّ رفيقك الحجر الذي
تصطاد عشّ العصافير
أو تحشو به المقلاع
أو تزهو به في لحظة التصويب
قد يعطيك بيتاً
أو حدوداً للوطن [34] !
أما سلطان خليفة فقد أشار إلى معجزة الانتفاضة التي نسفت كلّ أشكال المقاومة المألوفة، إذ حمل الفلسطينيون الحجارة لكي يشعلوا الأرض براكينَ مقاومةٍ تحتَ أقدام الغزاة:
نسفوا المفهوم والمألوف
واستلّوا الحجاره
ركبوا الطوفان..
أشعلوا الأرض لهيباً
يملأ الأرض أواره [35]
ويشير الشاعر ظاعن شاهين إلى الحجر الذي نطق في يد الفلسطيني حين غادر اليد وانطلق نحو الغزاة الغاصبين، وثار ضد القمع الذي يمارسه الأعداء، وضد الصمت الذي يجود به الأصدقاء:
نطق الحجر:
قالوا له: هيّا فطارْ
قالت له كلّ الصغار
كلّ الكبارْ
يا سادتي.. نطق الحجرْ
حتى اشتكى منكم
وثار [36]
ولأن للانتفاضة هذا الألق والتوهّج فقد راح الشعراء يتغنون بها، ويطالبون باستمرارها لأنّ فعلها أقوى من أيّ قول، ولأن في استمرارها إصراراً على عودة الأمجاد العربية إلى سابق عهدها، يقول شهاب غانم:
آن للمارد أن يخرج من قمقمه من بعد دهرِ
آهِ ما أروعهُ أن تستمرّي
فاستمرّي.. واستمرّي.. واستمرّي
أنتِ مهما صيغ في سحركِ من شعرٍ كَدُرِّ
سوف تبقين مدى تاريخنا أروع من أروع شعرِ [37]
وثمة في هذا السياق موضوع آخر يمكن رصده في الشعر الإماراتي، وهو رثاء الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا في أثناء الدفاع عن فلسطين، ففي قصيدة لعارف الخاجة يرثي الشاعرُ الشهيدَ سعدصايل من خلال مخاطبة فلسطين:
يا فلسطين.. يا فلسطين.. سنأتي
خلف سعدٍ
نحمل الشمس على الكفين مهراً عربيّا
هي أعراس الرسالات
مع العيد دفوفٌ وبنادقْ
قد أتيت الآن صدراً
للمسيرات وقامات البيارق
خلفك الموكبُ من صبرا وشاتيلا،
يرشّ الأرض تفاحاً وزيتوناً،
وغابات زنابقْ [38]
وتمكن الإشارة إلى مثال آخر في رثاء شهداء فلسطين، إذ رثى الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم الشيخ أحمد ياسين مؤكّداً أن وصيته في مقاومة المحتلّ الغاصب ستنتقل إلى الأجيال اللاحقة، وأنّ الموت لن يستطيع النيل من جسده المشلول:
عبس الخطبُ، وما زلتَ تغنّي،
عندما أودعتَ فوقَ الشاطئ الفضيّ هاتيكَ الوصيّهْ
وغرستَ الهامةَ الشماء في كل النواحي،
وزرعتَ البندقيّهْ
قف كما أنتَ،
فهذا الجسد المشلول قسراً،
ليس تؤذيه المنيّه [39]
أما محمد شريف الشيباني فقد رصد في قصيدة "ابن الشهيد" وعي الطفل العربي الفلسطيني لقضيته، من خلال إدراكه سبب استشهاد والده، وهو الأمر الذي يجعله مؤهلاً لسلوك الطريق ذاته في المستقبل:
أبي إنني عـارفٌ بالـذي جرى في الثرى من زكيّ الدماء
وأنّك متّ شـهيداً كريماً لتحيـا فلسـطين بيـن الإباء
وتشمخ قدسٌ بأفق العصور وتخفـق رايتها في الفضـاء [40]
وهكذا نجد أنّ الشعر الإماراتي انشغل بالموضوع الفلسطيني، إذ تحدّث الشعراء الإماراتيون عن عشقهم لفلسطين ومدنها وقراها، وصوروا معاناة شعبها على يد الغاصبين، ورثوا شهداءها ومجّدوا انتفاضتها الباسلة.



[1] ديوان صقر بن سلطان القاسمي، دار العودة، بيروت، 1989، ص182.
[2] من كتاب (شعراء من الإمارات للدكتور شهاب غانم) الصادر مؤخّراً عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، نقلاً عن تغطية صحفية لمحمد إسماعيل زاهر في صحيفة الخليج، 7/8/2008
[3] إبراهيم محمد إبراهيم: الطريق إلى رأس التل، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة، ط1، 2002، ص94.
[4] حبيب الصايغ: قصائد على بحر البحر، الوراقون للنشر والتوزيع، أبو ظبي، ط1، 1993، ص ص51-52.
[5] واصف باقي: القضية في شعر الإمارات، مطابع الجزيرة، 1977، ص46.
[6] عارف الشيخ: نداء الوجدان، دبي، ط1، 1993، ص141.
[7] عارف الشيخ: ديوان الإسلام، دبي، 1994، ط1، ص376.
[8] د. مانع سعيد العتيبة: الرحيل، ط13، أبو ظبي، 2000، ص ص 124-125.
[9] شهاب غانم: صهيل وترتيل، مطابع البيان التجارية، دبي، 1980، ص9.
[10] إشارة إلى قصيدة طوقان التي مطلعها: أنتم المخلصون للوطنية..
[11] شهاب غانم: صهيل وترتيل، ص12-13.
[12] إبراهيم محمد إبراهيم: الطريق إلى رأس التل، ص39.
[13] واصف باقي: القضية في شعر الإمارات، ص42
[14] جويرية الخاجة: صهيل الروح، دار المسار، الشارقة، ط1، 1999، ص126
[15] عارف الشيخ: ذكريات، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، 1977، ص67.
[16] تسكين الدال في الأصل، وقد اضطر إليه الشاعر حفاظاً على الوزن الشعري، والصواب تضعيف الدال وفتحها.
[17] عارف الشيخ: ذكريات، ص24.
[18] واصف باقي: القضية في شعر الإمارات، 1977، ص45.
[19] هند بنت صقر بن سلطان القاسمي: وهج اللهيب، مطابع البيان، دبي، ط1، 2000، ص23.
[20] واصف باقي: القضية في شعر الإمارات، ص65.
[21] المرجع نفسه، ص47.
[22] المرجع نفسه، ص45.
[23] محمد شريف الشيباني: أعراس الضحايا، مطبعة دار العلم، دمشق، 1983، ص52.
[24] واصف باقي: القضية في شعر الإمارات، ص76.
[25] سلطان خليفة: هنا همسات، مطابع البيان، دبي، 1998، ص128.
[26] إبراهيم محمد إبراهيم: الطريق إلى رأس التل، ص90.
[27] أحمد راشد ثاني: جلوس الصباح على البحر، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة، ط1، 2003، ص40.
[28] شهاب غانم: صهيل وترتيل، ص26.
[29] إبراهيم محمد إبراهيم: فساد الملح، ط1، 1997، ص ص127-128.
[30] شهاب غانم: صهيل وترتيل، ص15-16.
[31] ناصر جبران: استحالات السكون، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 1993، ص95.
[32] إبراهيم محمد إبراهيم: صحوة الورق، مطابع البيان، دبي، ط1، 1990،ص ص70-71.
[33] حمدة خميس: مسارات، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 1993، ص26.
[34] المصدر السابق، ص26.
[35] سلطان خليفة: هنا همسات، ص130.
[36] ظاعن شاهين: آية للصمت، ص27.
[37] شهاب غانم: قبضاً على الجمر، ص20.
[38] عارف الخاجة: بيروت11 وجمرة العقبة، ص6.
[39] إبراهيم محمد إبراهيم: صحوة الورق، ص76.
[40] واصف باقي: القضية في شعر الإمارات، ص44


http://www.thaqafa.org/Main/default....WdOQXJxwbhA%3d