بوسيدونيوس
(نحو 135 ـ 50 ق.م)
بوسيدونيوس Poseidonios فيلسوف رواقي ومؤرخ وجغرافي وعالم فلكي موسوعي، ولد في مدينة أفامية[ر] السورية في عصر ساده الاضطراب والفوضى والصراعات السياسية والاجتماعية، فغادر مسقط رأسه للدراسة في أثينة وتتلمذ فيها على يد الفيلسوف الرواقي بانايتيوس Panaitios، ثم قام برحلات كبيرة قادته إلى إيطالية وبلاد الغال وإسبانية وصقلية للبحث والتقصي، واتصل في رومة بعلية القوم والمثقفين وكان له مثل أستاذه أثر مهم في نشر الفلسفة الرواقية عند الرومان.
أقام منذ عام 97ق.م في جزيرة رودوس وأسس فيها مدرسة فلسفية شهيرة نشر من خلالها تعاليمه في الفلسفة الرواقية الوسطى وذاع صيته فكان من مستمعيه وتلامذته رجال مشهورون من أمثال شيشرون، الذي يعترف بفضله عليه في كتبه وأبحاثه، والقائد الكبير بومبيوس الذي زاره مرتين بعد انتصاره على القراصنة ثم بعد عودته من سورية مظهراً له غاية التقدير والاحترام.
اشتهر بوسيدونيوس بتاريخه الموسوعي المؤلف من 52كتاباً، تناول فيه أحداث عصره وتاريخ الشعوب الشرقية والغربية التي كان لرومة صلة بها بدءاً من عام 145ق.م، إذ انتهى المؤرخ بوليبيوس[ر] حتى ديكتاتورية سولا (78ق.م). ويبدو أن حروب بومبيوس حظيت باهتمام بوسيدونيوس فجعلها ملحقاً بتاريخه، الذي كان له بشموله ودقته وحرصه على الحقيقة التاريخية وصياغته الأدبية الرفيعة تأثير واسع وعميق في كثير من المؤرخين الإغريق (ديودور الصقلي وإسترابون وبلوتارخوس) والرومان (سالوست وتيتوس ليفيوس وتاكيتوس وبلينيوس الأكبر)، ويتصف تاريخه على العموم بالميل إلى طبقة النبلاء ومعارضة الحركات الشعبية والثورية، وقد رسم فيه لوحة عظيمة بألوان قاتمة لعصره وأخلاق عصره راعى فيها أيضاً الأوضاع الاجتماعية. ويتفق بوسيدونيوس مع سلفه بوليبيوس في نظرته الإيجابية إلى الامبراطورية الرومانية وسيادتها على العالم، ولكن من غير أن تخفى عليه الجوانب المظلمة فيها، وقد وجدت هذه الأفكار عن فساد الرومان وتخليهم عن فضائلهم القديمة صدىً قوياً لدى المؤرخ الروماني سالوست في كتاباته.
وظف بوسيدونيوس تبحره في العلم في خدمة فلسفته التي حاول أن يربط فيها تعاليم الفلسفة الرواقية القديمة مع معارف أفلاطون وأرسطو، وهو يرى أن الفلسفة تهدف إلى تثبيت علاقة الإنسان بالعقل Logos، وكان يقول بوحدة الكون الحي الذي يتحرك فيه كل كائن ليس فقط تبعاً لقوانين الطبيعة وإنما عبر التشابه والتجاذب الذي هو التأثير المتبادل اللامنتهي، وتفسر هذه الفلسفة الانتقائية الشاملة عظمة تفكيره وقوة تأثيره.
كما برز بوسيدونيوس في علوم الرياضيات والجغرافية والفلك، وقد مكنته أسفاره وملاحظاته العلمية أن يعطي وصفاً دقيقاً للحياة وظواهر المحيط والبحار، وحسب محيط الأرض وبعد الشمس عن الأرض وربط بين ظاهرة المد والجزر وأدوار القمر وغير ذلك. وعلى أنه كان نظرياً في أبحاثه تشهد له بعض إنجازاته المهمة بالمقدرة العلمية، ومع كل هذا فإنه كان يعتقد بالأرواح والتنجيم والتخاطر وقدرة الروح على التسامي باتحادها الصوفي مع الإله الذي كان يرى بأنه يمثل قوة الحياة في هذا العالم.
وأخيراً يمكن القول إن بوسيدونيوس الذي لم يبق من مؤلفاته الكثيرة إلا النزر اليسير وشذرات متفرقة، كان بلا شك أعظم الفلاسفة الرواقيين تأثيراً في العصر الهلنستي، وهو أعظم عقلية موسوعية بعد أرسطو في تاريخ الفكر الإغريقي.

محمد الزين
http://arab.educdz.com/%D8%A8%D9%88%...?wscr=1024x768