في بلاد الرجال
رواية ذات فنية عالية
بقلم: داود إبراهيم الهالي

رواية "في بلاد الرجال"
الكاتب: هشام مطر
إصدار: دار المنى، السويد
النص العربي: سكينة إبراهيم
السنة: 2006

كثيرة هي الكتابات التي ناقشت موضوع الاستبداد في تاريخنا الحديث والمعاصر. ولعل أشهرها كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي وقد تلته الكتابات التي غلب عليها الطابع السردي أما في رواية "في بلاد الرجال" فالأمر مختلف، فقد صاغ هشام مطر روايته بأسلوب قصصي جذاب اتخذ من ليبيا مسرحاً لمجرياته، وقد اختار المؤلف اسماً معبراً لروايته "في بلاد الرجال" كإشارة منه إلى السلطة والرجال ولا مكان لغير الرجال بقوله في "عالمٍ يزحمه الرجال وجشع الرجال" (ص4).

يصور المؤلف عبر روايته المكونة من 252 صفحة من القطع المتوسط الظلمَ والقهر الذي يتعرض له الإنسان العربي الليبي في ظل هيمنة حكم الفرد المتسلط المستبد في إحدى الدول العربية التي تفوح منها رائحة الموت في بقعة جغرافية عرفها المؤلف بقوله: " كانت ليبيا شريطاً ساحلياً، على إحد جانبيه الصحراء الصفراء المتوغلة في إفريقيا، وعلى الآخر الزرقة الملكية لبحر طفولتي المتوسطي...." وهو بذلك يعطي وصفاً دقيقاً ليس لجغرافية ليبيا فحسب بل إلى ما آلت إليه أحوال البلاد من انحسار بين فضائين يتربع بينهما الحاكم الظالم.

اختار هشام مطر أن تكون روايته قصة تُروى في أغلب الأحيان على لسان طفل ليبي هو سلمان الديواني الذي قضى طفولته الغريبة التي تحفها المخاطر في مدينة طرابلس. وسلمان هذا يعيش مع أمه نجوى وأبيه الذي يقضي معظم وقته خارج المنزل بدعوى أنه يسافر للعمل في التجارة خارج ليبيا. في حين أبدت الأيام للطفل أن أباه لم يغادر ليبيا بل ينصرف للعمل مع أصدقائه ضد القائد.

تأتي الرواية مفعمةً بالتشبيهات من البيئة البسيطة منسجمة في كثير من الأحيان مع عمر الطفل (9 سنوات) وخياله الطفولي "أما أعقاب السجائر فوقفت يستند بعضها على بعض في أكواب الشاي الفارغة كأنها صراصير ميتة"(ص74). وفي أحيان كثيرة يأتي على ربط مواقف يومية مع أشياء قد تبدو للقارئ- للوهلة الأولى- أنها غير موفقة، إلاّ أن التمعن الدقيق فيها يعطي صورة غاية في الجمال والتعبير، على سبيل المثال لا الحصر لا يغيب عن لسان الطفل شجرة التوت وثمارها الحمراء، فوفقاً لمحمد مستجاب فإن هذه الشجرة تورق الهدوء الأبوي، وتثمر الحنان الأموي، تصد الأعاصير وتحيلها إلى نسيم رقيق يتسلل إلى الجوانح حباً ووداً... وأن البعد عن ظلال شجرة التوت يولد التوتر والاكتئاب والشراسة" (العربي، عدد 472، مارس 1998 ص118).

ولا يتوقف الأمر عند شجرة التوت بل يتعداها إلى رموز لأمر أكبر، من بينها تلك الأزهار الوردية التي تظهر على شاشة التلفزيون الرسمي كلما أراد القائد ذلك كما فسر الطفل سلمان ذلك، فهي منظر يبعث على الأمل يستخدمه القائد لتغطية مشهد ما كتعذيب أستاذ رشيد، وكأن هشام مطر أراد من وراء هذا المشهد أن يقول: باتت عذباتنا وآمالنا معلقة بيدك أيها القائد يا صاحب النظارات الشمسية المهيبة.

تظهر الأحداث في هذه الرواية كأمواج بحر ما زال هائجاً لا يعرف الاستقرار ويطغى عليه حالة من الفوضى العارمة. ظهرت فيها شخصية الأم "أم سلمان" كثيرة الشرب إلى حد الثمالة علها تهرب من ذلك الحاضر المرير الذي بدأ بزواج قهري في سن الرابعة عشرة كأنه فعل اغتصاب وفي حياة يظل الزوج فيها بعيداً عن البيت حتى رأت في ابنها نصف روحها الآخر. وكأن هشام مطر يتخذ من شخصية أم سلمان تعبيراً عن حالة الفوضى التي يعيشها الشعب، وما يوصله إليه النظام من حالة الهلوسة والضياع.

لعل ما يلفت الانتباه في هذه الرواية شخصية بهلول الشحاذ الذي اختار لنفسه دور المشاهد المراقب لحال البلاد بقوله العبارة المعهودة: "شايفكم... شايفكم" (ص3) وكأنه أراد أن يقول ما من شيء يحدث هنا بعيد عن ناظري. وقد فضل هذا الأبله كما وصفه الطفل أن يقف متفرجاً على المعاناة بأسلوب ساذج يدل على حالته المزرية التي لا توفر له الحماية من أفراد المجتمع، فتارةً يلاحقه سلمان ويحاول إغراقه في اليم وتارةً تدعي أم مسعود بأنه ثري وأنه اشترى قارباً... ولكن هذا القارب لم يلامس ماء البحر بل ظل ملجأ بهلول من أهوال البلاد، وليخاطب الطفل قائلاً: "كل الأكاذيب تتضمن حقيقة ما، لكن والحمد لله ما من كذبة تتضمن حقيقة كاملة".


وأما شخصية أم مسعود فهي مثال لمن يغني للسلطة، ويمجّد من أنيابها "فالواحد من رجال المخابرات كما تدعي أم مسعود قادر على إرسال الناس وراء الشمس". (ص35) وستشيع هذه المرأة وصف السلطة لكل من يتمرد عليها بوصفه بالخائن كما في حالة أستاذ رشيد. وأما شخصية موسى المصري فهي تجسيد لحالة الضياع والتخبط التي يعيشها الشباب العربي.

ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في بلاد الرجال الصورة القاتمة للسلطة المستبدة في ليبيا، فهي تلك الرقابة المفروضة على كل ما يتحرك في تلك الديار، في الميادين والشوارع، في الحاضر والمستقبل، وبين الصالون والحمام في دار أبي سلمان. فهي السيارة البيضاء التي يقودها أصحاب الوجوه البشعة والأصوات الغرابية وهي أيضاً تلك الصورة الكبيرة للقائد التي تغطي الجدار. وهي التي تستخدم التلفزيون لترهيب الناس فكما يقول نزار قباني: "لا صوت يعلو فوق صوت الطبلة". وهي أيضاً شهريار الذي قضى مع شهرزاد ألف ليلة وليلة، فقد فضلت شهرزاد العبودية على الموتة الشريفة، واعتقد أن شهرزاد قد أنجبت ملايين البشر هم شعوبنا العربية.
"ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس"

رؤية /جميل السلحوت