النقد الأدبي في القرن الرابع الهجري وساطة الجرجاني نموذجاً

حلب
ثقافة
الأربعاء29-7-2009
محمد صبحي المعمار
ظهر النقد الأدبي عند العرب منذ أن ظهر الشاعر ومر في مراحل متعددة ونستطيع ان نقسم مرحلة النقد إلى مرحلتين الأولى: منذ أن ظهر الابداع الشعري وحتى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ونسميها مرحلة النقد القديم والمرحلة الثانية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى وقتنا الحاضر
ونسميها مرحلة النقد الحديث وهذا له أسبابه أما في المرحلة الأولى فقد نضج النقد الأدبي في القرن الرابع الهجري فظهر نقاد بارعون صنفوا مؤلفات كثيرة وعالجوا قضايا نقدية أساسية منها : تعريف الشعر والخطابة ودراسة عناصرهما والعلاقة بينهما ودراسة بناء القصيدة والعناصر الجمالية في العمل الأدبي وأثر البديع في الشعر والنثر والموازنة بين الشعراء وما أخذه الشعراء من شعر غيرهم وهو ما عرف باسم ( السرقات الشعرية ) وظهر نقاد بارعون منهم الآمدي صاحب كتاب ( الموازنة بين أبي تمام والبحتري ) والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب ( الوساطة بين المتنبي وخصومه) وهو موضوع مقالتنا. القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى عام 392هـ قال عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء ( ابو الحسن قاضي الري في أيام الصاحب بن عباد وكان أديباً أريباً كاملاً مات بالري يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وهو قاضي القضاة بالري حينئذ) وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال : ( ورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة مع أخيه أبي بكر وأخوه إذ ذاك فقيه مناظر, وابو الحسن قد ناهز الحلم فسمعا معاً الحديث الكبير ولم يزل أبو الحسن يتقدم إلى أن ذكر في الدنيا وللقاضي عدة تصانيف منها : كتاب تفسير القرآن المجيد وكتاب تهذيب التاريخ وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه). ولكتابة كتاب الوساطة أسباب كما قال الثعالبي في يتيمة الدهر ( ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في اظهار مساوئ المتنبي - الكشف عن مساوئ شعر المتنبي) عمل القاضي الجرجاني كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه فأحسن وأبدع وأطال وأطاب وأصاب شاكلة الصواب واستولى على الأمر في فصل الخطاب وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد فسار الكتاب مسير الرياح وطار في البلاد من غير جناح), وقال صاحب كشف الظنون ( أما القاضي أبو الحسن فإنه ادعى التوسط بين خصوم المتنبي ومحبيه وذكر أن قوماً مالوا إليه حتى فضلوه في الشعر على جميع أهل زمانه وقوماً لم يعتبروه من الشعراء وازدروه غاية الازدراء حتى قالوا : إنه لاينطق إلا بالهوى ولم يتكلم إلا بالكلمة العوراء ومعانيه كلها مسروقة فتوسط بين الخصمين وذكر الحق من القولين). وليس كتاب الوساطة مختصاً بشعر المتنبي كما يفهم من عنوانه , بل إنه عرض للأصول الأدبية التي عرفت في عصره وحلل أشعار القدماء والمحدثين وأورد كثيرا من محاسنهم وعيوبهم وأبان ما شاع فيها من تقصير وغموض واخذ وسرقة واستعارة حسنة او رديئة ثم عرض للبيئة واثرها في الشعر والبداوة وما تحدثه من جفوة في الطباع والحضارة وما ينشأ عنها من رقة وسهولة ثم عرض لخصوم المتنبي وانصاره ومعانيه المأخوذة او المخترعة كل ذلك وغيره اورده في اسلوب واضح وعرض شامل . لقد هاجم الجرجاني في وساطته الناقد الرديء واعتبر الناقد الرديء الذي يصم بالنقص كل محدث لانه يبلغ به التعصب او يستحسن شعرا فاذا نسب الى بعض اهل عصره كذب نفسه ونقض قوله والناقد الذي يتعصب لمحدث على محدث فاعتبره متحاملا وكله من نتائج العصبية فالناقد المتحامل والناقد المتعصب رديفان للناقد رديء ولو سلمت حجتهما لان العصبية تتخطى بهما (الاحسان الظاهر الى العيب الغامض) واعتبر ان الناقد الذي يقتصر على ظواهر النسيج الشعري من لحن أو وزن أو بديع أو معان متعمقة ولا يقابل بين الالفاظ ومعانيها ولا يسير ما بينها من نسب هو ناقد رديء واخيرا فالجرجاني لا يرى في النحوي ناقدا (فهو يتعرض لانتقاد المعاني لما يدل على نقصه) مثلما ينفي من مملكة النقد كل ناقد يقتصر من نقد الشعر على محاكمة المعاني فهو (لا علم له بالاعراب ولا اتساع له في اللغة). لقد ظهر الجرجاني في وساطته انه صاحب نظرية نقد في الشعر وذلك حينما قال (لقد كانت العرب تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته وتسلم السبق فيه لمن وصف فاصاب وشبه فقارب وبده فأغزر ولمن كثرت سوائر امثاله وشوارد ابياته ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالابداع والاستعارة اذا حصل عمود الشعر ونظام القريض) فتفكير الجرجاني مرتبط بالتطور التاريخي فالنظرية الشعرية في ذهنه حصيلة تراكم لمفهومات تكونت على مراحل هذه النظرية تكاد تكون نظرية العرب في الشعر . والشعر عند الجرجاني لا يخلو من العيوب ففي شعر الجاهليين اغلاط في اللغة والمعاني المستمدة من البيئة فيدعو في محاكمة العيوب الظاهرة الى منهج يدعو الى الدقة مثلما يدعو الى المسامحة وهو يدعو النقاد المحدثين الى الاقتداء بالنقاد القدماء الذين درسوا آثار الجاهليين فوجدوا ( كثيرا من اشعارهم معيبة مسترذلة لكن هذا الظن الجميل ستر عليهم ) فكأنه يقول : ان التراث لا ينشأ الا بشيء من الاحترام والتسامح وان المنهج الاعتذاري من طبيعة النقد . ويرى الجرجاني بعين الناقد المحايد البصير المتمكن ان المتنبي كان بين فئتين ( من مطنب في تقريظه منقطع اليه بجملته يلتقي مناقبه بالتعظيم اذا ذكرت ويشيع محاسنه اذا حكيت بالتفخيم وعائب يروم ازالته عن رتبته فلم يسلم له فضله ويحاول حطه عن منزلة بوأه اياها ادبه فهو يجتهد في اخفاء فضائله واظهار معايبه وتتبع سقطاته واذاعة غفلاته ) وعند الجرجاني الناقد المنصف كلا الفريقين ( إما ظالم له او للادب فيه وكما ان الانتصار جانب من العدل لا يسده الاعتذار فكذلك الاعتذار جانب هو اولى به من الانتصار ومن لم يفر من بينهما وقفت به الملامة بين تفريط المقصر واسراف المفرط ) وهذا رأي منصف من الناقد الجرجاني يعلمه الى المحدثين من بعده فهو لم يحكم ولم يضع رأيه ولم يقرر الا بعدما درس المتنبي الشاعر دراسة وافية كافية وعايش احواله وتفهم اوضاعه والاسباب التي دعت منصفيه وعشاقه لحبه وانصافه والاسباب التي حرضت معاديه واعداءه الى هذا الهجوم الشرس عليه وعلى شاعريته . ويمكننا في هذه المقالة المختصرة ان نستعيض عن عرض كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه بأن نختصر على تثبيت المبادئ التالية : المبدأ الاول في الوساطة مقايسة المتنبي بالمحدثين والنظر بينه وبين اهل عصره لتحديد موقفه من الفحول منهم والمبدأ الثاني : ان لأولئك الفحول معايب لم تؤد الى اسقاطهم من عداد الشعراء والجرجاني يرى ان المتنبي اقل اولئك الشعراء عيبا فقد اسقط نصف شعر ابي تمام وكثيرا من شعر ابي نواس ولم يبق لابن الرومي واحدا او اثنين بالمئة من شعره وفي مقابل ذلك يسقط عشرة بالمئة من شعر المتنبي يقول الجرجاني ( هلم نستقرئه ونتصفحه نقلبه ونمتحنه ثم لك بكل سيئة عشر حسنات وبكل نقيصة عشر فضائل ) اما المبدأ الثالث فإن هذا العشر المستثنى ليس ساقطا كله بل إن فيه مواضع للاجتهاد والمحاججة والمبدأ الرابع هو ان الشعر الذي ترجح محاسنه على مساوئه هو شاعر جيد حتماً فليس ( من العدل ان تؤخره الهفوة المنفردة ولا تقدمه الفضائل المجتمعة ) والمبدأ الخامس والاخير انه لا يجوز اطلاق الاحكام التعميمية جزافا بل يتوجب على الناقد ان ينبه على العيب والتفرد في كل موضع بعينه ومحصلة ذلك هي التي تحدد مكانة الشاعر وتجيز الحكم عليه او له . وهكذا انصف القاضي الجرجاني الشاعر المتنبي من خصومه بعدما توسط الفريقين المتصارعين في محبته ومعاداته فاعطى لكل فريق حقه وكشف تسرعه وأخطاءه وكشف عورات الحاقدين عليه فقد حدد أن لكتابه ( الوساطة بين المتنبي وخصومه ) ثلاثة أسباب سبب أخلاقي لرفع الحيف عن المتنبي وسبب شخصي لأن الأدب نسب وسبب علمي في الكشف عن الحقيقة الادبية باتخاذ مقياس واحد في الحكم بين الشعراء، وفي كتاب الوساطة استعرض القاضي الجرجاني الاتجاهات النقدية في عصره فرأى ان النقاد موزعون بين اتجاهين الاول : (لايرى الشعر الا القديم الجاهلي وما سلك به ذلك المنهج) اما الاتجاه الثاني : فيتقبل اصحابه شعر المحدثين لكنهم يرفضون ان يضموا اليهم المتنبي فإلى هؤلاء النقاد توجه الجرجاني بحججه جاعلا همه الرئيس وضع قواعد نقدية ثابتة تطبق على الشعراء المحدثين كافة وخاصة في أمور المسامحة والمؤاخذة على اللحن والغلط والتعقيد والاحالة متحديا لهم بأن يورد لكل سيئة يجدونها في شعر المتنبي عشر حسنات فالوساطة ليست بين انصار القديم وانصار الحديث وانما هي بين محدث ومحدثين ظهرت كوسيط محايد بعيدة عن العصبية والقبلية والانحياز الى طرف دون طرف .‏







المصدر
http://jamahir.alwehda.gov.sy/_print...20090728230000