منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكند"

    محمد جبّار الربيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    العين تبقي على دهشتها عندما تبث الصور رائحتها


    هل بالامكان الحصول علي حب الاخرين وامتلاك قلوبهم واهتمامهم بواسطة ما... إن فقدها شخص؟ سؤال طالما حيّر الجميع وربما أثار هذا الأمر إهتمام كاتب رواية (العطر: قصة القاتل) التي كانت الاكثر مبيعاً في العالم (ترجمت الي عشرين لغة ) والتي تحولت الي فلم بنفس الاسم.... الرواية لمؤلفها الكاتب الالماني باتريك زوسكند الذي كتبها عام 1985 بعد ان بدأ حياته موسيقياً فاشلاً ثم تحول الي الكتابة فأصبح صحفياً مشهورا وفاز بعد سنتين من كتابة هذه الرواية بجائزة كوتنبرغ لصالون الكتاب الفرانكوفوني وهو متفرغ الان لكتابة السيناريوهات السينمائية في باريس. حوّل هذه الرواية مواطنه المخرج ( توم تايكوير) الي فلم بعد ان دفع الممثل داستن هوفمان مبلغ 10 ملايين يورو للمؤلف ليوافق علي لتحويلها الي السينما وبعد ان رُفضت من قبل مخرجين كبار مثل ستنلي كوبريلي ,ريدلي سكوت ومارتن سكوسيزي بسبب صعوبة بل استحالة تحويلها الي السينما (كما قالوا) وقد شاهدنا للمخرج (توم تايكور ) افلاماً مهمة منها (باريس احبك )و (حقيقة) والفلم الشهير (اركضي لولا اركضي) وللحقيقة ان المشاهد عند مشاهدته لفلم العطر يتخيل ان الرواية كتبت لكي يخرجها هذا المخرج الحساس الذي صنع الفلم بشاعرية تحاكي الشاعرية التي طغت علي الرواية مع ملاحظة ان هذا المخرج الملهم ساهم في كتابة السيناريو وحتي في الموسيقي التصويرية للفلم .

    الواقع الممزوج بالخيال
    قصة الفلم مشبعة بالاجواء الخرافية وكأنك تشاهد اسطورة قديمة استوحت سرديتها من الواقع الممزوج بالخيال بخلطة فريدة وغريبة .... تتحدث عن جان بابتيس غرونوي(قام بدوره الممثل البريطاني بين شاو الذي شاهدناه في فلم تاجر البندقية مع النجم ال باتشينو) و غرونوي المهووس بالروائح يري العالم من خلال انفه وكأن حواسّه الأخري معطلة او متروكة ....وهو مأسور بالروائح بكل اشكالها .... ليست العطور والروائح الجميلة فحسب بل وحتي النتنة منها فالروائح عند غرونوي عالم ليس له حدود...... عالم من الأمواج الروائحية المتلاطمة والمتحاربة فيما بينها و الغلبة طبعاً للأقوي و الجديد علي ذاكرته الشميّة فهو يخزن هذا الكمّ المتناقض من الروائح في البوم الروائح الذي يحفظه بنهم..... ولد في اقذر بقعة علي وجه الأرض وأنتنها رائحةً.... ففي مدينة باريس القرن الثامن عشر وفي سوق سمك ولدته امه واستخدمت سكين تقطيع السمك لقطع حبله السري وحاولت التخلص منه كما فعلت مع اخوته الاربعة الذين سبقوه فرمته بين احشاء الاسماك النتنة فهو عبارة عن قطعة لحم صغيرة لايمكن تمييرزها بين الفضلات والاحشاء واللحوم الفاسدة وهكذا تخلصت من اخوته لكنه لم يكن مثلهم فقاوم الموت بشراسة بصراخه صراخا مدويا كشف الام وبعثها للمشنقة بسبب محاولتها لقتله كما فعلت مع إخوته.... (ويستمر يحمل النحس لكل من يرعاه فهم يموتون او يقتلون بعد تركه لهم او تركهم له ).... ومنذ طفولته تأسر غرونوي الروائح بشكل ملفت فيتبعها الي مسافات بعيدة وهو يتحسس الاشياء بانفه فيحس بالبرودة والحرارة واللزوجة والرطوبة وحتي تغوص حاسته الشمية الي المياه العميقة وتتجول فيها بكل حرية وهو مستلقٍ علي ظهره وقد ترك العنان لأنفه المسافر ..... وعندما يكبر ويذهب الي المدينة (بعد ان كان في ملجأ للايتام ثم مدبغة ) يسحبه انفه نحو امواج الروائح المتلاطمة ويظل يتبعها حتي تجره نحو فتاة يتعقبها مأسوراً برائحتها ليحاول التقرب اليها طمعاً في اشباع انفه المتعطش لتلك الرائحة لكنها تفزع منه و تصرخ فيحاول إسكاتها بالقوة فتختنق وتكون هذه الجريمة الاولي التي يرتكبها........
    لكنه يثير استغراب المشاهد في عدم إكتراثه بموت الفتاة فكان كل ما يهمه اشباع هذا الانف الجائع علي الدوام ليمزق ملابسها ويبقي ينهل من رائحتها !! ويبقي بعد ذلك يتبع انفه ليقوده هذه المرة الي محل صانع العطور الايطالي بالديني(داستن هوفمان) الذي يكون مستعدا لتعليمه كيفية تثبيت العطور علي ان يبتكرها له وهو العمل الذي يكون بارعاً فيه.... ثم يسافر الي غراس ليقوم بقتل الفتيات ليستخلص روائحهن ليصنع العطر الذي يعتقد انه يحقق له الكمال ليلقي القبض عليه بعد قتله لابنة تاجر العطور الكبير السيد ريتشير(الان ريكمان ) ليُقدّم للاعدام في ساحة المدينة لكنه يستخدم العطر وهنا تحصل المعجزة فيتحول صياح الجماهير المطالبة بقتله الي طلب الرحمة له لانه (تقي وقِدّيس ) ويتركونه ليهرب ليعود الي باريس وفي سوق السمك محل ولادته يدلق زجاجة العطر كلها علي راسه ليتجمع عليه الناس وينهشوا جسمه ولا يتركوا منه سوي ملابسه ..... ولايتبقي سوي زجاجة العطر الفارغة التي تملأ الشاشة في اخر لقطة من الفلم وهي فارغة الا من قطرة واحدة .....غرونوي قاتل لكنه ليس ككل القتلة لا اعرف لماذا يقفز الي ذهني شخصية (اكاكي) الشهيرة في قصة (المعطف لغوغول) فتلك الشخصية سلبت معطفها فماتت من شدة الالم والخوف من الاخرين ثم تبقي روحه تسلب معاطف الاخرين، أما غرونوي فقد رائحته الخاصة فراح يسلبها من الفتيات الجميلات ويسلب معها ارواحهن ... هو قاتل لا تستطيع ان تكرهه كما لا تستطيع ان تحبه انت تشفق عليه وهو تركيبة عجيبة من المشاعر فلا يهمه حياة انسانة قدر مايهمه رائحتها فيطلب من احدي ضحاياه ان لا تتعصب حتي لا تتأثر رائحتها وبعد ان يعجز من جعلها تهدأ يقتلها ويستخلص رائحتها بهدوء وكأنه قام بشيء كان من الواجب فعله مع إنه لم يكن يريد قتلها هذه المرة.... وبرود الاعصاب الذي يقتلها به مذهل حقا اجاده الممثل بشكل كبير وليبقي المشاهد متحيرا في نوع مشاعره تجاه هذا القاتل العجيب الذي يحاول تخليد ضحاياه بأخذ رائحتهن وتجميعها في قارورة واحدة لتصنع هذه القارورة المعجزات ولنعود الي اهم محطة من محطات حياته والتي شكلت بداية دخوله الي عالم العطور وطريقة تصنيعها و الاحتفاظ بها عندما يلتقي بالديني المعتد بنفسه وبقدرته علي انتاج العطور والذي ابتعد عنه الناس بسبب فقدانه القدرة علي التنافس مع الخبراء الاخرين الذين ينتجون عطوراً جميلة كعطر (الحب والروح) الذي حصل علي شهرة واسعة ويحاول بالديني معرفة مكونات هذا العطر لكن انفه يخذله فيأتي غرونوي ليعطيه المكونات بفطرته وبأستخدام انفه وقدرته الشمية الخارقة ويعيد له الامل في عودته بقوة الي عالم العطور بأبتكاره عطورا رائعة له مقابل ان يعلمه فن حفظ العطور فيخبره ان العطر كالنغمة الموسيقية الذي يحتوي علي اربع روائح او النوتات المختارة بعناية لعذوبتها المتناغمة وكل عطر يحتوي علي ثلاث نغمات ( الراس- القلب والقاعدة) ممايتطلب 12 نغمة والتي تمثل بمجموعها العطر اما النوتة 13 فهي الرائحة الحيوية والتي تدوم الي الابد وهذه اسطورية لايمكن تحديدها ولا الحصول عليها.... وتبقي تلك الرائحة الحيوية هي مبتغاه والتفكير بها ياسره ويحاول الحصول عليها بأي ثمن..... ويتعلم طريقة تقطير رائحة الزهوراو( روح الزهرة ) فكما يسلب الرائحة يسلب الروح لذلك فهو يجهد علي استلاب روائح الفتيات وبالتالي ارواحهن....... ويتعلم طريقة تقطير تلك الروائح العابقة ليجمعها في قنينة واحدة لان الروح لايمكن ان تفني فهو بهذا يمتلك (كما يعتقد) طريقة لحفظ الرائحة الي الابد وعندما تتلكأ عنده عملية حفظ الروائح يمرض الي درجة ان الطبيب يخبر (بالديني) انه علي وشك الموت لانه كرس كل حياته لهذا الامر وفقدانه يعني ان لامعني لحياته وتعود اليه الحياة بعد ان يخبره بالديني أن هناك طريقة تُمكِّنه من حفظ الروائح وهو لايعرفها ويستطيع ان يتعلمها في غراس (بلد العطور) .... فيسارع الخطو الي غراس التي تستقبله بجمال (لورا ) وبرائحتها الأخاذة ويحبها (علي طريقته الشمية طبعا) فغرائزه كلها تتحول الي انفه وكأنه تحول كله الي انف ..... ويعرف منذ البداية ان رائحة تلك الفتاة هي العنصر(13) او الرائحة الحيوية التي يريدها والتي يتحتم عليه الحصول عليها .

    سلب حياة الاخرين
    ولو حاولنا معرفة السبب الحقيقي والدافع الذي يدفع غرونوي لقتل ضحاياه لراينا انه ببساطة يحاول الحصول علي شيء فقده و حرمه منه الناس فحاول استرداده بالقوة وهو مستعد لسلب حياة الاخرين للحصول عليه وهو ببساطة التقدير والاحترام والحب من قبل الاخرين والإعتراف بوجوده علي الاقل وبآدميته ... الإعتراف به كائناً بشرياً حياً يحِب ويحَب .... فقد عذّبته فِكرة أنهُ لايمتلك رائحة خاصة به والرائحة بالنسبة له تعني كل شيء وهو بأفتقاده لرائحة خاصة به فقَد وجوده اصلاً...(عبر عن عدم وجوده بمشهد الحلم الذي رآه لاول فتاة قتلها عندما أراد أن يظهر لها فتلفتت فلم تجد شيئاً علي الرغم من وجوده بقربها لكنها لم تحس بوجوده فهو غير مرئي بالنسبة لها ) لذلك فقد كرّس كل حياته لهذا الهدف الكبير بالنسبة له وهو استنباط رائحة خاصة به من روائح الجميلات ليحصل علي الكمال والاحترام الذي كان يتحرق اليه ... لذلك لم يكن يكترث لضحاياه ويقتلهن بدم بارد لانه يؤمن بسمو هدفه ..اولا ولأن الفتيات كنّ لايحترمنه (لايرينه)..... ثانياً , لذلك بكي في نهاية مشهد ساحة الاعدام عندما تخيل الفتاة الأولي وقد عانقتهُ بحب ولو ان ذلك حصل (لو انها اظهرت له بعض الحب او الود ) لما تجشم كل هذا العناء ولما ازهق تلك الارواح..... بكي بحرقة لانه احس بذلك الحب الذي فقده ......وافتقده ....لذلك يدلق قارورة العطر كلها علي نفسه في احتفالية خاصة به وتعمد ان تكون في مكان ولادته لتكون ولادة جديدة بالنسبة له وليمسح كل الماضي المرّ الذي عاني منه ويحصل علي احترام الآخرين والكمال .... لكنه بدلا من ذلك حصل علي الفناء .... الفناء التام بحيث لم يتبق منه سوي ملابسه التي وجدها الاطفال في الشارع ....

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    والحقيقة ان العطر الذي كرّس كل حياته لصناعته وعاش لأجله ومات وقتل الكثيرات بسببه لم يكن يحقق تقدير الاخرين واحترامهم بل كان يوقظ الغرائز الدفينة ويخرجها الي الخارج ويمارس من يشم ذلك العطر الغرائز بلا وعي منه ... ففي ساحة الإعدام كانت الغرائز النائمة عندهم الغريزة الجنسية وكانوا يكبتونها بقوة وجاء العطر ليفجرها وليمارسوه في الساحة وبلا وعي ... حتي رئيس الاساقفة ... فقد السيد( ريتشير) والد لورا الذي كانت غريزة الانتقام تسيطر عليه تماما فأستل سيفه وتقدم نحو غرونوي ليقول له انك لن تستطيع خداعي ويقترب اليه لكنه عند اقترابه منه .... من العطر تظهر عنده غريزة الابوة التي فقدها بفقدانه ابنته لورا ليعانقه باكيا ويسميه ولدي ... يتبناه بسبب العطر ولأن احد أهم مكونات العطر كانت رائحة ابنته وكأنه تذكرها ... اما في باريس وعندما اوحي له غروره أنه وبعد الذي حدث في ساحة الاعدام ومشاهدته لتأثير العطر علي الناس يعتقد إنه العطر الذي يحقق له ما يريد وإن العطر سيبقي يصاحبه للأبد إن هو دلقه علي نفسه في مكان ولادته ... ولسوء حظه ان المتسكعين الذين كانوا في الشارع عند دلقة للعطر كانت غرائزهم الاستحواذ وسلب الاخرين أشياءهم لأن معظمهم كانوا لصوصاً وشحاذين ومعدمين وجياعاً فنهشوا جسمه بالكامل ....فكانت نهايته وفنائه......
    وكما تحدث الفلم عن خلطات ونوعيات وطرق صناعة العطور فقد كان مزيجاً عبقاً وخلطة رائعة من الخبرات والجهود والحس العالي فالرواية وخليطها الرائع من الافكار والصراعات المتلاطمة والتي عبر عنها المؤلف بدقة متناهية وهي تشكل العنصر الاول والمهم ثم عنصر الاخراج الذي كان أميناً في نقل الرواية الي السينما وتعامل معها بأحساس مرهف وتفانٍ واضح الي درجة انه جسّد الروائح وتأثيرها بحيث إستشعرها المشاهد وتنفسها ساعدهُ علي ذلك السيناريو( المستفز) من قبل الرواية لفريق العمل المتكون بالاضافة الي مخرج الفلم توم تايكوير من اندرو بيركن وبيرند اشنسر .. ثم عنصر التمثيل المتفاني للممثل بن شاو والذي احسسنا بتأثير الروائح الي درجة التعذيب والألم من شدة طغيانها وسحرها وطبعا الاداء المحترف للممثل المرهف الحس داستن هوفمان... يشاطره الاداء الواثق للممثل الكبير الان ريكمان وعنصر الموسيقي التصويرية لفريق اخر متكون من رينهولد هيل وجوهن كليمر بالإضافة الي المخرج توم تاكوير الذي عبرّ وارتقي بالصورة بشكل كبير وبتجانس مع ملاحظة غلبة الاصوات الاوبرالية البشرية فيها والتي اعطت احساسا مضاعفا بالتوحد لعكس الحالة النفسية للبطل والمقاطع الاوبرالية اعطت حيوية وانسانية في التصعيد الدرامي بالاضافة الي الموسيقي الحالمة المصاحبة للأحداث وكذلك عناصر الفلم الاخري كالمونتاج والتصوير والديكور......كلها شكلت مجموعة متناسقة وخليطا متناسقا بقوة ... ثم هناك خلطة من الجنسيات المختلفة التي شكلت ايضا تلك الخلطة الفريدة فالرواية والاخراج كانا المانيي الجنسية والممثل بن شاو اعطي النكهة البريطانية وداستن هوفمان والاخرون اعطوا النكهة الامريكية كما انه مثل دور (بالديني) صانع العطور الايطالي ومكان الاحداث اعطي نكهة فرنسية ... فشكل فلم العطر تجانس كل تلك العناصر التي ملئت رئاتنا بالاحاسيس الجميلة التي لايمكن نسيانها بسهولة وقد تبقي في ذاكرة المشاهد لفترة طويلة جدا ... وربما هي الخلطة التي كان علي غرونوي أن يبحث عنها.
    عن (ألف ياء العراقية)



  2. #2

    رد: رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكند"



    رائحة للحب بلا حب

    تصدرت رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكند" بعد صدورها في ألمانيا قائمة الكتب الأكثر مبيعا لمدة تسع سنوات بلا منازع. وليس من المستغرب أن تترجم هذه الرواية إلى 42 لغة، ويباع منها أكثر من 15 مليون نسخة في أنحاء العالم ، فالرواية تعبق برائحة الإنسان عبر تاريخ معاناته منذ خروجه من رحم أمه حتى رحيله، وتضع يدها على جوهر الحضارة التي صنعها الإنسان، والتي حسمت أمرها حتى الآن ضد الحب ولصالح الحياة


    لم يوافق الكاتب على تحويل روايته لعمل سينمائي منذ صدورها عام 1985، ربما تخوفاً من عدم قدرة المخرج على الإمساك بالخيوط المتشابكة بين الديني والتاريخي والحب والحياة والجسد والروح والامتلاك والسيطرة وسلب الإرادة والمعرفة والجهل. ويبدو أن مبلغ العشرة ملايين يورو التي حصل عليها الكاتب مقابل حق إنتاج روايته سينمائياً جعله يحيد عن موقفه، ويوافق على إنتاج الفيلم. أخيراً وبعد 21 عام من الانتظار، أطل علينا الفيلم بصالات عرض مدينة ميونيخ فى السابع من سبتمبر عام 2006، بعد أن قام المخرج الألماني "توم تكفير" "Tom Tykwer" البالغ من العمر 32 عاماً بإخراجه بنفس الاسم الذي صدرت به الرواية، وبعد أن قام الممثل الإنجليزي "بن ويشو" Ben Whishaw البالغ من العمر 27 عاماً بلعب دور البطل "جان باتيست غرنوى". ووصلت تكاليف إنتاجه 63 مليون دولار.
    على الرغم من المجهود المتميز الذي بذله المخرج والممثلين، والصورة الحية التي نقلها الفيلم عن الحياة في فرنسا في القرن الثامن عشر. إلا أن عبق الرواية قد تبخر للأسف من بين ثنايا لوحاته السينمائية الجميلة. فلم يستطع وعى المخرج تفكيك تلك الرؤية المعقدة التي قدمها "زوسكند" في روايته. فرؤية المخرج للرواية لم تكن حادة كالمشرط كى ما تمكنه من تفكيك عطر "زوسكند" كما فكك "جان بابتسيت غرنوى" بأنفه الحاد كالمشرط عطر "الحب والروح" وعرف مكوناته الأساسية، وأعاد تركيبه بطريقة أكثر عبقرية.
    إن التحدي الذي تواجهه السينما لتحويل هذا العمل الأدبي المفعم بالروائح لفيلم سينمائي لا يكمن فى عجز الكاميرا عن التقاط صور الروائح، بل يكمن في قدرة فريق العمل السينمائي على تجسيد ما تعكسه هذه الروائح من دلالات دينية وتاريخية عميقة فى حياة الإنسان. إن فيلم العطر لم ينجح فى مواجهة هذا التحدي، فوعى المخرج بدلالات هذه الروائح كان قاصراً، فخرج إبداعه السينمائي ناقصاً وتحولت بذلك هذه الرواية ذات الرؤى المتداخلة إلى عمل سينمائي ذو بعد واحد، يروى قصة لسفاح عذارى. وحتى لا يظهر هذا الرأى وكأنه حكماً متعسفاً ضد الفيلم، لابد من تناول الأبعاد المتشابكة التى طرحتها الرواية، وتجاهلها الفيلم.

    الإنسان كائن وحشي
    فى محاولة لفهم دلالات الروائح التى عبقت بها رواية "زوسكند"، نستدعي بداية الرؤية التي طرحها الكاتب على لسان بطله حول طبيعة الإنسان. فغرنوى بطل "العطر" الذي لم تكن له رائحة، قدم لنا رؤية مرعبة عن رائحة الإنسان. فحين أراد أن يقبله البشر كواحد منهم، قلد رائحتهم وصنع عبقهم البشري من مواد مقززة وبشعة مثل "غائط القطط وخل وملح وقطعة جبن قديمة متفسخة تفوح منها رائحة واخزة حادة، ومن رائحة السمك الزنخ وبيضة فاسدة وشئ من الخروع والأمونياك وجوز الطيب ومسحوق القرون وشحم الخنزير المصفى..إلخ". ولتخفيف بشاعة هذه الرائحة سكب غرنوى عليها طبقة من الزيوت المنعشة كالنعناع والخزامى والتربنتين والليمون الحلو والأوكالبتوس. وهنا ضاعت رائحة العطن المستترة بين المواد المنعشة المضافة لدرجة أن ذابت فيها، ولم يعد هناك أي أثر للعفن يلتقطه الأنف، لا شئ على الإطلاق. بل فاح من العطر على العكس عبق قوى مفعم بالحياة". ص161
    هكذا رأى غرنوى البشر من حوله، وتكشف له عطرهم البشرى عطنا متعفنا حتى لو تموه بتلك الطبقة الخفيفة من المواد المنعشة المفعمة بالحياة. ربما تعكس هذه التركيبة العطرية العلاقة بين الدماغ القديم والدماغ الحديث الذي جعل من الإنسان كائن عاقل قادر على التفكير. لكن عقله الحديث لم يقدر على استيعاب القديم والنهوض به، بل أصبح الإنسان مبتكرا ومكتشفاً وعبقرياً من جانب، وشرساً ومتربصاً وأناني ومستحوذ وممتلك وقاتل من جانب آخر. فلم تتمكن قشرة المخ الحديث حتى الآن من السيطرة على الجانب المتوحش بعقله القديم. فهذه الرائحة البشعة القاتلة التى صنعها "غرنوى" للإنسان تعكس على ما يبدو جوهره القاتل (تمساح وسبع ضاري) بينما تمثل طبقة العطر المنعشة عقله الحديث الذي يحاول ضبط الوحشين دون جدوى نتيجة للافتعال والوصاية.
    يعري الكاتب من خلال بطل روايته رحلة الإنسان، الذي لا يزال عقله القديم هو المسيطر عليه وهو عقل غريزي بدائى لا يعرف طريقا للبقاء إلا بالصراع من أجل السيطرة على مصادر الطعام والمياه والأرض. صراع وصل إلى حد القتل (الذى ربما تجسد فى قتل قابيل لهابيل). ولأن الطبيعة لم تكن تغدق عليه دائماً بما يحتاجه من طعام، فقد كان يموت جوعاً، أو يؤكل أو يعيش على الكفاف حتى تمن عليه الطبيعة بما يقتات به، وحين يجد الطعام يصارع الآخرين عليه، حتى يتمكن من الاستحواذ على أكبر قدر ممكن لنفسه، وتتجلى نفس هذه الرغبة، ربما بصورة أغبى، عند الإنسان المعاصر الذى كلما ازداد ثراؤه، وتعملقت سلطته، رغب فى الاستحواذ على المزيد. تجلى ذلك واضحا فى الرواية فى سلوك مدام "غايار" والدباغ "غريمال" والعطار "بالدينى" بمدينة باريس، كما ظهر عند مدام "أرنولفى" و"دروو" بمدينة جراس. حتى "ريتشي" حين أحب ابنته "لورا" بدا بمثابة المستثمر الذى يسعى باستثمارها لزيادة نفوذه وثروته. هؤلاء جميعا لم ينشغل أى منهم بمن حوله من البشر، لم يحب أحدهم أحدا، بل انشغل كل منهم بنفسه المنغلقة على ذاته المتمسكة ببدائيتها المطلقة برغم ما تتغطى به من قشرة مدنية زائفة مصطنعة، هذا الإنسان المعاصر زيف وجوده حين اقتصر على تنمية مهاراته التفوقية ليبقى دون آخر، بل على حسابه. مثل هذا الإنسان لا يشبع غريزته الجنسية بشكل مختلف، فهو يتشمم أنثاه مثلما تشمم غرنوى رائحة العذارى. لقد عرف الإنسان البدائى – الذى تعرى تماما بفضل مهارة الكاتب فى تصوير غرنوى فى كل خطوات مسيرته- كيف يحفظ بقاءه ويسد احتياجه باستعمال أى آخر مؤقتا. يتضح ذلك ضمنا حين نتذكر كيف كانت العلاقات الجنسية مباحة بين الجميع قبل أن تنظمها الأديان والمدنية. إن التحريمات التى جاءت بها التوراة عكست شكل هذه العلاقات بين البشر، بل بين الإنسان والحيوان فى تلك الحقبة . الحب فى ظل حياة الإنسان الأولى كان ولا يزال حتى يومنا هذا "محاولة"، كان ولا يزال حلماً يسعى البشر فى اتجاهه بمعنى احترام الآخر والإحساس بالمسئولية تجاهه. لا المحاولات توقفت، ولا الحلم تحقق، فلزمت التعرية وتصوير المآسى، والخفايا، والفشل، والتشويه، والمناورات، والتحايل، والإحباط، ثم العودة بلا توقف، يجرى ذلك بكل المتاح من أدوات الإبداع، وهذا ما قامت به هذه الرواية بشكل فريد.
    عبر الكاتب عن غياب الحب فى حياة الإنسان، وأعتبره الحد الأدنى من الكرم الذي ينبغى أن يتوفر لديه منذ البداية . وذلك فى قوله: "صرخة أراد بها الوليد الجديد أن يحسم أمره ضد الحب ولصالح الحياة، ..... ولو طالب الطفل بكليهما معاً، لكان بكل بساطة قد نفق وفطس. وقد كان بمقدوره آنذاك أن يختار الطريق الثاني المفتوح أمامه، بأن يصمت فيموت دون أن يتجشم عناء طرق السبيل الآخر ما بين الولادة والموت، ولكان بهذا الخيار قد وفر على العالم وعلى نفسه بالذات الكثير من الويلات. إلا أن مثل هذا الخيار كان يتطلب توفر الحد الأدنى من الكرم الذي لم يمتلكه غرنوى لقد كان شنيعاً منذ البداية. فاختياره الحياة كان نابعاً من إحساسه بالتحدي والكراهية فحسب" (ص 25)
    حين يقارن الكاتب بين غرنوى ودوساد وسان جوست، وفوشيه وبونابرت ونقارن نحن بينه وبين رمسيس الثاني والإسكندر الأكبر، وجانكيز خان، والحجاح بن يوسف الثقفي، ونيرون وهتلر وبوش، والكثيرون غيرهم من زعماء الدول، نرى أن جميعهم لم يفترقوا عن هذا الإنسان الأول الذي كان اختياره للحياة نابعاً من إحساس بالتحدي وكراهية الآخر. وليس من الحب. وأن الإنسان الذى يتصور أنه مفعم بالحياة ليس مفعا بها بشكلها الإيجابي بل هو متمسك بها بلا إحساس مستمر بالآمان.
    غابة المدينة
    بناءً على هذه الرؤية البدائية للإنسان جاء مجتمع المدينة فى رواية العطر مشابها للغابة الأولى التى عاش فيها الإنسان. وهنا يصف الكاتب غابة المدينة التى عاش فيها بطله حتى الثامنة عشر من عمره بقوله: "كانت رائحة الفلاح كريهة كرائحة القس، ورائحة الحرفي المتدرب كرائحة زوجة المعلم. كانت طبقة النبلاء كلها تنضح بالرائحة الكريهة، بما فيها الملك نفسه الذي كانت تفوح منه رائحة حيوان مفترس، ومن الملكة رائحة عنزة شمطاء (ص6). نرى هنا مجتمعا بدائيا، الملك فيه أسد الغابة، والنبلاء أشبال الملك وأسود المستقبل، ورجل الدين مثل الفلاح، والحرفي يقيم علاقة خاصة مع زوجة معلمه، والملكة عنزة تخاف أن يأكلها الأسد. إن مجتمع المدينة لم يغير من بدائية الإنسان بل قمعها فقط. ولهذا يظهر الملك في رواية العطر كحيوان مفترس، احتكر الوحشية لنفسه باعتباره يمثل الدولة. وبالرغم من قوة رجال الدين وسيطرتهم على الدولة منذ فجر التاريخ، لم يكن الإيمان عميقاً في وعي الناس. ولأن الدولة ورجال الدين احتكروا الوحشية لأنفسهم، وحكموا الناس بالحديد والنار، وصلبوهم وقطعوا أوصالهم، وسلبوهم حقهم في الحياة بكرامة، فإنهم بذلك قد سلبوا الدين جوهره العميق وخاصة فيما يتعلق بالعدل لتوثيق العلاقات (الحب) بين البشر. جسد الكاتب من خلال الرائحة صورة لمجتمع ستر عورته المتوحشة بغلالة رقيقة من التدين الشكلي، تدينا خادعا مثل العطر الخادع الذي تجمل به غرنوى. فأعاد الكاتب حكى تاريخ البشرية الوحشي، ولكن داخل المدينة التي تكونت من مجموعة من البشر البدائيين المشوهين معاً.
    مراحل تطور غرنوى
    فى محاولة لقراءة تطور غرنوى كما قدمه الكاتب، تبلغنا رحلة الإنسان منذ نشأته فى الغابة ومحاولته المستمرة للنجاة من الموت والبقاء على قيد الحياة، ثم حياته القاسية فى الكهوف نائماً على الأرض الجرداء بين أدوات صيده وجلود حيواناته. ثم تطور قدرته على الكشف والابتكار وتشيد أعمدة الحضارة، ثم إبداعه لصيغ دينية متعددة تعطي دلالات أولية عن الخير والشر، وتعينه على مواجه اغترابه عن الطبيعة بقسوتها وعطائها، واغترابه عن نفسه التي يتصارعها الخير والشر، واغترابه عن بني جنسه داخل الجماعة البشرية. ثم تحول هذه الصيغ الدينية لأداة سيطرة على مقدرات الجماعة البشرية، وتحويلها لقطيع بشري خاضع لسلطة الملك إبن الإله. وما يمثله ذلك من سلب لإرادة الإنسان، وسحق لإختلافه وتفرده. ولنتابع معا رحلة تطور غرنوى باعتبارها رحلة تطور الإنسان.

    المرحلة الأولي : البقاء على قيد الحياة والتأقلم
    كان غرنوى نهماً في طفولته، يأكل عن ثلاث، فهو لا يعرف متى سيتوفر له الطعام مرة أخري في ظل ظروف الحياة القاسية. كما أنه يرضى بالقليل من الطعام ويتناوله بحب جلى. دون تذمر، فهذا هو ما تتيحه الطبيعة له. كان ينام على الأرض الجرداء بجوار أدوات سلخ الجلود وفى نفس المكان الذي علقت فيه الجلود الخام المملحة. وهو بدائي كالحيوان يتعرف على عالمه من خلال أنفه الحاد، كما أنه نجا من القتل والمرض والموت المحقق. وكبت فى أعماقة طاقة الرفض والتمرد بغرض تخطي عصر الجليد محافظاً على حياته عند الدباغ "غريمال". كان الهدف الأساسي في مرحلة حياته الأولى التي عاشها بمؤسسة مدام غايار وعند الدباغ هو مجرد البقاء على قيد الحياة، بمعنى استمراره حياً. ويصف الكاتب هذه المرحلة بقوله "كان اختياره نباتياً أى كالحبة المرمية التي عليها أن تختار بنفسها، إما أن تنمو أو تموت، أو كحشرة القرادة القابعة على جذع شجرة، والتي ليس لدى الحياة ما تقدمه لها سوى النجاة المتكررة من كل شتاء. ونتيجة لذلك فإن هذه القرادة الصغيرة البشعة تكوّر جسمها الرمادي على ذاتها، كي لا تعرض منه للعالم الخارجي سوى أضأل مساحة ممكنة، وتجعل جلدها أملس كتيماً، كى لا يتبخر منه أي شئ وكي لا تفقد أية ذرة من ذراتها هدراً لصالح العالم الخارجي، وتلجأ إلى تصغير نفسها عمداً، متجنبة بذلك أن يراها أحد فيدوسها. ومثل غرنوى كمثل هذه القرادة الوحيدة، المكتورة على نفسها فوق شجرتها، صماء بكماء عمياء وهى تتشمم فحسب، تتشمم وعلى مدى السنين والمسافات دم الحيوانات العابرة والمتجولة والتي لن تستطيع بقدرتها الذاتية أن تصل إليها مهما فعلت. إن بوسع القرادة أن تدع نفسها تسقط، أن تسقط على أرض الغابة، وأن تتحرك بأقدامها الضئيلة الست بضع مليمترات ذات اليمين وذات الشمال تحت ورقة نبتة ما لتموت، ويعلم الله أن ليس في الأمر ما يحزن، لكن هذه القرادة العنيدة المتعفنة والمقرفة تصر على الحياة وتنتظر، تنتظر حتى تسوق لها صدفة عجيبة الدم، في صورة حيوان ما، إلى تحت شجرتها تماماً. حينئذ فقط كانت تتخلى القرادة عن تحفظها، فترمى بنفسها فوق اللحم الغريب لتتكالب عليه وهى تعض وتنهش"(ص 26) .

    المرحلة الثانية- اكتساب المهارة وإبتكار دلالات دينية
    بعد أن استطاع غرنوى-الإنسان البدائي- أن يحافظ على بقائه حياً، وبعد أن قاوم نقص الغذاء، ونجا من المرض والموت، وأصبح له كهفاً يأوي له، بدأ حياته الثانية عند العطار بالدينى. هذه الفترة من حياة غرنوى هى فترة اكتساب المهارة فى غابة المدينة وإبداع صيغ عطرية. وغرنوى الذي منحته الطبيعة موهبة الشم، التي استطاع من خلالها أن يفكك عطر "الحب والروح" Amor and Psyche ويعيد تركيبه بطريقة أكثر عبقرية، يعيد للأذهان حالة الإنسان الأول بعد خروجه من الغابة مكتسباً موهبته الجديدة وهى العقل. والشم هنا يبدو المعادل الموضوعى للعقل. فإذا كانت حاسة الشم عند الحيوان قد وفرت له غذاءه وأمنت حياته من خطر الحيوانات الأخرى التي تسعي لالتهامه. فإن العقل عند الإنسان هو الوسيلة التي حصل بها على غذاءه وأمن بها حياته وطورها. بالإضافة لذلك فإن الإنسان استطاع بعقله الجديد أن يدرك الكون الذي عاش فيه ويحدد عناصره من هواء وماء وسماء وأرض...إلى آخره، ويعطي لهذه العناصر مدلولات دينية. تلك الفترة التي بدأ فيها الإنسان يتعرف على عالمه ويعيد صياغته هي فجر الحضارة وفجر الوعي بمدلولات جديدة عن الحب والروح والرب والموت. حيث قام بإعادة تركيب هذه المدلولات الجديدة وصياغتها فى شكل دين. والعطر الذي وقع عليه إختيار الكاتب Amor and Psyche يحمل دلالة دينية. ويبدو أن إختياره لاسم العطر "الحب والروح" لم يكن مصادفة، فهذا العطر يمثل صيغة دينية أبدعها كهنة العالم القديم. وبهذا الإختيار المقصود يمكن القول أن الصيغة العطرية لعطر "الحب والروح" تقابل عند الكاتب الصيغة الدينية التي كونها كهنة العالم القديم عن الحب والروح. وبهذا فكهنة العطر يقابلون كهنة المعابد القديمة. والصيغ العطرية تقابل الصيغ الدينية، فلم يكن العطار "بالديني" مجرد عطارا فقد حاسة شمه وقدرته على إبداع صيغ عطرية جديدة، بل بدا كاهنا فقد قدرته على إبداع صيغ دينية جديدة. وغرنوى الذي لم يكن كاهنا أو حتى تلميذا فى معابد الآلهة عرف بموهبته التركيبة الدينية لعطر "الحب والروح"، لكنه لم يعرف الصيغة الدينية لهذه التركيبة. قررغرنوى الموهوب أن يدخل معبد الآلهة ليصبح أحد كهنتها دون أن يعرف الصيغة. فلما سأله "بالديني" كاهن معبد الروائح الذي يعرف الصيغ والتعاويذ العطرية عن صيغة عطر "الحب والروح"، التى تقابل الصيغة الدينية لكهنة المعابد الرومانية، لم يعرف غرنوى الصيغة، لكن موهبته شفعت له لدخول المعبد. وهناك أبدع صيغاً روائحية (دينية) سحرت البشر، وأصبح حرفيا فيها. بينما راح الكاهن العجوز "بالديني" ينسب هذه الصيغ الجديدة لنفسه وتمادى فى ادعاء أنها من وحى إبداعه. وظل العالم يعتقد أن هذه التعويذات العطرية ليست من صنع غرنوي بل من صنع الكاهن العجوز بمبعد الآلهة القديمة.

    وقفة قصيرة عند عطر الحب والروح
    حين أعاد غرنوى البدائي الموهوب تركيب عطر الحب والروح. وصفه "بالديني" بأنه عطر عبقري مقيت. أما غرنوى فلم تعجبه تركيبه هذا العطر وأعتبرها تركيبه رديئة جداً. وحين أضاف لها عددا آخر من الزيوت العطرية، اغرورقت عينا بالدينى بالدموع. فقد كان هذا العطر إلهيا. قال بالدينى عنه "إذا كان عطر "الحب والروح" كعزف كمان منفرد، فإن هذا هو سيمفونية كاملة، بل أِكثر من ذلك. أغلق بالدينى عينيه تاركاً العنان لذكريات باهرة تستيقظ فى نفسه، رأى نفسه شاباً يتبختر مساء عبر حدائق نابولى، رأى نفسه فى أحضان أمرأة ذات شعر أسود مجعد ورأى على إطار النافذة خيال غصن محمل بالزهور تداعبه نسمة ليلية، سمع أسراب طيور تغنى، ومن حانة بحرية بعيدة وصلته الموسيقى، سمع همساً رقيقاً فى أذنه وبوحاً بالحب، وشعر الآن بشعر رأسه يقف من البهجة، فى هذه اللحظة، فتح عينيه وتنهد سعيداً، لم يكن هذا العطر كالعطور التى عرفها الإنسان حتى الآن. إنه ليس كالروائح المستخدمة بغرض تعطير الجو أو الملابس والحاجيات أو مستحضرات التجميل، إنه شئ جديد كل الجدة، عالم قائم بنفسه، عالم سحرى غنى، ينسى المرء كل القرف المحيط به ويجعله يشعر بالغنى والارتياح والانعتاق والسعادة (96).
    إن هذا العطر الذي أعاد "لبالديني" ذكريات قديمة عن الحب بحدائق نابولي هو عطر "الحب والروح" فى تركيبته الأصلية التى تربط بين الروح والجسد فى الأسطورة الرومانية التى أشرنا إليها. فالإله "آمور" له جسد جميل يمثل الحب، بينما تملك البشرية " بسوشا" روحاً تواقة لإله الحب.
    قد تلقي هذه الأسطورة الضوء على رؤية "بالدينى" لعطر الحب والروح فى صورته الأولى قبل التعديل، باعتباره عطر عبقريا ومقيتا، ثم بعد التعديل باعتباره إلهيا مكتمل يجمع بين الحب والروح. فعطر الحب والروح فى صورته الأولى يمثل "الإله أمور" وهو يعزف لحناً بمفرده، أما العطر الثاني فهو سيمفونية حب يعزفها "أمور وحبيبته "بسوشا" سوياً. هكذا كان الإله فى عصر تعدد اللآلهة، إله محب لأرواح البشر. كان يمثل الحب الذي تمتلئ به النفس البشرية.
    لكن غرنوى الذي صنع عطر "الحب والروح" لم يسحر به، فقد كان يكره البشر ويعتبرهم كائنات موهت جوهرها العطن المتعفن بطبقة خفيفة من المواد المنعشة المفعمة بالحياة ، ولهذا فلم يجد فى هذا العطر ضالته. وقضي مرحلة حياته الثانية عند العطار فى محاولة لإبداع صيغة عطرية جديدة تحرم البشر من حب الإله. ينجح غرنوى فى نهاية رحلته فى خلق رائحة للحب بلا حب، في خلق إله لايحب بل يحب. وبهذه الرائحة الجديدة نسف غرنوى الصيغة الدينية للإسطورة القديمة وخلق أسطورة جديدة تجعل من "آمور" إلهاً لا يحب البشر، رغم أنه يمثل الحب. ومن أجل الحصول على عطره المنشود. قطر غرنوى الزجاج والنحاس والخزف والجلد وحجر الصوان. قطر تربة الأرض، قطر الدم والخشب والسمك الطازج، قطر شعر رأسه. وفى الختام قطر حتى الماء، ماء نهر السين. إلا أنه لم يتوصل إلا إلى بعض زيوت النباتات السخيفة. أما نبع تصوراته الغنى الذى لا ينضب فقد بقى مستغلقاً عصياً، لم تخرج منه أية قطرة لرائحة محسوسة، وخاصة تلك التى كان يحلم بها. وعندما أدرك مدى فشله سقط مريضاً حتى كاد أن يموت. (ص111) إن غرنوى الذي حلم بعبق الحب. شعر بعبثية ما يقوم به، فأصبح العالم لا معنى له، لإنه لم يستطع أن ينهل منه أي معرفة جديدة. فرأى أن حياته عبثية وقرر أن يموت. ولما عرف أن هناك مكان آخر فى العالم يمكن أن يتيح له فرصة المعرفة التى يرغب فيها، أستخسر أن يموت قبل أن يعرف. خرج غرنوى من باريس (طيبة) التى نضب معينها، ولم تعد قادرة على إبداع صيغ "عطرية- دينية" جديدة، بعد أن تعلم سر العطر من كهنته، وبعد أن حفظ فى ذاكرته الصيغ الدينية القديمة، متجهاً لمدينة "جراس" (العمارنة)، وذلك من أجل الوصول لعطره المنشود أو صيغته الدينية الجديدة. لكن كرهه للبشر ومحاولة تجنبهم ساقته إلى الجبل حيث عاش فيه عزلته الرائعة المرعبة.

    المرحلة الثالثه- مرحلة الوعي بمحيطه البشرى
    فى هذه المرحلة يدرك غرنوى أنه يكره محيطه الإجتماعي. يدرك أن حياة المدينة كانت خانقة، ومهدده. يتربص فيها الناس ببعضهم البعض للحصول على غاياتهم. وأنه عاش طيله الثمانية عشر عاماً يتقي شرهم. يعبر الكاتب عن علاقة غرينوى بما حوله راصدا رافضا ناقدا كارها للبشر بقوله:
    "الآن فقط، بعد ثمانية عشر عاماً، مع انسحابه المتسارع من باريس أدرك غرنوى أن جوها المترع بهواء السديم الخانق هو ما كان يكتم أنفاسه. كان معتقداً طيلة الوقت أن العالم بما هو عليه، هو ما كان ينبغي إتقاء شره. لكن العالم لم يكن السبب، بل البشر. وبدا له أن من الممكن التعايش مع العالم، العالم الخالى من البشر. خلف غرنوى وراءه روائح المدينة الكبيرة، متقدماً مع كل خطوة نحو هواء أكثر نقاء وصفاء ونظافة، وفي هذا وجد غرنوى نوعاً من الخلاص، فالروائح الطيبة الرفيقة تداعب أنفه. وللمرة الأولى فى حياته لم يكن مضطراً لأن يشم مع كل شهيق شيئاً جديداً، غير متوقع، معادياً، أو لأن يفقد شيئاً ممتعاً. للمرة الأولى كان بوسعه أن يتنفس تقريباً بحرية، دون أن يتشمم متربصاً. كان أقصى ما يُشعره بالانعتاق هو بعده عن البشر. فلم تكن ثمة ثغرة فى باريس دون بشر، ولم يكن هناك حجر أو رقعة أرض لا تفوح برائحتهم. عند إقترابه من أورليان أحس غرنوى بالزخم البشرى فى الهواء، وحزم أمره، أن يتجنب أورليان. لم يرد أن يفسد حرية التنفس التى حصل عليها مؤخراً بجو البشر الزنخ.(126)

    المرحلة الرابعة- غرنوى الإله
    هي مرحلة اعتزال غرنوى العالم فى جبل بلومب دي كانتال، ليس تائباً أو منتظراً وحياً سماوياً، بل مستغرقاً استغراقاً كلياً فى وجوده الذاتي. فى هذه المرحلة يحاول غرنوى التعرف على نفسه، بعد أن هرب من رائحة البخار البشري الزنخة المتربصة. إن المدينة التي لا تتح للإنسان سوى رائحة جماعية تمثل التقاليد والمعتقدات المتعارف عليها، والتي وصفها الكاتب برائحة البخار البشري المكون من مادة التعرق الدهنية ذات النكهة المخضبة بالجبن الحامض، حرمت الإنسان من رائحته الفردية. تلك التى لايدركها أغلب البشر، بينما تبذل القلة التى أدركتها ما بوسعها لموراتها تحت الملابس ومن خلال الروائح الإصطناعية العصرية. فالملك والنبلاء يخفون رائحتهم المتوحشة بالملابس والعطر الصناعي. كما أن كل من اختلف مع ما أقرته الجماعة يحرم من رائحتها بإعتباره كافرا بناموسها. وقد حرم إخناتون من رائحة الجماعة وسمى بالفرعون الكافر لإختلافه مع ديانة آمون السائدة. وما حدث لإخناتون حدث لغرنوى، فالجماعة البشرية رفضت أن تعطي له رائحتها، لأنه جاء مخالفاً لعرفها. ولهذا فقد غرنوى رائحة الجماعة، كما فقد أيضاً رائحته البشرية بعد أن قطعت رأس أمه القاتلة بالمقصلة. لكنه سيصنع لنفسه رائحة إلهية نكاية فى الجميع. تبدأ هذه المرحلة بإن يرتع فى القرق من روائح البشر الكريهه ثم يسحق الشر الذي تمثله هذه الروائح. فيسحق رائحة غرفة نوم مدام غايار المعادية والمشبعة بالبخار، ورائحة أنفاس الأب تيرير الحامضة كالخل، ورائحة عرق المرضعة بوسى الأمومية الدافئة الهيستيرية، أو رائحة الجثث فى مقبرة الأبرياء، ورائحة أمه القاتلة. ورائحة الجلد عند غريمال. وهو هنا يسحق البشر الذين تجرأوا على إهانة أنفه السامي. وكلما سحق الشر المنبعث منهم "وفرقه وأغرقه فى طوفان هائل من الماء المعقم، انتشي من اللذة. هكذا كان عدل غضبه، وبهذه الروعة كان انتقامه. آه! يا لها من لحظة سامية. كان حقاً فعلاً مريحاً، هذا الفعل الماحق، للقضاء على الروائح القذرة كله"(134).
    ثم يملأ غرنوى عالمه بمخلوقات تعبق برائحته الإلهية، وتمجد سيدها العظيم الأوحد. تقدم لنا لوحة الخلق التالية بطل العطر وكانه "أتون" إله الشمس فى عصر إخناتون. فهو من وضع كل مخلوق فى موضعه على الأرض. وأرسل أشعته الناعمة لتدفئ الحقول، وأرسل المطر ليروي البذور، ونفج ريح نفسه لتداعب النبت وتدعوه للتزواج والتكاثر. فتحولت الأرض بفعل "أتون" العظيم لسجادة ملونة من النباتات الرائعة. تقترب أنشودة الكاتب التى ساقها على لسان بطله من أنشودة إخناتون التى تغنى بها لإلهه الأوحد "أتون". وكما استغرق إخناتون فى نفسه وفى إلهه، يستغرق غرنوي فى نفسه كأله ثم كأبن للإله لمدة سبع سنوات، يسحق فيها الشر، ويخلق الخير ثم يستريح. ورقم سبعة المقدس الذي وقع عليه اختيار الكاتب يعيد للإذهان قصة الخلق فى التوراة حيث خلق الرب العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع. يرسم الكاتب ببراعة صورة لغرنوي باعتباره "أتون" تفوق صورته فى أنشودة إخناتون بقوله:
    "وقف غرنوى الجوانى العظيم، كالعملاق، وقف ببهائه وعظمته كلها. وكم كان منظره رائعاً...ألقى بنظره من حوله، بفخر وجلال: طبعاً! فمحيطه كان ملكوته! ملكوت خلقه غرنوى الفريد فى نوعه، هو المهيمن عليه وهو القادر بمشيئته أن يدمره، أن يعيد خلقه... لا سلطة هنا سوى لعالمه، لإرادة غرنوى العظيم الرائع الفريد. وبعد أن قضى على روائح ماضيه العطنة أرادت مشيئته أن يعبق عالمه. خطا واثقاً فى الممرات القفر، باذراً روائح الطيب بمختلف أنواعها، بسخاء.. ناثراً البذور بملء كفه، أو بذرة بذرة دافناً إياها فى أماكن مختارة. وصلت خطوات غرنوى العظيم، البستانى المهووس، إلى أقصى مجاهل ملكوته، وسرعان ما لم تتبق زاوية فى حقوله دون بذرة عبق. وعندما أحس بالرضا لكون الأرض كلها قد أشبعت ببذور غرنوى الإلهية، أمر بمطر كحولى أثيرى.. فبدأت البذور تنتش وتترعرع، وانبثق الخضار اليانع بما يسر الفؤاد. وسرعان ما غمر الزرع البيارات، وفى الحدائق الخفية اغتنت السوق بالنسغ وتفتقت براعم النباتات فاجرة بمكنوناتها. .. ثم أرسل ابتسامة الشمس الناعمة فوق الحقول، فتفجرت روعة الأزهار بملايين مضاعفة، من مطلع الملكوت إلى ختامه، متحولة إلى سجادة ملونة منسوجة من ألوف مؤلفة من أروع الأوراق والأزهار الأريجية. ورأى غرنوى العظيم أن كل شئ بخير، بخير وافر، فنفخ ريح نفسه فوق الأرض لتداعب النبت الذى رضخ للغزل، ففغت ألوفه المؤلفة بعبق متنوع، مختلف الأريج بين الحين والحين، ومتوحد من ثم فى عبق كونى مستمر، يمجده، يمجد الفريد الأوحد، العظيم غرنوى، المتوج على عرش سحابة عطر ذهبية. من على عرشه تنشق غرونوى نفسه المرسل، فملأت رائحة الضحية جوانحه بالرضا. فهبط إلى خلقه موزعاً بركاته الكريمة، فاستقبلته مخلوقاته بصيحات وصرخات الغبطة والابتهاج، مرسلة إليه موجات من العبق الإلهى شكراً وزلفى. خلال ذلك كان الظلام قد حل، وتطايرت الروائح العبقة ممتزجة بزرقة الليل متنقلة بذلك إلى إيقاعات أشد فانتازية، بحيث احتفل الليل بلعبة ألعاب نارية من العبق لا مثيل لها، من حيث الضخامة والأبهة.
    لكن غرنوى العظيم كان قد تعب..، فقال: "ها قد أنجزت عملاً عظيماً، وأنا راض عنه كل الرضا .. لذلك سأنسحب، سامحاً لنفسى فى نهاية هذا النهار الزاخر بالعمل، باللجوء إلى مكامن ذاتى بحثاً عن بقية سعادة".
    هكذا تكلم غرنوى العظيم، بينما كان الشعب البسيط، شعب الروائح العبقة فى الأسفل يرقص ويحتفل مسبحاً بحمده، ثم أبحر بجناحيه المشرعين هابطاً من سحابته الذهبية عبر أرض روحه الليلية إلى بيته فى قلبه.(137)
    في هذه اللوحة الأدبية يظهر غرنوي متوحداً مع "أتون" العظيم حين يطل على العالم فى صور "رع" المتوحد مع حورس" المحلق عالياً بأجنحته المشرعة عبر سماء العالم السفلي المظلمة ليهبط على حافة العالم ويجلب معه الشفق الذي يسبق طلوع النهار ، بينما تحتفل مخلوقاته به وتبتهج لشروقه، وتستنشق أنفاسه وترسل له بعبقها الإلهى.
    بعد أن ألفنا غرنوي فى صورة "أتون"، يفاجئنا الكاتب بنقلة جديدة فى حياة غرنوي، بينما نحن لانزال مستغرقين فى صورته الأولى. يمر غرنوي بتجربة فريدة قرب نهاية إقامته بالجبل حيث يدرك الرب فى صورة ضباب. فى هذه التجربة الجديدة يحتار غرنوي فى نفسه، هل هو "أتون" العظيم أم أنه ابن الخالق العظيم الأوحد. وبقفزة سريعة ينتقل الكاتب من صورة "أتون" فى أناشيد إخناتون لصورة الرب فى التوراة، ويقدم لنا لوحة أدبية جديدة تستقى أبجديتها من العهد القديم.

    المرحلة الخامسة – غرنوى يعرف أن رائحته هي رائحة الرب
    تجسدت هذه المرحلة فى الحلم المروع الذي أيقظ غرنوى من نومه مفزوعاًً، يقول الكاتب: "ورغم أن نومه كان عميقاً كالموت، إلا أنه هذه المرة لم يخل من الأحلام، من أحلام مليئة بخيالات شبحية متداخلة غير واضحة المعالم، لكنه ميز من بينها شذرات رائحة عبرت أمام أنفه فى البداية كاشرطة رفيعة، لتتكثف من ثم، ولتتحول أخيراً إلى ما يشبه السحب. بدا الأمر الآن وكأنه واقف وسط مستنقع ينبعث منه الضباب الذى أخذ يتصاعد ببطء أعلى فأعلى، حتى أحاط بغرنوى من جميع الجهات وأغرقه. ولم يعد بين موجات الضباب ثمة فرجة لنسمة هواء نقى. وإذ لم يكن غرنوى راغباً بالاختناق فقد كان عليه أن يستنشق هذا الضباب. والضباب كما قال، كان رائحة. وعرف غرنوى ماهية هذه الرائحة. كان الضباب رائحته هو، رائحة غرنوى، رائحته الخاصة كان الضباب. والأشد هلعاً فى الأمر الآن هو أن غرنوى الذى عرف جيداً أن هذه هى رائحته، لم يتمكن من شمها. كان بوسعه أن يغرق فى ذاته، كى لا يشم أى شئ آخر، ولكن دون جدوى.
    عندما أدرك ذلك أطلق صرخة مروعة كمن يشوى على النار حياً. فتداعت لصرخته جدران صالونه الأرجوانى وتهاوت أسوار القصر. اندفعت الصرخة من أعماق قلبه متجاوزة قبور ومستنقعات وصحارى وأمداء روحه الليلية، انطلقت من فمه كالصاعقة عابرة منعطفات النفق، منطلقة إلى الدنيا، مالئة المنطقة بأصدائها حتى إلى أبعد من "سان فلور"، ولكأن الجبل نفسه هو الذى صرخ. وكان أن أفاق غرنوى على صرخته، فأخذ يضرب بذراعيه من حوله محاولاً طرد الضباب، لاختنق فى ذاته – ويا لها من ميتة مروعة. وكلما استعاد ذلك فى ذاكرته، عاوده الهلع. وبينما جلس مرتجفاً من أخمصه حتى مفرقه محاولا جمع فوضى أفكاره، كان قد تأكد من شئ واحد على الأقل: لابد من تغيير حياته، حتى ولو كان السبب الوحيد لذلك هو ألا يعاود هذا الحلم المريع ثانية، لأن نهايته ستكون فيه (144-145).
    هذه الصورة التي يقدمها الكاتب تعيد للأذهان صورة الرب فى التوراة. فالرب فى التوراه يظهر فى صورة سحاب وضباب. يقول سفر الخروج-الإصحاح 13 "وكان الرب يسير أمامهم نهاراً فى عمود سحاب" وفي الإصحاح 20 "فوقف الشعب من بعيد، وأما موسى فاقترب من الضباب حيث كان الله. وفى الإصحاح 40 بعنوان مجد الرب "ثم غطت سحابه خيمة الإجتماع، وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع، لأن السحابة حلت عليها، وبهاء الرب ملأ المسكن. وعند إرتفاع السحابة عن المسكن كان بنو إسرائيل يرتحلون، وإن لم ترتفع السحابة لا يرتحلون إلى يوم إرتفاعها".
    فى هذه المرحلة من حياة غرنوى الذي صنع من نفسه إلها يحارب الشر وينشر الخير، جاءه الرب فى شكل ضباب. وكاد أن يخنقه. لم يري غرنوي الرب فى الحقيقة بل جاءه فى الحلم فى شكل سحب. لم يقدر غرنوي على معرفة طبيعتة من خلال أنفه التى يتعرف من خلاله على العالم. أصبح الرب لايري ولا يشم. فكر غرنوي بشكل ميكانيكي بأنه طالما أن رائحته هى رائحة الرب، وأن الرب ليست له رائحة، إذن فعليه أن يتعرف على الرب من خلال التعرف على رائحته الشخصية، لكنه لم يجد لنفسه رائحة. خاف غرنوي من المعرفة الأولى بأن الرب ليست له رائحة، وأن رائحته هى رائحة الرب. فحارب هذا الخوف بخوف من نوع آخر هو جهله بمعرفة رائحته. فى هذه اللحظة يكتشف غرنوي أنه لا يملك رائحة، وأن الرب ليست له رائحة. ماذا يفعل أذن؟؟ أحتار غرنوي هل هو بشر أم إله. ولم يبقى فى وعيه سوى أن الرب بلا رائحة وأنه بلا رائحة، فأصبح هو والرب واحد. ثم أسقط الخوفان وقرر أن يعود إلى عالمه الخارجي الذي فرح بأنه لا يزال موجود. فلبس أثماله وغادر الجبل لإتمام رسالته.

    المرحلة السادسة- غرنوى يخلق لنفسه وللرب رائحة
    غرنوى يعود بمعرفته الجديدة إلى عالم البشر بعد أن اتخذ قراراً بأن يعطي للرب ولنفسه- باعتبارهم واحدا- رائحة. كانت هذه الرائحة التى بحث عنها غرنوى هى رائحة الحب. الحب فى ذاته، منفصلاً عن الجسد. الرائحة التي تسحر البشر وتجعلهم يحبونه ويحبون الرب، كما أحبته مخلوقاته السابقة. إن غرنوى لم يبحث عن الحب كما جاء فى أسطورة "آمور وبسوشا" (الحب والروح)، بل بحث عن رائحة الحب. ولو تصورنا إنسان إيا كان يعيش برائحة الحب وليس بفعل الحب الذي يقوم به، ويحصل عليه من فعل الآخرين، ترى ما سوف يئول له حاله؟
    بدأ غرنوى رحلته فى البحث عن الرائحة الحب. بصناعة رائحة بشرية له حتى يمن عليه البشر ببخارهم ويقبلوه كواحد منهم. ثم أتقن حرفة سلب الرائحة عند مدام أرنولفى، بدأها بسلب رائحة الزهور فتحولت الزهور إلى روح محبوسة فى زجاجات مغلقة بعد أن مات الجسد وتلاشي تماماً. ويرسم الكاتب على لسان بطله عملية القتل كما يلي:
    "كان هذا في موسم النرجس، كان "دروو" يذيب في قدر هائل شحم البقر والخنازير ليحوله إلى سائل كريمي. وبينما كان على غرنوى أن يحركه باستمرار كان "دروو" يرمي فيه الزهور الطازجة رزمة فرزمة. كعيون مفزوعة حتى الموت كانت تتكوم الزهور لبرهة على سطح السائل، ولتشحب من ثم حالما تدفعها ملوق غرنوى نحو الأسفل لتغرق في الدهن الساخن. وفى اللحظة نفسها تقريباً تكون قد تراخت وذوت، وكأن الموت قد فاجأها بسرعة، فلم يعد أمامها خيار آخر سوى أن تزفر تنهيدتها العطرة الأخيرة في المحيط الذي أغرقها. كانت سعادة غرنوى لا توصف عندما أدرك أن ازدياد عبق الدهن يتناسب طرداً مع كمية الزهور التي يغرقها فيه، وأن العبق الصادر عن القدر ليس عبق الزهور الميتة، بل عبق الدهن الذي امتلكه".(185)

    حب يقتل الجسد ويستلب الروح
    كان سلب الزهور روحها وامتلاكه بداية لحبس العذاري فى زجاجات مغلقة. أصبح التلميذ معلماً فى حرفته بل كبير كهنة العطر. وبدأت رحلة غرنوى لاستلاب عطر العذاري، عطر الروح، فكرس أجسادهن للرب، وتعطر هو والرب بروحهن، فأصبح بذلك إلهاً للحب. لا يبعث الروح فى الجسد، بل يأخذ الروح من الجسد. وبدلا من أن يكرس غرنوى الأبكار من بنى الإنسان والحيوان للرب كما جاء فى سفر الخروج: "أنك تقدم للرب كل فاتح رحم، وكل بكر من نتاج البهائم التى تكون لك، الذكور للرب" (اصحاح 13). كرس غرنوى أجساد العذاري للرب. وبدلاً من رائحة شواء الضحية التى قدمت لإرضاء الرب. قدم غرنوى رائحة طاهرة للرب. وبهذا تحولت الفتيات الطازجات اللآتي تفتحت أنوثتهن إلى أجساد شحبت وتراخت وذوت لم يعد أمامها خيار آخر سوى أن تزفر تنهيدتها العطرة الأخيرة. ثم قام غرنوى بتعبئه هذه الإنوثة المتفتحة النابضة داخل قنينات عطره الفارغة وأحكم إغلاقها.
    والعذاري فى التاريخ القديم هم ربات الخصوبة والعشق والشبق والمجون. وقرابينهم فى المعابد القديمة كانت العهر المقدس. فالناس فى العصور القديمة، الأغنياء منهم والفقراء كانوا يهبون بناتهم العذروات قديسات فى معابد الإلهة الأم ليمارسن العهر المقدس من أجل الخصوبة، ويصبحن كاهنات فى معابد آلهات الخصب. وقرابين العهر المقدس كانت قرابين تقدم من أجل النماء، نماء البذرة فى باطن الأرض وخروجها للحياة، ونماء الأجنه فى رحم أمهاتهم وخرجوهم للحياة. ومن المعروف أن المرأة هي أول من أكتشف الزراعة فى العالم القديم، فارتبطت عبادتها بخصوبة الأرض. ورغم أن عذراوات المعبد يمارسن العهر مع الرجال قبل أن يتزوجن، لكنهم فى عرف هذه العبادة يبقين عذراوات. وتعتبر عبادة الربة (الأم ) من أقدم العبادات التى ظهرت فى العالم القديم، حيث كان ينظر الإنسان الى مسألة التوليد والتكاثر على أنها سر خطير عظيم وراءه قوة خفية هى السماء. وهكذا عبدت الإلهات الأم وصنعت لهن التماثيل، مثل أيزيس وحاتحور فى مصر، وعشتار فى بابل. والعرب أسموها عثتر، وأطلق عليها السومريون فى جنوب العراق أسم عناه أو عنات، والإغريق أسموها أفروديت، وهى تانيت عند الفنيقيين والكنعانينن وفى قرطاج بتونس، وفينوس عند الرومان. لكن الديانة اليهودية تخطت عبادة الألهات الأم. وأصبح كهنة المعابد من الرجال. وحرمت اليهودية كهانة النساء فى معابد الرب. وأعتبرت عبادة إلهة الخصب شكلا من أشكال الزنى. وبالعودة إلى عذراوات غرنوى. نجد أنهن لسنا عذراوات معابد العالم القديم. التى قضت الديانة اليهودية على عبادتهن، بل عذروات الديانة الجديدة. فقد ظلوا عذراوات بعد أن قتلهن غرنوى. وغرنوى لم يكن هدفه الحصول على الجسد. بل الروح. وكانت السيطرة على الروح تعني إفناء الجسد. ولهذا كان من الطبيعى أن تتواكب هذه الفكرة الجديدة، فكرة إحتقار الجسد وإحتقار رغبات الجسد مع إفناء كاهنات المعبد فى العالم القديم. ولم يتم الإطاحة بكاهنات المعبد في يوم وليله، بل استمرت المعركة بين كهنة الدين اليهودي وكاهنات المعبد لزمن طويل. وهذا النص التوراتي يوضح لنا هذا الصراع بين الديانة الجديدة والعبادات القديمة. فيقول سفر القضاة- الإصحاح العاشر- أيه 6 "وعاد بنو اسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم والعشتاروث وآلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيون وتركوا الرب ولم يعبدوه".
    ويعكس النص التوراتي القادم ما فعله الرب (السيد) مع كاهنات المعبد. فمن الوصف الذي يقدمه النص لأرديتهن، وزينتهن وعلب العطور والطيب التي يملكونها، نعرف أنهن بنات المعابد القديمة من أصحاب عبادة العهر المقدس. والنص التوراتي يهدد هؤلاء الفتيات بحلق شعورهن وكشف عورتهن، بسبب تماديهن فى المجون والغنج. واليكم ما جاء بسفر إشعياء الأصحاح الثالث الأية 16 حتى الآية 25)

    (16مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ يَتَشَامَخْنَ، وَيَمْشِينَ مَمْدُودَاتِ الأَعْنَاقِ، وَغَامِزَاتٍ بِعُيُونِهِنَّ، وَخَاطِرَاتٍ فِي مَشْيِهِنَّ، وَيُخَشْخِشْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ، 17 يُصْلِعُ السَّيِّدُ هَامَةَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ، وَيُعَرِّي الرَّبُّ عَوْرَتَهُنَّ. 18 يَنْزِعُ السَّيِّدُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ زِينَةَ الْخَلاَخِيلِ وَالضَّفَائِرِ وَالأَهِلَّةِ، 19 وَالْحَلَقِ وَالأَسَاوِرِ وَالْبَرَاقِعِ 20 وَالْعَصَائِبِ وَالسَّلاَسِلِ وَالْمَنَاطِقِ وَحَنَاجِرِ الشَّمَّامَاتِ وَالأَحْرَازِ، 21 وَالْخَوَاتِمِ وَخَزَائِمِ الأَنْفِ، 22 وَالثِّيَابِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْعُطْفِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأَكْيَاسِ، 23 وَالْمَرَائِي وَالْقُمْصَانِ وَالْعَمَائِمِ وَالأُزُرِ. 24 فَيَكُونُ عِوَضَ الطِّيبِ عُفُونَةٌ، وَعِوَضَ الْمِنْطَقَةِ حَبْلٌ، وَعِوَضَ الْجَدَائِلِ قَرْعَةٌ، وَعِوَضَ الدِّيبَاجِ زُنَّارُ مِسْحٍ، وَعِوَضَ الْجَمَالِ كَيٌّ! 25 )
    ومن خلال هذا النص نعرف لماذا قص غرنوى شعر ضحاياه، وعري عورتهن. ولماذا كانت المرأة مقصوصة الشعر عند اليهود وعند أهل كورنثوس عاهرة. فغرنوى الذي عرف أن رائحته من رائحة الرب، فعل كما فعل السيد، فى النص السابق. وهو لم يمسس عذريتهن تأكيداً على عهده مع الرب بأن يصنع له رائحة ذكية، تبعد كل البعد عن شهوات الجسد، رائحة تعبق بالعذرية الحقيقة. وبهذا فغرنوى بهذا المفهوم الديني ليس قاتلا، بل هو من فصل شهوة الجسد عن الروح. لكن الكاتب يعتبره قاتلا أطاح بالجسد حتى أنه أعطى للرواية عنوانا فرعيا باعتبار أنها "قصة قاتل".
    نلاحظ أن عمليات غرنوى القاتلة كانت محاولات مستمرة لفصل الجسد عن الروح، وكأن ذلك هو من قبيل تأكيد العفة وتنقية الروح بعيدا عن الجسد، وهى رؤية تتداخل مع الأديان فيما يتعلق بموقفها من المرأة ومن الجسد عموماً ومن الغريزة الجنسية. وإذا كانت العبادات القديمة قد عبرت عن بدائية الإنسان فى إشباعه لغريزته، فالأديان اتخذت رد فعل عنيف تجاه هذه البدائية. فحقرت من شأن الجسد وأعلت من شأن الروح. واعتبرت المرأة مصدرا للفساد والشهوة، وقللت من شأنها، وسلبتها سلطتها الأولى .
    نقترب بعد هذه الرحلة الطويلة فى تاريخ الإنسان وتاريخ الأديان من مشهد تجلي غرنوى أمام الناس فوق منصة الإعدام، وحفلة المجون الباخوسية التى حدثت أسفل المنصة بعد أن سحروا بعطر العذارى، الذي سكب منه غرنوى قطرة واحدة على نفسه. لقد أعاد عطر العذاري لذاكرة الحشد البشري تقاليد عبادة الآلهات الأم، آلهات الخصب والشهوة. فما كان منهم سوى أن أعادوا إحياء طقوس عبادتهن مرة أخري. فبعد أن كانوا يرغبون فى تمزيق غرنوى إرباً من هيجان حقدهم عليه بسبب قتله لخمسة وعشرون فتاة من فتيات المدينة، راحوا يتنهدون ويتأووهون بسبب النشوة التى أصابتهم حين أستنشقوا عطر العذارى. إن وصف الكاتب لمعجزة التحول هذه على لسان اسقف المدينة يطل علينا وكأنه محاولة للتحرر من الحرمان الذى لم يفرضه الرب بل فرضه رجال الدين على العالم الأوروبى. فقد وصفهم الأسقف بأنهم ضعاف الإيمان، اعلنو الحرمان دون أن يؤمنوا به، ولهذا فإن هذا التحول كان بمثابة معجزة أضاءت عقل الأسقف. فقبل تحقير الرب وإذلاله له. ووجد فى هذا التأديب بالتحقير والإذلال نوعاً من الرحمة به. وتجلت رحمة الرب فى أضاءة عقل الأسقف ومعرفته بأن الرب لم يحرم البشر من شهوتهم التى خلقهم عليها. لكنه دعاهم للحب. وأن الرب لم يفصل الجسد عن الروح بل أن الإنسان هو من تطاول على سماحة الرب. فيقول الكاتب : أما قداسة الأسقف فقد أحنى جذعه إلى الأمام حتى لامست جبهته ركبتيه،... كمن يشعر بالغثيان، علماً بأنه لم يحس بأى غثيان، وإنما ولأول مرة فى حياته بنشوة دينية هائلة، فقد حدثت المعجزة امام الملأ، الرب بنفسه شخصياً أوقف يد الجلاد واظهر كملاك ذاك الذى كان يظنه العالم قاتلاً – آه ما أروع أن يحدث مثل هذا فى القرن الثامن عشر. ما أعظمك يا رب! وما أصغرك أيها الإنسان الذى أعلنت لعنة الحرمان دون أن تؤمن بها، وإنما لإرضاء الشعب فحسب! يا له من تطاول! ويا له من ضعف إيمان! ها هو الرب الآن قد أنجز معجزة! فأى تحقير رائع وأى اذلال محبب وأية رحمة فى أن يؤدبك الرب وانت الأسقف!.
    هذه الإضاءة التى حدثت للإسقف هى نفسها الإضاءة التى حدثت لرجال الدين والفلاسفة قبل أندلاع شرارة الثورة فى فرنسا، والقضاء على السلطة المطلقة للملك المدعومة من الفاتيكان. تلك السلطة التى حرمت الناس حقهم فى الحرية والحياة وحقهم فى الرب الرحيم المتسامح.
    لكن هذه الحفلة الباخوسية لم تسر غرنوي. إن ما تاق إليه هو أن يحبه الآخرون، مع أنه لا يحبهم، بل إنه يكرههم، ويحتقرهم من صميم قلبه لأنهم بلهاء، سمحوا لأنفسهم بأن يخدعهم ويتلاعب بهم. أدرك غرنوى أن الحب لن يشبعه، بل الكره، لكنه كلما ازداد كرهه لهم، عبدوه، إنهم لم يحسوا منه سوى هالته المزيفة، إلا عطره المسلوب. هؤلاء البشر الأغبياء القذرين المستثارين جنسياً كانوا يمثلون البشاعة والإحباط .
    "فعاوده الشعور بالقرف من الناس، وأفسد عليه انتصاره كلياً، بحيث لم يفتقد الشعور بالفرح فحسب، وإنما أيضا الشعور بالرضا، ولو بأبسط أشكاله.... وود لو يشعروا بكراهيته لهم، وأن يقابلوه بالتالى بالكراهية لخاطر هذه المرة الوحيدة التى ينتابه فيها شعور حقيقى، فيقضون عليه كما كانوا ينتوون أصلاً. بينما كان الناس يتأوهون وينتفضون من نشوة اللذة، كانت سحب الضباب الخانقة المريعة تتابع تصاعدها من مستنقع روحه. (255- 256)
    ويكمل الكاتب فى موضع آخر وفى مرة ثانية، عندما كان قد وصل إلى "بورغوند" فكر: عندما وقفت إلى جانب السور تحت الحديقة التى كانت الفتاة ذات الشعر الأحمر تلعب فيها، وعبقها يهب باتجاهى أو بالأحرى الوعد بعيقها، فعبقها المستقبلى لم يكن قد وجد بعد – ربما كان هذا الذى شعرت به آنذاك مشابهاً لما أحس به الناس هناك فى الساحة، عندما غمرتهم بعطرى؟ - لكنه بعدئذ تخلى عن هذه الفكرة: لا لقد كان شيئا آخراً. فقد كنت أعرف أنى أشتهى العبق، وليس الفتاة. لكن الناس ظنوا أنهم يشتهوننى أنا. أما ما اشتهوه فعلاً فقد بقى بالنسبة لهم سراً.(266)
    لقد تصور غرنوى أن البشر فى ساحة الإعدام سوف يحبونه حباً طاهراً، بتأثير هذا العطر الطاهر الذي ينبعث منه. لكنهم بدلاً من ذلك اشتهوا جسده. فجاء تعبيرهم عن الحب غريزياً تماماً مثل تعبيرهم السابق عن القتل. وهنا عاد غرنوى يسأل نفسه متشككاً فى ما كان يبتغيه من الفتاة ذات الشعر الأحمر، هل كان يشتهى جسدها مثلما أشتهوا جسده أم أشتهي عبقها. وبعد هذا التشكك ينقلنا الكاتب لحل اللغز الذي دارت حوله الرواية منذ بدايتها. فيقول وما كانوا يشتهونه فعلاً فقد بقى بالنسبة لهم سراً. ويبدو لي أنهم أشتهوا الحب بمعناه الشامل، وليس بمعناه الغريزي، حباً تلتقي فيه الروح مع الجسد. فالشهوة وحدها ليست حبا، بل هروب وإغتراب. والروح وحدها هي إنفصال عن الحياة. بينما الحب هو فعل يحدث بين البشر الأحياء وليس بين أرواح هائمة، فعل تندمج فيه الروح مع الجسد.

    غرنوى وإعدام بديل عنه
    تتقاطع مسألة قتل "دروو" بدلاً من غرنوى مع بعض التصورات الدينية المختلف عليها. فالرواية تدور حول العلاقة بين الجسد والروح، وهي مسألة جوهرية فى المسيحية، تري هل شنق دورو بديلاً عن غرنوى مجرد حادثة عابرة لا ينبغى الوقوف عندها، أم أنها إشارة لم جاء فى القرآن الكريم: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم". يقول يوحنا فى أنجيله (8-59) "فرفعوا حجارة ليرجموه، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازا في وسطهم ومضى هكذا". أو إشارة لنجاة بولس الرسول من الرجم. وعموماً تتشابه نجاتهم من الموت مع نجاة غرنوى، حين خرج من مدينة "جراس" دون أن يشعر به أحد. يبدو أن دراسة الكاتب للتاريخ، قد عكست نفسها عليه. ويبدو أنه هضم التاريخ وتمثله فأصبح يتدفق فى عروقه، فخرج إبداعة مضمخاً بعطر التاريخ. فنفخ روح الدين والتاريخ فى شخصيات الرواية.
    حين يحاول المرء تفكيك شخصية غرنوى سيجد صعوبة شديدة، فغرنوى يعبق بتاريخ العديد من الشخصيات التاريخية والدينية. ولا يمكن القول بانه أتوم أو اتون، ولايمكن القول أنه لويس السادس عشر الذي سيق للإعدام فى عربة ملكية تجرها الجياد، ولايمكن القول بأنه بولس الرسول الذي أزاح المرأة فى رسائله. ولا يمكن القول بأنه إخناتون أو موسى أو السيد المسيح. ولايمكن ... ولا يمكن. لأن شخصية غرنوى كانت خليطاً من كل هذا التاريخ الذي تمثله الكاتب. يقول الناقد الألماني "جيرهارد شتادل ماير" : "فى هذه القصص يؤكد باتريك زوسكند، صاحب رواية العطر، قدرته الفائقة على خلق شخصيات من جنين الواقع، ينفخ فيها روح الإبداع، فتتشكل أمامك متحررة من النموذج، فلا تصبح مثالاً لشىء ممكن فى الوقت الحاضر وحسب، بل تغدو شخصيات، ورؤى يمكنها بمادة الماضي إستدعاء الأهوال البعيدة وإسقاطها على الحاضر".
    ولأول مرة فعلوا شيئاً عن حب
    يخرج غرنوي من جراس دون أن يشعر به أحد، لا يعرف إلى اين، يتوقف أمام الجبل، لكنه لم يعد يرغب فى العودة إليه. تتنازع غرنوي رغبتان، الرغبة فى السيطرة على البشر والرغبة فى الموت. فقد كان يملك "قدرة أقوي من سلطة المال وسلطة الإرهاب وسلطة الموت. أنها القدرة التى لا تقاوم، والتى تجعل الناس يحبون". لكن ما فائدة هذه القدرة وهو لا يقدر على معرفة نفسه. هل هو الإنسان أم الإله الأوحد، أم إبن الإله أم الإنسان القاتل. هل هو إله يحب البشر أم يريد السيطرة عليهم. هل يحب المرأة أم يكرهها. هل أستطاع أن يحب نفسه حتى يتمكن من حب البشر.
    فكر غرنوي فى البداية فى السيطرة على البشر من خلال صيغته الدينية الجديدة، ووصف الكاتب هذه الرغبة بقوله:
    بين الحين والآخر كان يمد يده إلى جيبه ويقبض بها على قارورة عطره الزجاجية الصغيرة، التى كانت لاتزال ممتلئه تقريباً حتى آخرها. فهو لم يستهلك منها سوى قطرة واحدة لمشهده ظهوره فى "غراس". وما تبقى فى القارورة كاف لسحر العالم أجمع. فكان بإمكانه إن أراد أن يجعل لا عشرة آلاف بل مئة ألف يحتلفون به فى "باريس"، وقد يتمشى إلى "فرساى" ليجعل الملك يقبل قدميه، وأن يكتب للبابا خطاباً مضمخاً بالعطراً، ويتجلى بإعتباره المسيح الجديد. أو أن يرسم كإمبراطور أعلى أمام الملوك والقياصرة فى "نوتردام"، بل حتى كإله على الأرض، إذا ماكان ذلك أمرا لايزال معمولا به .
    إن غرنوي الذي يملك صيغة دينية ظاهرها الحب وجوهرها القتل كان بإمكانه السيطرة على العالم. بإمكانه أن يجعل من نفسه إمبراطور يمثل الإله على الأرض، ويجعل البشر يحبون القاتل لإنه مضمخ بعطر الحب. لكن غرنوي فضل الموت، لا اعرف فى الحقيقة لماذا. ربما لعجزه عن التواصل مع محيطة بطريقة ترضية.

    فوق مقبرة الأبرياء بباريس، وفى نفس البقعة التى ولد فيها وسط أحشاء الأسماك المقدسة تنتهى حياة البطل بشكل درامي بعد أن سكب زجاجة العطر على جسده، تمهيداً لإستقبال الموت. فقد "أراد أن يذهب إلى باريس ويموت، هذا ما كان يريده". وموت البطل معطراً يعيد للإذهان أيضاًَ قصة السيدة التى سكبت زجاجة العطر على السيد المسيح، ولما اغتاظ منها تلاميذ المسيح لأن زجاجة العطر كان يمكن بيعها بثمن كبير لإطعام الفقراء. قال لهم "لماذا تزعجون المرأة، فإنها قد عملت بي عملاً حسناً، لأن الفقراء معكم فى كل حين، أما انا فلست معكم فى كل حين. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي إنما فعلت ذلك لأجل تكفينى".
    لكن رائحة الحب التى غطت جوهر غرنوي القاتل لفتت إنتباه اللصوص والقتلة وضاربو السكاكين والعاهرات والفارون من الجيش والشباب الجانحون فما كان منهم سوى أن أكلوه. ويصف الكاتب ذلك بقوله: "وللحظة تراجعوا من حوله تهيباًَ، ونتيجة الدهشة الهائلة، وفى اللحظة نفسها كانوا قد شعروا بان التراجع لم يكن سوى مقدمة للهجوم، وأن تهيبهم قد تحول إلى شهوة، ودهشتهم إلى حماس، شعرورا بأنفسهم منجذبين إلى هذا الرجل الملاك، كانت تصدر عنه قوة امتصاص متوحشة. أو جزر هادر ليس بوسع مخلوق مقاومته، فكيف إن لم يكن هناك من يرغب بمقاومته، فما كان هذا الجزر يشده ويجذبه باتجاهه هو الإرادة الإنسانية نفسها: إليه هو. ... شكلوا حلقة من حوله وبدأوا يضغطون ويتدافعون ويتزاحمون ...ودفعة واحدة سقط عنهم آخر ما تبقى من تحفظهم تجاهه وانهار شكل الحلقة، فهجموا على الملاك، انقضوا عليه ورموه أرضاً. كل واحد منهم كان يريد ملامسته، كل منهم أراد أن يحصل على جزء منه، على ريشة صغيرة أو جناح، على شرارة من ناره الرائعة. مزقوا عنه ثيابه، ثم شعره وجلده عن جسمه، نتفوه وغرزوا اسنانهم ومخالبهم فى لحمه، كالضباع انقضوا عليه.
    لكن الجسد البشرى قاس وليس من اليسير تمزيقه، حتى على الكلاب، وهكذا التمتعت الخناجر فجأة لتنغرز فيه وتقطعه، ثم هوت الفؤوس والسواطير على المفاصل مهشمة العظام، وخلال دقائق كان الملاك قد تمزق إلى ثلاثين قطعة، خطف كل فرد من المجموعة إحداها، منسحباً إلى الوراء وقد ملأه الجشع الممتع ليلتهمها. بعد ساعة كان جان باتيست غرنوى قد اختفى عن وجه الأرض دون أدنى أثر.
    عندما اجتمع أكلة لحوم البشر بعد الوجبة حول النار ثانية لم ينبس أحدهم بحرف، أحدهم تجشأ، والآخر بصق عظمة، والثالث تلمظ قاذفاً فى النار نثرة من البزة الزرقاء، كانوا جميعهم فى حيرة من أمرهم قليلاً، ولم يجرؤوا على النظر فى وجوه بعضهم بعضاً. كان كل منهم، رجلاً أم امرأة قد ارتكب سابقاً جريمة قتل أو شيئا فظيعاً ومشيناً من هذا القبيل. أما أن يتلهموا رجلا؟ لم يكن فى ظنهم أنهم قادرون على ارتكاب مثل هذا الفعل المروع أبداً. واستغربوا أن الأمر ببساطة قد أعجبهم، وأنهم رغم حيرتهم لا يشعرون بأى شئ من قبيل تأنيب الضمير. بل على العكس فرغم الثقل الذى كانوا يحسون به فى معداتهم، كانت قلوبهم خفيفة جداً، كما امتلأت نفوسهم المظلمة فجأة بمرح طاغ، وعلت وجوههم مسحة من السعادة رقيقة. ربما كان هذا هو سبب خجلهم من رفع بصرهم والنظر فى وجوه بعضهم البعض. وعندما تجرأوا أخيرا على ذلك، تلميحاً فى البداية، ثم صراحة، كان عليهم أن يبتسموا كانوا فخورين إلى أقصى حد، فلأول مرة فى حياتهم فعلوا شيئا عن حب.
    تثير هذه الجملة الأخيرة التى ختم بها الكاتب روايتة " فلأول مرة فى حياتهم فعلوا شيئا عن حب" حالة من الحيرة الشديدة. إن فكرة "أكل لحم البشر عن حب" تقع وقع الصدمة على عقل الإنسان المعاصر. لقد سمعنا عن أكل لحوم البشر، لكننا لم نسمع قط أن هذا الفعل الشنيع يمكن أن يحدث بدافع من الحب. لكن أفراد القبائل البشرية فى العصور القديمة كانوا يأكلون زعيمهم أو كبيرهم أو أبيهم عن حب. فهم من ناحية يحتفظون بقوته وفضائله بداخلهم، ومن ناحية أخري يتحررون من استلابه لإرادتهم. وقد ظلت قبائل الهنود الحمر حتى أكتشاف أمريكا تمارس هذه العادة حتى القرن السادس عشر . كان أكل الأخوة الذكور لزعيم العشيرة البشرية الأولى يعلن تحديهم لسلطته المطلقة التى جعلته يحتفظ لنفسه بكل نساء العشيرة ويحرمهم حقهم فى أى امرأة من نساءها. ويبدو أن فكرة القتل الأولى فى أسطورة إيزيس وأوزوريس تعكس ضمن ماتعكسه فكرة الصراع بين الأخويين "أوزوريس" و"ست" حول النساء والملكية والعرش. وقد أنتصرت الأسطورة للإبن حورس الذي ظل ينتقم من عمه "ست" المتخفى فى الخنزير وغيره من الحيوانات التى حرم أكلها على المصريين منذ العصور القديمة، بينما تم تكريم الأب "أوزوريس" ليصبح إله للحساب والعقاب فى العالم الآخر. وظل العالم يحتفل بقيامتة فى عيد الفصح. ويبدو أن عطر العذاري الذي سكبه غرنوي على نفسه اعاد لذاكرة السفلة استحواذ الأب على العذارى، فأيقظت لديهم ذلك الطقس القديم لأكل الأب. بدا غرنوي من خلال عطره وكأنه الأب الأنانى الذي إستحوذ لنفسه على العذارى. بينما بدا السفلة ذوي القلوب المظلمة وكأنهم أخوته الذين يتطلعون لمشاركته. ولهذا فقد أشتهوه. أشتهوه ما يمثله من قوة وقدرة جنسية وسلطة. فقد تاقوا لأن يكونوه. فأكلوه ليحتفظوا به داخلهم. ولهذا لم يشعروا بالذنب، بل أمتلئت نفسوهم المظلمة بالمرح والسعادة. لم يكن احد منهم يعرف أن الرغبة التى اجتاحته لقتل الأب قد أجتاحت اخوته أيضاً. وحين أكتشفوا أن أكل الأب لم يكن رغبة منفردة بل رغبة جماعية، أبتسموا لبعضهم البعض وشعروا بالفخر. فقد أحتفظوا به داخلهم، فأحبوا أنفسهم به، وأحبوا بعضهم من خلاله، وتخلصوا من سيطرته فتحرروا منه، لكن جسده الماثل فيهم ظل يجمع بينهم. وبأكل الأب اجتمع شمل الأخوة الذكور الذين استبعدهم الأب وطردهم من عشيرته. وانتقل الإنسان من مرحلة القطيع المكون من ذكر واحد وعشرات الإناث، إلى مرحلة الجماعة البشرية المكونة من العديد من الذكور والعديد من الأناث. وشكل هذا الإنتقال أول تنازل عن الغريزة الحيوانية لدي الإنسان. وبهذه النقلة التطورية، خطا الإنسان خطوته الأولي على طريق الحب، ولايزال متعثراً فالطريق شاق وعسير ويحتاج لجهد مضنى وتكاتف شديد وصبر من كل البشر. لقد ظلت وستظل فكرة سيطرة كائن أعلى على مقدرات الجماعة البشرية نكسة تطورية فى حياتها. لأنها تطيح بالعدل، وتقضي على الحب الذي ولد لتوه بين أعضاء الجماعة البشرية. هذه الفكرة تولد الحقد والكراهية بدلاً من الحب، وتقود البشرية للقتل والحرب وإنهيار الجماعة البشرية، وفناء الجنس البشري عن آخره. أنهى الكاتب روايته العبقرية بهذا الجملة المحيرة ليضع البشر أمام تحدي صعب للغاية، عليهم مواجهته كل لحظة. فإما أن يأكلوا الكائن الأعلى مستلب الإرداة قبل أن يتعملق، وإما أن يفنوا لأنهم اتاحوا له فرصة النمو السرطانى، فاصبح استأصاله يعنى إستئصالهم أيضاً. إن هذه الرواية تؤرخ لبداية مرحلة جديدة فى تاريخ البشرية ونقلتها التطورية القادمة. لكن العمر لن يسمح لنا برؤيتها والفرح بها. فليفرح بها أبناءنا.

    معالجة سينمائية متصورة للرواية
    فى تصور آخر كروكي لمعالجة سينمائية لرواية بهذا التعقيد، وبهذا التداخل التاريخي، يمكن أن يتخذ الفيلم أكثر من مستوي زمنى للإنتقال بينهم ذهاباً وعودة كما حدث فى فيلم "الساعات". حيث تنتقل الكامير بين مشهد ولادة غرنوي بين إحشاء السمك، وبين تقديس السمك فى مصر القديمة ودلالة السمك فى المسيحية، ثم مشهد نجاته من الموت ومشهد نجاة الطفل موسى والطفل يسوع من إيدى قتلته. أما مشهد قتل الأم فيمكن أستدعاءه مع مشهد آخر يقطع فيه حورس رأس أمه أيزيس ويصعد به للجبل، بعد أن أظهرت تعاطفاً مع أخيها "ست" وغرزت حربتها الذهبيه دون قصد منها فى جسد أبنها المتخفي فى فرس النهر وهو يحارب عمه "ست"، والانتقال منه لمشهد قتل "الزانية الكبري" فى بابل القديمة كما جاء وصفه فى رؤيا يوحنا. ولتجسيد المرحلة الأولي من حياة غرنوى يمكن أن تنتقل الكاميرا بين باريس فى القرن الثامن عشر التى أوشك أن يموت فيها غرنوى بعد ولادته، ، ثم العودة لحياة الإنسان الأول فى الغابة وتصويره وهو يقطف الثمار ويصيد فريسته ويتعرض للموت كل لحظة. وتصوير حياة القرادة والبذرة التى يقذف بها إلى الأرض فإما أن تحيا أو تموت.

    من الممكن أيضاً عقد مقارنه بين حياة غرنوى عند الدباغ غريمال وبين حياة الإنسان الأول فى العصر الحجرى وهو يرتدى جلد الحيوان وينام فى الكهوف، وبين حياة السجناء والعبيد بأنفاق مناجم الرصاص المحفورة تحت الأرض بقبرص. فهناك قضي العبيد والخارجون عن القانون والمسيحيون الأوائل، عقوبة الأشغال الشاقة مدي الحياة. وهى أبشع عقوبة يمكن تصورها، ولا سبيل لمن حكم عليه بها أن يعود للحياة فوق الأرض مرة ثانية.
    بعدها تتنقل الكاميرا بين حياة غرنوى عند العطار بالديني وبين معابد نابولى حيث نشأت صيغة عطر الحب والحياة. ثم تقدم لنا صورة للحياة بمصر القديمة، وتقدم طقوس عبادة الآلهة المختلفة فى المعابد المصرية حتى عصر إخناتون، ثم تنتقل إلى طقس عبادة الإله "أتون" فى عهد إخناتون. ويمكن عقد مقارنة بين الثورة الفرنسية وتصوير الجدل الدائر بين الفلاسفة ورجال الدين وبين الثورة التى حدثت فى عهد إخناتون والجدل الذي دار بين كهنة آمون وكهنة آتون. وإستحضار العلاقة القوية بين الآلهة والعطور والبخور. فنري معابد الآلهة تعبق بالبخور، وأجساد الآلهة تدهن بالزيوت العطرية. ونري ايضاً الطريقة التى تمسح بها الآلهة ملوك مصر القديمة لإعتلاء عروشهم. وتقدم لنا الكاميرا صورة حول تطور حرفة صناعة العطور. وكيف ينقع الحرفيون أنواع الراتنج والأخشاب العطرية فى الماء والزيت ليصنعوا منها البخور، وكيف كانو يستخدمون العطور فى تحنيط مواتاهم، وكيف سجلت البرديات والمعابد القديمة الدور الذي لعبته البخور والعطور فى حياة الكنهة والألهة المقدسة. وتنقلنا الكاميرا فى جولة داخل معبد الملكة حتشبسوت التى سجلت جدرانه بعثاتها لجلب البخور وفي جولة بحديقة المعبد التي أمتلئت فى العصور الغابرة بأشجار البخور التى جلبتها فى بعثاتها التجارية. وإلى مقبرة توت عنخ آمون التى ظهر بها أثر لطيب منبعث من مراهمِ في قوارير مختومة بإحكام عندما فتح المقبرة.
    بعدها ينقلنا المخرج لمعبد يهودي تتصاعد البخور بأروقته، ويجسد لنا الفيلم العطر كما جاء بالتوارة "خذ لك عطوراً ميعة وأظفارا وقنة عطرة، ولبانا نقيا، تكون أجزاء متساوية فتصنعها بخورا عطرا، صنعة العطار مملحاً نقياً مقدسا"، "والبخور الذي تصنعة على مقاديره لا تصنعوا لأنفسكم، يكون عندك مقدس للرب، كل من صنع مثله ليشمه يقطع من شعبه". ويأخذنا فى جولة سريعة لمعبد من معابد العالم القديم حيث يقوم الكهنة بإشعال بخور الرب، ومن هناك نعود لكنيسة مونبيلية لنري بخور الرب ونسمع غرنوى وهو يقول: "أن رائحة الرب نتنه"، بينما التمع ذهنة بفكرة السيطرة على البشر. ومنها ننتقل إلى مصر حيث أعواد البخور المنتشرة بالمنازل والمحال التجارية بالموسكي ونري المباخر التي يحملها البعض فى شوارع مصر قبل صلاة الجمعة.
    ثم تتجول الكاميرا فى معابد الآلهة القديمة وتصور لنا طقوسهم وأضحيتهم. وبينما تتصاعد رائحة الضحية فى المعابد القديمة يحكى لنا أحد الكهنة قصة الخلق ، وتنتقل الكاميرا بين هذا الكاهن وبين غرنوى وهو يحكي لنا قصة الخلق فوق جبل بلومب دي كانتال. وتصور لنا الحياة فى قري فلسطين القديمة والأضحية التي رش اليهود دماءها على قدس أقداسهم وحرقوا أحشاءها فوق مذابحهم لإرضاء الرب.

    إن لقطة مثل حفلة المجون الباخوسية بمدينة جراس يمكن توصيل مغزاها أكثر من خلال الرجوع لمعابد الإلهة الأم فى العراق القديم وفى مصر وبلاد الشام. كما أن تجسيد قتل العذاري فى الفيلم لابد وأن يرافقه صورة للتحول من الفجور العذري إلى الرهبنة العذرية. ومن العري إلى التحجب. ومن الحرية المطلقة التي عاشتها المرأة إلى العبودية االمطلقة. ومن قتل شهوة الجسد إلى التمسك بالروح الطاهرة. إن نقل الكاميرا لصورة المرأة فى معابدها القديمة وتغير صورتها فى اليهودية والمسيحية، وفى العالم الإسلامي. وداخل االجيتوهات التركية بألمانيا، وجرائم الشرف المتكررة التى يقوم بها الرجال، وصورتها المتحررة فى العالم الغربى يمكن أن يعكس لنا فكرة قتل العذاري. والإنتقال السريع للكاميرا بين لحظات القتل المتكررة فى الأزمنة التاريخية المختلفة التى ذكرناها يمكن أن يلقي الضوء على ما أحدثه عطر العذارى من تأثير على الناس بمدينة جراس.

    أما حفلة أكل جسد غرنوي، فيمكن تناولها من خلال المقابلة بين أكثر من لوحة سينمائية، تعيد الينا حالة القطيع البشري الأولى. الأب وهو مستحوذ على عذارى العشيرة. الأخوة الذكور وهم مطرودون خارج العشيرة. طقوس الزواج القديم التى أعطت لزعيم القبيلة الحق فى العروس قبل أن تذهب لبيت زوجها، واعطت لملوك المغرب حتى عهد قريب الحق فى العروس ليلة دخلتها. ثم تجسيد طقس أكل الأب فى العشيرة البشرية الأولي فى المكسيك ولدي قبائل الهنود الحمر بشمال أمريكا، وفي العراق ومصر وروما وأثينا وكريت وفلسطين وبين القبائل الجرمانية وقبائل الفياكينج فى الدول الإسكندنافية فى العصور القديمة. وتصوير حالة الفرح والسعادة والإحساس بالإنعتاق بعد أكل زعيم القبيلة.

    إن التصور السينمائي حول البزة الزرقاء نبغ لا ينضب. فاللون الأزرق لعب فى التاريخ الديني للشعوب دوراً متميزا فهو لون الضحية عند البعض منها، ولون لدم الملوك، ولون للآلهة عند البعض الآخر ويبدو أنه يشير للون السماء باعتبارها إلهة، حتى أن القرابين المقدمة لها تدهن بنفس لونها. ويمكن أن يصنع الإخراج من هذا اللون ملحمة تاريخية. لقطات سريعة تنتقل فيها الكاميرا بين خروج غرنوى من العربة المغلقة التي تجرها الجياد، ويقودها حوذى إلى جانب خدم فى زى رسمى ومن حولها كوكبة من الفرسان، وبين عربة لويس السادس عشر الملكية عند وصوله لساحة الإعدام. ثم إلى أهرامات المكسيك حيث يقوم كاهن شعب المايا بدهن إنسان باللون الأزرق تمهيداً لتقديمه ضحية للرب، وقتله فوق قمة الهرم فى إحتفالية طقسية بضربه بالسهام حتي الموت أو بعد توثيق الساعدين والساقين بينما يشق الكاهن صدره بسكين حاد مقدس من حجر الصوان لينتزع القلب وهو ينبض ليشوي في النيران المقدسة قرباناً للآلهة . ثم لقطة فى الصين تجسد اللون الأزرق المرتبط بالخلود ومنها إلى الهند حيث الإله كريشنا يرتبط باللون الأزق، ومنها إلى مصر حيث الخرزة الزرقاء التى تمنع الضرر والحسد. ثم تكوين سينمائي من الجرافيك يجسد العقيق الأزرق الشفاف كما جاء بسفر الخروج:" ثم صعد موسى وهارون و"ناداب" و"أبيهو" وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إلـه إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ولكنه لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل. فرأوا الله وأكلوا وشربوا...(الإصحاح 28)

    إن العطر كفيلم يمكن من خلال هذه النقلات الزمنية المتداخلة أن يعكس ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا معا. هذا أمر يحتاج إلى عبقرية فنية تعيد تشكيل النص الروائى فى سينما قادرة على احتوائه والإضافة إليه. إن فيلم الساعات عن قصة حياة الأديبة الأنجليزية فرجينيا وولف أستطاع من خلال الانتقال بين حقب زمنية مختلفة أن يحل هذه الإشكالية بطريقة ناجحة.
    نهاية مفتوحة ودعوة للعودة
    يبقى لنا فى النهاية أن نقول أن العطر روايه متشابكة الأبعاد لعب أبطالها أدوارهم على مسرح القرن الثامن عشر الذي شهد صراعاً مريراً بين فلاسفة التنوير وبين رجال الدين. لكنها عكست أيضا قضية استلاب النفس البشرية وغياب الحب بشكل ممتد، فهما أمران لا يزالان يشغلا عقل الإنسان فى الوقت الحاضر. فكما سلب رجال الدين فى القرن الثامن عشر إرادة الإنسان، سلبت الآلهة القديمة حياة الإنسان وإرادته. ولايزال الوقت الحاضر يجسد هذا الصراع العنيف بين الأديان، ولا يزال البشر البسطاء يحلمون بالله الرحيم العادل الحق. ولا يزالوا يحلمون بالسلام والمحبة ووقف سفك الدماء ووقف الحروب باسم الرب.

    يرى النقاد أن رواية العطر تعد بمثابة رد أوروبي على صرعة الواقعية السحرية فى أدب أمريكا اللاتينية . ورغم صحة ذلك إلى حد بعيد، إلا أن الأدب وباقي الفنون فى جميع دول العالم لاتنافس بل تكمل بعضها بعض، لتأخذ بيد الإنسان فى رحلة وعيه بنفسه وبإشكالية وجوده. إن هذه الرؤية لم تتعرض لكل الأفكار التى طرحتها الرواية. فنقد رواية بهذا الثقل والعمق يحتاج لكتاب بحجمها أو أكبر، يتيح للناقد فرصة لتناول كل تفصيلة من تفاصيل هذه اللوحة الفسيفسائية متقنة الصنع. فكل كلمة كتبها الكاتب مدروسة بعناية، ومقامة فى المكان المخصص لها، لتعطي دلالات عميقة ومتنوعة لجوهر النفس البشرية.
    وبعد،
    ليست هذه الرؤية إلا محاولة بادئة لقراءة مجتهدة آمل أن أكون قد قدمت من خلالها وجهة نظر متواضعة تسهم فى سبر غور هذا العمل الرائع الذى يحتاج لأكثر من قراءة وأكثر من معالجة سينمائية وأكثر من نقد وأكثر من رؤية، حتى أننى وأنا أنتهى منه، شعرت وكأنى أريد أن أبدا من جديد. هكذا الإبداع يغرى بكل ما يعد به. والباب مفتوح لمزيد من النقد ونقد النقد.

    19 مارس 2007
    amal_zaki@hotmail.com
    كاتبة وناقدة سينمائية ومترجمة من اللغة الألمانية من مصر
    http://jidar.net/jed/modules.php?name=News&file=article&sid=1666

  3. #3

    رد: رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكند"



    رائحة للحب بلا حب


    تصدرت رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكند" بعد صدورها في ألمانيا قائمة الكتب الأكثر مبيعا لمدة تسع سنوات بلا منازع. وليس من المستغرب أن تترجم هذه الرواية إلى 42 لغة، ويباع منها أكثر من 15 مليون نسخة في أنحاء العالم ، فالرواية تعبق برائحة الإنسان عبر تاريخ معاناته منذ خروجه من رحم أمه حتى رحيله، وتضع يدها على جوهر الحضارة التي صنعها الإنسان، والتي حسمت أمرها حتى الآن ضد الحب ولصالح الحياة


    لم يوافق الكاتب على تحويل روايته لعمل سينمائي منذ صدورها عام 1985، ربما تخوفاً من عدم قدرة المخرج على الإمساك بالخيوط المتشابكة بين الديني والتاريخي والحب والحياة والجسد والروح والامتلاك والسيطرة وسلب الإرادة والمعرفة والجهل. ويبدو أن مبلغ العشرة ملايين يورو التي حصل عليها الكاتب مقابل حق إنتاج روايته سينمائياً جعله يحيد عن موقفه، ويوافق على إنتاج الفيلم. أخيراً وبعد 21 عام من الانتظار، أطل علينا الفيلم بصالات عرض مدينة ميونيخ فى السابع من سبتمبر عام 2006، بعد أن قام المخرج الألماني "توم تكفير" "Tom Tykwer" البالغ من العمر 32 عاماً بإخراجه بنفس الاسم الذي صدرت به الرواية، وبعد أن قام الممثل الإنجليزي "بن ويشو" Ben Whishaw البالغ من العمر 27 عاماً بلعب دور البطل "جان باتيست غرنوى". ووصلت تكاليف إنتاجه 63 مليون دولار.
    على الرغم من المجهود المتميز الذي بذله المخرج والممثلين، والصورة الحية التي نقلها الفيلم عن الحياة في فرنسا في القرن الثامن عشر. إلا أن عبق الرواية قد تبخر للأسف من بين ثنايا لوحاته السينمائية الجميلة. فلم يستطع وعى المخرج تفكيك تلك الرؤية المعقدة التي قدمها "زوسكند" في روايته. فرؤية المخرج للرواية لم تكن حادة كالمشرط كى ما تمكنه من تفكيك عطر "زوسكند" كما فكك "جان بابتسيت غرنوى" بأنفه الحاد كالمشرط عطر "الحب والروح" وعرف مكوناته الأساسية، وأعاد تركيبه بطريقة أكثر عبقرية.
    إن التحدي الذي تواجهه السينما لتحويل هذا العمل الأدبي المفعم بالروائح لفيلم سينمائي لا يكمن فى عجز الكاميرا عن التقاط صور الروائح، بل يكمن في قدرة فريق العمل السينمائي على تجسيد ما تعكسه هذه الروائح من دلالات دينية وتاريخية عميقة فى حياة الإنسان. إن فيلم العطر لم ينجح فى مواجهة هذا التحدي، فوعى المخرج بدلالات هذه الروائح كان قاصراً، فخرج إبداعه السينمائي ناقصاً وتحولت بذلك هذه الرواية ذات الرؤى المتداخلة إلى عمل سينمائي ذو بعد واحد، يروى قصة لسفاح عذارى. وحتى لا يظهر هذا الرأى وكأنه حكماً متعسفاً ضد الفيلم، لابد من تناول الأبعاد المتشابكة التى طرحتها الرواية، وتجاهلها الفيلم.

    الإنسان كائن وحشي
    فى محاولة لفهم دلالات الروائح التى عبقت بها رواية "زوسكند"، نستدعي بداية الرؤية التي طرحها الكاتب على لسان بطله حول طبيعة الإنسان. فغرنوى بطل "العطر" الذي لم تكن له رائحة، قدم لنا رؤية مرعبة عن رائحة الإنسان. فحين أراد أن يقبله البشر كواحد منهم، قلد رائحتهم وصنع عبقهم البشري من مواد مقززة وبشعة مثل "غائط القطط وخل وملح وقطعة جبن قديمة متفسخة تفوح منها رائحة واخزة حادة، ومن رائحة السمك الزنخ وبيضة فاسدة وشئ من الخروع والأمونياك وجوز الطيب ومسحوق القرون وشحم الخنزير المصفى..إلخ". ولتخفيف بشاعة هذه الرائحة سكب غرنوى عليها طبقة من الزيوت المنعشة كالنعناع والخزامى والتربنتين والليمون الحلو والأوكالبتوس. وهنا ضاعت رائحة العطن المستترة بين المواد المنعشة المضافة لدرجة أن ذابت فيها، ولم يعد هناك أي أثر للعفن يلتقطه الأنف، لا شئ على الإطلاق. بل فاح من العطر على العكس عبق قوى مفعم بالحياة". ص161
    هكذا رأى غرنوى البشر من حوله، وتكشف له عطرهم البشرى عطنا متعفنا حتى لو تموه بتلك الطبقة الخفيفة من المواد المنعشة المفعمة بالحياة. ربما تعكس هذه التركيبة العطرية العلاقة بين الدماغ القديم والدماغ الحديث الذي جعل من الإنسان كائن عاقل قادر على التفكير. لكن عقله الحديث لم يقدر على استيعاب القديم والنهوض به، بل أصبح الإنسان مبتكرا ومكتشفاً وعبقرياً من جانب، وشرساً ومتربصاً وأناني ومستحوذ وممتلك وقاتل من جانب آخر. فلم تتمكن قشرة المخ الحديث حتى الآن من السيطرة على الجانب المتوحش بعقله القديم. فهذه الرائحة البشعة القاتلة التى صنعها "غرنوى" للإنسان تعكس على ما يبدو جوهره القاتل (تمساح وسبع ضاري) بينما تمثل طبقة العطر المنعشة عقله الحديث الذي يحاول ضبط الوحشين دون جدوى نتيجة للافتعال والوصاية.
    يعري الكاتب من خلال بطل روايته رحلة الإنسان، الذي لا يزال عقله القديم هو المسيطر عليه وهو عقل غريزي بدائى لا يعرف طريقا للبقاء إلا بالصراع من أجل السيطرة على مصادر الطعام والمياه والأرض. صراع وصل إلى حد القتل (الذى ربما تجسد فى قتل قابيل لهابيل). ولأن الطبيعة لم تكن تغدق عليه دائماً بما يحتاجه من طعام، فقد كان يموت جوعاً، أو يؤكل أو يعيش على الكفاف حتى تمن عليه الطبيعة بما يقتات به، وحين يجد الطعام يصارع الآخرين عليه، حتى يتمكن من الاستحواذ على أكبر قدر ممكن لنفسه، وتتجلى نفس هذه الرغبة، ربما بصورة أغبى، عند الإنسان المعاصر الذى كلما ازداد ثراؤه، وتعملقت سلطته، رغب فى الاستحواذ على المزيد. تجلى ذلك واضحا فى الرواية فى سلوك مدام "غايار" والدباغ "غريمال" والعطار "بالدينى" بمدينة باريس، كما ظهر عند مدام "أرنولفى" و"دروو" بمدينة جراس. حتى "ريتشي" حين أحب ابنته "لورا" بدا بمثابة المستثمر الذى يسعى باستثمارها لزيادة نفوذه وثروته. هؤلاء جميعا لم ينشغل أى منهم بمن حوله من البشر، لم يحب أحدهم أحدا، بل انشغل كل منهم بنفسه المنغلقة على ذاته المتمسكة ببدائيتها المطلقة برغم ما تتغطى به من قشرة مدنية زائفة مصطنعة، هذا الإنسان المعاصر زيف وجوده حين اقتصر على تنمية مهاراته التفوقية ليبقى دون آخر، بل على حسابه. مثل هذا الإنسان لا يشبع غريزته الجنسية بشكل مختلف، فهو يتشمم أنثاه مثلما تشمم غرنوى رائحة العذارى. لقد عرف الإنسان البدائى – الذى تعرى تماما بفضل مهارة الكاتب فى تصوير غرنوى فى كل خطوات مسيرته- كيف يحفظ بقاءه ويسد احتياجه باستعمال أى آخر مؤقتا. يتضح ذلك ضمنا حين نتذكر كيف كانت العلاقات الجنسية مباحة بين الجميع قبل أن تنظمها الأديان والمدنية. إن التحريمات التى جاءت بها التوراة عكست شكل هذه العلاقات بين البشر، بل بين الإنسان والحيوان فى تلك الحقبة . الحب فى ظل حياة الإنسان الأولى كان ولا يزال حتى يومنا هذا "محاولة"، كان ولا يزال حلماً يسعى البشر فى اتجاهه بمعنى احترام الآخر والإحساس بالمسئولية تجاهه. لا المحاولات توقفت، ولا الحلم تحقق، فلزمت التعرية وتصوير المآسى، والخفايا، والفشل، والتشويه، والمناورات، والتحايل، والإحباط، ثم العودة بلا توقف، يجرى ذلك بكل المتاح من أدوات الإبداع، وهذا ما قامت به هذه الرواية بشكل فريد.
    عبر الكاتب عن غياب الحب فى حياة الإنسان، وأعتبره الحد الأدنى من الكرم الذي ينبغى أن يتوفر لديه منذ البداية . وذلك فى قوله: "صرخة أراد بها الوليد الجديد أن يحسم أمره ضد الحب ولصالح الحياة، ..... ولو طالب الطفل بكليهما معاً، لكان بكل بساطة قد نفق وفطس. وقد كان بمقدوره آنذاك أن يختار الطريق الثاني المفتوح أمامه، بأن يصمت فيموت دون أن يتجشم عناء طرق السبيل الآخر ما بين الولادة والموت، ولكان بهذا الخيار قد وفر على العالم وعلى نفسه بالذات الكثير من الويلات. إلا أن مثل هذا الخيار كان يتطلب توفر الحد الأدنى من الكرم الذي لم يمتلكه غرنوى لقد كان شنيعاً منذ البداية. فاختياره الحياة كان نابعاً من إحساسه بالتحدي والكراهية فحسب" (ص 25)
    حين يقارن الكاتب بين غرنوى ودوساد وسان جوست، وفوشيه وبونابرت ونقارن نحن بينه وبين رمسيس الثاني والإسكندر الأكبر، وجانكيز خان، والحجاح بن يوسف الثقفي، ونيرون وهتلر وبوش، والكثيرون غيرهم من زعماء الدول، نرى أن جميعهم لم يفترقوا عن هذا الإنسان الأول الذي كان اختياره للحياة نابعاً من إحساس بالتحدي وكراهية الآخر. وليس من الحب. وأن الإنسان الذى يتصور أنه مفعم بالحياة ليس مفعا بها بشكلها الإيجابي بل هو متمسك بها بلا إحساس مستمر بالآمان.
    غابة المدينة
    بناءً على هذه الرؤية البدائية للإنسان جاء مجتمع المدينة فى رواية العطر مشابها للغابة الأولى التى عاش فيها الإنسان. وهنا يصف الكاتب غابة المدينة التى عاش فيها بطله حتى الثامنة عشر من عمره بقوله: "كانت رائحة الفلاح كريهة كرائحة القس، ورائحة الحرفي المتدرب كرائحة زوجة المعلم. كانت طبقة النبلاء كلها تنضح بالرائحة الكريهة، بما فيها الملك نفسه الذي كانت تفوح منه رائحة حيوان مفترس، ومن الملكة رائحة عنزة شمطاء (ص6). نرى هنا مجتمعا بدائيا، الملك فيه أسد الغابة، والنبلاء أشبال الملك وأسود المستقبل، ورجل الدين مثل الفلاح، والحرفي يقيم علاقة خاصة مع زوجة معلمه، والملكة عنزة تخاف أن يأكلها الأسد. إن مجتمع المدينة لم يغير من بدائية الإنسان بل قمعها فقط. ولهذا يظهر الملك في رواية العطر كحيوان مفترس، احتكر الوحشية لنفسه باعتباره يمثل الدولة. وبالرغم من قوة رجال الدين وسيطرتهم على الدولة منذ فجر التاريخ، لم يكن الإيمان عميقاً في وعي الناس. ولأن الدولة ورجال الدين احتكروا الوحشية لأنفسهم، وحكموا الناس بالحديد والنار، وصلبوهم وقطعوا أوصالهم، وسلبوهم حقهم في الحياة بكرامة، فإنهم بذلك قد سلبوا الدين جوهره العميق وخاصة فيما يتعلق بالعدل لتوثيق العلاقات (الحب) بين البشر. جسد الكاتب من خلال الرائحة صورة لمجتمع ستر عورته المتوحشة بغلالة رقيقة من التدين الشكلي، تدينا خادعا مثل العطر الخادع الذي تجمل به غرنوى. فأعاد الكاتب حكى تاريخ البشرية الوحشي، ولكن داخل المدينة التي تكونت من مجموعة من البشر البدائيين المشوهين معاً.
    مراحل تطور غرنوى
    فى محاولة لقراءة تطور غرنوى كما قدمه الكاتب، تبلغنا رحلة الإنسان منذ نشأته فى الغابة ومحاولته المستمرة للنجاة من الموت والبقاء على قيد الحياة، ثم حياته القاسية فى الكهوف نائماً على الأرض الجرداء بين أدوات صيده وجلود حيواناته. ثم تطور قدرته على الكشف والابتكار وتشيد أعمدة الحضارة، ثم إبداعه لصيغ دينية متعددة تعطي دلالات أولية عن الخير والشر، وتعينه على مواجه اغترابه عن الطبيعة بقسوتها وعطائها، واغترابه عن نفسه التي يتصارعها الخير والشر، واغترابه عن بني جنسه داخل الجماعة البشرية. ثم تحول هذه الصيغ الدينية لأداة سيطرة على مقدرات الجماعة البشرية، وتحويلها لقطيع بشري خاضع لسلطة الملك إبن الإله. وما يمثله ذلك من سلب لإرادة الإنسان، وسحق لإختلافه وتفرده. ولنتابع معا رحلة تطور غرنوى باعتبارها رحلة تطور الإنسان.

    المرحلة الأولي : البقاء على قيد الحياة والتأقلم
    كان غرنوى نهماً في طفولته، يأكل عن ثلاث، فهو لا يعرف متى سيتوفر له الطعام مرة أخري في ظل ظروف الحياة القاسية. كما أنه يرضى بالقليل من الطعام ويتناوله بحب جلى. دون تذمر، فهذا هو ما تتيحه الطبيعة له. كان ينام على الأرض الجرداء بجوار أدوات سلخ الجلود وفى نفس المكان الذي علقت فيه الجلود الخام المملحة. وهو بدائي كالحيوان يتعرف على عالمه من خلال أنفه الحاد، كما أنه نجا من القتل والمرض والموت المحقق. وكبت فى أعماقة طاقة الرفض والتمرد بغرض تخطي عصر الجليد محافظاً على حياته عند الدباغ "غريمال". كان الهدف الأساسي في مرحلة حياته الأولى التي عاشها بمؤسسة مدام غايار وعند الدباغ هو مجرد البقاء على قيد الحياة، بمعنى استمراره حياً. ويصف الكاتب هذه المرحلة بقوله "كان اختياره نباتياً أى كالحبة المرمية التي عليها أن تختار بنفسها، إما أن تنمو أو تموت، أو كحشرة القرادة القابعة على جذع شجرة، والتي ليس لدى الحياة ما تقدمه لها سوى النجاة المتكررة من كل شتاء. ونتيجة لذلك فإن هذه القرادة الصغيرة البشعة تكوّر جسمها الرمادي على ذاتها، كي لا تعرض منه للعالم الخارجي سوى أضأل مساحة ممكنة، وتجعل جلدها أملس كتيماً، كى لا يتبخر منه أي شئ وكي لا تفقد أية ذرة من ذراتها هدراً لصالح العالم الخارجي، وتلجأ إلى تصغير نفسها عمداً، متجنبة بذلك أن يراها أحد فيدوسها. ومثل غرنوى كمثل هذه القرادة الوحيدة، المكتورة على نفسها فوق شجرتها، صماء بكماء عمياء وهى تتشمم فحسب، تتشمم وعلى مدى السنين والمسافات دم الحيوانات العابرة والمتجولة والتي لن تستطيع بقدرتها الذاتية أن تصل إليها مهما فعلت. إن بوسع القرادة أن تدع نفسها تسقط، أن تسقط على أرض الغابة، وأن تتحرك بأقدامها الضئيلة الست بضع مليمترات ذات اليمين وذات الشمال تحت ورقة نبتة ما لتموت، ويعلم الله أن ليس في الأمر ما يحزن، لكن هذه القرادة العنيدة المتعفنة والمقرفة تصر على الحياة وتنتظر، تنتظر حتى تسوق لها صدفة عجيبة الدم، في صورة حيوان ما، إلى تحت شجرتها تماماً. حينئذ فقط كانت تتخلى القرادة عن تحفظها، فترمى بنفسها فوق اللحم الغريب لتتكالب عليه وهى تعض وتنهش"(ص 26) .

    المرحلة الثانية- اكتساب المهارة وإبتكار دلالات دينية
    بعد أن استطاع غرنوى-الإنسان البدائي- أن يحافظ على بقائه حياً، وبعد أن قاوم نقص الغذاء، ونجا من المرض والموت، وأصبح له كهفاً يأوي له، بدأ حياته الثانية عند العطار بالدينى. هذه الفترة من حياة غرنوى هى فترة اكتساب المهارة فى غابة المدينة وإبداع صيغ عطرية. وغرنوى الذي منحته الطبيعة موهبة الشم، التي استطاع من خلالها أن يفكك عطر "الحب والروح" Amor and Psyche ويعيد تركيبه بطريقة أكثر عبقرية، يعيد للأذهان حالة الإنسان الأول بعد خروجه من الغابة مكتسباً موهبته الجديدة وهى العقل. والشم هنا يبدو المعادل الموضوعى للعقل. فإذا كانت حاسة الشم عند الحيوان قد وفرت له غذاءه وأمنت حياته من خطر الحيوانات الأخرى التي تسعي لالتهامه. فإن العقل عند الإنسان هو الوسيلة التي حصل بها على غذاءه وأمن بها حياته وطورها. بالإضافة لذلك فإن الإنسان استطاع بعقله الجديد أن يدرك الكون الذي عاش فيه ويحدد عناصره من هواء وماء وسماء وأرض...إلى آخره، ويعطي لهذه العناصر مدلولات دينية. تلك الفترة التي بدأ فيها الإنسان يتعرف على عالمه ويعيد صياغته هي فجر الحضارة وفجر الوعي بمدلولات جديدة عن الحب والروح والرب والموت. حيث قام بإعادة تركيب هذه المدلولات الجديدة وصياغتها فى شكل دين. والعطر الذي وقع عليه إختيار الكاتب Amor and Psyche يحمل دلالة دينية. ويبدو أن إختياره لاسم العطر "الحب والروح" لم يكن مصادفة، فهذا العطر يمثل صيغة دينية أبدعها كهنة العالم القديم. وبهذا الإختيار المقصود يمكن القول أن الصيغة العطرية لعطر "الحب والروح" تقابل عند الكاتب الصيغة الدينية التي كونها كهنة العالم القديم عن الحب والروح. وبهذا فكهنة العطر يقابلون كهنة المعابد القديمة. والصيغ العطرية تقابل الصيغ الدينية، فلم يكن العطار "بالديني" مجرد عطارا فقد حاسة شمه وقدرته على إبداع صيغ عطرية جديدة، بل بدا كاهنا فقد قدرته على إبداع صيغ دينية جديدة. وغرنوى الذي لم يكن كاهنا أو حتى تلميذا فى معابد الآلهة عرف بموهبته التركيبة الدينية لعطر "الحب والروح"، لكنه لم يعرف الصيغة الدينية لهذه التركيبة. قررغرنوى الموهوب أن يدخل معبد الآلهة ليصبح أحد كهنتها دون أن يعرف الصيغة. فلما سأله "بالديني" كاهن معبد الروائح الذي يعرف الصيغ والتعاويذ العطرية عن صيغة عطر "الحب والروح"، التى تقابل الصيغة الدينية لكهنة المعابد الرومانية، لم يعرف غرنوى الصيغة، لكن موهبته شفعت له لدخول المعبد. وهناك أبدع صيغاً روائحية (دينية) سحرت البشر، وأصبح حرفيا فيها. بينما راح الكاهن العجوز "بالديني" ينسب هذه الصيغ الجديدة لنفسه وتمادى فى ادعاء أنها من وحى إبداعه. وظل العالم يعتقد أن هذه التعويذات العطرية ليست من صنع غرنوي بل من صنع الكاهن العجوز بمبعد الآلهة القديمة.

    وقفة قصيرة عند عطر الحب والروح
    حين أعاد غرنوى البدائي الموهوب تركيب عطر الحب والروح. وصفه "بالديني" بأنه عطر عبقري مقيت. أما غرنوى فلم تعجبه تركيبه هذا العطر وأعتبرها تركيبه رديئة جداً. وحين أضاف لها عددا آخر من الزيوت العطرية، اغرورقت عينا بالدينى بالدموع. فقد كان هذا العطر إلهيا. قال بالدينى عنه "إذا كان عطر "الحب والروح" كعزف كمان منفرد، فإن هذا هو سيمفونية كاملة، بل أِكثر من ذلك. أغلق بالدينى عينيه تاركاً العنان لذكريات باهرة تستيقظ فى نفسه، رأى نفسه شاباً يتبختر مساء عبر حدائق نابولى، رأى نفسه فى أحضان أمرأة ذات شعر أسود مجعد ورأى على إطار النافذة خيال غصن محمل بالزهور تداعبه نسمة ليلية، سمع أسراب طيور تغنى، ومن حانة بحرية بعيدة وصلته الموسيقى، سمع همساً رقيقاً فى أذنه وبوحاً بالحب، وشعر الآن بشعر رأسه يقف من البهجة، فى هذه اللحظة، فتح عينيه وتنهد سعيداً، لم يكن هذا العطر كالعطور التى عرفها الإنسان حتى الآن. إنه ليس كالروائح المستخدمة بغرض تعطير الجو أو الملابس والحاجيات أو مستحضرات التجميل، إنه شئ جديد كل الجدة، عالم قائم بنفسه، عالم سحرى غنى، ينسى المرء كل القرف المحيط به ويجعله يشعر بالغنى والارتياح والانعتاق والسعادة (96).
    إن هذا العطر الذي أعاد "لبالديني" ذكريات قديمة عن الحب بحدائق نابولي هو عطر "الحب والروح" فى تركيبته الأصلية التى تربط بين الروح والجسد فى الأسطورة الرومانية التى أشرنا إليها. فالإله "آمور" له جسد جميل يمثل الحب، بينما تملك البشرية " بسوشا" روحاً تواقة لإله الحب.
    قد تلقي هذه الأسطورة الضوء على رؤية "بالدينى" لعطر الحب والروح فى صورته الأولى قبل التعديل، باعتباره عطر عبقريا ومقيتا، ثم بعد التعديل باعتباره إلهيا مكتمل يجمع بين الحب والروح. فعطر الحب والروح فى صورته الأولى يمثل "الإله أمور" وهو يعزف لحناً بمفرده، أما العطر الثاني فهو سيمفونية حب يعزفها "أمور وحبيبته "بسوشا" سوياً. هكذا كان الإله فى عصر تعدد اللآلهة، إله محب لأرواح البشر. كان يمثل الحب الذي تمتلئ به النفس البشرية.
    لكن غرنوى الذي صنع عطر "الحب والروح" لم يسحر به، فقد كان يكره البشر ويعتبرهم كائنات موهت جوهرها العطن المتعفن بطبقة خفيفة من المواد المنعشة المفعمة بالحياة ، ولهذا فلم يجد فى هذا العطر ضالته. وقضي مرحلة حياته الثانية عند العطار فى محاولة لإبداع صيغة عطرية جديدة تحرم البشر من حب الإله. ينجح غرنوى فى نهاية رحلته فى خلق رائحة للحب بلا حب، في خلق إله لايحب بل يحب. وبهذه الرائحة الجديدة نسف غرنوى الصيغة الدينية للإسطورة القديمة وخلق أسطورة جديدة تجعل من "آمور" إلهاً لا يحب البشر، رغم أنه يمثل الحب. ومن أجل الحصول على عطره المنشود. قطر غرنوى الزجاج والنحاس والخزف والجلد وحجر الصوان. قطر تربة الأرض، قطر الدم والخشب والسمك الطازج، قطر شعر رأسه. وفى الختام قطر حتى الماء، ماء نهر السين. إلا أنه لم يتوصل إلا إلى بعض زيوت النباتات السخيفة. أما نبع تصوراته الغنى الذى لا ينضب فقد بقى مستغلقاً عصياً، لم تخرج منه أية قطرة لرائحة محسوسة، وخاصة تلك التى كان يحلم بها. وعندما أدرك مدى فشله سقط مريضاً حتى كاد أن يموت. (ص111) إن غرنوى الذي حلم بعبق الحب. شعر بعبثية ما يقوم به، فأصبح العالم لا معنى له، لإنه لم يستطع أن ينهل منه أي معرفة جديدة. فرأى أن حياته عبثية وقرر أن يموت. ولما عرف أن هناك مكان آخر فى العالم يمكن أن يتيح له فرصة المعرفة التى يرغب فيها، أستخسر أن يموت قبل أن يعرف. خرج غرنوى من باريس (طيبة) التى نضب معينها، ولم تعد قادرة على إبداع صيغ "عطرية- دينية" جديدة، بعد أن تعلم سر العطر من كهنته، وبعد أن حفظ فى ذاكرته الصيغ الدينية القديمة، متجهاً لمدينة "جراس" (العمارنة)، وذلك من أجل الوصول لعطره المنشود أو صيغته الدينية الجديدة. لكن كرهه للبشر ومحاولة تجنبهم ساقته إلى الجبل حيث عاش فيه عزلته الرائعة المرعبة.

    المرحلة الثالثه- مرحلة الوعي بمحيطه البشرى
    فى هذه المرحلة يدرك غرنوى أنه يكره محيطه الإجتماعي. يدرك أن حياة المدينة كانت خانقة، ومهدده. يتربص فيها الناس ببعضهم البعض للحصول على غاياتهم. وأنه عاش طيله الثمانية عشر عاماً يتقي شرهم. يعبر الكاتب عن علاقة غرينوى بما حوله راصدا رافضا ناقدا كارها للبشر بقوله:
    "الآن فقط، بعد ثمانية عشر عاماً، مع انسحابه المتسارع من باريس أدرك غرنوى أن جوها المترع بهواء السديم الخانق هو ما كان يكتم أنفاسه. كان معتقداً طيلة الوقت أن العالم بما هو عليه، هو ما كان ينبغي إتقاء شره. لكن العالم لم يكن السبب، بل البشر. وبدا له أن من الممكن التعايش مع العالم، العالم الخالى من البشر. خلف غرنوى وراءه روائح المدينة الكبيرة، متقدماً مع كل خطوة نحو هواء أكثر نقاء وصفاء ونظافة، وفي هذا وجد غرنوى نوعاً من الخلاص، فالروائح الطيبة الرفيقة تداعب أنفه. وللمرة الأولى فى حياته لم يكن مضطراً لأن يشم مع كل شهيق شيئاً جديداً، غير متوقع، معادياً، أو لأن يفقد شيئاً ممتعاً. للمرة الأولى كان بوسعه أن يتنفس تقريباً بحرية، دون أن يتشمم متربصاً. كان أقصى ما يُشعره بالانعتاق هو بعده عن البشر. فلم تكن ثمة ثغرة فى باريس دون بشر، ولم يكن هناك حجر أو رقعة أرض لا تفوح برائحتهم. عند إقترابه من أورليان أحس غرنوى بالزخم البشرى فى الهواء، وحزم أمره، أن يتجنب أورليان. لم يرد أن يفسد حرية التنفس التى حصل عليها مؤخراً بجو البشر الزنخ.(126)

    المرحلة الرابعة- غرنوى الإله
    هي مرحلة اعتزال غرنوى العالم فى جبل بلومب دي كانتال، ليس تائباً أو منتظراً وحياً سماوياً، بل مستغرقاً استغراقاً كلياً فى وجوده الذاتي. فى هذه المرحلة يحاول غرنوى التعرف على نفسه، بعد أن هرب من رائحة البخار البشري الزنخة المتربصة. إن المدينة التي لا تتح للإنسان سوى رائحة جماعية تمثل التقاليد والمعتقدات المتعارف عليها، والتي وصفها الكاتب برائحة البخار البشري المكون من مادة التعرق الدهنية ذات النكهة المخضبة بالجبن الحامض، حرمت الإنسان من رائحته الفردية. تلك التى لايدركها أغلب البشر، بينما تبذل القلة التى أدركتها ما بوسعها لموراتها تحت الملابس ومن خلال الروائح الإصطناعية العصرية. فالملك والنبلاء يخفون رائحتهم المتوحشة بالملابس والعطر الصناعي. كما أن كل من اختلف مع ما أقرته الجماعة يحرم من رائحتها بإعتباره كافرا بناموسها. وقد حرم إخناتون من رائحة الجماعة وسمى بالفرعون الكافر لإختلافه مع ديانة آمون السائدة. وما حدث لإخناتون حدث لغرنوى، فالجماعة البشرية رفضت أن تعطي له رائحتها، لأنه جاء مخالفاً لعرفها. ولهذا فقد غرنوى رائحة الجماعة، كما فقد أيضاً رائحته البشرية بعد أن قطعت رأس أمه القاتلة بالمقصلة. لكنه سيصنع لنفسه رائحة إلهية نكاية فى الجميع. تبدأ هذه المرحلة بإن يرتع فى القرق من روائح البشر الكريهه ثم يسحق الشر الذي تمثله هذه الروائح. فيسحق رائحة غرفة نوم مدام غايار المعادية والمشبعة بالبخار، ورائحة أنفاس الأب تيرير الحامضة كالخل، ورائحة عرق المرضعة بوسى الأمومية الدافئة الهيستيرية، أو رائحة الجثث فى مقبرة الأبرياء، ورائحة أمه القاتلة. ورائحة الجلد عند غريمال. وهو هنا يسحق البشر الذين تجرأوا على إهانة أنفه السامي. وكلما سحق الشر المنبعث منهم "وفرقه وأغرقه فى طوفان هائل من الماء المعقم، انتشي من اللذة. هكذا كان عدل غضبه، وبهذه الروعة كان انتقامه. آه! يا لها من لحظة سامية. كان حقاً فعلاً مريحاً، هذا الفعل الماحق، للقضاء على الروائح القذرة كله"(134).
    ثم يملأ غرنوى عالمه بمخلوقات تعبق برائحته الإلهية، وتمجد سيدها العظيم الأوحد. تقدم لنا لوحة الخلق التالية بطل العطر وكانه "أتون" إله الشمس فى عصر إخناتون. فهو من وضع كل مخلوق فى موضعه على الأرض. وأرسل أشعته الناعمة لتدفئ الحقول، وأرسل المطر ليروي البذور، ونفج ريح نفسه لتداعب النبت وتدعوه للتزواج والتكاثر. فتحولت الأرض بفعل "أتون" العظيم لسجادة ملونة من النباتات الرائعة. تقترب أنشودة الكاتب التى ساقها على لسان بطله من أنشودة إخناتون التى تغنى بها لإلهه الأوحد "أتون". وكما استغرق إخناتون فى نفسه وفى إلهه، يستغرق غرنوي فى نفسه كأله ثم كأبن للإله لمدة سبع سنوات، يسحق فيها الشر، ويخلق الخير ثم يستريح. ورقم سبعة المقدس الذي وقع عليه اختيار الكاتب يعيد للإذهان قصة الخلق فى التوراة حيث خلق الرب العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع. يرسم الكاتب ببراعة صورة لغرنوي باعتباره "أتون" تفوق صورته فى أنشودة إخناتون بقوله:
    "وقف غرنوى الجوانى العظيم، كالعملاق، وقف ببهائه وعظمته كلها. وكم كان منظره رائعاً...ألقى بنظره من حوله، بفخر وجلال: طبعاً! فمحيطه كان ملكوته! ملكوت خلقه غرنوى الفريد فى نوعه، هو المهيمن عليه وهو القادر بمشيئته أن يدمره، أن يعيد خلقه... لا سلطة هنا سوى لعالمه، لإرادة غرنوى العظيم الرائع الفريد. وبعد أن قضى على روائح ماضيه العطنة أرادت مشيئته أن يعبق عالمه. خطا واثقاً فى الممرات القفر، باذراً روائح الطيب بمختلف أنواعها، بسخاء.. ناثراً البذور بملء كفه، أو بذرة بذرة دافناً إياها فى أماكن مختارة. وصلت خطوات غرنوى العظيم، البستانى المهووس، إلى أقصى مجاهل ملكوته، وسرعان ما لم تتبق زاوية فى حقوله دون بذرة عبق. وعندما أحس بالرضا لكون الأرض كلها قد أشبعت ببذور غرنوى الإلهية، أمر بمطر كحولى أثيرى.. فبدأت البذور تنتش وتترعرع، وانبثق الخضار اليانع بما يسر الفؤاد. وسرعان ما غمر الزرع البيارات، وفى الحدائق الخفية اغتنت السوق بالنسغ وتفتقت براعم النباتات فاجرة بمكنوناتها. .. ثم أرسل ابتسامة الشمس الناعمة فوق الحقول، فتفجرت روعة الأزهار بملايين مضاعفة، من مطلع الملكوت إلى ختامه، متحولة إلى سجادة ملونة منسوجة من ألوف مؤلفة من أروع الأوراق والأزهار الأريجية. ورأى غرنوى العظيم أن كل شئ بخير، بخير وافر، فنفخ ريح نفسه فوق الأرض لتداعب النبت الذى رضخ للغزل، ففغت ألوفه المؤلفة بعبق متنوع، مختلف الأريج بين الحين والحين، ومتوحد من ثم فى عبق كونى مستمر، يمجده، يمجد الفريد الأوحد، العظيم غرنوى، المتوج على عرش سحابة عطر ذهبية. من على عرشه تنشق غرونوى نفسه المرسل، فملأت رائحة الضحية جوانحه بالرضا. فهبط إلى خلقه موزعاً بركاته الكريمة، فاستقبلته مخلوقاته بصيحات وصرخات الغبطة والابتهاج، مرسلة إليه موجات من العبق الإلهى شكراً وزلفى. خلال ذلك كان الظلام قد حل، وتطايرت الروائح العبقة ممتزجة بزرقة الليل متنقلة بذلك إلى إيقاعات أشد فانتازية، بحيث احتفل الليل بلعبة ألعاب نارية من العبق لا مثيل لها، من حيث الضخامة والأبهة.
    لكن غرنوى العظيم كان قد تعب..، فقال: "ها قد أنجزت عملاً عظيماً، وأنا راض عنه كل الرضا .. لذلك سأنسحب، سامحاً لنفسى فى نهاية هذا النهار الزاخر بالعمل، باللجوء إلى مكامن ذاتى بحثاً عن بقية سعادة".
    هكذا تكلم غرنوى العظيم، بينما كان الشعب البسيط، شعب الروائح العبقة فى الأسفل يرقص ويحتفل مسبحاً بحمده، ثم أبحر بجناحيه المشرعين هابطاً من سحابته الذهبية عبر أرض روحه الليلية إلى بيته فى قلبه.(137)
    في هذه اللوحة الأدبية يظهر غرنوي متوحداً مع "أتون" العظيم حين يطل على العالم فى صور "رع" المتوحد مع حورس" المحلق عالياً بأجنحته المشرعة عبر سماء العالم السفلي المظلمة ليهبط على حافة العالم ويجلب معه الشفق الذي يسبق طلوع النهار ، بينما تحتفل مخلوقاته به وتبتهج لشروقه، وتستنشق أنفاسه وترسل له بعبقها الإلهى.
    بعد أن ألفنا غرنوي فى صورة "أتون"، يفاجئنا الكاتب بنقلة جديدة فى حياة غرنوي، بينما نحن لانزال مستغرقين فى صورته الأولى. يمر غرنوي بتجربة فريدة قرب نهاية إقامته بالجبل حيث يدرك الرب فى صورة ضباب. فى هذه التجربة الجديدة يحتار غرنوي فى نفسه، هل هو "أتون" العظيم أم أنه ابن الخالق العظيم الأوحد. وبقفزة سريعة ينتقل الكاتب من صورة "أتون" فى أناشيد إخناتون لصورة الرب فى التوراة، ويقدم لنا لوحة أدبية جديدة تستقى أبجديتها من العهد القديم.

    المرحلة الخامسة – غرنوى يعرف أن رائحته هي رائحة الرب
    تجسدت هذه المرحلة فى الحلم المروع الذي أيقظ غرنوى من نومه مفزوعاًً، يقول الكاتب: "ورغم أن نومه كان عميقاً كالموت، إلا أنه هذه المرة لم يخل من الأحلام، من أحلام مليئة بخيالات شبحية متداخلة غير واضحة المعالم، لكنه ميز من بينها شذرات رائحة عبرت أمام أنفه فى البداية كاشرطة رفيعة، لتتكثف من ثم، ولتتحول أخيراً إلى ما يشبه السحب. بدا الأمر الآن وكأنه واقف وسط مستنقع ينبعث منه الضباب الذى أخذ يتصاعد ببطء أعلى فأعلى، حتى أحاط بغرنوى من جميع الجهات وأغرقه. ولم يعد بين موجات الضباب ثمة فرجة لنسمة هواء نقى. وإذ لم يكن غرنوى راغباً بالاختناق فقد كان عليه أن يستنشق هذا الضباب. والضباب كما قال، كان رائحة. وعرف غرنوى ماهية هذه الرائحة. كان الضباب رائحته هو، رائحة غرنوى، رائحته الخاصة كان الضباب. والأشد هلعاً فى الأمر الآن هو أن غرنوى الذى عرف جيداً أن هذه هى رائحته، لم يتمكن من شمها. كان بوسعه أن يغرق فى ذاته، كى لا يشم أى شئ آخر، ولكن دون جدوى.
    عندما أدرك ذلك أطلق صرخة مروعة كمن يشوى على النار حياً. فتداعت لصرخته جدران صالونه الأرجوانى وتهاوت أسوار القصر. اندفعت الصرخة من أعماق قلبه متجاوزة قبور ومستنقعات وصحارى وأمداء روحه الليلية، انطلقت من فمه كالصاعقة عابرة منعطفات النفق، منطلقة إلى الدنيا، مالئة المنطقة بأصدائها حتى إلى أبعد من "سان فلور"، ولكأن الجبل نفسه هو الذى صرخ. وكان أن أفاق غرنوى على صرخته، فأخذ يضرب بذراعيه من حوله محاولاً طرد الضباب، لاختنق فى ذاته – ويا لها من ميتة مروعة. وكلما استعاد ذلك فى ذاكرته، عاوده الهلع. وبينما جلس مرتجفاً من أخمصه حتى مفرقه محاولا جمع فوضى أفكاره، كان قد تأكد من شئ واحد على الأقل: لابد من تغيير حياته، حتى ولو كان السبب الوحيد لذلك هو ألا يعاود هذا الحلم المريع ثانية، لأن نهايته ستكون فيه (144-145).
    هذه الصورة التي يقدمها الكاتب تعيد للأذهان صورة الرب فى التوراة. فالرب فى التوراه يظهر فى صورة سحاب وضباب. يقول سفر الخروج-الإصحاح 13 "وكان الرب يسير أمامهم نهاراً فى عمود سحاب" وفي الإصحاح 20 "فوقف الشعب من بعيد، وأما موسى فاقترب من الضباب حيث كان الله. وفى الإصحاح 40 بعنوان مجد الرب "ثم غطت سحابه خيمة الإجتماع، وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع، لأن السحابة حلت عليها، وبهاء الرب ملأ المسكن. وعند إرتفاع السحابة عن المسكن كان بنو إسرائيل يرتحلون، وإن لم ترتفع السحابة لا يرتحلون إلى يوم إرتفاعها".
    فى هذه المرحلة من حياة غرنوى الذي صنع من نفسه إلها يحارب الشر وينشر الخير، جاءه الرب فى شكل ضباب. وكاد أن يخنقه. لم يري غرنوي الرب فى الحقيقة بل جاءه فى الحلم فى شكل سحب. لم يقدر غرنوي على معرفة طبيعتة من خلال أنفه التى يتعرف من خلاله على العالم. أصبح الرب لايري ولا يشم. فكر غرنوي بشكل ميكانيكي بأنه طالما أن رائحته هى رائحة الرب، وأن الرب ليست له رائحة، إذن فعليه أن يتعرف على الرب من خلال التعرف على رائحته الشخصية، لكنه لم يجد لنفسه رائحة. خاف غرنوي من المعرفة الأولى بأن الرب ليست له رائحة، وأن رائحته هى رائحة الرب. فحارب هذا الخوف بخوف من نوع آخر هو جهله بمعرفة رائحته. فى هذه اللحظة يكتشف غرنوي أنه لا يملك رائحة، وأن الرب ليست له رائحة. ماذا يفعل أذن؟؟ أحتار غرنوي هل هو بشر أم إله. ولم يبقى فى وعيه سوى أن الرب بلا رائحة وأنه بلا رائحة، فأصبح هو والرب واحد. ثم أسقط الخوفان وقرر أن يعود إلى عالمه الخارجي الذي فرح بأنه لا يزال موجود. فلبس أثماله وغادر الجبل لإتمام رسالته.

    المرحلة السادسة- غرنوى يخلق لنفسه وللرب رائحة
    غرنوى يعود بمعرفته الجديدة إلى عالم البشر بعد أن اتخذ قراراً بأن يعطي للرب ولنفسه- باعتبارهم واحدا- رائحة. كانت هذه الرائحة التى بحث عنها غرنوى هى رائحة الحب. الحب فى ذاته، منفصلاً عن الجسد. الرائحة التي تسحر البشر وتجعلهم يحبونه ويحبون الرب، كما أحبته مخلوقاته السابقة. إن غرنوى لم يبحث عن الحب كما جاء فى أسطورة "آمور وبسوشا" (الحب والروح)، بل بحث عن رائحة الحب. ولو تصورنا إنسان إيا كان يعيش برائحة الحب وليس بفعل الحب الذي يقوم به، ويحصل عليه من فعل الآخرين، ترى ما سوف يئول له حاله؟
    بدأ غرنوى رحلته فى البحث عن الرائحة الحب. بصناعة رائحة بشرية له حتى يمن عليه البشر ببخارهم ويقبلوه كواحد منهم. ثم أتقن حرفة سلب الرائحة عند مدام أرنولفى، بدأها بسلب رائحة الزهور فتحولت الزهور إلى روح محبوسة فى زجاجات مغلقة بعد أن مات الجسد وتلاشي تماماً. ويرسم الكاتب على لسان بطله عملية القتل كما يلي:
    "كان هذا في موسم النرجس، كان "دروو" يذيب في قدر هائل شحم البقر والخنازير ليحوله إلى سائل كريمي. وبينما كان على غرنوى أن يحركه باستمرار كان "دروو" يرمي فيه الزهور الطازجة رزمة فرزمة. كعيون مفزوعة حتى الموت كانت تتكوم الزهور لبرهة على سطح السائل، ولتشحب من ثم حالما تدفعها ملوق غرنوى نحو الأسفل لتغرق في الدهن الساخن. وفى اللحظة نفسها تقريباً تكون قد تراخت وذوت، وكأن الموت قد فاجأها بسرعة، فلم يعد أمامها خيار آخر سوى أن تزفر تنهيدتها العطرة الأخيرة في المحيط الذي أغرقها. كانت سعادة غرنوى لا توصف عندما أدرك أن ازدياد عبق الدهن يتناسب طرداً مع كمية الزهور التي يغرقها فيه، وأن العبق الصادر عن القدر ليس عبق الزهور الميتة، بل عبق الدهن الذي امتلكه".(185)

    حب يقتل الجسد ويستلب الروح
    كان سلب الزهور روحها وامتلاكه بداية لحبس العذاري فى زجاجات مغلقة. أصبح التلميذ معلماً فى حرفته بل كبير كهنة العطر. وبدأت رحلة غرنوى لاستلاب عطر العذاري، عطر الروح، فكرس أجسادهن للرب، وتعطر هو والرب بروحهن، فأصبح بذلك إلهاً للحب. لا يبعث الروح فى الجسد، بل يأخذ الروح من الجسد. وبدلا من أن يكرس غرنوى الأبكار من بنى الإنسان والحيوان للرب كما جاء فى سفر الخروج: "أنك تقدم للرب كل فاتح رحم، وكل بكر من نتاج البهائم التى تكون لك، الذكور للرب" (اصحاح 13). كرس غرنوى أجساد العذاري للرب. وبدلاً من رائحة شواء الضحية التى قدمت لإرضاء الرب. قدم غرنوى رائحة طاهرة للرب. وبهذا تحولت الفتيات الطازجات اللآتي تفتحت أنوثتهن إلى أجساد شحبت وتراخت وذوت لم يعد أمامها خيار آخر سوى أن تزفر تنهيدتها العطرة الأخيرة. ثم قام غرنوى بتعبئه هذه الإنوثة المتفتحة النابضة داخل قنينات عطره الفارغة وأحكم إغلاقها.
    والعذاري فى التاريخ القديم هم ربات الخصوبة والعشق والشبق والمجون. وقرابينهم فى المعابد القديمة كانت العهر المقدس. فالناس فى العصور القديمة، الأغنياء منهم والفقراء كانوا يهبون بناتهم العذروات قديسات فى معابد الإلهة الأم ليمارسن العهر المقدس من أجل الخصوبة، ويصبحن كاهنات فى معابد آلهات الخصب. وقرابين العهر المقدس كانت قرابين تقدم من أجل النماء، نماء البذرة فى باطن الأرض وخروجها للحياة، ونماء الأجنه فى رحم أمهاتهم وخرجوهم للحياة. ومن المعروف أن المرأة هي أول من أكتشف الزراعة فى العالم القديم، فارتبطت عبادتها بخصوبة الأرض. ورغم أن عذراوات المعبد يمارسن العهر مع الرجال قبل أن يتزوجن، لكنهم فى عرف هذه العبادة يبقين عذراوات. وتعتبر عبادة الربة (الأم ) من أقدم العبادات التى ظهرت فى العالم القديم، حيث كان ينظر الإنسان الى مسألة التوليد والتكاثر على أنها سر خطير عظيم وراءه قوة خفية هى السماء. وهكذا عبدت الإلهات الأم وصنعت لهن التماثيل، مثل أيزيس وحاتحور فى مصر، وعشتار فى بابل. والعرب أسموها عثتر، وأطلق عليها السومريون فى جنوب العراق أسم عناه أو عنات، والإغريق أسموها أفروديت، وهى تانيت عند الفنيقيين والكنعانينن وفى قرطاج بتونس، وفينوس عند الرومان. لكن الديانة اليهودية تخطت عبادة الألهات الأم. وأصبح كهنة المعابد من الرجال. وحرمت اليهودية كهانة النساء فى معابد الرب. وأعتبرت عبادة إلهة الخصب شكلا من أشكال الزنى. وبالعودة إلى عذراوات غرنوى. نجد أنهن لسنا عذراوات معابد العالم القديم. التى قضت الديانة اليهودية على عبادتهن، بل عذروات الديانة الجديدة. فقد ظلوا عذراوات بعد أن قتلهن غرنوى. وغرنوى لم يكن هدفه الحصول على الجسد. بل الروح. وكانت السيطرة على الروح تعني إفناء الجسد. ولهذا كان من الطبيعى أن تتواكب هذه الفكرة الجديدة، فكرة إحتقار الجسد وإحتقار رغبات الجسد مع إفناء كاهنات المعبد فى العالم القديم. ولم يتم الإطاحة بكاهنات المعبد في يوم وليله، بل استمرت المعركة بين كهنة الدين اليهودي وكاهنات المعبد لزمن طويل. وهذا النص التوراتي يوضح لنا هذا الصراع بين الديانة الجديدة والعبادات القديمة. فيقول سفر القضاة- الإصحاح العاشر- أيه 6 "وعاد بنو اسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم والعشتاروث وآلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيون وتركوا الرب ولم يعبدوه".
    ويعكس النص التوراتي القادم ما فعله الرب (السيد) مع كاهنات المعبد. فمن الوصف الذي يقدمه النص لأرديتهن، وزينتهن وعلب العطور والطيب التي يملكونها، نعرف أنهن بنات المعابد القديمة من أصحاب عبادة العهر المقدس. والنص التوراتي يهدد هؤلاء الفتيات بحلق شعورهن وكشف عورتهن، بسبب تماديهن فى المجون والغنج. واليكم ما جاء بسفر إشعياء الأصحاح الثالث الأية 16 حتى الآية 25)

    (16مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ يَتَشَامَخْنَ، وَيَمْشِينَ مَمْدُودَاتِ الأَعْنَاقِ، وَغَامِزَاتٍ بِعُيُونِهِنَّ، وَخَاطِرَاتٍ فِي مَشْيِهِنَّ، وَيُخَشْخِشْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ، 17 يُصْلِعُ السَّيِّدُ هَامَةَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ، وَيُعَرِّي الرَّبُّ عَوْرَتَهُنَّ. 18 يَنْزِعُ السَّيِّدُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ زِينَةَ الْخَلاَخِيلِ وَالضَّفَائِرِ وَالأَهِلَّةِ، 19 وَالْحَلَقِ وَالأَسَاوِرِ وَالْبَرَاقِعِ 20 وَالْعَصَائِبِ وَالسَّلاَسِلِ وَالْمَنَاطِقِ وَحَنَاجِرِ الشَّمَّامَاتِ وَالأَحْرَازِ، 21 وَالْخَوَاتِمِ وَخَزَائِمِ الأَنْفِ، 22 وَالثِّيَابِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْعُطْفِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأَكْيَاسِ، 23 وَالْمَرَائِي وَالْقُمْصَانِ وَالْعَمَائِمِ وَالأُزُرِ. 24 فَيَكُونُ عِوَضَ الطِّيبِ عُفُونَةٌ، وَعِوَضَ الْمِنْطَقَةِ حَبْلٌ، وَعِوَضَ الْجَدَائِلِ قَرْعَةٌ، وَعِوَضَ الدِّيبَاجِ زُنَّارُ مِسْحٍ، وَعِوَضَ الْجَمَالِ كَيٌّ! 25 )
    ومن خلال هذا النص نعرف لماذا قص غرنوى شعر ضحاياه، وعري عورتهن. ولماذا كانت المرأة مقصوصة الشعر عند اليهود وعند أهل كورنثوس عاهرة. فغرنوى الذي عرف أن رائحته من رائحة الرب، فعل كما فعل السيد، فى النص السابق. وهو لم يمسس عذريتهن تأكيداً على عهده مع الرب بأن يصنع له رائحة ذكية، تبعد كل البعد عن شهوات الجسد، رائحة تعبق بالعذرية الحقيقة. وبهذا فغرنوى بهذا المفهوم الديني ليس قاتلا، بل هو من فصل شهوة الجسد عن الروح. لكن الكاتب يعتبره قاتلا أطاح بالجسد حتى أنه أعطى للرواية عنوانا فرعيا باعتبار أنها "قصة قاتل".
    نلاحظ أن عمليات غرنوى القاتلة كانت محاولات مستمرة لفصل الجسد عن الروح، وكأن ذلك هو من قبيل تأكيد العفة وتنقية الروح بعيدا عن الجسد، وهى رؤية تتداخل مع الأديان فيما يتعلق بموقفها من المرأة ومن الجسد عموماً ومن الغريزة الجنسية. وإذا كانت العبادات القديمة قد عبرت عن بدائية الإنسان فى إشباعه لغريزته، فالأديان اتخذت رد فعل عنيف تجاه هذه البدائية. فحقرت من شأن الجسد وأعلت من شأن الروح. واعتبرت المرأة مصدرا للفساد والشهوة، وقللت من شأنها، وسلبتها سلطتها الأولى .
    نقترب بعد هذه الرحلة الطويلة فى تاريخ الإنسان وتاريخ الأديان من مشهد تجلي غرنوى أمام الناس فوق منصة الإعدام، وحفلة المجون الباخوسية التى حدثت أسفل المنصة بعد أن سحروا بعطر العذارى، الذي سكب منه غرنوى قطرة واحدة على نفسه. لقد أعاد عطر العذاري لذاكرة الحشد البشري تقاليد عبادة الآلهات الأم، آلهات الخصب والشهوة. فما كان منهم سوى أن أعادوا إحياء طقوس عبادتهن مرة أخري. فبعد أن كانوا يرغبون فى تمزيق غرنوى إرباً من هيجان حقدهم عليه بسبب قتله لخمسة وعشرون فتاة من فتيات المدينة، راحوا يتنهدون ويتأووهون بسبب النشوة التى أصابتهم حين أستنشقوا عطر العذارى. إن وصف الكاتب لمعجزة التحول هذه على لسان اسقف المدينة يطل علينا وكأنه محاولة للتحرر من الحرمان الذى لم يفرضه الرب بل فرضه رجال الدين على العالم الأوروبى. فقد وصفهم الأسقف بأنهم ضعاف الإيمان، اعلنو الحرمان دون أن يؤمنوا به، ولهذا فإن هذا التحول كان بمثابة معجزة أضاءت عقل الأسقف. فقبل تحقير الرب وإذلاله له. ووجد فى هذا التأديب بالتحقير والإذلال نوعاً من الرحمة به. وتجلت رحمة الرب فى أضاءة عقل الأسقف ومعرفته بأن الرب لم يحرم البشر من شهوتهم التى خلقهم عليها. لكنه دعاهم للحب. وأن الرب لم يفصل الجسد عن الروح بل أن الإنسان هو من تطاول على سماحة الرب. فيقول الكاتب : أما قداسة الأسقف فقد أحنى جذعه إلى الأمام حتى لامست جبهته ركبتيه،... كمن يشعر بالغثيان، علماً بأنه لم يحس بأى غثيان، وإنما ولأول مرة فى حياته بنشوة دينية هائلة، فقد حدثت المعجزة امام الملأ، الرب بنفسه شخصياً أوقف يد الجلاد واظهر كملاك ذاك الذى كان يظنه العالم قاتلاً – آه ما أروع أن يحدث مثل هذا فى القرن الثامن عشر. ما أعظمك يا رب! وما أصغرك أيها الإنسان الذى أعلنت لعنة الحرمان دون أن تؤمن بها، وإنما لإرضاء الشعب فحسب! يا له من تطاول! ويا له من ضعف إيمان! ها هو الرب الآن قد أنجز معجزة! فأى تحقير رائع وأى اذلال محبب وأية رحمة فى أن يؤدبك الرب وانت الأسقف!.
    هذه الإضاءة التى حدثت للإسقف هى نفسها الإضاءة التى حدثت لرجال الدين والفلاسفة قبل أندلاع شرارة الثورة فى فرنسا، والقضاء على السلطة المطلقة للملك المدعومة من الفاتيكان. تلك السلطة التى حرمت الناس حقهم فى الحرية والحياة وحقهم فى الرب الرحيم المتسامح.
    لكن هذه الحفلة الباخوسية لم تسر غرنوي. إن ما تاق إليه هو أن يحبه الآخرون، مع أنه لا يحبهم، بل إنه يكرههم، ويحتقرهم من صميم قلبه لأنهم بلهاء، سمحوا لأنفسهم بأن يخدعهم ويتلاعب بهم. أدرك غرنوى أن الحب لن يشبعه، بل الكره، لكنه كلما ازداد كرهه لهم، عبدوه، إنهم لم يحسوا منه سوى هالته المزيفة، إلا عطره المسلوب. هؤلاء البشر الأغبياء القذرين المستثارين جنسياً كانوا يمثلون البشاعة والإحباط .
    "فعاوده الشعور بالقرف من الناس، وأفسد عليه انتصاره كلياً، بحيث لم يفتقد الشعور بالفرح فحسب، وإنما أيضا الشعور بالرضا، ولو بأبسط أشكاله.... وود لو يشعروا بكراهيته لهم، وأن يقابلوه بالتالى بالكراهية لخاطر هذه المرة الوحيدة التى ينتابه فيها شعور حقيقى، فيقضون عليه كما كانوا ينتوون أصلاً. بينما كان الناس يتأوهون وينتفضون من نشوة اللذة، كانت سحب الضباب الخانقة المريعة تتابع تصاعدها من مستنقع روحه. (255- 256)
    ويكمل الكاتب فى موضع آخر وفى مرة ثانية، عندما كان قد وصل إلى "بورغوند" فكر: عندما وقفت إلى جانب السور تحت الحديقة التى كانت الفتاة ذات الشعر الأحمر تلعب فيها، وعبقها يهب باتجاهى أو بالأحرى الوعد بعيقها، فعبقها المستقبلى لم يكن قد وجد بعد – ربما كان هذا الذى شعرت به آنذاك مشابهاً لما أحس به الناس هناك فى الساحة، عندما غمرتهم بعطرى؟ - لكنه بعدئذ تخلى عن هذه الفكرة: لا لقد كان شيئا آخراً. فقد كنت أعرف أنى أشتهى العبق، وليس الفتاة. لكن الناس ظنوا أنهم يشتهوننى أنا. أما ما اشتهوه فعلاً فقد بقى بالنسبة لهم سراً.(266)
    لقد تصور غرنوى أن البشر فى ساحة الإعدام سوف يحبونه حباً طاهراً، بتأثير هذا العطر الطاهر الذي ينبعث منه. لكنهم بدلاً من ذلك اشتهوا جسده. فجاء تعبيرهم عن الحب غريزياً تماماً مثل تعبيرهم السابق عن القتل. وهنا عاد غرنوى يسأل نفسه متشككاً فى ما كان يبتغيه من الفتاة ذات الشعر الأحمر، هل كان يشتهى جسدها مثلما أشتهوا جسده أم أشتهي عبقها. وبعد هذا التشكك ينقلنا الكاتب لحل اللغز الذي دارت حوله الرواية منذ بدايتها. فيقول وما كانوا يشتهونه فعلاً فقد بقى بالنسبة لهم سراً. ويبدو لي أنهم أشتهوا الحب بمعناه الشامل، وليس بمعناه الغريزي، حباً تلتقي فيه الروح مع الجسد. فالشهوة وحدها ليست حبا، بل هروب وإغتراب. والروح وحدها هي إنفصال عن الحياة. بينما الحب هو فعل يحدث بين البشر الأحياء وليس بين أرواح هائمة، فعل تندمج فيه الروح مع الجسد.

    غرنوى وإعدام بديل عنه
    تتقاطع مسألة قتل "دروو" بدلاً من غرنوى مع بعض التصورات الدينية المختلف عليها. فالرواية تدور حول العلاقة بين الجسد والروح، وهي مسألة جوهرية فى المسيحية، تري هل شنق دورو بديلاً عن غرنوى مجرد حادثة عابرة لا ينبغى الوقوف عندها، أم أنها إشارة لم جاء فى القرآن الكريم: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم". يقول يوحنا فى أنجيله (8-59) "فرفعوا حجارة ليرجموه، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازا في وسطهم ومضى هكذا". أو إشارة لنجاة بولس الرسول من الرجم. وعموماً تتشابه نجاتهم من الموت مع نجاة غرنوى، حين خرج من مدينة "جراس" دون أن يشعر به أحد. يبدو أن دراسة الكاتب للتاريخ، قد عكست نفسها عليه. ويبدو أنه هضم التاريخ وتمثله فأصبح يتدفق فى عروقه، فخرج إبداعة مضمخاً بعطر التاريخ. فنفخ روح الدين والتاريخ فى شخصيات الرواية.
    حين يحاول المرء تفكيك شخصية غرنوى سيجد صعوبة شديدة، فغرنوى يعبق بتاريخ العديد من الشخصيات التاريخية والدينية. ولا يمكن القول بانه أتوم أو اتون، ولايمكن القول أنه لويس السادس عشر الذي سيق للإعدام فى عربة ملكية تجرها الجياد، ولايمكن القول بأنه بولس الرسول الذي أزاح المرأة فى رسائله. ولا يمكن القول بأنه إخناتون أو موسى أو السيد المسيح. ولايمكن ... ولا يمكن. لأن شخصية غرنوى كانت خليطاً من كل هذا التاريخ الذي تمثله الكاتب. يقول الناقد الألماني "جيرهارد شتادل ماير" : "فى هذه القصص يؤكد باتريك زوسكند، صاحب رواية العطر، قدرته الفائقة على خلق شخصيات من جنين الواقع، ينفخ فيها روح الإبداع، فتتشكل أمامك متحررة من النموذج، فلا تصبح مثالاً لشىء ممكن فى الوقت الحاضر وحسب، بل تغدو شخصيات، ورؤى يمكنها بمادة الماضي إستدعاء الأهوال البعيدة وإسقاطها على الحاضر".
    ولأول مرة فعلوا شيئاً عن حب
    يخرج غرنوي من جراس دون أن يشعر به أحد، لا يعرف إلى اين، يتوقف أمام الجبل، لكنه لم يعد يرغب فى العودة إليه. تتنازع غرنوي رغبتان، الرغبة فى السيطرة على البشر والرغبة فى الموت. فقد كان يملك "قدرة أقوي من سلطة المال وسلطة الإرهاب وسلطة الموت. أنها القدرة التى لا تقاوم، والتى تجعل الناس يحبون". لكن ما فائدة هذه القدرة وهو لا يقدر على معرفة نفسه. هل هو الإنسان أم الإله الأوحد، أم إبن الإله أم الإنسان القاتل. هل هو إله يحب البشر أم يريد السيطرة عليهم. هل يحب المرأة أم يكرهها. هل أستطاع أن يحب نفسه حتى يتمكن من حب البشر.
    فكر غرنوي فى البداية فى السيطرة على البشر من خلال صيغته الدينية الجديدة، ووصف الكاتب هذه الرغبة بقوله:
    بين الحين والآخر كان يمد يده إلى جيبه ويقبض بها على قارورة عطره الزجاجية الصغيرة، التى كانت لاتزال ممتلئه تقريباً حتى آخرها. فهو لم يستهلك منها سوى قطرة واحدة لمشهده ظهوره فى "غراس". وما تبقى فى القارورة كاف لسحر العالم أجمع. فكان بإمكانه إن أراد أن يجعل لا عشرة آلاف بل مئة ألف يحتلفون به فى "باريس"، وقد يتمشى إلى "فرساى" ليجعل الملك يقبل قدميه، وأن يكتب للبابا خطاباً مضمخاً بالعطراً، ويتجلى بإعتباره المسيح الجديد. أو أن يرسم كإمبراطور أعلى أمام الملوك والقياصرة فى "نوتردام"، بل حتى كإله على الأرض، إذا ماكان ذلك أمرا لايزال معمولا به .
    إن غرنوي الذي يملك صيغة دينية ظاهرها الحب وجوهرها القتل كان بإمكانه السيطرة على العالم. بإمكانه أن يجعل من نفسه إمبراطور يمثل الإله على الأرض، ويجعل البشر يحبون القاتل لإنه مضمخ بعطر الحب. لكن غرنوي فضل الموت، لا اعرف فى الحقيقة لماذا. ربما لعجزه عن التواصل مع محيطة بطريقة ترضية.

    فوق مقبرة الأبرياء بباريس، وفى نفس البقعة التى ولد فيها وسط أحشاء الأسماك المقدسة تنتهى حياة البطل بشكل درامي بعد أن سكب زجاجة العطر على جسده، تمهيداً لإستقبال الموت. فقد "أراد أن يذهب إلى باريس ويموت، هذا ما كان يريده". وموت البطل معطراً يعيد للإذهان أيضاًَ قصة السيدة التى سكبت زجاجة العطر على السيد المسيح، ولما اغتاظ منها تلاميذ المسيح لأن زجاجة العطر كان يمكن بيعها بثمن كبير لإطعام الفقراء. قال لهم "لماذا تزعجون المرأة، فإنها قد عملت بي عملاً حسناً، لأن الفقراء معكم فى كل حين، أما انا فلست معكم فى كل حين. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي إنما فعلت ذلك لأجل تكفينى".
    لكن رائحة الحب التى غطت جوهر غرنوي القاتل لفتت إنتباه اللصوص والقتلة وضاربو السكاكين والعاهرات والفارون من الجيش والشباب الجانحون فما كان منهم سوى أن أكلوه. ويصف الكاتب ذلك بقوله: "وللحظة تراجعوا من حوله تهيباًَ، ونتيجة الدهشة الهائلة، وفى اللحظة نفسها كانوا قد شعروا بان التراجع لم يكن سوى مقدمة للهجوم، وأن تهيبهم قد تحول إلى شهوة، ودهشتهم إلى حماس، شعرورا بأنفسهم منجذبين إلى هذا الرجل الملاك، كانت تصدر عنه قوة امتصاص متوحشة. أو جزر هادر ليس بوسع مخلوق مقاومته، فكيف إن لم يكن هناك من يرغب بمقاومته، فما كان هذا الجزر يشده ويجذبه باتجاهه هو الإرادة الإنسانية نفسها: إليه هو. ... شكلوا حلقة من حوله وبدأوا يضغطون ويتدافعون ويتزاحمون ...ودفعة واحدة سقط عنهم آخر ما تبقى من تحفظهم تجاهه وانهار شكل الحلقة، فهجموا على الملاك، انقضوا عليه ورموه أرضاً. كل واحد منهم كان يريد ملامسته، كل منهم أراد أن يحصل على جزء منه، على ريشة صغيرة أو جناح، على شرارة من ناره الرائعة. مزقوا عنه ثيابه، ثم شعره وجلده عن جسمه، نتفوه وغرزوا اسنانهم ومخالبهم فى لحمه، كالضباع انقضوا عليه.
    لكن الجسد البشرى قاس وليس من اليسير تمزيقه، حتى على الكلاب، وهكذا التمتعت الخناجر فجأة لتنغرز فيه وتقطعه، ثم هوت الفؤوس والسواطير على المفاصل مهشمة العظام، وخلال دقائق كان الملاك قد تمزق إلى ثلاثين قطعة، خطف كل فرد من المجموعة إحداها، منسحباً إلى الوراء وقد ملأه الجشع الممتع ليلتهمها. بعد ساعة كان جان باتيست غرنوى قد اختفى عن وجه الأرض دون أدنى أثر.
    عندما اجتمع أكلة لحوم البشر بعد الوجبة حول النار ثانية لم ينبس أحدهم بحرف، أحدهم تجشأ، والآخر بصق عظمة، والثالث تلمظ قاذفاً فى النار نثرة من البزة الزرقاء، كانوا جميعهم فى حيرة من أمرهم قليلاً، ولم يجرؤوا على النظر فى وجوه بعضهم بعضاً. كان كل منهم، رجلاً أم امرأة قد ارتكب سابقاً جريمة قتل أو شيئا فظيعاً ومشيناً من هذا القبيل. أما أن يتلهموا رجلا؟ لم يكن فى ظنهم أنهم قادرون على ارتكاب مثل هذا الفعل المروع أبداً. واستغربوا أن الأمر ببساطة قد أعجبهم، وأنهم رغم حيرتهم لا يشعرون بأى شئ من قبيل تأنيب الضمير. بل على العكس فرغم الثقل الذى كانوا يحسون به فى معداتهم، كانت قلوبهم خفيفة جداً، كما امتلأت نفوسهم المظلمة فجأة بمرح طاغ، وعلت وجوههم مسحة من السعادة رقيقة. ربما كان هذا هو سبب خجلهم من رفع بصرهم والنظر فى وجوه بعضهم البعض. وعندما تجرأوا أخيرا على ذلك، تلميحاً فى البداية، ثم صراحة، كان عليهم أن يبتسموا كانوا فخورين إلى أقصى حد، فلأول مرة فى حياتهم فعلوا شيئا عن حب.
    تثير هذه الجملة الأخيرة التى ختم بها الكاتب روايتة " فلأول مرة فى حياتهم فعلوا شيئا عن حب" حالة من الحيرة الشديدة. إن فكرة "أكل لحم البشر عن حب" تقع وقع الصدمة على عقل الإنسان المعاصر. لقد سمعنا عن أكل لحوم البشر، لكننا لم نسمع قط أن هذا الفعل الشنيع يمكن أن يحدث بدافع من الحب. لكن أفراد القبائل البشرية فى العصور القديمة كانوا يأكلون زعيمهم أو كبيرهم أو أبيهم عن حب. فهم من ناحية يحتفظون بقوته وفضائله بداخلهم، ومن ناحية أخري يتحررون من استلابه لإرادتهم. وقد ظلت قبائل الهنود الحمر حتى أكتشاف أمريكا تمارس هذه العادة حتى القرن السادس عشر . كان أكل الأخوة الذكور لزعيم العشيرة البشرية الأولى يعلن تحديهم لسلطته المطلقة التى جعلته يحتفظ لنفسه بكل نساء العشيرة ويحرمهم حقهم فى أى امرأة من نساءها. ويبدو أن فكرة القتل الأولى فى أسطورة إيزيس وأوزوريس تعكس ضمن ماتعكسه فكرة الصراع بين الأخويين "أوزوريس" و"ست" حول النساء والملكية والعرش. وقد أنتصرت الأسطورة للإبن حورس الذي ظل ينتقم من عمه "ست" المتخفى فى الخنزير وغيره من الحيوانات التى حرم أكلها على المصريين منذ العصور القديمة، بينما تم تكريم الأب "أوزوريس" ليصبح إله للحساب والعقاب فى العالم الآخر. وظل العالم يحتفل بقيامتة فى عيد الفصح. ويبدو أن عطر العذاري الذي سكبه غرنوي على نفسه اعاد لذاكرة السفلة استحواذ الأب على العذارى، فأيقظت لديهم ذلك الطقس القديم لأكل الأب. بدا غرنوي من خلال عطره وكأنه الأب الأنانى الذي إستحوذ لنفسه على العذارى. بينما بدا السفلة ذوي القلوب المظلمة وكأنهم أخوته الذين يتطلعون لمشاركته. ولهذا فقد أشتهوه. أشتهوه ما يمثله من قوة وقدرة جنسية وسلطة. فقد تاقوا لأن يكونوه. فأكلوه ليحتفظوا به داخلهم. ولهذا لم يشعروا بالذنب، بل أمتلئت نفسوهم المظلمة بالمرح والسعادة. لم يكن احد منهم يعرف أن الرغبة التى اجتاحته لقتل الأب قد أجتاحت اخوته أيضاً. وحين أكتشفوا أن أكل الأب لم يكن رغبة منفردة بل رغبة جماعية، أبتسموا لبعضهم البعض وشعروا بالفخر. فقد أحتفظوا به داخلهم، فأحبوا أنفسهم به، وأحبوا بعضهم من خلاله، وتخلصوا من سيطرته فتحرروا منه، لكن جسده الماثل فيهم ظل يجمع بينهم. وبأكل الأب اجتمع شمل الأخوة الذكور الذين استبعدهم الأب وطردهم من عشيرته. وانتقل الإنسان من مرحلة القطيع المكون من ذكر واحد وعشرات الإناث، إلى مرحلة الجماعة البشرية المكونة من العديد من الذكور والعديد من الأناث. وشكل هذا الإنتقال أول تنازل عن الغريزة الحيوانية لدي الإنسان. وبهذه النقلة التطورية، خطا الإنسان خطوته الأولي على طريق الحب، ولايزال متعثراً فالطريق شاق وعسير ويحتاج لجهد مضنى وتكاتف شديد وصبر من كل البشر. لقد ظلت وستظل فكرة سيطرة كائن أعلى على مقدرات الجماعة البشرية نكسة تطورية فى حياتها. لأنها تطيح بالعدل، وتقضي على الحب الذي ولد لتوه بين أعضاء الجماعة البشرية. هذه الفكرة تولد الحقد والكراهية بدلاً من الحب، وتقود البشرية للقتل والحرب وإنهيار الجماعة البشرية، وفناء الجنس البشري عن آخره. أنهى الكاتب روايته العبقرية بهذا الجملة المحيرة ليضع البشر أمام تحدي صعب للغاية، عليهم مواجهته كل لحظة. فإما أن يأكلوا الكائن الأعلى مستلب الإرداة قبل أن يتعملق، وإما أن يفنوا لأنهم اتاحوا له فرصة النمو السرطانى، فاصبح استأصاله يعنى إستئصالهم أيضاً. إن هذه الرواية تؤرخ لبداية مرحلة جديدة فى تاريخ البشرية ونقلتها التطورية القادمة. لكن العمر لن يسمح لنا برؤيتها والفرح بها. فليفرح بها أبناءنا.

    معالجة سينمائية متصورة للرواية
    فى تصور آخر كروكي لمعالجة سينمائية لرواية بهذا التعقيد، وبهذا التداخل التاريخي، يمكن أن يتخذ الفيلم أكثر من مستوي زمنى للإنتقال بينهم ذهاباً وعودة كما حدث فى فيلم "الساعات". حيث تنتقل الكامير بين مشهد ولادة غرنوي بين إحشاء السمك، وبين تقديس السمك فى مصر القديمة ودلالة السمك فى المسيحية، ثم مشهد نجاته من الموت ومشهد نجاة الطفل موسى والطفل يسوع من إيدى قتلته. أما مشهد قتل الأم فيمكن أستدعاءه مع مشهد آخر يقطع فيه حورس رأس أمه أيزيس ويصعد به للجبل، بعد أن أظهرت تعاطفاً مع أخيها "ست" وغرزت حربتها الذهبيه دون قصد منها فى جسد أبنها المتخفي فى فرس النهر وهو يحارب عمه "ست"، والانتقال منه لمشهد قتل "الزانية الكبري" فى بابل القديمة كما جاء وصفه فى رؤيا يوحنا. ولتجسيد المرحلة الأولي من حياة غرنوى يمكن أن تنتقل الكاميرا بين باريس فى القرن الثامن عشر التى أوشك أن يموت فيها غرنوى بعد ولادته، ، ثم العودة لحياة الإنسان الأول فى الغابة وتصويره وهو يقطف الثمار ويصيد فريسته ويتعرض للموت كل لحظة. وتصوير حياة القرادة والبذرة التى يقذف بها إلى الأرض فإما أن تحيا أو تموت.

    من الممكن أيضاً عقد مقارنه بين حياة غرنوى عند الدباغ غريمال وبين حياة الإنسان الأول فى العصر الحجرى وهو يرتدى جلد الحيوان وينام فى الكهوف، وبين حياة السجناء والعبيد بأنفاق مناجم الرصاص المحفورة تحت الأرض بقبرص. فهناك قضي العبيد والخارجون عن القانون والمسيحيون الأوائل، عقوبة الأشغال الشاقة مدي الحياة. وهى أبشع عقوبة يمكن تصورها، ولا سبيل لمن حكم عليه بها أن يعود للحياة فوق الأرض مرة ثانية.
    بعدها تتنقل الكاميرا بين حياة غرنوى عند العطار بالديني وبين معابد نابولى حيث نشأت صيغة عطر الحب والحياة. ثم تقدم لنا صورة للحياة بمصر القديمة، وتقدم طقوس عبادة الآلهة المختلفة فى المعابد المصرية حتى عصر إخناتون، ثم تنتقل إلى طقس عبادة الإله "أتون" فى عهد إخناتون. ويمكن عقد مقارنة بين الثورة الفرنسية وتصوير الجدل الدائر بين الفلاسفة ورجال الدين وبين الثورة التى حدثت فى عهد إخناتون والجدل الذي دار بين كهنة آمون وكهنة آتون. وإستحضار العلاقة القوية بين الآلهة والعطور والبخور. فنري معابد الآلهة تعبق بالبخور، وأجساد الآلهة تدهن بالزيوت العطرية. ونري ايضاً الطريقة التى تمسح بها الآلهة ملوك مصر القديمة لإعتلاء عروشهم. وتقدم لنا الكاميرا صورة حول تطور حرفة صناعة العطور. وكيف ينقع الحرفيون أنواع الراتنج والأخشاب العطرية فى الماء والزيت ليصنعوا منها البخور، وكيف كانو يستخدمون العطور فى تحنيط مواتاهم، وكيف سجلت البرديات والمعابد القديمة الدور الذي لعبته البخور والعطور فى حياة الكنهة والألهة المقدسة. وتنقلنا الكاميرا فى جولة داخل معبد الملكة حتشبسوت التى سجلت جدرانه بعثاتها لجلب البخور وفي جولة بحديقة المعبد التي أمتلئت فى العصور الغابرة بأشجار البخور التى جلبتها فى بعثاتها التجارية. وإلى مقبرة توت عنخ آمون التى ظهر بها أثر لطيب منبعث من مراهمِ في قوارير مختومة بإحكام عندما فتح المقبرة.
    بعدها ينقلنا المخرج لمعبد يهودي تتصاعد البخور بأروقته، ويجسد لنا الفيلم العطر كما جاء بالتوارة "خذ لك عطوراً ميعة وأظفارا وقنة عطرة، ولبانا نقيا، تكون أجزاء متساوية فتصنعها بخورا عطرا، صنعة العطار مملحاً نقياً مقدسا"، "والبخور الذي تصنعة على مقاديره لا تصنعوا لأنفسكم، يكون عندك مقدس للرب، كل من صنع مثله ليشمه يقطع من شعبه". ويأخذنا فى جولة سريعة لمعبد من معابد العالم القديم حيث يقوم الكهنة بإشعال بخور الرب، ومن هناك نعود لكنيسة مونبيلية لنري بخور الرب ونسمع غرنوى وهو يقول: "أن رائحة الرب نتنه"، بينما التمع ذهنة بفكرة السيطرة على البشر. ومنها ننتقل إلى مصر حيث أعواد البخور المنتشرة بالمنازل والمحال التجارية بالموسكي ونري المباخر التي يحملها البعض فى شوارع مصر قبل صلاة الجمعة.
    ثم تتجول الكاميرا فى معابد الآلهة القديمة وتصور لنا طقوسهم وأضحيتهم. وبينما تتصاعد رائحة الضحية فى المعابد القديمة يحكى لنا أحد الكهنة قصة الخلق ، وتنتقل الكاميرا بين هذا الكاهن وبين غرنوى وهو يحكي لنا قصة الخلق فوق جبل بلومب دي كانتال. وتصور لنا الحياة فى قري فلسطين القديمة والأضحية التي رش اليهود دماءها على قدس أقداسهم وحرقوا أحشاءها فوق مذابحهم لإرضاء الرب.

    إن لقطة مثل حفلة المجون الباخوسية بمدينة جراس يمكن توصيل مغزاها أكثر من خلال الرجوع لمعابد الإلهة الأم فى العراق القديم وفى مصر وبلاد الشام. كما أن تجسيد قتل العذاري فى الفيلم لابد وأن يرافقه صورة للتحول من الفجور العذري إلى الرهبنة العذرية. ومن العري إلى التحجب. ومن الحرية المطلقة التي عاشتها المرأة إلى العبودية االمطلقة. ومن قتل شهوة الجسد إلى التمسك بالروح الطاهرة. إن نقل الكاميرا لصورة المرأة فى معابدها القديمة وتغير صورتها فى اليهودية والمسيحية، وفى العالم الإسلامي. وداخل االجيتوهات التركية بألمانيا، وجرائم الشرف المتكررة التى يقوم بها الرجال، وصورتها المتحررة فى العالم الغربى يمكن أن يعكس لنا فكرة قتل العذاري. والإنتقال السريع للكاميرا بين لحظات القتل المتكررة فى الأزمنة التاريخية المختلفة التى ذكرناها يمكن أن يلقي الضوء على ما أحدثه عطر العذارى من تأثير على الناس بمدينة جراس.

    أما حفلة أكل جسد غرنوي، فيمكن تناولها من خلال المقابلة بين أكثر من لوحة سينمائية، تعيد الينا حالة القطيع البشري الأولى. الأب وهو مستحوذ على عذارى العشيرة. الأخوة الذكور وهم مطرودون خارج العشيرة. طقوس الزواج القديم التى أعطت لزعيم القبيلة الحق فى العروس قبل أن تذهب لبيت زوجها، واعطت لملوك المغرب حتى عهد قريب الحق فى العروس ليلة دخلتها. ثم تجسيد طقس أكل الأب فى العشيرة البشرية الأولي فى المكسيك ولدي قبائل الهنود الحمر بشمال أمريكا، وفي العراق ومصر وروما وأثينا وكريت وفلسطين وبين القبائل الجرمانية وقبائل الفياكينج فى الدول الإسكندنافية فى العصور القديمة. وتصوير حالة الفرح والسعادة والإحساس بالإنعتاق بعد أكل زعيم القبيلة.

    إن التصور السينمائي حول البزة الزرقاء نبغ لا ينضب. فاللون الأزرق لعب فى التاريخ الديني للشعوب دوراً متميزا فهو لون الضحية عند البعض منها، ولون لدم الملوك، ولون للآلهة عند البعض الآخر ويبدو أنه يشير للون السماء باعتبارها إلهة، حتى أن القرابين المقدمة لها تدهن بنفس لونها. ويمكن أن يصنع الإخراج من هذا اللون ملحمة تاريخية. لقطات سريعة تنتقل فيها الكاميرا بين خروج غرنوى من العربة المغلقة التي تجرها الجياد، ويقودها حوذى إلى جانب خدم فى زى رسمى ومن حولها كوكبة من الفرسان، وبين عربة لويس السادس عشر الملكية عند وصوله لساحة الإعدام. ثم إلى أهرامات المكسيك حيث يقوم كاهن شعب المايا بدهن إنسان باللون الأزرق تمهيداً لتقديمه ضحية للرب، وقتله فوق قمة الهرم فى إحتفالية طقسية بضربه بالسهام حتي الموت أو بعد توثيق الساعدين والساقين بينما يشق الكاهن صدره بسكين حاد مقدس من حجر الصوان لينتزع القلب وهو ينبض ليشوي في النيران المقدسة قرباناً للآلهة . ثم لقطة فى الصين تجسد اللون الأزرق المرتبط بالخلود ومنها إلى الهند حيث الإله كريشنا يرتبط باللون الأزق، ومنها إلى مصر حيث الخرزة الزرقاء التى تمنع الضرر والحسد. ثم تكوين سينمائي من الجرافيك يجسد العقيق الأزرق الشفاف كما جاء بسفر الخروج:" ثم صعد موسى وهارون و"ناداب" و"أبيهو" وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إلـه إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ولكنه لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل. فرأوا الله وأكلوا وشربوا...(الإصحاح 28)

    إن العطر كفيلم يمكن من خلال هذه النقلات الزمنية المتداخلة أن يعكس ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا معا. هذا أمر يحتاج إلى عبقرية فنية تعيد تشكيل النص الروائى فى سينما قادرة على احتوائه والإضافة إليه. إن فيلم الساعات عن قصة حياة الأديبة الأنجليزية فرجينيا وولف أستطاع من خلال الانتقال بين حقب زمنية مختلفة أن يحل هذه الإشكالية بطريقة ناجحة.
    نهاية مفتوحة ودعوة للعودة
    يبقى لنا فى النهاية أن نقول أن العطر روايه متشابكة الأبعاد لعب أبطالها أدوارهم على مسرح القرن الثامن عشر الذي شهد صراعاً مريراً بين فلاسفة التنوير وبين رجال الدين. لكنها عكست أيضا قضية استلاب النفس البشرية وغياب الحب بشكل ممتد، فهما أمران لا يزالان يشغلا عقل الإنسان فى الوقت الحاضر. فكما سلب رجال الدين فى القرن الثامن عشر إرادة الإنسان، سلبت الآلهة القديمة حياة الإنسان وإرادته. ولايزال الوقت الحاضر يجسد هذا الصراع العنيف بين الأديان، ولا يزال البشر البسطاء يحلمون بالله الرحيم العادل الحق. ولا يزالوا يحلمون بالسلام والمحبة ووقف سفك الدماء ووقف الحروب باسم الرب.

    يرى النقاد أن رواية العطر تعد بمثابة رد أوروبي على صرعة الواقعية السحرية فى أدب أمريكا اللاتينية . ورغم صحة ذلك إلى حد بعيد، إلا أن الأدب وباقي الفنون فى جميع دول العالم لاتنافس بل تكمل بعضها بعض، لتأخذ بيد الإنسان فى رحلة وعيه بنفسه وبإشكالية وجوده. إن هذه الرؤية لم تتعرض لكل الأفكار التى طرحتها الرواية. فنقد رواية بهذا الثقل والعمق يحتاج لكتاب بحجمها أو أكبر، يتيح للناقد فرصة لتناول كل تفصيلة من تفاصيل هذه اللوحة الفسيفسائية متقنة الصنع. فكل كلمة كتبها الكاتب مدروسة بعناية، ومقامة فى المكان المخصص لها، لتعطي دلالات عميقة ومتنوعة لجوهر النفس البشرية.
    وبعد،
    ليست هذه الرؤية إلا محاولة بادئة لقراءة مجتهدة آمل أن أكون قد قدمت من خلالها وجهة نظر متواضعة تسهم فى سبر غور هذا العمل الرائع الذى يحتاج لأكثر من قراءة وأكثر من معالجة سينمائية وأكثر من نقد وأكثر من رؤية، حتى أننى وأنا أنتهى منه، شعرت وكأنى أريد أن أبدا من جديد. هكذا الإبداع يغرى بكل ما يعد به. والباب مفتوح لمزيد من النقد ونقد النقد.

    19 مارس 2007
    amal_zaki@hotmail.com
    كاتبة وناقدة سينمائية ومترجمة من اللغة الألمانية من مصر
    http://jidar.net/jed/modules.php?name=News&file=article&sid=1666

المواضيع المتشابهه

  1. "فرنسا 24" و"الحرة" … أو حين تتنكر "الدبابة" في ثوب "الميديا" كتبه شامة درشول‎
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-18-2015, 10:36 AM
  2. رواية "العطر" لـ باتريك زوسكيند
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-30-2013, 08:52 PM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-13-2012, 08:03 AM
  4. "فيسبوك" أكبر أداة تجسس عالمية.. و"ياهو" و"جوجل" واجهتان لـ"cia"
    بواسطة شذى سعد في المنتدى فرسان التقني العام.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-21-2011, 07:52 AM
  5. قراءة محمد معمري في " عجوز عند الجسر" للكاتب الأمريكي "إرنست هيمنجواي"
    بواسطة محمد معمري في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-13-2011, 05:19 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •