هل أنت على وعي بأنّ كلَّ يومٍ يمضي من عمرِك يقرّبُك إلى الموت أكثرَ فأكثر، أو يقرّبُ الموتَ إليكَ أكثر فأكثر، مثلما هو الأمرُ مع جميع الناس، أو ربّما يقرّبُك أنتَ إليه أكثرَ من أيِّ شخصٍ آخر.

وكما أخبر الله سبحانه وتعالى: (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةٌ المَوْت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون )) . فكلُّ من على وجهِ هذه البسيطة، ومنْ سوف يعيشُ عليها في المستقبل سوفَ يواجهُون الموتَ بدون استثناء. بيد أنه بالرّغم من هذه الحقيقة فإنّ الإنسانَ يرى نفسَه لسببٍ من الأسباب، بمنأى عن هذا المصير .

لو أمعنَّا التفكيرَ في طفلٍ يأتي إلى العالمِ ليأخذَ أوَّلَ نفَسٍ له فيه، ورجلٍ على قيدِ لحظاتٍ من الموت يلفظُ أنفاسَه الأخيرة، فلا الذي وُلد له دخلٌ في ولادتِه ولا الذي يَموتُ كذلك اختارَ هذا المصير. فالأمرُ كلُّه للهِ وبيده سبحانَه، فهو المالِكُ المتصرِّفُ وبيده القوَّة في نفْخِ الرُّوحِ، فيبعثُ فيها الحياةَ أو يقبِضُها فتنتهي بالموت .

وقد صوَّرَ اللهُ تعالَى حالَ بعض بني البشر تجاه الموت حين قالَ تعالى في سورة الجمعة : (( قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ منه فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّؤُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) .

أغلبُ الناس يتجنّبون التفكيرَ في الموت، وخلال أحداثِ اليوم المتلاحقة، يغرَقُ الشّخصُ في دائرةٍ متشعّبةٍ من المواضيع المختلفة: فمواضيع مثل: في أيّ جامعة ٍسيدرس ، وفي أيّ شركةٍ سيعمل، وما لونُ اللّباس الذي سيرتديه في الصباح التالي، وما الّذي سيأكلُه؟ هذه هي أهمُّ المشاغل التي تملأُ أذهانَنا. فالإنسانُ يعتقدُ أنَّ الحياةَ لا تعدو أن تكونَ هذه الأشياء .

لقد اعتُبرَ الحديث عن الموتِ أمراً ثانوياً، وأيّ محاولة للحديث عن الموت كثيراً ما تتعرَّضُ للمقاطعة من قِبل الأشخاص الذين لا ترتاحُ أنفسُهم ولا تطمئِنُّ لمثلِ هذا الموضوع، فعادةً ما يعتقدُ الإنسانُ أنه لن يموتَ إلاّ بعد أنْ يتجاوَزَ الخمسينَ أو الستينَ من العمر، أما الشباب فهم لا يريدون أن يخوضوا في مثل هذه المواضيع " المنغّصة " . والحالُ أن أحداً لا يضمَنُ لنفسِه أن يعيشَ ولو ثانية. فكلُّ يوم تطالعُنا الصّحفُ والقنواتُ التلفزيونية بشتّى الأخبارِ عن الموت. وكلُّ إنسانٍ عادةً ما يكون شاهداً على أقرباء له ماتوا، لكنَّه لم يفكر أنَّ الآخرين سوف يكونون يوماً ما شهوداً على موته هو نفسه .

ولكن.. عندما يأتي الموت نجد أن كل "حقائق" الحياة تتلاشى فجأة ، لن يتركَ الموتُ منك أيَّ أثر. فكّر في حالِكَ الآن؛ عيناك اللتان تفتحان وتُغمضان، حركاتُ جسمك، قدرتُك على الكلام، قدرتك على الضحك، بمعنى فكِّر في جميع وظائفك الحيوية. ثم فكِّر مرة أخرى في حالك وقد خرجَتْ روحُك وأصبح جسمُك جثَّةً هامدة، استحضر هذا أمام عينيك .

سوف تصبح جثَّة هامدة لا تعرف ماذا يحيط بك وما يدور حولك، هكذا سوف ترقد. سوف يُحمل جسمك من قبل أناس آخرين، وسوف يعتبرونك مجرد "قطعة لحم". وعند إعداد التَّابوت الذي سوف تُحمل فيه إلى المقبرة يتولَّى أحد الأشخاص تغسيلك، ثم يلفّونك في قماش أبيض، ثم توضع في تابوت من الخشب. وعندما تنتهي المراسم في الجامع تُحمل ويُذهب بك إلى المقبرة، وبعد ذلك توضع على قبرك قطعة من الحجر كُتب عليها تاريخ ميلادك وتاريخ وفاتك. وسوف يُلقى بك مع الكفن داخل الحفرة التي أُعدَّت لك، وتوضع فوقك قطعة من الخشب ثم يُهال عليك التراب. وبعد أن يواروك بالتراب جيداً، تنتهي مراسم الدفن على هذا النحو .

في الأيام الأولى تكون الزيارات إلى قبرك كثيرة، ثم تتناقص لتصبح مرَّة كلَّ عام، وبعد ذلك تُنسى ولا يَحتفل بك أحدٌ. وبالإضافة إلى كلّ هذا سوف لن يكون لديك علم حتى بهذه الزّيارات .

غرفتُك التي مكثْتَ فيها لسنوات، وسريرُ نومك الذي نمْتَ فيه سوف يفقدانك. وبعد أن تغادرَ جنازَتُك المنزل بمدَّة سوف توزَّعُ أشياؤك الخاصَّة وتُعطى إلى من هم في حاجة إليها. وسوف يذهب أهلُك إلى إدارة النفوس ويطلبون شطبَ إسمك من هذه الدنيا. ربما يَذكرُك بعضُ النّاس في الفترات الأولى بعد موتك، وربما كان هناك مِنْ خلفِك من يبكيك. بيد أنّ الزمنَ كفيلٌ بأن يُذهِبَ ذِكرك من بين الناس شيئاً فشيئاً. وبعد عقودٍ قليلة من الزّمن لن يبقَ في هذه الدّنيا التي عشْتَ فيها " زمناً طويلاً " من يتَذكرك. ومع ذلك، وحتى أقاربك ومعارفك الذين تركتَهم خلفَك بعد موتك لا يُفيد شيئاً إذا تذكَّروك أو نَسُوك لأنهم هم أيضاً سوف ينْفضُّون من هذه الحياة ويغادرونها شيئاً فشيئاً .

وفي الوقت الذي تتالى فيه الأحداثُ على الأرض يبدأ جسمُك الموجود تحت التراب في عملية تحلُّلٍ سريعة. سوف تهبّ الحشراتُ والديدانُ لتنهَشَ جسمَك، وسوف ينتفخُ بطنك بسبب الغازاتِ التي تملَؤُه، وهذا الانتفاخُ سوف يسري في كلِّ جزءٍ من بدنك، ويصبحُ جسمُك على هيئةٍ لا يَعرفُها أحد. وعلى إثر ذلك يحدثُ ضغطٌ من قبل هذه الغازات على الحجابِ الحاجز؛ فتبدأُ رغوةٌ ممزوجةٌ بالدّماء تخرج من فمِك وأنفك. ومع تهرُّأ الجسمِ يتناثَرُ الشَّعرُ وتنقلِعُ الأظافرُ من أماكنها وتتمزَّقُ راحَةُ اليد وظهرها .

بالإضافة إلى هذه التغيُّرات الخارجيَّة، سوف يدبّ الفساد كذلك في الأعضاء الداخلية. وفي الواقع فإنَّ الموقفَ المخيفَ سوف يحدثُ هنا، فالغازاتُ المتجمِّعة في أنحاء البطن سوف تُفجِّرُ أضعفَ نقطةٍ فيها، ثم تنتشرُ من الجسمِ روائحُ كريهة لا يمكن أبداً تحمُّلها. وفي هذه المرحلة تبدأُ العضلاتُ في الانفصال عن أماكنِها بَدْءاً من الرأس، ثم يتحلَّلُ الجلدُ والأجزاءُ الأخرى اللَّيِّنَة منه، ثم يبدأُ الهيكلُ العظميُّ في البروز. وبعد ذلك، يتحلَّلُ الدماغُ تماماً ويتحوَّلُ شكلُه إلى شكل طين. أما العظامُ فينفصلُ بعضُها عن بعض، ثم يبدأُ الهيكلُ العظمي في الانفراط ... وتتواصل هذه العملية على هذا النحو إلى أن يتحوَّل جسمُك إلى خليطٍ من الترابِ والعظام .

نعم، لن يكونَ من الممكن العودة ولو لثانية واحدة إلى الحياة التي كانت قبل الموت؛ التقاء مع الأسرة، ولقاء مع الأصدقاء ولهوٍ معهم، ولن يبقَ أملٌ في الترقّي إلى أعلى المناصب. نعم، إنَّ الجسدَ سوف يتناثرُ في القبرِ، ويُصبح عبارةً عن هيكل عظمي .

وباختصار، فالجسمُ الذي يمنحُك هويتَك، وبه تقول "أنا" سوف ينتهي بنهاية كريهة جدًّا. وأنتَ، باعتبارك روحاً في حقيقتِك سوف تكونُ قد غادرْتَ جسدك منذ زمن. أما الجسم الذي خلَّفْتَه وراءك فإنه سوف ينتهي إلى مصيرٍ مُرعبٍ للغاية .

حسناً، ما هو السببُ في كلِّ هذا ؟ ..

لو شاءَ اللهُ تعالى ما أحالَ جسمَ الإنسان بعدَ الموت إلى هذه الحالة، بيدَ أنَّ لهذا الأمر معنىً كبيراً .

أولاً، يتعيَّنُ على الإنسان أن يفهمَ أنَّ حقيقتَه ليست عبارة عن بدَن، وأنَّ هذا البدن لباسٌ أُلبسَه لوقتٍ محدّد، وعليه أن يفهمَ ذلك من هذه النهاية المُفزعَة. وعليه كذلك أن يَشعرَ أنّ وراءَ هذا الجسم وجوداً آخر .

ثانياً، على الإنسانِ أن ينتبِهَ إلى فناءِ بدنِهِ، وعليه أنْ يفكِّرَ في الأشياء التي يتمسَّكُ بها في هذه الدنيا الفانية وكأنَّه سيعيشُ فيها أبدَ الدهر، وعليه أن يتأمَّلَ في عاقبةِ هذا البدن الذي يدفعُه لكي يَحْنِ قامَتَه من أجل تلبيةِ جميعِ رغباته. هذا الجسم، لا بُدَّ وأن يتمزّقَ يوماً تحت التّراب، سوف يفسَد ويصبحُ عبارةً عن هيكل عظميّ !!. قد لا يكون ذلك اليومُ بعيداً، ربَّما يكون على بُعد قدم ....

لكن بالرّغم من كلّ هذه الحقائق، فإنَّ في داخل الإنسان ميلاً إلى أن لا يفكِّر في الأشياء الكريهة التي تنفِرُ منها نفسُه، هناك رغبةٌ في تجاهل مثلِ هذه الأمور واعتبارِها غير موجودة. وهذا ما يتجلَّى جيداً، وبشكلٍ خاص عندما يتعلَّقُ الموضوع بالموتِ. ومثلما ذكرنا، فالموتُ لا يذكرُه الناسُ إلا عند فقدانِ أحد الاقارب أو في ذكرى موتِ أحدِِهم. فالجميع تقريباً، يرون الموتَ بعيداً عنهم. فهل الذين يموتون وهم يسيرون في الطرقاتِ أو ينامون على فرشِهم يختلفون عنه في شيء؟ أم لأنه "مازال شاباً، وسوف يعيش "طويلا"؟ ولكنْ كمْ من الناس تعرَّضوا لحوادث وهم ذاهبون إلى مدارسِهم أو كانوا يُسرعون من أجل المشاركةِ في اجتماعٍ مهمٍّ فهلكوا، وكمْ منَ الناس تلقَّفهم مرضٌ لم يكن يخطُرُ على بالِهم فماتوا في وقتٍ لم يكن في حسبانِهم على الإطلاق، وهؤلاء جميعاً قبل موتهم ربّما كانوا أيضاً يرَوْن أنّ الموت بعيدٌ عنهم. فبينما كانوا يعيشون بين الناس، إذ بالصّحفِ في اليوم الموالي تُذيع خبرَ وفاتِهم فيَبْهتُ الناس لأن هذا الأمنَ لم يكن يخطرُ حتى على بالِهم .

ومن الغريب أنكم أنتم أيضاً قد لا تضعُون احتمالَ موتكم بعد أن تقرأوا هذه الأسطر بمدةٍ قصيرة ؛ فالأمور التي يَجب أن تُعمل والأعمالُ التي ينبغي أن تَتم تجعلُ الموتَ بالنّسبة إليكم أمراً سابقاً لأوانه ولم يحنْ موعدُه بعد. والواقع أن كل هذا هُروبٌ من الحقيقة، وقد أخبرنا الله تعالى أنه لنْ يُجديَ صاحبُه شيئاً )) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَو القَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ((.

على الإنسانِ أن يدرِكَ أنه جاءَ إلى هذه الدنيا "عارياً "، وسوف يخرج منها "عاريا ً". ولكنَّه بعد أن يولدَ بمدةٍ قصيرة يبدأُ في التمسك بالنِّعم التي تُمنح له- لسدّ حاجياتِه - تمسُّكاً مبالغاً فيه حتى يصبِحَ الحصولُ على هذه النِّعم أكبر هدف في حياته. والحال أنّه لا أحدَ يمكن أن يحملَ معه بعد موته لا ملكه ولا ماله الذي كان يملكه. كلّ ما في الأمر أنه سوف يُلف في خِرقةٍ بيضاء من بضعةِ أمتارٍ ويُوارى فيها التراب .

ويأتي الإنسان إلى هذه الدنيا "عارياً" ويخرجُ منها كما دخلها "عارياً" ، ولن يرافقَه إلى الآخرة سوى إيمانِه بالله تعالى أو إنكارِه له.


منقولة من مجموعة الفردوس