محاولة للاقتراب من رواية حسن لشهب "المرفأ الآخر"


لن نخوض من خلال اختيارنا لهذا العنوان في العلاقة بين الأدب والفلسفة، الأدب الذي تمثله الرواية هنا؛ وإن كان يمكن لما سنورده هنا أن يجعلنا نبلور فكرة حول الأدب الجيد. إن هذه الفكرة، كون الرواية لا تستحق أن تنتسب إلى الأدب الجيد إلا إذا قامت على رؤية فلسفية، هي فكرة كثيرا ما ألحت عليها بعض التجارب الروائية والتنظيرات في هذا المجال؛ وقد تكون الإحالة هنا إلى ما يكتبه ميلان كونديرا إحالة تفرض نفسها. تدعونا رواية "المرفأ الآخر" لحسن لشهب إذن إلى أن نقترب منها أونحاورها فلسفيا شئنا أم أبينا؛ وهذا ليس باعتبار الرواية هنا جاءت من محبة الحكمة كمدرس للفلسفة؛ وإنما ايضا لأن هذا العالم، هذا الوجود الذي تسعى الرواية إلى تمثيله، لا يمكن أن يحتمل إلا بعيشه فلسفيا وفنيا "أبدا لن يكف الفرح، ولن يدب إلى إلى النفس إلا صوت الحكمة" ص 84 ما هي الرؤية الفلسفية التي تنهض عليها رواية المرفأ الآخر؟ لا نريد أن يأتي الجواب عن هذا السؤال سبيلا نح إرساء فكرة بديهية حول ما تريد هذه الرواية أن تهجس بها، لأن أهم ما يميز الرواية الحداثية حسب كونديرا دائما هو تقويضها لهذه البداهة. ولأجل إنارة دروب أمام السؤال لكي يتشعب أكثر، لكي يرسم لنفسه مسارات أخرىن نقترح الوقوف عند هذه العناصر الني يمكن عدها تيمات
استدعاء اليونان

نتيجة هذا الاستدعاء لم تكن هي يونان الجغرافيا أو اليونان كخارطة ضمن قارة ما، إنما حضور اليونان هنا يجعلنا نفكر في عالم الآلهة والميثلوجيان في الجمال الأسطوري. هذا ما يؤشر عليه تسمية شخصية من الشخوص الرئيسية بهيلين؛ ونحن نعلم أن الشخصية الرئيسية في الرواية هي التي ترسم مساؤ هذه الأخيرة، مما يعني أن اختيار اسم هيلين هو عنوان على الرغبة في التوجه نحو عالم اليونان. ونتذكر هنا أن هايدجر كان كل ما شده إلى العالم اليوناني في بداية الأمر هي الآلهة والميثولوجيا والتعلق بجمالية هذه الأخيرة،وليس هايدجر وحده بل حتى سلفه نيتشه. لم يكن البعد الأسطوري ليغيب عن حضور شخصية هيلين التي هيمنت، إلى جانب عمر، على فضاء الرواية؛ ذلك ما يشهد عليه، سواء مسار حياتها في الرواية أو وصف السارد لملامحها "وكأنها قدت من أحد التماثيل اليونانية" ص 6. إن الفلسفة التي تعمد الروائي أن تنهض عليها روايته، وإلا لم يكن من جدوى لكتابتها؛ فالروائي أراد أن يقول شيئا عن حياتنا التي تبتعد يوما عن يوم هن عمقها، ومن هنا يمكن عد رواية المرفأ الآخر دعوة إلى التشبث بعمق الحياة، ولقد كان اليونان ممن بدؤوا في عمق هذه الدعوة، وقد أحسنوا الدعوة.

الجسد والحقيقة

ما لا شك فيه أن إشكال الجسد من الإشكالات التي لم تتوقف عندها الفلسفة عن طرقها وذلك منذ يونان أفلاطون وأرسطو مرورا بفلاسفة الإسلام، وإلى الآن لا يزال الإشكال يشغل الفلسفة. ولا شك أن حضور الجسد في رواية المرفأ الآخر شكل إحدى الرهانات الأساسية بالنسبة للروائي كي يؤكد رؤية الفلسفة، الرؤية التي وجهت كتابة الرواية؛ وإذا كانت حقيقة الجسد في الفلسفة هي من أكثر الحقائق انفلاتا والتباسا، وربما هنا يكمن مصدر خصوبتها، فإن حضور الجسد في رواية المرفأ الآخر لم يكن له لإلا أن يتخذ هطا البعد، بعد الالتباس والاتفلات؛ فهيلين تطل علينا كضحية للفهم الخاطئ للجسد، الذي تجسده شخصية جون بيير كأحد الذين لم يأخذوا من ثورة ماي 68 إلا ما جاء به "شعار تحرير الجسد". وطيلة تواجد هيلين مع هذه الشخصية على مستوى التخييل؛ وهي تحاول أن تتخطى هذا الوضع عبر تصحيح فكرة عاشقها عن الجسد إلى أن حدث ما جعلها لا ترى في الجسد إلا مصدرا للألم والإيذاء(تعرضها للاغتصاب من قبل جون بيير وأصحابه). وقد كان من نتيجة هذا ظهور شخصية أخرى ستمنح للتخييل على مستوى الجسد بعدا آخر؛ يتعلق الأمر بشخصية عمر، شاب مثقف، ينتمي إلى أفق ثقافي آخر، أفق الثقافة العربية الإسلامية، عاطل عن العمل، حاصل على دكتوراة ه في الفلسفة، يشتغل مستخدما بفندق في مدينة تراهن على السياحة كأفق للتنمية، وهي مدينة الرشيدية، مدينة الروائي. من نظرة أولى بمدخل الفندق أثارت سحنة عمر هيلين، كما اثار جمال هذه الأخيرة عمر "تذكرت هيلين وهي فوق السرير نظرة عمر إليها بمدخل الفندق...لم يكن من الممكن أن تمر هذه النظرة دزن أن تلتقطها عين المرأة. نظرة الرجل العاشق للجمال" ص 36، لكن موقف عمر يترجم الالتباس الذي أشرنا إليه أعلاه "فقال عمر وكأنه يحدث نفسه:ما يهم أولا وقبل كل شيء هو تجنب أي نزوع فطري أعمى نحو هذه الأنثى الفاتنة" ص 45، إن الافتتان بالجسد، بجماله قائم، ولكن هذا الافتتان لم يتعد مستوى التشوق، لكأن الفيلسوف لا يريد أن يبلغ مستوى حقيقة الجسد، ويفضل بالمقابل أن يظل في أثر هذه الحقيقة.أيتعلق الأمر بموقف أفلاطوني من الجيد، والذي استمر فارضا نفسه في الفلسفة الإسلامية؟ لكن عمر معجب بنيتشه ومتعلق بفلسفته حد الجنون، ونيتشه كما هو معلوم هو فاضح للأخلاق السقراطية الأفلاطونية، وسعى إلى هدمها..إنه الوضع الملتبس للجسد، الوضع الذي جعل من حقيقته عصية على القبض في الرواية.

الأنا والآخر

شكلت هذه الثنائية، الأنا والآخر، أو الذات والآخر، مدار اهتمام الفلسفة المعاصرة، أي تركة هيجل، وتعتبر الفينومينولوجيا الاتجاه الفلسفي الذي انشغل بهذه الثنائية، إذ ضمن هذا الاتجاه تم تجديد النظر فيها، وذلك بالعمل على تجاوزها. والقارئ لرواية المرفأ الأخر، خصوصا إذا كان قادما من أفق الفلسفة، لا بد له من أن ينتبه إلى إثارة هذا المشكل في الرواية. ومن المفيد هنا التذكير بأن رواية المرفأ الآخر ليست هي أول رواية عربية تنشغل بهذه الثنائية، إذ سبق لروائيين آخرين أن انشغلوا بها؛ طبعا لا يمكن إلا التفكير في الرائعة "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب الصالح... إنما يبدو أنه إذا كان صاحب موسم الهجرة إلى الشمال، قد كتب روايته بعد الجرح الذي خلفه الاستعمار، وفي مناخ، أهم ما يميزه على المستوى العربي هو اغتصاب الأرض ومممارسة العدوان، ولهذا لم يتردد كثيرون في تصنيف هذه الرواية ضمن خطاب ما بعد الاستعمار، فإن حسن لشهب كتب روايته المرفأ الآخر وهو متخفف من هذا المناخ، بل يمكن القول أنه كتب روايته في مناخ تغلب عليه لغة الحوار والحضارات والدعوة إلى التسامح، ولذلك جاء استناده إلى الفينومينولوجيا من أجل رسم صورة أخرى لعلاقة الذات بالآخر؛ فإذا كان مصطفي سعيد، بطل الطيب صالح قد ذهب غازيا إلى الغرب، إلى انجلترا، غازيا لإناث الجنس الأبيض غزوة جنسية، فإن عمر، بطل حسن لشهب جاءته أنثى من ذلك الجنس طلبا للخلاص السيكولوجي بعد تعرضها لصدمة الاغتصابّ...إن الآخر هنا هو الذي طلب حضن الذات، لأنها ذاتها، جاء على لسان عمر"فأقصى ما تمنيته في سري لأجلك (هيلين) هو أن أراك متعافية من الألم الذي كاد يدمر حياتك وحياة من يحبونك، أن أراك مقبلة على الحياة"ص 83. وقد جاء هذا الكلام بعد اعتراف هيلين لعمر بحبها له، لكأن الذات أضحت هنا المرآة التي رأى الآخر فيها نفسه رؤية الذات لنفسها؛ في رسالة هيلين، بعد رحيلها من المغرب، عائدة إلى بلدها فرنسا، ورد ما يلي "كنت أعيش تلك اللحظات بلا وعي، وكنت أنت وعيي بذاتي ومستقبلي" ص 88. لم نهتم بما يمكن أن يؤسس لقراءة شاملة للتيمات التي تقترحها علينا رواية المرفأ الآخر، لم يكن ذلك غرضنا، إن ما قمنا به هنا إن هو إلا محاولة للاقتراب، انطلاقا من رؤية فلسفية افترضنا أن الرواية قامت عليها، وهو اقتراب شئناه أن يكون هكذا، تأويليا. أليست الفلسفة تأويلا بجهة ما للوجود، أليست الرواية نمطا من الموجود


محمد أبركان