التناص والسرقة الأدبية تنوعت مجالات البحث الأدبي الحديث تنوعاً يشي في بعض الأحيان بخلط بين المفهومات ، وعسف في التطبيق ، وخطأ في الفهم ، فمن ذلك ما جرت عليه دراسات كثيرة في أثناء تناولها مصطلح التناص ، ومن ثم تطبيقه على النصوص الأدبية العربية القديمة منها والحديثـة ، وصار معتاداً أن التناص مفهوم يُدرس بذاته ولذاته ، مع ما يختلط بهذا المفهوم من عوالق اصطلاحية كالسرقة الأدبية على سبيل المثال ، إذ عد كثير من الباحثين السرقات الأدبية ضرباً من التناص. والواقع أنّ ثمة خلافـاً بين السرقات والتناص أظهرها أن السرقات ليست مكوناً نصياً ، فنحن عملياً حين نكتشف السرقة في نص من النصوص نرد المعنى المسروق إلى سياقه الحقيقي ، بمعنى أن ضبط السرقة يستوجب إرجاع المسروق إلى صاحبه ، وهو أمر جرت عليه مباحث السرقات الأدبية في النقد العربي عامة ، في حين أن الأمر مختلف في موضوع التناص ، ذلك لأنه معيار من معايير النص المنجز ، ومكون من مكوناته الحقيقية ، فمن هذه الجهة لا يصح انتزاعه من موضعه ، ولا يجوز إعادته إلى سـياق سابق ، لأن الموضع الذي هو فيه أضحى سياقه الأصيل ، فلو حذفنا ما يدل على التناص في نص من النصوص لانهار النص ولم تقم له قائمة ، وعليه لا تتم دراسة التناص كما تدرس السرقات ، كما أنه لا يفهم من التناص على أنه مجرد امتصاص من نصوص سابقة ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإجراء التطبيقي المتبع في كثير من الدراسات التناصية لا يعدو كونه تتبعاً للمفردات والصور والمعاني المتشابهة التي وقعت بقصد أو بغير ما قصد في النصوص الأدبية ، من أجل ذلك ليست هنالك تصورات بحثية حقيقية يمكن أن تستفيد من مصطلح التناص بوصفه مكوناً من مكونات النص وعنصراً فاعلاً من عناصره البنائية ، فما جدوى الإشارة إلى المعاني المتشابهة والصور المتماثلة في النصوص إذا أشير إليها بصورة جزئية؟
إن التناص علاقة ظاهرة وخفية، تعمل على بناء النص وتكوينه، وهو أشبه بقالب أو منوال ينسج الشاعر اللاحق شعره بما يوافق نسج شاعر سبقه، بمعنى آخر هنالك جانب في التناص يقرب من مفهوم الاحتذاء الذي يظهر في التشكيلات النصية كما يبرز في الأساليب ، حتى أمكن تمييز مدارس أدبية في هذا الباب ، كما هو الشأن في المدرسة الأوسية قديماً ومدرسة أبولو حديثاً، إذ تلتقي نصوص الشعراء في هذه المدارس بأكثر من جانب منها ما هو أسلوبي ومنها ما هو مضموني .
-2-
إنّ انفتاح النص على نصوص لا حصر لها لا يخرج عن إطار المعيارية، ولا يجانب شروط النصية ، لأن النص متأصل في جنسه ، ومنغرس في سياقه الأدبي والشعري ، من أجل ذلك ليس هنالك نص أدبي حقيقي يحيا خارج فضاء الأدبية والشعرية ، لا بل ليس هنالك نص أدبي حقيقي خارج حدود النصية التي حددها بوجراند بسبعة شروط أساسية ، ذلك لأن النص عنده ما هو إلا حدث اتصالي يشترط توافر النصية فيه ، يعني مجموعة الشروط التي حددها بالآتي:
1ـ التماسك: ومعناه تماسك عناصر النص السطحية وهي الكلمات المذكورة مرئية أكانت أم مسموعة ، مثال ( تمهل ... مدارس) ، إذ الفراغات هنا تعني (أيها السائق) فهي من متممات النص ومن عوامل تماسكه ، والمتلقي يعيد المحذوف بغية إظهار العلاقة السطحية بين الكلمات والذي يساعده على ذلك إنما هو تماسك النص.
2ـ الاتساق: أي تنظيم العلاقات التي تشكل البنية العميقة للنص كقولنا : ( الطالب يقرأ)، إذ العلاقة بين الوحدتين اللغويتين (الطالب ـ يقرأ) ، علاقة نحوية تشكل البنية العميقة للكلام فتُظهر الصلة النحوية بين المبتدأ (الطالب) وجملة الخبر (يقرأ) .
3ـ القصد: ويتصل بمنتج النص الذي يتخذ من الوحدات المتماسكة والمتسقة وسيلة لإنجاز المقصد.
4ـ القبول: ويتصل بالمتلقي الذي يدرك أن الوحدات الكلامية تشكل نصاً متماسكاً ومتسقاً يمسه من طرف ما.
5ـ الإعلام: وينجم عن توقع أو عدم توقع الوقائع التي يقدمها النص ، وعادة تترك بعض الوقائع لحدس المتلقي ليكون النص مثيراً .
6ـ رعاية الموقف: أي مناسبة النص للموقف الذي تسرد فيه الوقائع ؛ لأن معنى النص يتحدد في ضوء الموقف.
7ـ التناص: ويتناول الخاصة النمطية النموذجية للنّصوص ، بمعنى استثارة النّصوص السابقة ، وهو شرط من شروط الاتصال (النحو والدلالة د.صلاح حسنين ص 211).

د. أحمد علي محمد
ahmadamer60@yahoo.com