تميم البرغوثي في القدس:
الشـعر الطـوَّاف ذاكـرة وأمكنـة
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

تمرُّ على شريط العين كتابات كثيرة لا تُحصى، الكثير من تلك الكتابات ينسحب من ذاك الشريط، ويغادر، وتبقى قلة قليلة نادرة طوافة على الذاكرة شعراً وأمكنةً، يتحسسها القارىء فيراها توغل فيه بقوة تأثيرها، وعبق المختلف فيها لأنها تمثل ذاك السحر المتوهج، الذي نبحث عنه في زمن غياب الكثير من أدوات الكتابة، وجماليات لغة أرقة بمنتجها، الذي على الصانع الحاذق أن يعيد صياغته وتشكيله وفق معطيات راهنٍ خبير بأصول القراءة والإبداع والتميّز... من هذه المنطلقات خطّ تميم البرغوثي تفاصيل وحيثيات خارطته الشعرية، وأوقفنا على أماكن، وقصائد طافت بنا على سكة انبثاقها الشعريّ من السفح المتموج بظلال أشعاره الغضة الطرية كأعواد القصب المشغولة بأنين ناياتها الموجعة، صعوداً للذروة التي سحرت أجيال عصرها بعذوبة الصوت والمقدّمات الشعرية، التي أعتبرها مفايتح للغايات القادمة، والتي لا تزال مخبوءةً ودفينةً في قاموس تميم الشعريّ.. قدّمت الفضائيات تميم البرغوثي صوتاً حاذقَ التأثير في خطابه الشعريّ الجماهيريّ، ثم بدأت تطرقه كشاعر هَمٍّ وقضية.
وقد آن الأوان أن نقف عند حدود شعريته، التي تتقن ثقافته صناعتها، وسكبها في أُطرها الفنية التي، على بساطتها وعفويتها، فإنها تملك نبضها الشعريّ، الذي يشكّل المختلف الأهمّ في حركة الشعر الراهنة، والذي أكسبها هذا التآلف حولها بما تبثّه في المتلقي، على وجه العموم، من نداوة الصوت أولاً، وعذوبة الدفق ثانياً، وإبهار القارىء بالمطلع يغفر للشاعر عند الكثيرين ما يجيء بعد، من جمل تالية قد تكون أقل جمالاً، وأبطأ انهماراً، وانجذاباً للوجدان.


ولأن المجموعة ابتدأت بالقدس قيمةً مقدسةً وغاليةً جداً، لذا فروح المتلقي الجماهيري والمثقف، والوجدان المؤهل للدغدة والسماع سيترنم صاغياً ودامعاً بمستهل قصيدة القدس، القدس التي تشكّل المطلق المقدس، والغنائية العذبة، والترنيمة الرائعة الخالدة، لكائنات الحياة كافة في القدس:
مرََرَنا على دار الحبيب فردَّنا
عن الدار قانون الأعادي وسورها
فقلتُ لنفسي ربًّما هي نعمة
فماذا ترى في القدس حين تزورها
ترى كلًّ ما لا تستطيع احتماله
إذا ما بدت من جانب الدًّرب دورها
وما كُلّ نفس حين تلقى حبيبها
تسرُّ، ولا كلُّ الغياب يضيرها
فإن سرًّها قبل الفراق لقاؤه
فليس بمأمون عليها سرورها
متى تبصر القدس العتيقة مرَّةً
فسوف تراها العين حيث تديرها
إذا كانت المقدّمة الُمفتتح تشكّل الوخزة الأولى للقارىء لاستثارة حواسه، ومشاعره تجاه القدس عشقاً ووجداً، فإن الرعشة الأقوى تتفجر دلالةً نفسيةً هائلةً تحرك ما وراء الشعور الكلي للقارىء تجاه أقدس مقدسات الدهر.. القدس: مكاناً ومكانةً وذوباناً عَبْر البيت الثالث، الذي يشكّل الحامل الأهمّ للقصيدة ثم يتعالى الحامل صعوداً في البيت السادس ليشكّلا المؤثرات الحادة للمشهد المقدسيّ الباذخ بآثاره وتأثيراته ومؤثراته.
فدورها، وتديرها.. الكلمتان الأخيرتان في البيت الثالث والسادس كلمتان بالمطلق لا بديلَ عنهما، وفي مكانتهما، فتميم يصنع فضاء فسيفسائياً جميلاً، ولكي يطلقه نشوة وإبداعاً لابد من استكماله بهالة وهيبة الأيقونات، لذا فدورها وتديرها أيقونتان لازمتان تماماً وجداً في بناء الشعر والشعرية عن تميم البرغوثي والمطابقة بين الدور وتدير مطابقة واحدة المصدر، عميقة التأثير لدرجة المتخيل الرقراق المذهل!!! حتى حواشي القصيدة لديه فهي تماماً السبَّك والتعبير والفحوى.. فشاعر مثقف وقارىء، مع إيحاءات قادمة إليه بجمالها وكمالها، لابدّ أن يبدع الشعر المختلف، والمغاير للمستلب الشعريّ المركون على ساحة تغصّ بالهابط والمبتذل من عموم الكلام، ونتفه الهشة الهلامية، وهكذا نجا تميم من محصلة مأزومة وساحة بائسة على مستوى الشعر والكتابة... ليعيد ولو جزئياً ترميم تلك الساحة بفسيفساء شعره وأيقوناته المتدلية كمصابيح الشفق من فضاءاته الموحية والمعبرة ليعيد مع الندرة المبدعة والصفوة من الشعراء ألق الشعر، وتجلياته الخارقة فوق كوكب الوجود.
في قصيدته -الجليل- أبدأ بالبيت الأخير من المطلع... ثم أذهب إلى المقاطع التالية وفق ما استكملته من قراءة أولى وتالية: أولى للمتعة بالشعر وثانية وثالثة للوقوف والمراجعة... تميم يستهل قصيدته بالبيت الطللي الجميل والمشوق للحبيبة وفق راهن الألفية الثالثة، ثم يدلف للتفعيلة كمن يدلف من منسف المليحي للهامبورغور بتقنية بهية.. يقول:
فمن قال بيتي في الجليل ولم يزد فقد قال شعراً، وهو ليس بشاعر، حيث يجعل تميم من الجليل مستهلَّ كينونة الحياة، ومستنبت الشعر على كل عابر منه لجهات الكون، ثم يكمل: عن الجليل وما حوله:
ويحسبه الناس جغرافياً...
وهو أرض شمال فلسطين
أعني شمال جنين تماماً
جنوبيَّ لبنان رأساً
جنوبيَّ غرب دمشق مباشرة
وسط الشام كالطفل في المهد،
أو كالهوى في قلوب الكرام
فالشاعر لا يتكلم عن جغرافيا فقط، بل عن تأصيل عروبة فلسطين فكراً وشعراً، وتاريخاً وهوى، إذاً غطى في قصيدته جوانب من ملامح عدة وهامة أتى عليها شاعراً وعاشقاً ومؤرخاً، ثم يذهب للملح الديني قيمةً واعتباراً وهو ذهاب ذكيّ ويحمل من الدلالات أكثفها وأعمقها إذ يقول:
ولو مدَّ من شرفة فيه حبل غسيل
إلى أيّ بيت على أيَّ بحر بأيَّ اتجاه
لما مرَّ إلاَّ على قبَّةٍ، أو مقام
كأنَّ الممالك من حوله ريش مروحة،
أو مصلُّون من حول بيت حرام
لذاك يحرِّره من حصاره الغزاة
دخول الورى في صلاة الجماعة
وتأمينهم في دعاء الإمام
من طبيعة المتلقي أن ينحاز لكل ما هو جميل حتى إذا ما اختلط الجمال بالملتبس انكسرت حدَّة الجمال إلى جمال مشتبه به... فقد أخذتني الشام كالطفل في المهد، وكالهوى في قلوب الكرام، ثم تابعتُ عند تميم ما مُدَّ من شرفة فيه حبل غسيل إلى أي بيت، على أيّ بحر، بأي اتجاه.. لما مرَّ إلا على قبة، أو مقام.. وهذه دلالة حادة لعمق صلتنا بالمعتقد وارتباطنا به تراثاًَ ومنهجاً، ودلالات مبطنة برموزها وكناياتها الأبعد، لذا تأتي بعض الحواشي عند تميم لتنسف بصورة ملتبسة قيمة المعتقد وأبعاده في نفوس عاشقيه.. فدخول الورى في صلاة الجماعة دعاء على دحر الغزاة، وتأمينهم في دعاء الإمام «آمين»، فكأنما سخره قوم نطلب التحرير بالدعاء فقط، علماً بأن «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» هي الشعار الخالد لقهر الغزاة ودحرهم.. على الشاعر ألا يلبس شعره لبوساً ملتبساً اعتقاداً بموضوع التفاضل والمفاضلة بين رؤيا ورؤيا، ومعتقد ومعتقد، ومنهج ومنهج؟!!.
قصيدة تميم الجماهيرية وهو شاعر جماهيري صوتاً وقصيدةً، قصيدة «الموت فينا وفيهم الفزع»... وهي إلى أبطال المقاومة في غزة، والتي تعرضها الفضائيات وخاصة قناة القدس أكسبته حبّ الجماهير وانتعاشها بمثل ذلك الشعر، والذي يمثل حيوية ثورية افتقدها ملايين العرب من عقودها، وها هي تعود صاخبةً هادرةً بقصائد البرغوثي وشعراء آخرين.
ومن خلال صوته المتقن أداءً وتعبيراً، والقنوات التي أفسحت له الفضاء المطلق، كما فعلت مع درويش والقباني إعلامياً يأخذ تميم نصيبه المطلق دعائياً وإعلامياً على الرغم من وجود شعراء صفوة... غاب عنهم الإعلام فظلوا في الخلفية الغائبة، يقول البرغوثي في قصيدته:
إن سار أهلي فالدَّهر يتبع
يشهد أحوالهم ويستمع
يأخذ عنهم فنَّ البقاء فقد
زاودا عليه الكثير وابتدعوا
يسير إن ساروا في مظاهرة
في الخلف فيه الإقدام والجزع
يكتب في دفتر طريقتهم
لعلَّه بالدروس ينتفع
فالقصيدة على بساطتها وانسيابيتها تحمل غنائية هادرة موجعة لبت رغبات الجماهير وتطلعاتها وأحلامها المحتجزة في أنفاق العتمة والغياب، لذا فالقصيدة أخرجت الجماهير من قمقم صمتها وعزلتها وعتمتها وراحت تتلهف للإعلام الذي يبرز صوتاً واحداً ليؤلِّهه، بينما ساحة الشعر تجنُ بشعراء صفوة ركبوا صهوة الشعر، وأبدعوا فيه، حتى الخلود، تميم البرغوثي شاعر من فلسطين-والده الشاعر مريد البرغوثي ووالدته د.رضوى عاشور، إذاً فتميم وُلِد في القاهرة عام 1977 لأب فلسطيني، وأم مصرية.. وكتب أشعاره بالفصحى، والدارجة، أصدر أربع مجموعات شعرية هي: «ميجنا عام 1999» بالعامية الفلسطينية، والمنظر «دار الشروق عام 2002» وقالوا لي بتحب مصر «دار الشروق عام 2005» ومقام عراقي عام 2005 بالعربية الفصحى، وله كتابان في النظرية السياسية باللغتين العربية والانكليزية، وهذا العمل الشعري الأخير له «في القدس» صادر عن دار الشروق في القاهرة /طبعة أولى عام 2009.
وحيث مازلنا عبر غرام الشاعر بالقدس كشعراء فلسطين كافة، فإننا سنظل عند عتبتها الأولى نغني لها بهديل حمام قبابها الخضراء كي تصعد قباب الشعر عبر أهلّة المآذن وأجراس الكنائس إلى فضاءاتها الشاسعة تلهب الأرض والإنسان بنشيد الخلاص والعودة:
في القدس يرتاح التناقض، والعجائب ليس ينكرها
العباد، كأنها قطع القماش يقلبون قديمها وجديدها..
في القدس لو صافحت شيخاً، أو لمست بناية
لوجدت منقوشاً على كفيك نص قصيدة
يابن الكرام، أو اثنتين
في القدس رغم تتابع النكبات..ريح براءة في الجو، ريح طفولة، فترى الحمام يطير، يعلن دولة في الريح بين رصاصتين!!.

محمود حامد


http://www.albaath.news.sy/user/?id=647&a=60037