الشفاهية وإيديولوجيا الرواة

نسيمة بوصلاح






ينهض الراوي كمقولة سردية تم الالتفات إليها في طروحات ما بعد البنيوية، للتدليل على درجات السرد إن كان ابتدائيا أو سردا من الدرجة الثانية. لكن هذا الالتفات النقدي الإجرائي ما هو إلا مسايرة، حتى لو كانت متأخرة، لتاريخ كبير من التعالق بين الراوي وحكايته، منذ الشذرات الحكائية الأولى في الآداب الشعبية، ولعل الراوي يقترن أكثر ما يقترن بهذه الآداب الشعبية على اعتبار أن ما يحدث في الأدب الرسمي ما هو إلا من قبيل إعادة تمثيل الوضع الحكائي الحاصل مع الأدب الشعبي؛ أي أن حضور الراوي في الروايات وغيرها من ضروب السرد بعد ظهور المطبعة، ما هو إلا تمثيل ذهني لوضع حقيقي، قوامه الراوي الشعبي وحكايته ومجموعة المستمعين. لذلك ينهض الفرق الأول بين الراوي الشعبي، والراوي في السرود الرسمية على أن الأول ينتمي إلى العالم، والثاني ينتمي إلى العمل، على حد تعبير جيرار جينيت؛ أي أن الراوي الشعبي هو ذات إنسانية متحققة بوجودها وهويتها، وأن الراوي في الأدب الرسمي ما هو إلا كائن ورقي يخضع للتجريب السردي من قبل الكاتب.


استيفاء لهذا الطرح سأتعرض في هذا المقام إلى مدخل إجرائي نقدي نظري أحاول فيه أن أقدم تصورا شاملا للقيمة الإجرائية في التعامل مع الراوي كمقولة سردية، ثم أنتقل إلى قسم تطبيقي أحاول أن أعرض فيه بعض الخصائص التي تحكم الرواية الشفوية مسحوبة على بعض من نماذج السرد في الإمارات.



وقبل الولوج إلى عرض أهم خصائص الرواية الشفوية يجب أولا أن نميز وظائف باقي الشخصيات باعتبارهم ممثلين، عن وظائف الراوي الذي يمارس قبل كل شيء وظائف عرض وتنظيم السرد أو مراقبته، في حين أن الممثل يقوم بملء وظيفة تكون من خلال وضعه، واستجاباته (ردات فعله)، وأقواله، وظيفة تأويل. ويملأ الراوي أيضا في بعض الأحيان وظيفة تأويلية ولكن على مستوى مختلف من مستويات رؤية قيمة الصدق المربوطة بخطابه. هذا ما سنعرض له بمزيد من التحليل.



إن مقولة الراوي في علم السرد، مقولة لا تمكننا من معرفة “مدى تحكم الراوي في الجهاز السردي” فحسب، بل هي مقولة أنتجت إجراءات عملية أخرى تتيح لنا كشف العديد من مغميات اللحظة السردية، كمفهوم “الرؤية” الذي “يظهر طريقة نقل الراوي للأحداث، وتصويرها لمتلقٍ افتراضي”. كما تمكننا هذه المقولة أيضا من كشف علاقة الراوي بمرويه، وتحديد الوظائف التي يقوم بها داخل المتن السردي. ولنقف أولا مع وظائف الراوي.



وظائف



إن أول وظيفة منوطة بالراوي هي وظيفة السرد في حد ذاته، وهي وظيفة بديهية إذ إن أول أسباب تواجد الراوي سرده للحكاية، فالأحداث لا تكتسب صفة سرد إلا إذا نقلها الراوي إلى طبيعة جديدة من الواقع (العالم، التاريخ)، إلى المتخيل الذي يشكل عالما افتراضيا. أما الوظائف الأخرى فسنجملها في ما يلي:



وظيفة تنسيق (régie): إذ يأخذ السارد على عاتقه التنظيم الداخلي للنص القصصي، كأن يذكر بالأحداث أو أن يربط بينها.



وظيفة انتباهية (phatique): وهي وظيفة تتمثل في اختبار وجود الاتصال بينه وبين المرسل إليه في المقاطع التي يتواجد فيها المتلقي على نطاق النص، حين يخاطبه السارد مثلا بصفة مباشرة، كأن يقول الراوي في الحكاية الشعبية مثلا: “قلنا يا سادة يا كرام...”.



وظيفة إبلاغية إيديولوجية: تتجلى في إبلاغ رسالة للقارئ تتمثل في مغزى أخلاقي أو إنساني، وتتمثل أيضا في النشاط التفسيري أو التأويلي للراوي، ولا تقتصر وظيفته الإيديولوجية على تفسير وتأويل الأحداث والمواقف، بل إنه يعمل على ملء بياضات القص وفجواته، وينسى من الآن فصاعدا أنها كانت فراغات بيضاء، إنه ينظم الكائن (الواقع) بما هو أحسن (المتخيل)، فيمنح الفراغ السميولوجي ثقله الأنطلوجي وينشط حركة التمثل. إن هذه الفراغات التي يملؤها الراوي بكثير أو قليل من الإجادة، هي التي تضمن له وظيفة الهدف وهي الوظيفة التأثيرية؛ إذ إن أبسط تعريف للخطاب “أنه كل تلفظ يفترض متحدثا وسامعا يكون للطرف الأول نية التأثير في الطرف الثاني”.



هذه هي -في عجالة إجرائية- مختلف الوظائف التي تمكن الراوي في النهاية من الاضطلاع بمهامّه كمنظم للبرنامج السردي.



بقي أن نعرف في هذه العجالة الإجرائية علاقة الراوي بالحكاية في أنماط السرد المختلفة، فمن المفيد أن نضبط علاقاته بالسرد كما سبق أن ضبطنا وظائفه المختلفة.



ارتباط



يمكننا في هذا الصدد أن نميز نوعين من العلاقات: راو غريب عن الحكاية (narrateur hétérodiégitique): هو راو له مسيرة مستقلة عن الحكاية التي يسرد أحداثها، نستطيع أن نعرفه بأنه “شخصية تاريخية بيوغرافية لا تنتمي إلى العمل بل إلى العالم”. لكن جيرار جينيت لم يكن مطمئنا تماماً إلى واقعية الراوي القادم من خارج الحكاية، فبعد أن عرفه بأنه الذي: “ينهض بالسرد في القصة الأصلية محتلا المستوى الأولي من السرد مهما كان ضمير السرد”، أكد على أنه راوٍ كاتب (مؤلف). يقول جينيت: “إن الراوي من خارج الحكاية يلتبس تمام الالتباس بالكاتب، ولن أقول كما يقول الغير “الضمني”، بل أقول الصريح والمعلن فعلا ولكني لا أقول “الواقعي”، بل أقول قد يكون أحيانا (نادرا) واقعيا”.



وكما لم يكن جينيت مطمئنا إلى واقعية الراوي الغريب عن الحكاية، لم يكن أيضا مطمئنا إلى درجة غربته أو غيابه عنها، فبعدما بين أن حضور الراوي المشارك يتراوح ما بين البطولة في الحكاية، إلى الشهادة عليها، استنتج أن الغياب عن الحكاية مطلق، وأن الحضور فيها درجات، ثم أشار إلى أنه يحدث أن تتجلى معاصرة نسبية بين الحدث وسرده بفضل استعمال المضارع الدال على الحال، وهذا ما وصفته جماعة “U” بأنه نوع من المثالية العلمية لمقولة الرؤية، حيث يبدو السارد كمنظم موضوعي للزمن، يجمع الأحداث ويديرها، دون أن يتجلى شخصيا تاركا المعنى ينبثق وكأنه من نفسه.



تضمين



هو راوٍ حاضر كشخصية في الحكاية التي يروي أحداثها، ويُلفظ هذا السرد باستعمال ضمير المتكلم. إن حضور هذا السارد في حكايته درجات كما ذهب إلى ذلك جيرار جينيت، ويمكن أن نميز هنا بين وضعيتين لهذا الحضور: وضع أول يكون فيه الراوي بطل سرده، ووضع ثان يلعب فيه الراوي دورا ثانويا (كملاحظ أو مشاهد).



إن مستوى السرد يتحدد بعلاقة الراوي بالحكاية؛ إذا كان غريبا عنها سجلنا وضعية إيجابية للراوي في مستوى السرد الابتدائي، وسالبة في مستوى السرد من الدرجة الثانية، وإذا كان الراوي متضمنا في الحكاية سجلنا وضعية سالبة في مستوى السرد الابتدائي، وموجبة في مستوى السرد من الدرجة الثانية، وكما لاحظنا، فإن علاقة الراوي بالحكاية تسهم في إفراز مقولة سردية أخرى هي التبئير؛ أي أن درجة تبئير الحكاية متوقفة على طبيعة علاقة الشخصية بالراوي في السرد.



فإما أن يكون السارد في الشخصية، حيث يعلم ويقول أكثر مما تعلمه الشخصية، وإما أن يكون مساويا لها (سارد=شخصية) فلا يقول إلا ما تعلمه، وهذه هي الحكاية ذات وجهة النظر التي يسميها بويون (J.Pouillon) ال “رؤية مع”، وإما أن يكون الساردالشخصية، فيقول أقل مما تعلمه وهذا هو السرد الموضوعي أو “السلوكي” الذي يسميه بويون “رؤية من الخارج” ونتيجة لهذه العلائق بين السارد والشخصية تنتج درجات تبئير الحكاية، فالنمط الأول الذي يمثل الحكاية الكلاسيكية هو ما يطلق عليه الحكاية غير المبأرة، أو ذات التبئير الصفر.



أما النمط الثاني فهو الحكاية ذات التبئير الداخلي، أما النمط الثالث فهو الحكاية ذات التبئير الخارجي، إذن علاقة السارد بالحكاية تنتج مستويات السرد، وعلاقته بالشخصية تنتج درجات تبئير الحكاية. إننا إذا حاولنا سحب هذه المقولات النظرية على نسق حكائي خاص وهو السرد الشعبي الإماراتي سنخلص حتما إلى نتائج تسند المقولة، ولكن تختلف عنها في الوقت ذاته؛ إذ إن عادة الحديث باللغة تقوم على نسق من العناصر اللسانية القابلة للتمظهر صوتيا، وظيفتها الاستجابة لمنبه معين (يتطلب عموما استجابة عاجلة)، بكيفية دينامية، معبرة عما يجب، لا على المظهر التواصلي الخالص فقط، ولكن أيضا على البعد الانفصالي المتضمن في الاستجابة اللسانية للذات المتحدثة. إذ إن ملفوظا حيا ينبثق بدلالة، في لحظة تاريخية، وداخل بيئة اجتماعية محددتين، لا يمكن أن يفلت من ملامسة آلاف الأسلاك الحوارية الحية، المنسوجة من لدن الوعي الاجتماعي الإيديولوجي القائم حول موضوع ذلك الملفوظ.



هذه الحيوية هي ما يطبع الخط العام للرواية الشعبية في الإمارات على اعتبار أنها عرضٌ شفوي لإيديولوجيا أحادية يحتل فيها الراوي المقام السردي الأول، وملفوظ حي يعتمد على قص الأحداث المدرجة في قضية ما على اعتبار أن القضية هي سؤال عن حالة اختراق المحظور.



ويمكننا ملاحظة هذه الاستجابة لمنبه قوامه نسق من العناصر اللسانية في المادة الصوتية المسجلة من طرف هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث متمثلة في الجامعة ليلى عبد الملك والراوية سلامة فرحان مبارك في روايتها لحكاية سيسان وخريسان، إذ كانت الجامعة المتلقية، تردد ما تتفوه به الساردة على نحو آلي كما يلي: “الساردة: هذاك رجال، المتلقية: رجال، الساردة:وعنده أم، المتلقية: أم...”.



على الرغم من مشاركة المتلقية في الاستجابة لوظيفة السرد التنبيهية إلا أن هذا القص متلقى فقط من جهة الدليل، إنه العرض الإقناعي لشيء قد وقع أو متصور أنه وقع، وليس السرد إذن قصا بالمعنى الروائي المهمل، إنما هو تقديم حجاجي شفوي “يتوفر بالتالي على طبيعتين إلزاميتين:أولا عريه فلا استطراد ولا تشخيص ولا محاججات مباشرة؛ إذ ليس هناك تقنية صالحة للسرد، فعلى السرد فقط أن يكون شفافا محتملا موجزا. ثانيا وظيفته؛ إذ أنه تهيئ للمحاججة، وأحسن تهيئ هو ذلك الذي يكون فيه المعنى مختفيا حيث الأدلة موزعة على شكل أصول غير واضحة(بذور التصديقات).



لذلك ينهض الراوي في السرد الشعبي بوصفه راويا إطاريا، يعرف أكثر مما تعرفه الشخصية، غريبا عن الحكاية، مسجلا مستوى سرد ابتدائي بعيد عن الإشكال والتعقيد والتركيب، مراهن على العري، والبساطة، والبداهة، والبكارة، والإشراق الفطري، باعتبار هذه جميعا أهم مصادر الاختزال والضغط، والتسريع في الأمكنة والأزمنة، والأحداث، مأخوذا بطقوس الحكي الموروثة، والمحتشدة باليقظة والانتباه والتلخيص والاستشفاف، محكما السيطرة على متلقين مسجونين داخل فضاء اللغة القصصية الآسرة.



إن الراوي في هذه القصة متعين بسماته، وبالمسافة التي تفصله زمانيا عما يروي، بحيث يروي أحداثا لا تعاصره، وقد لا ترتبط به إلا لكونه راويا لها.



هذا الراوي المفارق لمرويه، والغريب عن الحكاية، يتصف بأنه يروي متنا لا ينتسب إليه، وإنما يقتصر دوره في الأخذ عن راوٍ سابق والإرسال إلى مروي له، يتعدد تبعا لتعدد الرواة، ويتكاثر كلما تكاثر عددهم. والأمر نفسه ينطبق على المروي (الحكاية) والذي عادة ما يكون مباحا أمام عدد غير معروف من الرواة، ما يجعلها كغيرها من السرود الشفوية “تتسم بأنها عرضية”.



يبدأ الراوي في الموروث الشعبي عموما حكايته بجملة استهلال، “وتقف موضوعة الاستهلال في القصة عنصرا له تأثيره الذي يتوزع على مدارين: الأول نفسي استقبالي، على اعتبار القص رسالة (مرويا)، صادرة عن مرسل (راو)، قاصدة مستقبلا (مرويا له). وهذه هي أركان الرسالة الأدبية من منظور الاتصال”،ويتحتم النظر إلى أدبية القص أو شعريته، من خلال أركان الرسالة، وبين كل من المرسل والمستقبل سياق مشترك تقع الرسالة على مسافة منه، المسافة تشغل آليات تحويلية من السياق إلى المرسلة في ما يخص المرسل إبداعيا، ومن المرسلة إلى القص عبر السياق في ما يخص المستقبل تأويليا.



في قصتين مرويتين من طرف راوية واحدة هي سلامة فرحان مبارك، تتبدل عتبة السرد من قصة لقصة تبعا لمتطلبات اجتماعية، إذ نلحظ استهلالها في قصة سيسان وخريسان كما يلي: “هذاك رجال”، ليتغير في قصة جمل حمدان إلى “هاذي بنية”.



يكتسب إذن النص السردي سلطته ليس لكونه نصا ملتهبا، ولكن عن طريق بعض الثوابت السردية التي تكرسها الثقافة، والممارسات المتعددة، واستعمالاتها المتواترة، والتي تجعل القارئ أو المستمع منذ البداية في قبضة الحكاية وأسر القصة. “كان يا ماكان”، “قال الراوي يا سادة يا كرام، إنها البوابات العديدة للولوج إلى العالم السحري للسرد، وبلغة علم السرد تسمى “عتبة النص القصصي، وتسمى أيضا بلغة التحليل الشكلي الثوابت السردية التي نجدها تتكرر في بداية كل حكاية، وتؤطر سلطتها، وتميز ما بينها وبين الخبر الذي يفيد الإعلام والإخبار”.



بما أن السرد المنطوق يستدعي “صيغة استجابة دينامية لدى المتلقي إلى جانب المظهر التواصلي المتضمن في الاستجابة”، فإن هاتين القصتين (جمل حمدان وسيسان وخريسان) المرويتين بضمير الغائب تبدآن بالاستهلال التالي: هاذي في قصة جمل حمدان، وهذاك في قصة سيسان وخريسان.



لقد اتسم التشخيص الشفوي في قصة سيسان وخريسان بتوسيع المسافة بين الراوية (سلامة فرحان مبارك) والعالم المشخص وبطله، فالراوية توهم ببعد المسافة عن ما ترويه- بإضافة “كاف” البعد لاسم الإشارة “ذا” عندما تعلق المروي ببطل رجل، وبراوية أنثى.



تكف الراوية نهائيا عن التعليق المباشر أو عن التبرير النفسي والإيديولوجي في ما يخص البطل الرجل، وتكاد تنعدم تلك الوظائف التنبيهية التي توجه المتلقي، إلا في تركيزه على وجهة نظر دون أخرى، إذ إننا لا نكاد نعثر في حقيقة الأمر على مقاطع سردية تعكس نفسية الراوية إلا في تواطئها مع زوجة هذا البطل التي أراد أن يجلب لها ضرة، إذ تبرز خواطرها وانفعالاتها، من خلال مجموعة من الكلمات والعبارات القصيرة المتلاحقة من مثل (حليلها، عنده الخير كله سيسان وخيريسان ويبى يتزوج عليها...) والتي طرأت كتعليق منها لا علاقة له بجسد الحكي مسجلة بذلك نموذجا سرديا محايدا في ما يخص البطل لكن حياده مقصود، تَسِمُهُ رؤية خارجية محدودة، “تكتفي الكاميرا فيها بتسجيل عالم سردي مرئي ومسموع، تَسِمُهُ استحالة الرؤية الداخلية، إذ لا تتيح الكاميرا غير العرض الخارجي للحركة السردية، حيث تكون حياة الممثلين مجتزأة بطريقة غير مباشرة من كلام الراوية”.



الراوية نفسها تتخلى عن كاف البعد، وهي تروي عن بطلة أنثى، “هاذي بنية”، حتى ليتوهم السامع أنها تشير إليها إشارة وأنها تتواجد معها في فضاء القص.



حياد



وهنا تحضر كافة انفعالاتها في توصيف الوضعية المأساوية للبطلة، فالراوي أثناء تعامله مع هذا المروي البعيد عنه، والذي يفترض حياده بإزائه، يجد نفسه أمام تجربته الحياتية بأبعادها النفسية والاجتماعية والإيديولوجية التي يتبناها، ومجمل الإيديولوجيات المتواجدة في مجتمعه وعصره وأشكال انعكاساتها في ذهنه وفي أذهان الناس الذين يحيا معهم. هذا ما يوجه روايته للأحداث توجيها خاصا، فتظهر القصة كمنتوج معقد لتناقضات التاريخ والمرحلة التي أنتجت فيها، فالأدب ليس مضمونا إيديولوجيا له شكل أدبي جمالي، وبناءً معيناً للإيديولوجيا العامة، أو نسقا لغويا يعيد إنتاجها، أو كتابة واضحة شفافة للرؤية الإيديولوجية للراوي. إن الأدب والتاريخ والزمن والعلاقة الاجتماعية يشكلون وحدة متناقضة وديناميكية ذلك أن علاقة الأدب الموضوعية بالإيديولوجيا تظهر في كونه هو ينتج آثارا إيديولوجية، لذا فالإيديولوجيا العامة تبدو مضمرة ومختفية في النص الذي تكشفه وتكشف بالتالي إيديولوجيته لتصبح صريحة.



ربما لذلك ذهب رولان بارت إلى أن “البشر يستطيعون دائما أن يحقنوا القصة بما عرفوه وما عاشوه، وإن لم يكن ذلك كذلك، فسيكون على الأقل في إطار شكل يكبح التكرار ويقيم للصيرورة نموذجها”.



إن المتخيل باعتباره مجالا لانبجاس الرموز، لا يكتفي بإعادة صياغة الأشياء، أو ترتيب الصور والحكايات، لأنه بقدر ما يورط الذات الفردية في عملية إنتاجه، بقدر ما يتجاوزها ليلتقي باعتبارات ما يسميه بول ريكور ب “المتخيل الاجتماعي”، وهنا تدخل لعبة التحرر والدمج والاختلاف والتطابق، سواء أكان ذلك على صعيد ثقافة محلية، أو على مستوى الأدب الكوني، الأمر الذي أدى بريكور إلى القول إننا لا نمتلك السلطة الإبداعية للمخيلة، إلا ضمن علاقة نقدية مع هذين الشكلين من الوعي المغلوط -ويقصد الإيديولوجيا واليوتوبيا (Upopie)- على اعتبار أن الأولى تتستر وتتموه في صياغة خطاباتها، وأن الثانية تنسج أحاديث يتجاذبها الاستيهام والإبداع، وتتأرجح بين الرغبة في الهروب والتطلع إلى المكوث.



قد يؤدي هذا ببعض الرواة إلى اجتراح التغيير في الجسد المحكي كأن يقوموا بعمليات القص واللصق بين أجساد حكائية عدة، وأحيل هنا إلى روايتين لقصة جمل حمدان، المعروضة صوتيا، والمثبتة في كتاب أحمد راشد ثاني “إلا جمل حمدان في الظل بارك”؛ إذ تختلف الروايتان كليا في الدواعي السردية، وفي موتيفات القص، ونكتشف ذلك بمجرد استحضار حكاية شعبية تروى في مدينة العينة أثبتتها عائشة الظاهري في كتابها حكايات شعبية من مدينة العين، إذ تكشف المقارنة أن الراوية سلامة فرحان مبارك، أو من سمعت عنه، أو راوياً معيناً في لحظة معينة قام بعملية مونتاج بين قصة السبع بنات التي تروى في العين وقصة جمل حمدان.



وبالتالي لا نستطيع أن نقبض على عرض حجاجي ثابت لبعض الحكايات الشعبية، بسبب الارتجاعات التأويلية المتعددة لها وبسبب ما يقترفه الرواة، وهذا ما يجعل الراوي هنا، بفعل تواشجه مع سلسلة من الدوال النصية المتعالقة في ما بينها، (الشخوص، الأحداث، الفضاءات)، حاملا لوعي ممزق أنهكه البحث عن يقين ضال ليس يسعفه في الاضطلاع بمهامه كمنظم للبرنامج السردي، إلا الانخراط في فضاء حركة الحكي الجوالة.



إختلاف وتطابق



إن المتخيل باعتباره مجالا لانبجاس الرموز، لا يكتفي بإعادة صياغة الأشياء، أو ترتيب الصور والحكايات، لأنه بقدر ما يورط الذات الفردية في عملية إنتاجه، بقدر ما يتجاوزها ليلتقي باعتبارات ما يسميه بول ريكور ب “المتخيل الاجتماعي”، وهنا تدخل لعبة التحرر والدمج والاختلاف والتطابق، سواء أكان ذلك على صعيد ثقافة محلية، أو على مستوى الأدب الكوني، الأمر الذي أدى بريكور إلى القول إننا لا نمتلك السلطة الإبداعية للمخيلة، إلا ضمن علاقة نقدية مع هذين الشكلين من الوعي المغلوط -ويقصد الإيديولوجيا واليوتوبيا (Upopie)- على اعتبار أن الأولى تتستر وتتموه في صياغة خطاباتها، وأن الثانية تنسج أحاديث يتجاذبها الاستيهام والإبداع، وتتأرجح بين الرغبة في الهروب والتطلع إلى المكوث.



عالم إفتراضي



إن أول وظيفة منوطة بالراوي هي وظيفة السرد في حد ذاته، وهي وظيفة بديهية إذ إن أول أسباب تواجد الراوي سرده للحكاية، فالأحداث لا تكتسب صفة سرد إلا إذا نقلها الراوي إلى طبيعة جديدة من الواقع (العالم، التاريخ)، إلى المتخيل الذي يشكل عالما افتراضيا. أما الوظائف الأخرى فسنجملها في ما يلي:



وظيفة تنسيق (régie): إذ يأخذ السارد على عاتقه التنظيم الداخلي للنص القصصي، كأن يذكر بالأحداث أو أن يربط بينها.



وظيفة انتباهية (phatique): وهي وظيفة تتمثل في اختبار وجود الاتصال بينه وبين المرسل إليه في المقاطع التي يتواجد فيها المتلقي على نطاق النص، حين يخاطبه السارد مثلا بصفة مباشرة، كأن يقول الراوي في الحكاية الشعبية مثلا: “قلنا يا سادة يا كرام...”.

http://www.alkhaleej.ae/portal/c04b5...8d32fdc48.aspx