دمشـــق في عيــــون الشـــــعراء العــــــربلقد تأججت مشاعر الشعراء تجاه مدينة دمشق، فكتبوا فيها عصارة فكرهم وخلاصة عواطفهم وأصالة إحساساتهم، فجبلوا كل ذلك لتخرج أشعارهم معبرة عن حقيقة مشاعرهم تجاهها، فمزجوا توليفاتهم الشعرية بدفقة شعورية قوية استعرت في قلوبهم لتفيض على لسانهم بأبيات خصوا فيها الفيحاء عبروا من خلالها عن صدقية ما قالوه، مما أثار في نفس المتلقي شجون الإعجاب التعبيري والدهشة في نسج مثل هذا الثوب الشعري الموشى بأبهى الصور، فها هو نزار قباني يمجد مدينته العامرة بالخير والمحبة نافثاً من روحه زفرات سببها شعوره بالعجز عن التعبير عما في أعماقه من مشاعر تجاهها في قصيدته (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي):
آه يا شام كيف أشرح ما بي
وأنا فيك دائماً مسكون
يا دمشق البسي دموعي سواراً
وتمني فكل صعب يهون
كتب الله أن تكوني دمشقاً
بك يبدا وينتهي التكوين
وهذا الشاعر أحمد الصافي النجفي يصقل خياله ليجنح فيه تجاه معشوقته دمشق ليمجدها بأشعاره التي يعبر فيها عن مشاعر كل إنسان يجعل منها الحبيبة الأولى والأخيرة معبراً عن مجدها بأسلوبه المشرق، الذي يرتقي إلى التعبير البديع الذي يسمها بجنة الخلد لكل من عاش فيها، وبأنها دار لكل من يغادر بلده ليقطن فيها، فيقول في قصيدته (دمشق):
ما جنة الخلد إلا للذي سكنا
بها وما النار إلا للذي ظعنا

يكاد ينسى غريب الدار موطنه
في ربعها ويعاف الأهل والسكنا
ويلتقي الشاعر محمود درويش مع النجفي بالمشاعر نفسها، فدمشق هي الحاضنة الحنون والأم الرؤوم لكل من يغادر موطنه ليلجأ إلى هذه المدينة الخالدة، فبعدها لا يحن إلى أي مكان ولا إلى أي إنسان، ففيها خيول أصيلة توشي أسماءها بماء الذهب الخالص، فيقول مقاطع شعرية تمثل الإحساس الرهيف والتصوير البديع في قصيدته (طوق الحمامة الدمشقي):
في دمشق:
ينام الغريب.. على ظلّه واقفاً
مثل مئذنة في سرير الأبد
لا يحنّ إلى بلدٍ .. أو أحدْ
أما الشاعر أحمد رامي فله موقف يتمثل بتمجيده تاريخ دمشق، واستمداد قوتها من محبيها وعشاقها وأنصارها المخلصين لها، والذين يقفون إلى جانبها في أحلك الظروف وأشدها حرجاً، من أجل ذلك تبقى أمجادها خالدة على مر الأيام والسنين:
أبت على كل جانٍ أن يمدّ يداً
إلى جناها وتحت الظل يقظان
غنّى الزمان بها تيهاً وردّدها
من جانب الليل أحباب وخلان
رأو من الشام- تحيا الشام- رابطة
لها على العهد أنصار وأعوان
وها هو الشاعر محمد مهدي الجواهري يخفف من وجده ويشفي غليله في تعبيره الشعري المتين واختياره الأسلوب الرصين في استذكار أمجاد دمشق في ماضيها وحاضرها، وإظهار المواقف الحميدة والمشرّفة المكتوبة على جبين التاريخ والساكنة في قلبه والمعششة في كيانه وبين ثنايا روحه، فها هو يبثها أجمل المعاني التي تعبر عن تمجيد مختلف لدمشق تمثل في صبرها وتحملها للشدائد والصعاب، فتمزجها دمشق وتمتصها وتهونها إلى أن تمتلك زمام الأمور وتحولها إلى نصر مؤزر، وذلك بفضل صمودها صمود السنديان الذي يبقى واقفاً وشامخاً مهما اشتدت الرياح وهبت عليها العواصف وتكالبت المحن حولها، ولكن كل هذا لم يضعف من قوتها ولم يهن من عزيمتها فلم تهتز أمام الرياح، ولم تذل يوماً بل بقيت منتصبة وقوية أمام الملمات تواجهها وتنتصر عليها، فيقول في قصيدته الرائعة (يا جبهة المجد):
(دمشق) صبراً على البلوى فكم صهرت
سبائك الذهب الغالي فما احترقا
على المدى والعروق الطهر يرفدها
نسغ الحياة بديلاً عن دم هرقا
لقد شكلت أشعار الشعراء أجمل اللوحات الشعرية الملونة والمزينة بمصداقية الحس الجمالي من أجل ذلك كله حق لدمشق أن تكون عاصمة العواصم للثقافة العربية،
وحق لها أن تكون سيدة هذه العواصم، وحق لها أن تتزين بثوب ثقافي جميل،
وحلة فكرية بديعة وعباءة علمية أصيلة، فدمشق هي الحاضرة دائماً، وهي التي تحمل عبق الماضي ونفح التراث، وباختيارها عاصمة للثقافة.. هذا يحمّل أبناءها وأبناء الوطن عبئاً إضافياً ليكونوا على قدر هذا العزم لتأتي عزائم دمشق القوية الصلبة، والتي وقفت أمام المحن بكل قوة وصلابة.. فدمشق صاحبة المجد، الذي لم تغب عنه الشمس يوماً، بل بقي واضحاً وظاهراً وصريحاً وصدق قول الشاعر سعيد عقل عندما خاطب دمشق قائلاً:
قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب
شآم ما المجد؟ أنت المجد لم يغبِ

د. ماجد أبو ماضي